مع مبحث التحليل النفسي الذي أسسه الطبيب النمساوي سغموند فرويد نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين، سيتأكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الطفل يعيش بدوره مجموعة من الصراعات النفسية الحادة، و يعاني من مجموعة من العقد و المركبات النفسية، من بينها ما أطلق عليه مركب الخصاء، و مركب أوديب، إضافة إلى مجموعة من المشاعر التي تغمر نفسيته و تكون ذات تأثير شديد عليه، كالشعور بالنقص، و الشعور بالذنب إلى غير ذلك.
لكن الفن عموما، و السينما بصفة خاصة، ستتصدى أيضا لهذه الظواهر، بأشكال مختلفة، من خلال مجموعة من الأعمال السينمائية أخص بالذكر منها هنا فيلم الطفل Le kid (1921) لشارلي شابلن، أو "الأطفال يشاهدوننا" (1942) لفيتوريو دي سيكا أو " الأربعمائة ضربة" ( 1959 ) لفرانسوا تروفو..إلخ.
و قد تصدت السينما المغربية بدورها لظاهرة الصراعات النفسية للطفل المغربي، في مجموعة من الأفلام، أهمها فيلم وشمة ( 1970 ) لحميد بناني، و علي زاوا ( 2000) لنبيل عيوش و أكادير بومباي ( 2011 ) لـمريم بكير، و ماجد (2011) لـنسيم عباسي، و العايل ( 2005 ) لـمومن السميحي، مع ملاحظة أساسية أولية هنا و هي أن بعض الأفلام قدمت الطفل من البداية إلى النهاية، بينما اكتفت أفلام أخرى بتقديمه في جزء من الشريط، فيما انتقلت في الشطر الثاني لتقديم الطفل نفسه و قد غدا راشدا كما في وشمة على سبيل المثال.
سأقف في هذه المقالة عند فيلمين أساسيين ينتميان إلى تجربتين مختلفتين و سياقين مختلفين، على الرغم من تقاربهما زمنيا، أقصد فيلما وداعا كارمن ( 2013) لمحمد أمين بنعمراوي، و جوق العميين ( 2015) لمحمد مفتكر.
و أشير بداية إلى أن المقارنة بين الفيلمين ليست من باب إصدار أحكام قيمة، أو إبراز أفضلية هذا الشريط على الشريط الآخر أو العكس. إنما لأن المقارنة بين شريطين مختلفين تمكننا من بناء معرفة جديدة، تركيبية، شاملة، بخصوص العملين من جهة، و بخصوص صيرورة و دينامية السينما المغربية في هذا الجانب منها، الخاص بالطفولة.
سينما في السينما:
أول ما يثير الانتباه في هذين الشريطين أنهما نهجا، بأسلوب مختلف طبعا و بدرجات متفاوتة، أسلوب السينما في السينما، أو أسلوب التقعير mise en abime من حيث إن كلا الشريطين " يعكسان" جانبا من تجربة المخرج نفسه في مرحلة من طفولته، و هي المرحلة التي بدأ الطفل يعي خلالها ما يجري من حوله، و يتفاعل معه، و بالتالي يدبر صراعاته و يضمد جراحاته من خلال تفاعله مع محيطه. يكفي أن أشير هنا إلى الفضاء الذي تجري فيه الأحداث في الشريطين، و هو فضاء بلدة ريفية بشمال المغرب في فيلم وداعا كارمن و فضاء " الحي المحمدي" بمدينة الدار البيضاء في فيلم جوق العميين، و هما معا يحيلان إلى طفولة المخرجين و إلى نشأتهما داخل الفضاءين المذكورين.
لكن إذا كانت السينما تحضر بقوة في فيلم وداعا كارمن على امتداد الشريط من بدايته إلى نهايته، بدءا بالملصق نفسه فالعنوان الذي يحمله، إلى شخصيات الشريط، إلى الحضور الممتد للقاعة السينمائية، باعتبارها أيضا شخصية أساسية محددة لدينامية المحكي الفيلمي، فإنها – السينما – تحضر في ثلاثة أو أربعة مشاهد من جوق العميين بطريقة إيحائية تكثيفية. لكن العمى في العنوان جوق العميين يحيل إلى مسألة النظرة بشكل ما ، مما يوحي بدلالة معينة بهذا الشأن مادام الارتباط قويا طبعا بين السينما أو الصورة عموما و بين مسألة النظرة.
ما علاقة هذا الأسلوب بالصراع النفسي للطفل في السينما، و هو الموضوع الذي يهمنا في هذه المقالة؟ يمكن القول إن السينما في الفيلمين معا هي بمثابة تتويج لمعاناة كلا الطفلين، كل منهما داخل وسطه الاجتماعي و الثقافي الخاص به. الطفل عمار ( أمان الله بن الجيلالي) الذي تضطر أمه للهجرة خارج المغرب قصد الإقامة هناك مع زوجها الجديد بعد موت والد الطفل، يجد نفسه مكرها على العيش رفقة خاله ( سعيد مارسي ) الذي هو شخص أناني، مفرط في العنف، متهور، بل يصل الأمر إلى حد نعته بـ " الوحش"، لا يجد عمار من مهرب منه إلا داخل فسحة السينما. تختفي أم عمار، لكن ما تلبث أن تحل محلها أم أخرى، الأم السينمائية، هي الإسبانية كارمن ( باولينا كالفيز) التي تصل الطفل من جهة بعالم السينما حيث تسمح له بارتياد القاعة دون مقابل مادي بعدما ارتبطا بعلاقة صداقة قوية، كما تصله إذا شئنا بالعالمية حيث تشرع في تلقينه بعض كلمات اللغة الإسبانية فضلا عن إتاحة الفرصة له لتعلم اللغة الهندية و للتحليق في عوالم الخيال الهندي أيضا من خلال أفلام بوليود المعروضة داخل القاعة التي تعمل بها.
في فيلم جوق العميين يتمظهر الصراع النفسي للطفل ميمو ( إلياس الجيهاني) أيضا من خلال علاقاته الاجتماعية المتشابكة. لكن إذا كان الحاضن لهذا الصراع في وداعا كارمن من البداية هو السينما، فإن الحاضن له في جوق العميين هو الموسيقى بداية، لأن أب ميمو ، الحسين بيدرة ( يونس ميكري) هو رجل موسيقي، يعزف الكمان ضمن جوق يقيم حفلات في الأعراس و المناسبات، لذلك نجد الموسيقى ، و تحديدا العيطة التي هي موسيقى شعبية متجذرة في وجدان و شعور المواطن المغربي، هي الحاضن الأساسي للعلاقات الاجتماعية في هذا الفيلم، قبل أن يتطور الأمر شيئا فشيئا إلى علاقة جديدة، علاقة من نوع آخر، هي العلاقة بالسينما.
و في كلتا الحالتين، فإن الفن في الشريطين معا لا يحضر لذاته، لا يطرح في استقلاليته و تعاليه، و إنما في تمفصلاته الاجتماعية و السياسية المتشعبة كما سبق أن عشنا ذلك مع أشرطة أخرى أخص بالذكر منها هنا شريط سينما باراديزو ( 1988) للإيطالي غيسيبي تورناتوري. و هذه المسألة مهمة جدا في الشريطين معا، ذلك أنهما لا يدعوان و لا يتبنيان أطروحة إيديولوجية واضحة، أحادية، إنما هما معا يتأسسان على البعد الفني، الإبداعي، بوصفه دعوة أو تحريضا على إعادة النظر في مجموعة من التصورات و الممارسات الجاهزة.
صحيح أن الطفلين يعيشان معا صراعات نفسية، بدرجات متفاوتة طبعا، لكن حضور الموسيقى و السينما في حياتهما، يجعلهما أولا يتحملان قساوة الصراع، و يجعلهما ثانيا ينفتحان على أبعاد إنسانية أخرى من قبيل الصداقة و الحب و الحلم و الشعر و السينما. يعاني ميمو من وطأة أبيه الذي يلزمه بالحصول على نتائج جيدة في دراسته، بينما هو عاجز عن ذلك أو غير مبالي به، ويعاني من جراء معاناة أسرته و مصائبها التي لا تنتهي. مثلما يعاني من حرقة الحب الذي يكنه للطفلة شامة التي تكون له معها حكايات غرامية في سطح البيت قبل أن تضطر إلى الابتعاد عنه بطريقة مهينة مما يترك في نفسيته جراحا غائرة، لكن كل ذلك لا يمنعه من التحايل هو نفسه على مجتمع بكامله، مدفوعا إلى ذلك من طرف عمه عبد الله (فهد بنشمسي) الشاب "اليساري" صاحب المفارقات العجيبة، أو من خلال تقليد الآخرين، عبر ما تلتقطه أذناه من الكبار، و تحويل ذلك كله إلى تجربة ذاتية خاصة به.
أبعاد الصراع النفسي للطفلين عمار و ميمو:
1/ البعد الاجتماعي:
لا ينفصل الصراع النفسي للطفلين في الشريطين عن مجموعة من العلاقات الاجتماعية الصعبة و الغامضة التي يعيشانها في محيطهما العائلي، موت أب عمار، و زواج أمه و هجرتها إلى أوروبا بإيعاز من أخيها الأناني العنيف، و اضطراره إلى العيش في كنف هذا الخال الذي يسطو على ما تبعثه له أم الطفل من مال، بينما يجد الطفل نفسه محروما حتى من أبسط شروط العيش الكريم، إضافة إلى التهجم الدائم عليه و التنكيل به، و تعريضه لصدمات عنيفة جدا من خلال اقتحام خلوته في عز الليل، أو من خلال العنف الذي يمارسه الخال على صديقته على مسمع منه، هذا فضلا عما يتعرض له عمار من عنف من أقرانه في البلدة، و كذلك تعرضه لمحاولة اغتصاب من طرف كهل بيدوفيلي عنيف بدوره، مما يجعله في غالب الأحيان طفلا مهجورا، وحيدا، صامتا، شاردا، يفضل التسكع وحده في الهوامش، و يعجز عن الدفاع عن نفسه، أو مطالبة خاله بحقوقه المشروعة، مع أنه لا يكف عن توجيه نظراته البريئة لكن القاسية و المدينة لمجتمع بكامله يقوم على الرياء و الغدر و العنف و الخيانة. إن عمار هنا شبيه إلى حد ما بالطفل بريكو Prico في شريط الأطفال يشاهدوننا ، للمخرج فيتوريو دي سيكا. هذا الأخير مع أنه لم يتجاوز سبع سنوات من عمره، يشاهد و يعيش مجموعة من المفارقات و التناقضات المحيطة به، و على رأسها سلوك أمه الغريب التي لا تجد حرجا في القيام ببعض الطقوس الدينية نهارا بينما هي ليلا تتسلل عند عشيقها، مما سيؤدي في نهاية المطاف بزوجها، أب بريكو، إلى وضع حد لحياته بعدما وضع الطفل في مؤسسة تعليمية ذات توجه ديني.
أما الطفل ميمو في جوق العميين فهو على العكس تماما من عمار يظهر من البداية طفلا سعيدا، محبوبا من الجميع، يعيش داخل وسط اجتماعي فني متعدد، يتفاعل مع الكبار المحيطين به، لكنه يسعى إلى خلق عوالم خاصة به، داخل مكانه المفضل الذي يهرب إليه، و هو سطح البيت، شأنه في ذلك شأن طفل فيلم عصفور السطح للتونسي فريد بوغدير، ليعيش تجربة حب تبدأ جميلة، محتشمة، قبل أن تنتهي نهاية قاسية، بعد طرد الفتاة شامة من الحي، داخل مجتمع لا يدرك أن الطفل نفسه له قدرته الخاصة على الحب، و له رغبات جنسية و أحلام و مشاعر خاصة به.
لكن إذا كان أب عمار الذي لا نعرف عنه شيئا ، قد فارق الحياة في وداعا كارمن، فإن أب ميمو يغدق عليه حبا كبيرا، لكن مشكلته تكمن في كونه يسعى إلى أن يجعله مجرد أداة يحقق من خلالها ما عجز هو عن تحقيقه. إنه لا يعترف له باستقلاليته كطفل، و يعرضه بداية لعنف رمزي حين يطالبه بالحصول على المراتب الأولى في دراسته، بينما الطفل، المستسلم لنزواته و مغامراته، يختار طريقا آخر، مدفوعا إلى ذلك أو مدعوما بعمه اليساري الذي لا يجد حرجا في تزوير نتائجه، فيتحول العنف الرمزي للأب إلى عنف مادي صادم يكاد يعصف بحياته.
الصراع النفسي للطفلين عمار و ميمو في الشريطين هو إذن نتاج للصراع الاجتماعي و للعلاقات الاجتماعية المتكلسة و الغامضة. هذا هو المستوى الأول أو البعد الأول الذي يتضح من الشريطين و هو البعد الاجتماعي. ذلك أن العلاقات الاجتماعية القائمة على العنف و الخيانة و الغدر و المصلحة الذاتية، لا يمكن أن تقبل باستقلالية الطفل، أو تعترف بخصوصيته أو بإنسانيته كاملة. لذلك يحرم عمار في وداعا كارمن من حنان الأم و عطفها بعدما حرم من حنان الأب و عطفه. إنه طفل يتيم. إنه مثل طفل وشمة اليتيم الذي لا يعرف أصله من فصله، و الذي يجد نفسه ميالا إلى العزلة و الصمت و الهوامش، أو أطفال فيلم علي زاوا المهمشين، المنبوذين، الذين يعيشون على هامش مجتمع يتواطأ على نبذهم و إقصائهم.
أما الطفل ميمو فهو يعيش، شأنه في ذلك شأن الطفل بريكو المذكور، أو الطفل أنطوان في فيلم الأربعمائة ضربة، داخل مجتمع يقوم على الكذب و الخيانة، فجوق العميين هو أولا و قبل كل شيء جوق كاذب، أو جوق زائف. و أبوه "الحسين بيدرة" لا يتورع في خيانة زوجته إرضاء لنزواته، و عبد الله، المناضل اليساري لا يتورع عن مساعدة ميمو في تزوير نتائجه و خداع والده، كل ذلك يجعل الطفل يفقد الثقة في هذا المجتمع، و يبحث عن ذاته في علاقة حب مستحيلة مع طفلة على سطح البيت تنتهي بالفشل، مثلما يفشل أبوه في الإجابة عن أسئلته الميتافيزيقية حول الموت و ما إليه، و يتوج ذلك كله بالعنف الذي يمارسه عليه أبوه في نهاية المطاف بتعليقه و جلده، عندما يعلم بخداعه له.
و هنا أقف عند مسألة أساسية في جوق العميين. و هي أن علاقة الطفل بالفن ، الموسيقى هنا، بدأت علاقة مقلوبة إذا شئنا القول، لأن الفن عوض أن يكون فنا ساميا، راقيا، و هذا هو المفترض، فإنه يتقدم عكس ذلك من خلال جوق لا يتحرج عن انتحال صفة ليست له، و هي العمى، تحت رئاسة رجل سلطة بشكل ما، هو مصطفى (محمد بسطاوي) ، و لا يتحرج بعض أعضائه عن القيام بسلوكيات لا تمت للفن بصلة، نظرات مشبوهة و عهارة و خيانة زوجية...إلخ.. كل ذلك سيلزم الطفل ميمو تلقائيا بالسعي إلى نهج أسلوب جديد يخلص الفن من براثن هذه الممارسات، و يرتقي به نحو آفاق أخرى أرحب، لذلك تكون السينما هي آخر ما يلجأ إليه إلى جانب تعبيرات جسدية أخرى ذات صلة بالمسرح و ما إليه..
2- البعد السياسي:
من جانب آخر يلتقي الفيلمان أيضا في كونهما ركزا على بعد آخر حاضر بقوة في الشريطين هو البعد السياسي. في فيلم وداعا كارمن يحضر على امتداد الشريط حدث سياسي من الأحداث الكبرى التي عاشتها البلاد خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، يتعلق الأمر بحدث المسيرة الخضراء، التي تحضر في الشريط من خلال حوارات الشخصيات، أو من خلال شريط الأنباء المصور ، معروضا على شاشة السينما، أو الأخبار المبثوثة عبر أثير الإذاعة. هذا الحدث يجعل البلدة تعيش على وقع لحظة مصيرية هي لحظة استقلال الصحراء المغربية عن الاستعمار الإسباني، و بتزامن معها لحظة موت فرانكو الذي كان له وقع كبير في نفوس بعض شخصيات الفيلم، المعارضة له أو المتعاطفة معه.
أما في فيلم جوق العميين فإن الحسين بيدرة يظهر منذ بداية الفيلم معجبا إلى درجة الانبهار بشخصية الملك الراحل الحسن الثاني، يتفحص صورته الضخمة باندهاش في البداية، جاعلا إياه بمثابة نموذج له، و تعبيرا عن هذا الإعجاب يقوم بإنجاز أغنية وطنية مع أنه لا يفلح في تسجيلها لأسباب خارجة عن إرادته. في مقابل هذا الموقف يقدم الفيلم موقفا سياسيا آخر هو موقف عبد الله عم الطفل ميمو. و هو يتقدم كشاب يساري معارض، لكننا ما نلبث أن نكتشف أنه يساري فقط على مستوى الشعارات التي يحمل، أما عمليا فهو شاب نزق، لاعتقاده المتوهم بأن الممارسة السياسية هي ترديد الشعارات الكبيرة التي تقفز عن إكراهات الواقع الحي، و هو ما سيؤدي به في نهاية المطاف إلى الاختفاء في ظروف غامضة.
لماذا هذا التركيز على البعد السياسي في الشريطين؟
في فيلم وداعا كارمن يكون الحدث السياسي حدثا مفصليا في حياة الطفل عمار، لأنه إذا كانت هجرة الأم ستدفعه إلى عناق أم جديدة كما قلت سابقا هي الأم السينمائية، و التغلغل في عالم السينما في بعده الفرجوي بشكل خاص، فإن موت فرانكو و الإعلان عن المسيرة الخضراء سيترتب عنه رحيل هذه الأم السينمائية، كارمن، و بالتالي إلى حرمان الطفل من نعمة السينما التي كان يستظل بظلها في أحضان صديقته الإسبانية الوديعة التي كانت وراء معرفته و حبه و شغفه بالفن السابع.
أما في فيلم جوق العميين فإن الموقف الخاص بالأب يعكس الموقف السائد عند عموم الآباء في تلك الفترة، و مع ذلك فهو يحمل نقدا ضمنيا لهذا الموقف السائد، مما يبرر الخيار الثاني المختلف لعبد الله أخ الحسين الذي يتخذ مواقف أكثر تشددا، و يبدو أكثر تحررا، لكنه يزج بابن أخيه في دوامة من التزوير و الخداع و الغش تعبيرا منه ربما عن زيف و زور مجتمع بكامله.
و مع أن الطفلين يبدوان بعيدين كل البعد عن استيعاب طبيعة الحدث السياسي في الشريطين، فإنهما مع ذلك يتفاعلان مع الحدثين، موت فرانكو و الإعلان عن المسيرة الخضراء في الفيلم الأول، و شعارات العم في الفيلم الثاني التي ستقوده إلى الاختفاء، مما سيترك أثرا كبيرا في نفسية الطفل ميمو، سوف يصل إلى أقصى مداه بموت الأب.
نحو آفاق رحبة للخيال و الحلم:
بعد رصد معاناة الطفلين عمار و ميمو في إطار علاقاتهما الاجتماعية المتشابكة، كما بينا ذلك في السطور السابقة، ينتهي الفيلمان أخيرا على وقع لقاء و رحيل.. أو رحيل و لقاء.
في فيلم جوق العميين ينتهي الشريط برحيل الأب الحسين بيدرة بعد مرض عضال لم ينفع معه علاج. لكنه في اللحظة التي كان خلالها يحتضر كان الطفل ميمو مستغرقا في عرض مشاهد من أفلام سينمائية باللونين الأبيض و الأسود، مشاهد من أفلام لشارلي شابلن، ثم يمضي هو نفسه في إبداعات للتعبير الجسدي المسرحي، على غرار ما كان يقوم به عمه عبد الله قبل اختفائه. و هكذا إذا كان أنطوان بطل فيلم أربعمائة ضربة لفرانسوا تروفو قد اختار الهروب من وطأة مجتمع عنيف منافق، فإن طفلي وداعا كارمن و جوق العميين سيظلان مع ذلك ضمن دائرة علاقاتهما الاجتماعية، لكن مع تسجيل انتقال ملموس من وضع سلبي إلى وضع آخر يمكن القول إنه موقف إيجابي مختلف في نهاية الفيلمين.
يقترن اللقاء بالسينما إذن برحيل الأب، أو هو بتعبير آخر، تعويض عن موت الأب، و في الوقت ذاته نوع من الاعتراف بما لهذا الأب من فضائل على الطفل على الرغم من هيمنة علاقة غامضة، ملتبسة بينهما. ذلك أن مؤجج هذا العبور نحو الفن، نحو السينما، هو الشعور بالذنب عند الطفل ميمو، و هو شعور نشأ و تنامى لديه كرد فعل على خداعه لأبيه. و هو يعترف بذلك لأبيه بشكل مباشر و يطلب العفو منه. و الشعور بالذنب هو بمثابة طاقة كامنة ستحول ما كان مجرد فرجة مستهلكة، كاذبة و زائفة، إلى إبداع سينمائي ضمن سيرورة حياتية مفتوحة على كل الاحتمالات.
و في وداعا كارمن يلتقي الطفل عمار في نهاية الشريط بأمه الواقعية العائدة من المهجر، و ليس صدفة أن يكون اللقاء بها من داخل القاعة السينمائية نفسها، القاعة التي احتضنته و حصنته، كأنما هو لقاء من نوع آخر مختلف عن السابق، تعود الأم الواقعية، لكن الطفل يظل مشدودا إلى كارمن، أمه السينمائية التي ستضطر للرحيل عن البلدة على إثر المستجدات الطارئة على الساحة السياسية في بلادها و المتمثلة بموت فرانكو الذي كانت معارضة له. ليس الموت إذن مجرد حدث اجتماعي. إنها حدث سياسي أيضا. و كأي حدث سياسي يعمل على إعادة ترتيب الأوراق كما في حالة كارمن التي قررت العودة إلى الوطن الأم.
في المشاهد الأخيرة من الفيلم، تمضي كارمن، و هي على أهبة مغادرة البلدة، تمضي للبحث عن عمار داخل البيت الذي يقيم به قصد توديعه، لكنه يكتفي بأن يرقبها من بعيد، متلفعا بصمته المعتاد، صمت و نظرات مشحونة بالأسئلة لكنها مفتوحة على مستقبل شاسع، ينبعث من رحم المعاناة و الحرمان و العنف. إنه عاجز عن توديع كارمن عن قرب لذلك يكتفي بأن يبعث لها إشارة وداع و هو يرقبها من بعيد.
كان فيلم وداعا كارمن قد بدأ بمشاهد خارجية، الطفل عمار يجوب الهوامش باحثا عن شرائط ملفوظة، ملقاة هنا و هناك، يتصفحها بإمعان و حب كبيرين، و ينتهي أيضا بمشاهد خارجية هي مشاهد فراق و رحيل في نفس الوقت. رحيل أمه و صديقته السينمائية كارمن بعدما حقنت أوصاله و خلايا دمه بعشق السينما، لكنه عوض أن يظل ذلك الطفل التائه، السلبي، كما كان في البداية، سيقوم أخيرا بصنع آلة للعرض الفيلمي من الورق المقوى، تعبيرا منه عن عشقه و شغفه بالفن السابع.
ختاما يمكن القول إن الشريطين معا ، وداعا كارمن و جوق العميين ، توفقا في تقديم "بطل" سينمائي من نوع جديد، مغاير لمفهوم البطل في السينما السائدة، يمكن اعتباره بمثابة "بطل مضاد" أو أنتي بطل ، بذلك يحق لنا اعتبارهما يندرجان ضمن أفق سينما جديدة، أو سينما واقعية جديدة، تمضي إلى رصد تناقضات و مفارقات مجتمع بكامله من خلال نظرة طفل، مع رصد مظاهر الصراع النفسي لهذا الكائن الصغير الذي يتأثر بشدة بمحيطه و يتفاعل معه. و هو الأفق الذي سبق أن دشنته أشرطة أخرى سابقة في السينما المغربية أخص بالذكر منها هنا شريطي وشمة و علي زاوا .
----------------------------------------
(1) نص المداخلة التي شاركت بها في ندوة " الصراع في السينما" ضمن فعاليات الدورة الثانية لمهرجان الأطلس للفيلم الدولي المنعقد بإيموزار كندر خلال شهر ماي 2024 .