السيكولوجي والفلسفي في السينما المغربية (1) - نورالدين بوخصيبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

  تقديم:
     ارتأينا أن نستهل هذه المقالة حول العلاقة بين السيكولوجي والفلسفي في السينما المغربية ببعض الملاحظات الأولية نعتبرها ضرورية حتى نتقدم بخطى ثابتة على أرض محفوفة بالصعوبات و المنزلقات.

  • الملاحظة الأولى: أن الرهان الخاص بالعلوم الإنسانية على العموم، و بعلم النفس تحديدا ليس في هذا المقام رهانا سينمائيا خالصا، و ليس مجرد ترف فكري، إنما هو رهان ثقافي و اجتماعي شامل، لأننا ننطلق من قناعة راسخة و هي أنه لا وجود لحداثة حقيقية في غياب علوم إنسانية متطورة، يعتبر علم النفس علما أساسيا من بينها.
  • الملاحظة الثانية: أننا عندما نتحدث عن السيكولوجيا أو علم النفس، فنحن نأخذه في كامل علاقاته وتفاعله مع سائر العلوم الإنسانية الأخرى، و على رأسها السوسيولوجيا و الأنثروبولوجيا، و ليس بمعزل عنها. كما أننا نأخذ بعين الاعتبار مجمل التطورات الحاصلة في الحقل السيكولوجي العالمي، الذي عرفت أبحاثه تطورات هائلة خاصة في العقود الأخيرة بفعل التطور الحاصل في مجال التكنولوجيات الجديدة للإعلام و الاتصال.

3- الملاحظة الثالثة: أشير في هذه الملاحظة الثالثة إلى أن التحليل النفسي، الذي هو مبحث أساسي من مباحث السيكولوجيا، قد ظهر إلى الوجود بشكل متزامن مع ظهور الفن السابع. ففي نفس السنة، 1895 ، التي عرض فيها لأول مرة فيلم للأخوين لوميير بالمقهى الكبير بباريس، نشر فرويد مؤلفه " دراسات في الهستيريا " و هو كتاب مشترك مع الطبيب النفسي جوزيف بروير. لكن المفارقة أن فرويد رفض كل الاقتراحات التي وجهت له للتعامل مع السينما، و خاصة اقتراح غولدوين بإنجاز أشرطة سينمائية مستوحاة من  قصص الحب الكبرى في التاريخ. و كذلك اقتراحا آخر من الشركة الألمانية  UFA لإنجاز شريط سينمائي حول مفاهيم التحليل النفسي، و حول آلياته و طبيعة اشتغاله، لكن رد فرويد في الحالتين كان هو الرفض. أُورِد هذا الموقف في بداية هذه المقالة لأنبه إلى ضرورة الحذر الشديد و التحوط المنهجي بخصوص هذه العلاقة الملتبسة، تفاديا للسقوط في الابتذال الذي تخوف منه فرويد، و الذي كثيرا ما سقطت فيه المؤسسة الهوليودية في تعاملها مع هذا البعد السيكولوجي. (2)

      بعد هذه المداخل التوضيحية، أسجل أيضا بداية أن البعد السيكولوجي، ظل حاضرا بقوة في السينما المغربية منذ بدايات تأسيسها كسينما ذات عمق ثقافي و اجتماعي خاصة مع أفلام "وشمة" لحميد بناني، و " قفطان الحب لمنقط بالهوى" لمومن سميحي، و " عرائس من قصب" للجيلالي فرحاتي على سبيل المثال. ذلك أن البعد السيكولوجي للشخصيات هو الذي يمنح هذه الأفلام قوتها و عمقها، و كلما كان الشريط السينمائي واعيا بهذا البعد النفسي، و متمثلا له بالدقة اللازمة كلما ساهم ذلك في إنتاج أو بناء كون سينمائي منسجم و متكامل.

سأحاول في هذه المقالة أن أجيب عن ثلاثة أسئلة:

- ما هي التيمات السيكولوجية الأساسية التي اشتغلت عليها السينما المغربية، و التي تتردد بكثرة في معظم الأعمال السينمائية المغربية؟

- إلى أي حد يمكن الحديث عن فيلم سيكولوجي في السينما المغربية؟

- و أخيرا، انطلاقا من شريط محدد هو شريط " جبل موسى " لإدريس المريني، أتساءل إلى أي حد يمكن استخلاص رؤية فلسفية للعالم من خلال توظيف البعد السيكولوجي في الفيلم المغربي، على غرار ما نلمسه مثلا في أفلام هتشكوك و برغمان و غيرهما؟  

  • تيمات سيكولوجية أساسية في الأفلام المغربية:

       نسجل بداية أن السينما المغربية منذ بداياتها الأولى تمكنت من تحقيق قفزتها النوعية، من سينما ساذجة إذا جاز التعبير، سينما الواقعية المباشرة، إلى سينما ثقافية عميقة، مع شريط " وشمة " بصفة خاصة، عندما تمثلت بعمق العلوم الإنسانية، و من بينها علم النفس عموما، و التحليل النفسي بشكل خاص، كما يتبين من خلال تحليل فيلم "وشمة" لحميد بناني، أو غيره من النماذج الأخرى التي سنذكرها في فقرات لاحقة. فما هي التيمات السيكولوجية الأساسية التي استحضرتها و اشتغلت عليها السينما المغربية؟ ذلك ما سنقف عنده في الفقرة التالية، علما أن دراستنا هذه تظل محدودة بالنماذج المحددة التي وقفنا عندها، و أن البحث في الموضوع يظل مفتوحا عبر الانفتاح على مكونات أخرى كالأفلام القصيرة، و الأشرطة الوثائقية و غيرها..

  أ- تيمة موت/قتل الأب:  (الأوديب المغربي)

      يمكن القول إن التيمة السيكولوجية الكبرى الحاضرة بقوة في السينما المغربية هي تيمة الأوديب... أو تيمة قتل الأب. و هي تيمة حاضرة بأشكال مختلفة بدءا من فيلم الابن العاق لمحمد عصفور (1957) مرورا بأفلام وشمة ( 1970) لحميد بناني، و عرائس من قصب (1981) للجيلالي فرحاتي، و باب السماء مفتوح (1989) لفريدة بليزيد، و الرحلة الكبرى (2004) لاسماعيل فروخي، و جوق العميين (2015) لمحمد مفتكر و علي ربيعة و الآخرون (2000) لأحمد بولان و روك القصبة (2013) لليلى المراكشي، و وداعا كارمن (2014) لمحمد أمين بنعمراوي، و عش في القيظ (1996) لحكيم بلعباس، و غيرها..

      لكن موت/ قتل الأب هذا ليس دائما قتلا ماديا، مباشرا، و إنما هو يكتسي أشكالا مختلفة من قبيل القتل الرمزي أو الإخصاء أو اللامبالاة أو الصد و الهجران إلخ...

   تستوقفنا بهذا الخصوص ملاحظتان :

- الملاحظة الأولى أن ظاهرة موت/ قتل الأب تتحدد في كثير من الأحيان بالبعد السيرذاتي كما في أفلام " روك القصبة" و جوق العميين" و "وداعا كارمن"..

- الملاحظة الثانية أن بعض الأشرطة المغربية تعاملت مع هذه الظاهرة بشكل ميكانيكي، يفتقد للحس الخيالي و الإبداعي، بينما مضت أشرطة أخرى تفكك الظاهرة بحس سينمائي إبداعي عميق.

     و قد تناولت هذه الظاهرة بتفصيل في دراسة سابقة لي بعنوان " موت /قتل الأب في السينما المغربية" حيث سجلت أنها ظاهرة نطغى بشكل لافت في عدد من الأشرطة السينمائية ، و حاولت الكشف عن بعض الأبعاد السيكولوجية، اللاواعية المحددة لها.

ب - الصمت و عنف المحرم:

    في عدد من الأشرطة السينمائية المغربية يحضر الصمت بشكل كبير جدا. أو بشكل مبالغ فيه. لدرجة أنه بات بدوره لازمة أساسية خاصة في الأشرطة الأولى.

نقف هنا بصفة خاصة عند ظاهرة الصمت لمواجهة عنف المحرم. و أسوق هنا ملاحظة أساسية في علم النفس تتمثل في سقوط عدد من الأطفال في غياهب الصمت كرد فعل على الصدمات العنيفة التي يتلقونها، و لمجابهة عنف الواقع المحدق،  خاصة لما يكون هذا العنف مرتبطا بالمحرم، كالاغتصاب مثلا، أو زنا المحارم و غيرهما من الظواهر المماثلة.

    في السينما نلاحظ أن لجوء بعض السينمائيين إلى الصمت كثيرا ما يغدو  توجها فنيا جماليا، و إن كان لا يخلو من قسوة. إنهم بهذا الاختيار يعودون إلى ما يعتبره شارلي شابلن في مقولة له "ماهية السينما". و ما دمنا نتحدث عن الصمت في السينما لا بأس من التذكير بهذه المناسبة بهذه القولة العميقة بهذا الخصوص للسينمائي الكبير أكيرا كورزاوا جاء فيها: " منذ مجيء الأفلام الناطقة خلال الثلاثينات [من القرن العشرين] شعرت أننا فقدنا و نسينا ما كان يجعل الأفلام الصامتة بكل تلك الروعة. و وعيا مني بهذه الخسارة الاستتيقية، التي كانت تعطيني إحساسا بتأنيب الضمير، كنت أشعر بالرغبة في العودة إلى أصول السينما ، و أن أعثر على هذا الجمال الخاص .. كان علي إذن أن أعود إلى الماضي". (3)

    أقف هنا عند نموذجين هما " شاطئ الأطفال الضائعين" (1991) للجيلالي فرحاتي و " سميرة في الضيعة" (2007) إخراج لطيف لحلو، حيث يظهر بوضوح أن الصمت في الشريطين مرتبط بالمحرم، أو بما يمكن أن نطلق عليه عنف المحرم. و معلوم أن هذا العنف مرتبط هو نفسه ببنيات سوسيو ثقافية خاصة ينمو و ينتعش بداخلها.  

    يحكي فيلم "شاطئ الأطفال الضائعين" قصة أمينة – سعاد فرحاتي – التي تقتل عشيقها السابق دون أن تكون لها النية في ذلك، بعدما زرع بذرة محرمة داخل رحمها، لكنه تنكر لها ، و كان الرجل كلما طالبته باعتراف يمنحها مشروعيتها تجابه برد فعل عنيف منه.

     عندما أجهزت عليه، أخفت جثته داخل أكوام الملح المتراكمة قرب البحر. و بما أن أمينة قد اقترفت معصية شنيعة، فقد " اعتقلها " والدها داخل فيلا فارغة. لكن حبه لابنته لم يزد إلا تأججا رغم شناعة ما أقدمت عليه في المنظور الاجتماعي و الأخلاقي. أما زوجة أب أمينة، التي كانت معروفة في البلدة بأنها عاقر، فهي ما تلبث أن تثأر لنفسها ، حيث تشرع في التجول داخل القرية ببطن منتفخة وهمية، موهمة سكان القرية بأنها حامل، حتى إذا أنجبت أمينة، انقضت على وليدها و نسبته لنفسها . و من داخل عزلتها تصدر أمينة كل ليلة صرخات حادة، لكنها حين تخرج الطفلة إلى العالم تتحدى الجميع، و تخرج لتصفع الكل بالحقيقة. فلا شيء يعلو فوق عاطفة الأمومة.

    و قد بينت في دراسة سابقة لي بعنوان " الفيلم المغربي.. عنف المحرم.. صمت الصورة".. أن الصمت " يهيمن بشكل كبير و رهيب على الفضاء العام للفيلم. ذلك أن الجيلالي فرحاتي جعل كل قوته تكمن في البعد الإيحائي للصور و الرموز الموظفة في الفيلم.", و كان فرحاتي قد اتخذ هذا المنحى في فيلمه السابق " عرائس من قصب" (1982) كما سيمضي على نفس النهج في أفلامه اللاحقة.

    أغلب اللقطات في الشريط لقطات ثابتة  أو بطيئة، ذلك أن فرحاتي يهتم أكثر بالبعد البلاستيكي، و يركز أكثر على التوضيب داخل اللقطة. و هو ما يعطي لأشرطته بعدا تشكيليا عميقا.

    نفس الشيء نلاحظه في شريط " سميرة في الضيعة" للمخرج لطيف لحلو. ففيما يعاني بطل الفيلم من عجز جنسي يعكر علاقته بزوجته، تخوض زوجته، للتخلص من سطوته و سلطته الوهمية، تخوض غمار تجربة حب غير شرعية مع قريب لزوجها بين جدران نفس الفضاء الذي يجمعهما. عنف المحرم هنا أيضا يجابه بصمت رهيب يفسح المجال لبلاغة الصورة. عندما يتوارى الكلام إلى الخلف تتألق الكاميرا في التقاط صور بليغة بلمسات فنية شديدة الرهافة كما في فيلم " شاطئ الأطفال الضائعين". 

  لا يقف الأمر عند هذا الحد، في أشرطة مغربية أخرى تؤدي الصدمات النفسية التي تتعرض لها بعض الشخصيات إلى صمت أو إلى عجز تام عن الكلام كما  هو الشأن بالنسبة لصمت " زهرة " (سناء بحاج) في فيلم " الأوراق الميتة" ليونس الركاب،  و صمت  "حكيم " (يونس بواب) في فيلم " جبل موسى" لادريس المريني، و صمت ريحانة (مجدولين الإدريسي) في فيلم " البراق" لمحمد مفتكر.

     في شريط " الأوراق الميتة" ليونس الركاب، صمت " زهرة " سببه هو الزج بها داخل مستشفى للأمراض العقلية للتخلص منها في مسعى للاستيلاء على ثروتها، و تعرضها لاعتداء و عنف داخل هذا الفضاء. يتدخل الطبيب النفسي لإنقاذها. و هو الذي ينجح في عودتها للكلام اعتمادا على عنصر الموسيقى التي كانت شغوفة بها. و الجدير بالذكر أن فيلم " الأوراق الميتة " هو من الأفلام المغربية القليلة التي استحضرت المؤسسة الطبنفسية، و كان قد سبقه إلى ذلك شريط " يا ريت" لحسن بنجلون. لكن شريط حسن بنجلون ظل حبيس المقارنة بين الطقوس التقليدية في التعامل مع ظواهر الأمراض العقلية و النفسية و بعض مظاهر الحداثة من خلال طالب باحث في الطب النفسي، مصاب بمرض عضال يِؤدي به إلى حتفه في نهاية الشريط. و عموما مع أن هذا الشريط يعتبر جريئا في اقتحامه ، ربما لأول مرة في تاريخ السينما المغربية ، لمجال معقد هو مجال الطب عموما و الطب النفسي بشكل خاص ، فقد ظل طرحه ضمن المستوى السطحي، و لم يتناول الظاهرة في أبعادها و تعقيداتها الشاملة.

 و في فيلم " جبل موسى " تجعل الصدمة القوية التي تعرض لها حكيم بطل الشريط، تجعله عاجزا عن الكلام. نفس لشيء بالنسبة لصمت "ريحانة" في شريط البراق لمحمد مفتكر. إن الصدمات القوية التي تعرضت لها ريحانة منذ طفولتها من قِبَل "سيدي مول العود"، الذي هو رمز للأب، و التي وصلت مستويات رهيبة تمثلت في محو هويتها كأنثى، و استغلال أنوثتها لأغراض أخرى، كل ذلك زج بها في عالم الصمت و جعلها عاجزة عن الكلام.

     بالإضافة إلى هاتين التيمتين، هناك تيمات سيكولوجية أخرى تناولتها السينما المغربية مثل الصراعات النفسية للطفل، كما في شريطي "جوق العميين" و " وداعا كارمن"،  و الصدمات النفسية كما في  فيلم " أكادير بومباي" لمريم بكير، و الأحلام و الكوابيس المرضية، و التلاعب العقلي كما في فيلم "فورماتاج" لمراد الخودي على سبيل المثال... إضافة إلى تيمة اساسية أخرى هي ما أطلقت عليه في دراسة سابقة تيمة " النظرة القاتلة".. انطلاقا من تصور المحلل النفسي جاك لاكان للنظرة بوصفها موضوعا للرغبة شأنها في ذلك شأن الثدي و الصوت. إنها كأي موضوع للرغبة تأتي لترمز للنقص الأساسي عند الكائن الإنساني. و معنى كونه موضوعا للرغبة أنها هي سبب تأججها و حافز تشكلها. إنها شرط أساسي لوجود الذات بوصفها ذاتا راغبة. و هي الدافع إلى الإشباع البصري في الفنون التشكيلية، كما في التصوير الفوتوغرافي و السينما. لكن المفارقة أنها ليست حاضرة في الحقل البصري، مع أنها جزء لا يتجزأ من هذا الحقل نفسه. ذلك يعني أنه في العالم هناك النظرة، لكننا لا نراها.. و بتعبير آخر مكثف: " النظرة هي لا مرئي الرؤية". (4)

1– الفيلم السيكولوجي في السينما المغربية:

    الملاحظ أن الاتجاه الغالب في السينما المغربية هو الاتجاه الاجتماعي الذي تطرقت فيه السينما المغربية لقضايا مستوحاة من الواقع الاجتماعي المغربي، من قبيل قضايا المرأة و الطفولة و الهجرة، و كذلك في فترة معينة قضايا الاعتقال و حقوق الإنسان. و مع ذلك سعت بعض الأشرطة السينمائية إلى الخروج من هذه " الدائرة من خلال التصدي لظواهر سيكولوجية تمحورت حولها هذه الأشرطة بشكل ما، أخص بالذكر منها على سبيل المثال أفلام:

-      وشمة ( 1970 ) إخراج حميد بناني

  • يا ريت ( 1993 ) إخراج حسن بنجلون
  • قفطان الحب المنقط بالهوى ( 1998 ) إخراج مومن سميحي
  • ذاكرة معتقلة (2004) إخراج الجيلالي فرحاتي
  • البراق (2010) لمحمد مفتكر
  • فورماطاج ( 2014 ) لمراد الخودي
  • الأوراق الميتة (2015) إخراج يونس الركاب
  • جبل موسى ( 2022 ) إخراج ادريس المريني
  • هوس ( 2024 ) إخراج ابراهيم الإدريسي

        و الجدير بالذكر أن الفيلم السيكولوجي لا يعتبر دائما جنسا سينمائيا مستقلا بذاته، إنما هو على العموم أسلوب سردي أو تقني يمكن أن يظهر ضمن أجناس سينمائية مختلفة، كالدراما، أو أفلام الإثارة، أو أفلام الرعب، و الأفلام الفانطاستيكية و أفلام الخيال العلمي و غيرها... لكنه يمكن أيضا أن يستقل بذاته ضمن سياقات خاصة محددة.

   و مع ذلك يمكننا على العموم تلمس بعض الخصائص المميزة للفيلم السيكولوجي، أو النفسي، في السينما العالمية على مستوى المحتوى أو المواضيع المطروحة به، و أيضا على مستوى التقنيات الموظفة. و إذ نستحضر هنا نماذج من السينما العالمية، فلتتضح الرؤية، لأننا نعتبر أن السينما المغربية، و إن تميزت بخصائص أو سمات مميزة لها، فهي تظل جزءا لا يتجزأ من السينما العالمية.

   على مستوى الموضوع يتميز الفيلم السيكولوجي عموما ببعض السمات نذكر من بينها:

- استكشاف نفسيات الشخصيات و صراعاتهم الداخلية و مكبوتاتهم و نزواتهم إلخ... (أفلام برغمان و هتشكوك نموذجا). في هذا الصدد للمخرج السوريالي لويس بونويل قولة بالغة الأهمية جاء فيها: " إن السينما أفضل أداة للتعبير عن عالم الأحلام و الانفعالات و الغرائز (...) إن الفيلم يبدو بمنزلة محاكاة لا واعية للحلم "

- الأمراض النفسية و العقلية: كثيرة هي الأمراض التي تقدم شخصيات مصابة بأمراض و اضطرابات عقلية و نفسية، أخص بالذكر منها هنا أفلام " طيران فوق عش اللقلاق" ( 1975) إخراج ميلوس فورمان، و فيلم " دهان " Psycho  (1960) إخراج ألفرد هتشكوك، و فيلم Black Swan أو البجعة السوداء (2010) إخراج دارين أرونوفسكي و غيرها.. 

  • التلاعب النفسي و العقلي: من أهم نماذجه قي السينما العالمية فيلم Shutter Island (2010) إخراج السينمائي الأمريكي مارتن سكورسيزي.. و فيلم Gone Girl (2014) إخراج دافيد فنشر.
  • القضايا الأخلاقية أو الوجودية : أخص بالذكر منها هنا شريط " السيد لا أحد " ( 2010) إخراج جاكو فان دورمايل.. و كذلك فيلم "القناع" الشهير و هو من إخراج السينمائي السويدي إنغمار برغمان، و غيرهما من الأعمال التي انطلقت من ظواهر سيكولوجية، لكنها تتطرق في العمق لقضايا أخلاقية و وجودية كما في أفلام دافيد كرونمبرغ و ستانلي كوبريك و تاركوفسكي...

      كما يمكن رصد سمات أخرى للفيلم السيكولوجي من بينها الحضور النوعي  للطبيب النفسي في عدد من هذه الأفلام كعامل أساسي محدد و محفز للمحكي الفيلمي كما في شريط "منزل الدكتور إدواردز" أو شريط " دهان" لهتشكوك مثلا...إضافة إلى الغوص في عالم الأحلام و الكوابيس لاستكشاف نفسية الشخصيات، و الغوص في مشاعرها الدفينة و رغباتها اللاواعية، انطلاقا مما عاشته تلك الشخصيات من صدمات كان لها أثر كبير في مسارها الحياتي المستقبلي.

    أما على مستوى التقنيات التي توظف في هذا النوع من الأفلام، فإننا نسجل أولا أن التقنية في المجال الإبداعي ليست عبارة عن وصفات جاهزة يمكن تطبيقها بطريقة آلية هنا و هناك.  في الإبداع عموما، و في الفن السابع بشكل خاص، تبقى لكل فنان حرية ابتكار تقنيات جديدة، او التلاعب بالتقنيات المتوفرة،  تخريب هذه التقنيات أ و تكسيرها لأجل إبداع تقنيات و أدوات جديدة و هلم جرا. و مع ذلك يمكننا أن نستشف بعض السمات المشتركة  لتقنيات توظف في الفيلم السيكولوجي أخص بالذكر منها:  

  • استعمال اللقطات القريبة و رصد التفاصيل الصغيرة.. ( فيلم القناع لبرغمان نموذجا)
  • سرد غير خطي بسبب كثرة القطائع للعودة إلى الوراء ( فلاش باك)، و التقدم إلى الأمام، و ذلك للتعبير عن الأحلام و الأوهام و النزوات و غيرها.
  • الألوان... ألوان غالبا ما تكون قاتمة تعكس نفسيات الشخوص التي تكون عموما نفسيات منكسرة. و عموما الألوان الموظفة تظل مجالا خصبا لإبداع صورة سينمائية راقية متحررة من الصور النمطية السائدة في المخيلة الاجتماعية المشتركة، مع أنها تمتح من هذا المعين و تستثمر طاقاته و إمكانياته استثمارا إيجابيا.

    أما في السينما المغربية، فإن العدد المحدود لهذا النوع من الأشرطة ذات المنحى السيكولوجي، لا يسمح لنا بالحديث عن جنس سيكولوجي متكامل، و يصعب الحديث عن مخرج سينمائي متخصص في هذا النوع من الأفلام. الأمر يتعلق فقط بأعمال متفرقة من هنا و هناك لا بتيار سينمائي قائم الذات. و هذا الأمر له ما يفسره طبعا و ليس اعتباطيا. إنه يفسر بغياب بنيات سينمائية متكاملة، على مستوى الإنتاج و التوزيع معا، كما يفسر في جانب آخر بالنقص الحاصل في الثقافة السيكولوجية ليس فقط لدى بعض السينمائيين المغاربة، و لكن عموما في الثقافة المغربية المعاصرة، و داخل المؤسسات المجتمعية و التربوية بصفة عامة.

  • - السيكولوجي و الفلسفي في الفيلم المغربي:

      في الأفلام المغربية عموما يمكن تلمس حضور مكونات أو عناصر فلسفية متفرقة هنا و هناك في بعض الأشرطة السينمائية ذات البعد السيكولوجي، مثل تيمة الاغتراب، و تمزق الهوية، و إشكالية الحقيقة، و غيرها، فهل ترقى هذه العناصر و المكونات إلى مستوى الرؤية الفلسفية المتناسقة و المتكاملة؟ و هل هناك رؤية للعالم تنبثق من خلال هذه الأشرطة كما في أفلام هتشكوك أو برغمان أو وودي ألن على سبيل المثال؟

        إذا أخذنا أفلام هتشكوك كنماذج، بوصفها عموما أفلاما يطغى عليها البعد السيكولوجي، أو أفلام إنغمار برغمان أو وودي ألن أو دافيد فيشنر، تطالعنا عموما أطروحات فلسفية تنبثق من خلال هذا الحضور السيكولوجي الطاغي في أفلام هؤلاء. نقصد بذلك أن هناك رؤية للعالم تنبثق من خلال تلك الأشرطة، بما يعني أن الحضور السيكولوجي ليس مجرد ترف ذهني، و ليس مجرد لهو سينمائي، و إنما هو في العمق لتمرير الرؤية للعالم الخاصة بكل سينمائي من خلال ما ينتجه من أشرطة.

      على المستوى السيكولوجي تقوم أفلام ألفريد هتشكوك مثلا على مجموعة من العناصر التي نجدها حاضرة في كل أفلامه، و على رأسها عناصر الجريمة، و البحث و التحقيق، و التشويق الذي يستثمر فيه هتشكوك عددا من الحيل و الخدع السينمائية على مستوى التصوير و التوضيب و الموسيقى و الديكورات و الإكسسوارات و الألوان الموظفة، و غيرها...يستثمر هتشكوك آليات من قبيل الكاميرا الذاتية، و التوضيب التعاقبي، و رصد التفاصيل الصغيرة...لكن كل هذه الفسيفساء تصب في نهاية المطاف في بعد آخر أرحب هو البعد الفلسفي الذي من سماته:

- أسئلة الوضع البشري.

- إشكالية الحقيقة. 

- إشكالية الهوية.

- السلوك الإنساني بين الجبر و الاختيار.

    

   أما بخصوص السينما المغربي، فقد اخترنا في هذا المقام أن نقف بشكل خاص عند شريط سينمائي يندرج ضمن النطاق الفلسفي هو فيلم " جبل موسى" (2022) إخراج ادريس المريني. و هو بالمناسبة آخر ما أنجزه هذا المخرج سينمائيا ، علما أنه راكم عددا لا بأس به من الأعمال ذات المواضيع المتنوعة، و راكم بالتالي تجربة سينمائية غنية متنوعة أهلته للانتقال إلى مستوى سينمائي أرقى مع هذا الشريط الذي نقف عنده هنا.

     بخصوص فيلم " جبل موسى" المقتبس عن رواية للكاتب المغربي عبد الرحيم بهير، نسجل بداية الملاحظات التالية ذات الصلة بموضوعنا:

- الملاحظة الأولى: أن الفلسفة حاضرة بقوة في هذا الشريط، لكنها ليست حاضرة فقط كتيمة تستخلص ضمنيا من ثنايا الفيلم، و إنما كخطاب مباشر من خلال استحضار عناوين كتب فلسفية مثل " هكذا تكلم زرادشت" للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، أو روايات دوستويفسكي ذات الحمولة الفلسفية، شأن رواية " الجريمة و العقاب" أو " الإخوة كارامازوف"، أو رواية " قواعد العشق الأربعون" لأليف شافاك، أو من خلال استحضار أسماء بعض المتصوفة كالحلاج مثلا...أو من خلال بعض العبارات ذات الحمولة  الفلسفية من قبيل " الوجود كذبة كبيرة.. وهم في وهم.." أو " الحب يوجد في كل الديانات لكن لا دين له"...و غيرها...

     - الملاحظة الثانية أن البعد الفلسفي في هذا الفيلم يتأسس على البعد السيكولوجي. ذلك أن ما دفع بطل الفيلم " حكيم " ، الذي أدى دوره باقتدار كبير الممثل الشاب يونس بواب، إلى الارتماء في أحضان الفلسفة، هو الصدمات النفسية القوية التي تعرض لها، و التي كانت من القوة بحيث زجت به في غياهب الصمت. العزلة و الصمت، ثم الارتماء بين أحضان المؤلفات الفلسفية و الموسيقى الكلاسيكية. ثلاث صدمات سيكولوجية متتالية هزت كيان البطل تتمثل في اعتراف حبيبته له بأنها حامل، ثم بأنها متزوجة دون علمه، ثم اكتشافه بأن والده هو زوجها، يضاف إلى ذلك كله تسببه في مقتل والده في حادثة سير مروعة، و هو شكل آخر من أشكال الأوديب في السينما المغربية. لكننا ما نلبث ان نكتشف أن "حكيم" هو الذي اختار الصمت بمحض إرادته، مثلما اختار الظهور بمظهر الكسيح العاجز عن الوقوف و المشي، في تلاعب منه من جهة بالشخصيات المحيطة به، و من جهة ثانية بالمتفرج. و للإشارة فإن التلاعب تيمة أساسية في الفيلم السيكولوجي كما نجد ذلك في شريط مغربي آخر هو شريط " فورماتاج" لمراد الخودي بأسلوب آخر و ضمن منظور مختلف.     

   الملاحظة الثالثة: أن الخلاص من واقع صادم في فيلم "جبل موسى"، أو الشفاء منه إذا شئنا، لم يتم من خلال استحضار الطبيب النفسي كما جرت العادة، و لكن من خلال أستاذ الفلسفة، و من خلال تيمة فلسفية أساسية هي تيمة الصداقة.  في  عيد ميلاده  يقرر " حكيم "  الصعود على الجبل مرفوقا بمروان، أستاذ الفلسفة الذي أدى دوره باقتدار أيضا الممثل المغربي عبد النبي البنيوي. في أعلى الجبل يفتح حكيم صدره كاملا لمروان و يفشي له بجميع أسراره. و يكشف بالتالي عن أقنعته، مثلما يكشف عن فلسفته في الحياة متمثلة في إيمانه القوي بالحب، حيث يقر بوضوح بأن الحب يوجد في كل الديانات لكنه لا دين له، و هو ما يجعلنا أمام منظور للدين أكثر انفتاحا و رحابة من المنظور الضيق المتشدد لبعض رجال الدين المتزمتين.

   و لعل رمزية الجبل واضحة هنا بشكل جلي. فللجبل مكانة أساسية في العديد من  الديانات. إنه المكان الأثير للوحي، و الاعتراف، و المقدس، و مكان انبلاج الحقيقة الروحية بعيدا عن الابتذال السائد في عالمنا الأرضي. لكن الجبل في الشريط، و إن كانت له رمزية دينية واضحة، فإنه يخرج من النمطية الضيقة في فهم الدين، و ينفتح على فهم آخر أكثر رحابة و شساعة و عمقا. و بذلك يتعاضد السيكولوجي و الفلسفي في حلة سينمائية متميزة يمكن اعتبارها  بمثابة نقلة نوعية في السينما المغربية.

     ختاما إذا نحن استعرنا مفهومي جيل دولوز " الصورة – الحركة" و الصورة – الزمن" يمكن القول إن السينما المغربية ظلت على العموم تراوح مكانها ضمن حدود الصنف الأول، لذلك قلنا إنها ظلت عموما مرتبطة بالهاجس الاجتماعي المباشر، مخضعة كل الأبعاد الأخرى، بما فيها البعد السيكولوجي لهذا الهاجس المهيمن، خاصة في الأشرطة التي سعت إلى تحقيق أرقام كبيرة على مستوى شباك التذاكر. أو ما سمي بسينما الجمهور. فيما ظلت الأشرطة التي تندرج ضمن الصنف الثاني ، صنف " الصورة – الزمن" أشرطة محدودة الانتشار، لأنها راهنت بالدرجة الأولى على عقل المتلقي و فكره، و ليس فقط على مشاعره و أحاسيسه.  في هذا الصنف الثاني من الأفلام السينمائية التي يمكن أن ندرج ضمنها أشرطة الجيلالي فرحاتي، و حكيم بلعباس، و داوود أولاد السيد، و بعض الأشرطة المتفرقة هنا و هناك كفيلم "وشمة" مثلا، أو فيلم " السراب" ، يمكن تلمس رؤية فلسفية قائمة الذات، تتجلى من خلال منظور جديد للصورة يتجاوز المنظور الشائع المشترك؛ بما يعني أن حضور عمق فلسفي في هذه السينما مرتبط بالأساس بامتلاك منظور جديد للصورة السينمائية، و كذلك امتلاك أدوات و أساليب جديدة لصناعة الصورة تمتح بذكاء من كافة الإنجازات المتحققة في مجالات أخرى فكرية و فنية مختلفة و متعددة.     

-----------------------

هوامش:

1 – المقالة في الأصل عبارة عن مداخلة القيت ضمن ندوة " الأبعاد السيكولوجية في السينما المغربية" نظمتها الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، ضمن تظاهرة الجامعة السينمائية لهذه السنة، بتاريخ 13 دجنبر 2024 بمدينة الجديدة. و قد قمنا بتطويرها و إغنائها قبل نشرها مكتوبة. 

2- تناولت هذه المسألة بتحليل مفصل في كتابي " سينما و تحليل نفسي"  و بالضبط ضمن فصل بعنوان: " فرويد و السينما.. المفارقة الصعبة".. أنظر كتاب " سينما و تحليل نفسي" طبعة 1 –  سنة 2018  ص: 7 - 15

3- Akira Kurosawa, Comme une autobiographie, Ed du Seuil, Cahiers du cinéma, p. 204  

4- أحيل بهذا الخصوص إلى المقالة التالية:

 Eleonore Pardo, Le regard médusé , in Recherches en psychanalyse - 2010/1 n° 9 , p.p : 84 – 88    

كما أحيل إلى بعض كتابات جاك لاكان، و كذلك كتاب كرستيان ميتز " الدال الخيالي" لمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع الخاص بالنظرة في التحليل النفسي في علاقتها بالسينما.                                               

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟