تَجمّعَ الناسُ وقدْ أخذَهمُ الذهولُ حولَ حمار ٍفي ساحةٍ يرتادها الناسُ عادةً، الناسُ المحترمون، ظلّ الحمارُ ينهقُ منذ صياحِ الديكِ الذي أخرسَهُ نهيقُ الحمارِ وهو يقطع عليه صَلاتَهُ الصباحية،سكتَ الديكُ وبقيَ الحمارُ ينهقُ، وكذلك أنهتِ الكلابُ نباحَها وهي تُنصِتُ إلى نهيقٍ متصلٍ على غيرِ العادةِ ، وحدَها الأحصِنةُ كانت صامتةً فهي لا تصهل أبداً عندما تنهقُ الحميرُ استيقظ َالناسُ وامتلأتِ الشوارعُ والطرقاتُ بهم ولازالَ الحِمارُ ينهقُ دونَ أن يكلّ ، انهالَ عليهِ رجالُ الشَرَطة بالعصيّ و لازال ينهقُ ولكنْ هذه المرة بطريقةٍ خيّلَ للناس أنها تشبه الضحكَ من عصي الشرطة مكشرا عن أسنانهِ البيض وهم يحاولون سحبَه من أذنيه الطويلتين وجرّهُ بالحبال بيدَ أنهُ أحرنَ ولم يطاوعْهم وهو يصمّ آذانَ المارة بنهيقهِ .
ذاكرة شارع مظلم ـ نص : لقمان عبدالله
يقال أن أطول اللحظات هي تلك التي نقضيها لوحدنا عند قطع شارع مظلم في وقت متأخر ، تتقاطع فيها مشاعر الخوف و الوحدة و الكآبة في آن واحد ، صوت مواء القطط .. صرير الحشرات و الكثير من الصمت ، و أي محاولة لتشتيت ذلك الصمت تؤول للفشل دائما لأن ما يرعبنا مصدره دواخلنا لا غير .
قدري أن أعيش تلك اللحظات بعد خروجي من البيت مباشرة و بعد نشرة إخبارية معتمة تنبيء بقرب تجاوزهم الحدود في طريقهم إلينا .. هم لا يحملون معهم ورد الجوري خلاب اللون و لاالزنبق ذا الطابع الكئيب .. هم لعنة تسير على قدمين .. يحلُّون .. ليحل معهم الظلام ، أخبار ما خلف الحدود مرعبة .. لا يمكن وصفها بغير ذلك ، و أكثر ما يرعب فيها هو وصف ما يحدث هناك بالنزاع السياسي .. هناك فوضى عارمة لا غير .
في تلك الليلة ـ قصة : حسن لشهب
قبل أن أخلد إلى النوم، كان المذيع يعلن بنبرة صارمة محذرة :
"سيستمر تساقط الثلوج ، وسيبقى الجو شديد البرودة إلى نهاية الأسبوع. "…
في لحظة ما من الليل ، التقطت أذناي صوتا غريبا منبثقا من عمق الظلمة الحالكة...
مكرها، غير مدرك لما يجري، أخرجت جسدي المتعب من السرير، ورحت كالأعمى أتلمس طريقي في الظلام، بحثا عن زر النور...
يقودني الصوت المستغيث بعد أن صرت أتبين طبيعته ومصدره ، كنت أسمع صوت شخص حاصرته الثلوج في الهزيع الأخير من الليل، وأحس ألم من يطلب النجدة بيأس وكأنه موشك على الهلاك...
في رحاب المشانق ـ قصة : مالكة عسال
إلى دهليز منفرد بارد ، دحرجوني ككرة من نار يخاف انتشار ألهبتها في الأذهان ،هوإفساد مخططات تحددت مسبقا معالم أهدافه ...هُمْ على موعد مع خنق صوتي بأي وسيلة يرغبون ،حتى لاينفجرَ من تَلّ لسانه نبعٌ مِن الرصاص، فيصيب نخلة حلمهم المرسومة في الأحداق ..ولو أني أعرف أن الِخِيار أولا وأخيرا هو الشنق ، فأنا في غنى عن الخوف أو الرهبة التي يذكيان سعيرها ، والعهدة على دمي الساخن ونبضي المشتعل .لأني منذ البدء وحتى آخر رَمَق ، نقشت في كفي بحناء الأمل مربّعَ الصمود ...واتقاء مضاجعهم التي يقدّها ضجر مربك لدفين من الأحاسيس، ودينصور خوف مزعزع للكوامن يتضخم في الدواخل وينمو ، يريدون ردْم منارة مشعة يتدفق شلالها بفاكهة اللوز ، قد تنسرب إلى أدمغة تختمر في طراوتها فتتقد بالنضج الأخير ، وبشرارتها تُحرق المخروم من الفلسفات الفاشلة ، لترفعَ فواحش الأغطية عن دنان رداهة ،لاتفقس غير حزمة من القوارير الفارغة ، حلال تكسيرها وخدْش بزجاجها خدّ الزمن الذي هيّأَ لهم ظرفا ذهبيا ، ليتبوّؤوا معارجَهم النكراء على ظهور العباد ، مَن يلعقون مِن مراجل القهر وأطباق التهميش عرقَهم ممزوجا بقشّ المهانات وشوائب الأتعاب ..
المُستنقعُ ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي
أحسّ دبيباً في رأسهِ قد أدمنَ التجوالَ فيه مثل دودٍ جائع ينهشُ تلافيفَ دماغِهِ الذي استسلمَ هامداً حتى بات هذا الدبيب مألوفاً ، أوهامٌ عتيقةً وعفنةً ركَدَتْ في آخرِ أيامِها بعيداً في قعر الرأس واستقرّت دون أن يشعرَ لتبيضَ كثيراً من مزاياها القديمةِ قيئاً و حموضةً على طعمٍ حياتهِ فبدا مُتأففاً متضايقاً مما آل إليه حالهُ،دفعه هذا الزحام المتفاقم للأفكار السود إلى الإستعانة بثقوب الحياة لتكون مهربا مثلما تفعل ذلك الحشرات التي لا تعرف الصراخ ، مد يده إلى جيب بنطاله الرثّ واطمأن لوجود عّصّارةِ السيكوتين ثم واصلَ سيرَه إلى حافة المستنقع الذي تقبع حوله بيوت الصفيح صانعةً تجمعاً أميبياً يغيّرُ شكلهُ بين فترةٍ وأخرى تَخرُجُ من بين امتداته الكثيرة مساربُ المياه الآجنة لتمدهُ بمزيدِ النتانة والقذارات ، جلس هناك على الحافة غير مبالٍ بالعفونة ، رأى أن المستنقع الذي تصنعه قذارات بيوت الصفيح تلك يشبه إخطبوطا يمد أذرعه السود إلى أحشائها محاولاً سحبها إلى جوفهِ وابتلاعها وقد بدا هائل َ الأذرعِ بيد أنها راحت تقاوم بالرغمِ من خسارتها بعضَ صفيحها المُتهرئ لصالح ذلك الإخطبوط الأسود ، وضعَ إنبوبَ السيكوتين لصق منخريه وشمّ بنفسٍ عميق أبخرتهُ عدة مرات فاستقبلت رئتاه شميمَ الأنبوب بنشوةٍ كبيرةٍ ، قرفص على الحافة المتعرجةِ وراح يُحدقُ في السواد، خيل إليه أن ثمةَ ما يتحرك تحت، ألقى بنظرهِ إلى هناك من مسافة ٍقريبةٍ، صار هاجسُه أن يتفحّصَ تلك االإهتزازات والمويجات التي يصنعها تيارٌ من الهواء ضلّ طريقهُ ماراَ من فوق السائل المعتم حتى لكأن مستنقعا آخرَ قد فاض بتلافيف مخه وملأ قحفَ رأسه.
فراش النار ـ نص : أسماء عطة
حنين
كلّما علكني الزمان بين فكيه، سمعتُ لأضراسه اصطكاكا يوقظ فيّ الحنين للتدرُّع بسرابيل أمي.
ضجيج
فررتُ إلى وحدتي من قسوة يوم مكتظ بالضوضاء ..سمعتُ للصمت جلبة، التفتُ لظلي وابتسمت.
الزغبيون والكعبيون ـ قصة : العياشي ثابت
نصبوا خيمة، جلبوا إليها الأواني والقدور، وما تيسر من مؤونة جاد بها أهل البيوت والدور، وراحت نسوة الدوار بعد انحباس المطر طيلة خريف وشتاء، يستمطرن الغيث بطقوس "تاغنجة": ألبسن المحرارة لباس العرائس والكراكيز، وحملنها فوق الرؤوس، يتبعن البقرة الدبساء ذات الهُزال البيّن، ويتبادلن الأهازيج على وقع التّعاريج، وعيونهن على مؤخرة البقرة، عسى أن تتبول فيستبشرن بقدوم المطر... تحولت "تاغنجة" فجأة إلى ما يشبه المأتم، إذ خرّت البقرة ميتة أمام اندهاش الجميع، وهبت ريح عاتية، اقتلعت أوتاد الخيمة المنصوبة، فتفرق الناس على عجل يبتغون المخابئ والملاجئ...
نصّ غير معقّد ـ نص : شيخة حليوى
أحاوِلُ افتعال التعقيد في بعض سلوكيّاتي وبعض كتاباتي. أعرف مسبقا أنّني لا أجيده، مُفتعلا حتّى. لا أجيدُ قراءته أيضا. "خريف البطريرك" قرأته في خريفيْن ولعنت ماركيز عشرين مرّة. الأفلام الّتي لا تسير على خطّ مستقيم أقتلُ فيها البطل قبل النهاية وأغفو. القصيدة المغلّفة بمليون سبب للجنون أتركها، وأحترمها بالضرورة. الرواية المجنونة أجالسها مرغمة، احتراما لذاتي. أقول في نفسي: كيف لي انّ أحلَّ معادلتيْن بعقلٍ واحد؟ حياتي المتعثّرة بثلاثة مجاهيل وحياة نصٍّ وقحٍ موارِب؟