كم يلزمنا من الوقت لنكون؟ - نص: عبد الهادي عبد المطلب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

خارج الوقت..
"الوقت كالسيف، كالسهم، إن لم تنتبه قطعك"، بمعنى آخر، الوقت سيف مسلّطٌ على أعناقنا، إن لم نستغلّ دقائقه وساعاته، سيُجهز علينا ويجتزُّ رقابنا دون رحمة، فهل نحن، العرب، من قال هذه القولة ومقصودها؟ وهل قلناها في زمن كان للوقت ثمنه، أم قلناها لأُناسٍ غيرنا؟ هل نسينا أن التّاريخ يُسجّل، فأخلفنا وعدنا وموعدنا؟

فاض الوقت بنا، وعنّا، وأصبحنا خلف الرّكْب نتفرّج وقد تاهت بنا السُّبُل والدّروب والمسافات والطُّرق، وأصبحنا فائض الإنسانية، وانتهت صلاحيتنا حين انتهى وقتنا وانقضى، واصح الوقت عندنا فراغا وثالثا ودون قيمة.

قَطَعَنا السّيف أشلاء، وأصابنا السهم في مقتل، حين صنعنا لأنفسنا، نحن الّذين نُحسن الفُرجة والتّصفيق والضّحك لأتفه السباب، وقتاً للفراغ ووقتا ثالثا، كأنّنا أنهينا الوقت الأول بما يفيد الإنسانية ويُطوّرها، ولم يتبقّ لنا منه إلاّ ثالثا نستريح فيه من تعب ما لم نفْعلْ، ووقتاً للفراغ أفرغنا فيه كل ذرة كبرياء إنساني زَرَعَها فينا الأولون الذين كان وقتهم من ذهب، فأقاموا له محاريب للاعتكاف لتُزهر الإنسانية وتسير واقفة شامخة في شتّى المعارف والعلوم.

لنا من الوقت الفائض وما يفيض عن حاجتنا، لدرجة أننا لم نعد نعرف ماذا نفعل فيه أو به، أوقفنا حركته، ووقفنا حيث نحن، لا نزيد خطوة، بل نتقهقر خطوات، حين سار الآخرون مسرعين إلى الأمام، لا وقت لهم للوقوف والنّظر إلى الوراء ولا إلى من تخلّف عن الرّكب، ونحن في وقتنا نغوص حد النُّخاع في مستنقع الانتظار والتواكل والضحك البليد، والتّمايل المجنون مع الأرداف حين تتمايل، ومع البطون حين تهتزُّ، نجمع ما لا يُجمع، ونكتنز ما عافته الإنسانية ومجّتْه، لا نتذكّر أمسنا، ولا نتأمل يومنا وحاضرنا، ولا نتوقّع مستقبلنا، بل ننتظر دائما، نعيد اجترار أيامنا كذلك العُجل المقزّز الذي يمضي يومه كاملا يدفع كرة الرّوث، ولا يُحسن صنعَ شيء غير ذلك، إلى أن "ينتهي بنا الأمر إلى أن نُصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "الإنسان"، أو كان يطمح إلى أن يكون إنسانا، ومن دون أن يعي هذا، بالضّرورة، تغيَّر في شكله. إن التّغيّر الأكثر خطورة هو الذي جرى(ويجري) في بنيته الداخلية العقلية والنفسية"[1]

من الوقت ما قتل، وهذا ينطبق علينا، نحن العرب، حين اعتقدنا، بل آمنّا، أن الوقت ليس لنا، بل للآخر يكتشف لنا ويخترع، ونحن في زمننا العربي البئيس، نعيش على هامش الوقت، وهامش الإنسانية نضحك للقمر، ونردّد قولا فهمناه بطريقتنا، "ما فاز إلاّ النّوَّمُ"، فزنا انحطاطا وتخلُّفاً حين انْفَلَتَ من بين أيدينا الوقت الثّمين، وتركناه يسيح غير مأسوف عليه، لأنّ لنا من الوقت ما يسع النّائمين منّا، ويزيد عن حاجتنا، لنفعل كل شيء، إلا التّأثير في العالم، والمساهمة في بناء معارفه، وتغيير ما نحن فيه من ذل وتراجع وعبودية.

حين أتحدّث عن الوقت كفاصل بين من سار إلى الأمام ومن توقّف متفرّجا حتى هرب منه الوقت، ولا اضع مقارنة بينهما، لأن المقارنة قد تهدم أكثر ممّا تَبْني، ولأن المجتمعات في حقيقتها مختلفة في تركيبها وظروفها وعقلياتها وما يؤثّر فيها من قوانين، وعادات وقيم، ولكنّي أشير إلى أمر غاية في الأهمية، وأحاول وضْع الأصبع على موطن الجُرح لنبحث له عن علاج، لا أن ننتظر العلاج حتى يَخْمَج الجُرْح ويسيل صديداً، وتمتد العدوى إلى الجسد كله.

معلوم ان الوقت لا يتوقّفُ ولا ينتظر أحدا، ومعلوم أن من توقّف داسته الأقدام بلا رحمة في زمنٍ السّرعة شعاره، لذا كم يحتاج العربي من الوقت، غير الذي ضيّعه، للتّفكير في حاضره، في مداواة جراح هزائمه، في البحث عن معان للحرية، في تحمّل مسؤولياته كاملة فيما حصل له وما يعيشه دون إلقاء اللوم على الوقت والآخر، وعلى المشاجب التي ابتكرها ليُطأطئ الرأس ويسْتَكين؟ كم يحتاج من الوقت، للنظر في انتكاساته وتراجعاته وخيباته بعين الناقد الساعي إلى التّغيير، في البحث عن درجات الصعود من القعر الآسن، والخروج قويا من الظلّ إلى النّور والضّيّاء، ومن الصّمت إلى الكلام؟

كم يحتاج العربي من الوقت ليعيش زمانه كاملا، مؤثِّرا أكثر منه متأثّرا، لا أن يعيشَ اللَّحْظة، طُعْم المتحذلقون البائسون الذين يُخندقون الإنسان خارج الوقت، يُخْضعونه لما هو فيه الآن، منقطعا عن المستقبل والأمس، حائراً في الآن، جاهلا لما يريد وإلى أين يسير، شاكّاً في ذاته وقوته، وفي الآخر الذي يشاركه الأرض والدم واللغة والدين، حين يعيش اللحظة، فهو لا يعيش وقته وزمانه كاملا، بل  يصْنع لنفسه أنظمة خرابه الأكيد، مُعادِياً لكل جميل في انتظار أن يلفظه العصر خارج الوقت، خارج الزّمن، وقد فعل.

كم يحتاج العربي من الوقت ليتصالح مع الجمال قراءةً وموسيقى وإبداعا؟ ومع الكتاب وأسباب التقدّم؟ كم يحتاج من الوقت ليُعمّر مدارسه وجامعاته ومعاهده بالعلم والبحث والسؤال، ويُجنّبها تخريج وتفريخ طوابير العاطلين والمتسكّعين والمنتهزين والباحثين عن الأمل وراء البحر عبر قوارب الموت؟

نكون أو لا نكون..

هل قدرنا في الوطن العربي، أن نكون خلف الرّكب متفرّجين منتظرين، باسطي الأيادي نستجدي صناديق النّقد الدولي؟ إلى متى ونحنُ في فواتٍ حضاري مدقع مخيف ومزعج، مستهلكين بامتياز لكل شيء، الأفكار كما طُرق العيش، وحتى التوافه من الأشياء التي لفظها الآخر دون حياء أو نخوة أو تردد؟

هل ضاعت منا الأسئلة الحارقة القادرة على إيقاظ ضمائرنا من سباتها العميق الذي طال أمده؟ وكم يلزمنا من الوقت لنُعطي لإنسانيتنا معنى وهدفا، بمعنى آخر، كم يلزمنا من الوقت لنكون أو لا نكون؟ ذاك هو سؤالنا الان في وقتنا الحَرِج، وقد تسرّب من أعْوامنا عُمراً لا يُقدّر بثمن، ولم ننتبه له ولم نقدّره حق قدره.

كم يلزمنا من الوقت لنكون؟ والوقت لا يرحم، لا ينتظر، لا يُفاوض، لا يأْبه لبكاء الخانعين الضعفاء الخائري القوى، يسير بنا، ونحن واعون وفي كامل قوانا العقلية، إلى القاع السّحيق المظلم، ننظر إليه ولا نُحاول، ولا نبادر، الكل يُعوّل على الكلّ، ببلادةٍ فاقت كل التّصوّرات، ننتظر من يبادر، ولا أحد يبادر، حتّى تعكّر الماء في القاع وكثُر وَحْلُه، وشدّ الأقدام إليه وانقطعَ نفسُ المحاولات الصّادقة للخروج، واتّخاذ القرارات الصّائبة والجريئة.

هل ما زال أمامنا مُتّسع من وقتٍ لنطرح السؤال، أم اْنَغلق الباب دوننا وقُضيَ الأمر، وتبوّأنا من المقام الأخير، ومن النظرات الازدراء والتّحقير، أم أنّ الأمل ما زال، وأن السّطح لطالِبِه قريب، ويكفيه أن يُحسن العوْم أو يتعلّمه؟

الأمل ما زال، وفينا من يثقن العوْم، ومن يملك من القوّة ما يجعله يدفع بالآخرين إلى السّطح، ومن يحمل قلباً فيه بقيّة من غَيْرة على زمنٍ كان أناسيَه بالأمس شموعا، ومن لا يخاف في الحريّة والكرامة لَوْمَة المُستهزئين والمثبِّطين.

كم من الوقت تسرّب منّا وضاع؟

ما يكفي وأكثر لنبادر ونبعث الرّوح فيما تبقى منّا، وفي مجتمعاتنا الّتي "تُنمّي منسوب التّلوّث الذهني، والسّقم الثقافي، والأمية المتعدّدة الأشكال والأبعاد، نُضاجع الخوف ونجنحُ إلى الانسحاب، متكلّسين، تالفين، مُصابين بتلاشٍ باطني، وانعزالية عقيمة جدباء، لا نخشى إلا شيئا واحداً، "أن نصير واعين""،[2] ودون انتظار، لأنّنا انتظرنا طويلا ولأن الانتظار موت أكيد. فالمثقّفون والفنّانون والصّحفيّون والسّاسة وأصحاب الرّأي، معنيون بهذه الأسئلة، لأنّ واجبهم أن يتكلّموا، ليس رغبة في الكلام وإهداراً للوقت في تنميقه وزخرفته، بل من منطلق الواجب والالتزام الذي يحملونه ويؤطّر ما أخذوه على عاتقهم من تلمُّس الأدواء، والسّعي إلى إيجاد الدواء، وتطعيم الجراح الغائرة، وتنقية المسارات المؤدية إلى السّطح، ورفع دافعية الإنسان إلى التّغيير ومناشدة الحق والعدل، والمشاركة الإبداعية إلى جانبهم في صنع التاريخ، والتّحرّر من التبعيّة، وردم الهوّة الحضارية بينه وبين المجتمعات المتقدّمة، وصوغ آليات التّغيير للخروج من الحيرة القاتلة، والضيق الخانق، لبناء مجتمع جديد ينهض على المعرفة واحترام الوقت والآخر، وفهم التّحوّلات الجارية في العالم، وإعادة الاعتبار للإنسان كأساس لكل لبناء سليم وقوي.

تستقيم المبادرات إذا استقامت النّوايا، وأعددْنا العُدّة للبداية الحقيقية والإصلاح المطلوب، وتمْحيص الحال وعدم التّوقّف لِلّوْم أو المآخذة، والتّخلُّص من الأنا المقيتة والانتهازية التي تحصد الأخضر واليابس، ووضع خارطات لِطريقٍ قويم، وتسهيل سير القطار على السكّة والانطلاق يداً في يد، بعيداً عن الحسابات الحزبية والسياسية الضّيّقة والفارغة، والمُزايدات الرّخيصة، والمصالح الزّائلة، دون تسرّع أو تسابقٍ للأحداث لحصد النّتائج العاجلة، ومشاركة النّاس همومهم بعيدا عن التنظير والسّفْسطة والكلام المنمّق، وخوض مغامرة عالم الاتصالات ودخول عالم المعلومات، والتّوقّف، لا للتّراجع، ولكن لنعترف، بقوة دافعة، بتخلّفنا وتأخّرنا وعجزنا وأسبابه، ووضع خطّة لوطنٍ عربيّ مستقبلي، تجتمع حولها العقول العربية، وتخوض مغامرة السؤال، هل نملك الوقت أم أن الوقت يملكنا؟ وهل نتحكّم في وقتنا أم وقتنا يتحكّم فينا ويحكمنا، ليُحاكمنا غدا؟

تلك أسئلة البداية، أسئلة المراجعة ومحاسبة من تأخّر عن الرّكب، أو كان سببا في التأخر، وإعادة النّظر في الأسئلة المطروحة في بداية مشوار التّغيير، وتجديد طرحها، تبعا للتغييرات التي يشهدها العالم من حولنا، بما يخدم التّطوّر المعرفي المتسارع لمجابهة إشكالات الراهن المتقلب، واستغلال الوقت فيما يخدم الإنسان العربي ويدفع به إلى المساهمة في  التّغيير العربي للتّطور والتّنمية، واستعادة الثّقة في مؤهّلاته وقدراته واتخاذ القرارات الصّحيحة دون خوفٍ من المواجهة، أو تبعِيّة أو نظرةٍ إلى الوراء الغارق في وحل التّخلُّف، وعدم قضاء الأمور بتركها، والحسْم في الخيارات.

 

[1] ممدوح عدوان، حيونة الإنسان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ط 2. 2019، ص 10.

[2] بتصرف من كتاب: دور المثقف في التّحوّلات التاريخية. مجموعة مؤلفين، مقال د. سالم حمّيش. عن المثقفين وتحولات الهيجمونيا. المركز العربي للبحاث ودراسة السياسات. 2017. ص: 48 ـ 49.

تعليقات (1)

This comment was minimized by the moderator on the site

بُعد كبير بين العرب والوقت؛ جل وقتنا نزجيه في نقاشات فارغة او انتقادات لا أساس لها من الصحة. حال بلداننا اليوم يشهد على ذلك، فكم من لحظة تاريخية أخلفنا الموعد معها.
موفق صديقي في تحليلك ومزيداً من العطاء.

محمد رزيق
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة