بعدما ناوله بائع الفواكه كيسا بلاستيكيا حوى كيلوغراما من فاكهة الفراولة الحمراء، قانية كدماء قلب عاشق، قصد عامر دكانا مجاورا ناوله صاحبه بدوره كيسا حشا بداخله بعض مواد غذائية. شاي .. سكر .. علبة فروماج من صنف لاهولونديز. غدا عامر يحب هذا الصنف من الجبن منذ قدمته له أخته سلمى يوما عندما زارته بالسجن. ألقى عامر على سحنة أخته نظرة غاضبة. خاطبها قائلا : " تعرفين سلمى أنني لا أحب المنتوج الامبريالي".. سكتت سلمى لحظة.. رفعت عينيها نحو زاوية بالسقف حيث غرقت عنكبوت عجوز في نسج خيوط بيتها في صمت رهيب.. عادت وسط الضوضاء تحدق في السحنة الغامضة لأخيها عامر .. غامضة كتلك الأسفار العجيبة التي كان يأتي بها من الجامعة كل مساء..أجابته بابتسامة على الشفتين: " هذا ما وجدته اليوم عند البقال.. في الزيارة المقبلة أحضر لك جبنا من البلد".. لكن عامر حين تناول قطعة أولى منه، ما لبث أن توله به. حشا الكيس الثاني داخل الأول، أو العكس، لا يذكر بالضبط. وجد نفسه يتجه نحو مسكنه المتواضع سيرا على القدمين كما يحب أن يفعل دائما. في الطريق، لاحظ أنه كلما صادف شخصا، ما يلبث أن ينقض على الكيس بنظرة حادة يغرسها بداخله مثل مخالب حيوان مفترس، دون أن يعبأ بالنظر إلى وجهه الكريم كأنه لا وجود له !!
النظرة الأولى تحملها عامر بصبر. فهو كعادته رجل صبور في كل المواقف، عملا بالوصايا التي شُحنت بها جمجمته الصلبة منذ طفولته. النظرة الثانية بدت له شرسة من شاب بسحنة داكنة بها خدوش توجس منها خيفة. استحضر في الحين ذكرى سلمى التي انقض عليها أحدهم في الشارع قبل أسابيع. نبع الوغد بغتة من جوف الأرض كعفريت مارد. دفعها بقوة إلى أن سقطت أرضا. خطف منها حقيبة يدها بينما هي تعبر الشارع و ذهنها تائه. حاولت النهوض لتتعقب الولد. عجزت. حاولت من جديد. انهارت. كانت تريد فقط استرداد الهاتف الذي دأبت على أن تدفن به أسرارها كل ليلة. حين تختبئ داخل غرفتها تلتقط لها صورا خاصة تدفنها بداخله. بالهاتف أيضا عشرات الصور لوالديها قبل أن تصعد روحاهما إلى السماء. كانت تزورهما كل ليلة بمقبرة الهاتف حين ينام القوم. تناجيهما في سكون الليل. عندما عادت إلى البيت، لم تعد تتذكر إن كان الوغد الهائج هو الذي خطف منها الهاتف أم هي التي ناولته له راضية كي تأمن شره. بكت سلمى كثيرا . غاص البيت كله في بحر من الحزن. بعد أيام، سقطت صريعة كدب جريح .. مهزوم.. عم الظلام الدامس البيت بكامله. حين صحت ظلت تسمع كلام الجارات يعزينها في الفقدان.
تحمل عامر النظرة الثانية أيضا بصبر. نظرة أخرى أكثر شراسة. لم يفهم. هل هناك مشكل أو عيب ما في الكيس الشفاف لم ينتبه له؟ هل به عطب ما لم يلاحظه؟ هل اقترف، بحمله الكيس، عملا شنيعا أو جرما يعاقب عليه القانون و هو لا يعلم؟
ما إن عرج نحو الزقاق الضيق حيث يقع مسكنه البسيط، الآيل للسقوط، حتى بدت له الأعين مزدحمة، متسارعة، متنافسة، تتقاذف الكيس بينها بلهفة أشد ككرة مضرب بين لاعبين فضوليين داخل ملعب سوريالي.. غامض. النظرات السامة تسعى لأن تقتحمه اقتحاما. كأنما هي تريد أن تنقض و تستولي عسفا على الأشياء البسيطة بداخله. سلمى صارت تبكي كل يوم. في الصباح و في الليل. تنحف بالتدريج كنعجة في موسم جاف. أعارتها إحدى الجارات هاتفا مستعملا . و ظلت تئن. تئن و تذبل. لما توفي أبواها كان عليها أن تعيش مع عامر تحت نفس السقف. لكن حين سرق منها الهاتف بطريقة مهينة تغير كل شيء. صارت سلمى تذبل بالتدريج إلى أن فارقت الحياة. حاول عامر إخفاء الكيس داخل ثيابه. لم يفلح . فكر أن يحث الخطو نحو بيته ليخفف من وطأة النظرات التي تنهال عليه مثل سهام حادة. لكن ذلك لم يزدها إلا شراسة.
أخيرا وجد نفسه داخل مسكنه. منذ حلقت روح سلمى إلى السماء، غاص البيت في الظلمات. كانت سلمى تنشر النور من حولها بابتسامتها العريضة كضوء القمر. عند دخوله البيت، سارع إلى إغلاق الباب خلفه. تنفس الصعداء. غمره شعور بالطمأنينة. ماذا أصاب القوم؟ كتب عامر يوما في كراسته: " كورونا جعلت العالم أكثر عدوانية مما كان عليه من قبل. ألهذا السبب تم صنع هذا الفيروس اللغز الذي لوث العالم؟ ". بعدما استعاد قسطا من توازنه، استعاد أيضا قسطا من وعيه. فكر أن السبب الذي من أجله تراجع المسؤولون عن منع استعمال الكيس الشفاف في فترة من الفترات، أنهم ربما لا يريدون حرمان القوم من متعة التلصص !!
كان عامر يفكر. رغم أن السجن حرمه من إتمام دراسته الجامعية ظل حريصا على أن تكون له فلسفة في الحياة. كتب يوما في نفس الكراسة: " لا يهتم الإنسان كثيرا بما لديه. أو بما يملكه. إنه دائما مهووس حتى النخاع بما يملكه الآخرون." كان قد اطلع على شيء من هذا القبيل عندما كان مولعا بقراءة نصوص الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس. كان يحب كثيرا شذرات هذا الحكيم المتفرد. أدمن على قراءة مختصره قبل أن يعمد إلى حرق أوراقه بعود ثقاب مثلما أحرق كل رسائله العاطفية من قبل. لا يعرف لماذا سكنته في فترة ما من حياته نوبة إحراق الكتب. كان ذلك لما أصيب باكتئاب حاد حين تناهى إلى علمه ، في غفلة منه، أنه متورط في جريمة. جريمة غامضة.. كان عامر موقنا ، في قرارة نفسه ، أنه بريء ، لكن القضاة أكدوا له أن أدلة إدانته أقوى من براءته. طيلة أطوار محاكمته، ثم طيلة فترة سجنه لم يتمكن عامر من معرفة التهمة الحقيقية الموجهة إليه. حين قادوه إلى المعتقل، حز في نفسه أن يكون هو السجين الوحيد الذي لا تهمة له. كل السجناء يتفوقون عليه على الأقل لأنهم يعرفون تهمهم. لتبديد حيرته نبهه أحدهم إلى أن السجون بنيت لتوجد التهم و ليس العكس.. بعد ثلاث سنوات قضاها بالحبس بدون تهمة محددة ظهرت أدلة جديدة تثبت براءته. بعد الإفراج عنه، عادت أفكار إبكتيتوس تسكنه أكثر مما كانت من قبل. فهم أن حرق الكتب لا يزيد المرء إلا تولها بما تحمله بين طياتها من فكر.
آلاف الأفكار و الحقائق كانت تشغل عقل عامر في فترة من الفترات. كان يعتبرها حقائق يقينية. غدت تبدو له اليوم مجرد أوهام. داخل غرفته المعتمة انتبه إلى لوحة مستنسخة لبيكاسو كان قد علقها على أحد جدرانها حين كان طالبا بالجامعة. لم يقم بذلك حُبا في فن بيكاسو ، و لكن لأن اللوحة شدته كثيرا لسبب غامض. كان هذا الغموض هو ما يأسره أكثر في الفن. أفرج عن بسمة ساخرة و هو يتصفح اللوحة من جديد دون رغبة واضحة. استحضر في الحين صديقه صالح الذي كان قد رسم اللوحة ذات يوم مقلدا بيكاسو. كان صالح يلهو فقط بالألوان كطفل طائش، و أنجز لوحة رائعة. كان صالح دائما يلهو. فقط.. و يضحك.. أضفى صالح على اللوحة مسحة أخرى من الغموض زادتها جمالا. أهداها له عند خروجه من السجن. صالح وضع حدا لحياته ذات صباح باكر بشكل مفاجئ. راح و ترك عامر وحيدا يجتر حسرته كطائر حزين نبذه الزمن. بعد لوحة بيكاسو، رسم صالح صورة رائعة أخرى للثائر غيفارا. كان صالح عاشقا كبيرا لغيفارا. لذلك، حين عجز عن تحقيق حلم هذا الأخير على أرض الواقع، وضع حدا لحياته.
انتبه عامر إلى أنه كان قد قرر منذ زمان أن يضرب عن التفكير، عندما تأكد ألا طائل من ورائه.. الرأسمالية المتوحشة تصر على قتل الفكر يوما عن يوم. لم يستغرب حين وقعت عيناه صدفة على كتاب بعنوان " نظام التفاهة" لكاتب يدعى ألان دونو .. أثاره عنوان الكتاب. قرر أن يقرأه. لكنه خشي أن تعاوده نوبة إحراق الكتب فيتهم بإحراق نظام بكامله. ابتسم بما تبقى له من سخرية. فكر أن كثيرا من زملائه تسلقوا السلم دونما حاجة لذرة تفكير واحدة. ظل هو بكل الفلسفة التي بداخل جمجته يراوح مكانه.
داخل المطبخ الصغير.. المعتم .. قام عامر بإفراغ محتويات الكيس. تناثرت النظرات. تطايرت من حوله في كل جنبات المطبخ. العيون المحدقة لم تنطفئ بعد. وضع المحتويات في مكانها الخاص. أما الكيس نفسه، فقد اكتفى بأن طواه طيا، ثم ما لبث ، بعد لحظة تفكير، أن جعل منه هو نفسه كيسا للقمامة. حشا عامر بداخله ما ملكت يمينه من نفايات. في المساء، وضع الكيس أمام مدخل البيت بانتظار مرور شاحنة الأزبال ليتخلص منه. عندما أطل من نافذة البيت ليتفقد أحواله قبل الوداع الأخير، فوجئ بشخصين غريبين عن الزقاق يتعاركان للظفر به. ذُعِر و هو يسمع كلا منهما يدعي أنه المالك الفعلي للكيس.. تمزق الكيس بين يدي الرجلين المتعاركين. تناثرت النفايات التي كان عامر زرعها بداخله... ظل الرجلان يتعاركان.. تدخل أحد الجيران متوسطا بينهما. التحق به آخر بينما اكتفى آخرون بالتفرج عن بعد.. في نظام التفاهة يتحول كل شيء إلى فرجة !! فيروس الفرجة يأتي على الأخضر و اليابس.. الهرج و المرج يشتدان أكثر فأكثر.. ضحكات و قهقهات من هنا و هناك.. اغتنم كلب أسود غريب تائه الفرصة و انقض على بقايا الكيس. غرس فيها أنيابه بلا رحمة. و فر بها بعيدا تاركا القوم يتنازعون و يتعاركون فيما بينهم.