لاضير، ونحن نتطلع إلى عرض محتوى كتاب "فينومينولوجيا الروح"، من أن نتبنى القراءة التي قام بها كريستوف بوتون وإيمانويل رينو لنفس الكتاب. أشار هذان الأستاذان عند قراءة الفصل الأول بعنوان "تجربة الوعي" إلى أنه سعى إلى عدة أهداف، لا يمكن إدراكها كلها عند قراءة المقدمة، وفسرا ذلك، على وجه الخصوص، من خلال حقيقة أن المقدمة تهدف إلى توفير الإطار المنهجي لما سيتحول إلى تحقيق فلسفي في الأشكال المختلفة للمعرفة كما يتم بناؤها واختبارها بواسطة الوعي. يبدأ هيجل بطرح مشكلة المطالبات المتساوية بصحة جميع أشكال المعرفة، من خلال العودة إلى المشروع الكانطي لنقد المعرفة الذي يؤكد محدوديتها غير القابلة للاختزال، ودحضه من قبل شيلينج الذي يفترض الوصول المباشر إلى المطلق. ثم يقدم منهج "فينومينولوجيا الروح" باعتباره الطريقة الوحيدة لحل هذه المشكلة وتحقيقا لهذه الغاية يقدم مفاهيم الوعي وصورة الوعي وتجربة الوعي (الفقرات 9-17).
مشكلة فحص الادعاءات بصحة المعرفة (الفقرة 1-8)
تبدأ المقدمة بنقد كانط. بالنسبة لهيجل، لا يتعلق الأمر بالرفض الكامل لمشروعه في نقد المعرفة، بمعنى فحص السؤال "ماذا يمكنني أن أعرف؟"، ولكن بتحديد جهة أخرى غير تلك التي تم تطويرها في "نقد العقل الخالص". الفكرة الشائعة القائلة بأن هيجل وقع تحت تاثير كانط فكرة مغلوطة.
كيف السبيل إلى "استكشاف وفحص واقع المعرفة؟" (الفقرة 9، 165/58) يعيد هيجل هذا السؤال إلى الواجهة من خلال مناقشة الخيار الكانطي، ثم الخيار الشيلينجي، على التوالي. ما عابه على كانط هو في المقام الأول كونه بنى نقده للمعرفة على افتراضات مسبقة لا تخضع في حد ذاتها للنقد، وبهذا المعنى، لم يذهب بالنقد إلى مدى أبعد. ضد الافتراض الكانطي للأصل التجريبي الذي بموجبه ليس لدينا عنه سوى حدس حسي، أكد شيلينج أن المعرفة الفلسفية تتكون من التفكير في الأشياء انطلاقا من الوجود المطلق الذي يتوقف عليه واقعها، بناءً على معرفة المطلق التي يوفرها الحدس العقلي. يرفض هيجل هاتين الطريقتين المتعارضتين لضمان حقيقة المعرفة من خلال نهج تأسيسي: تأسيس العلم في معرفة ملكات المعرفة (كانط)، تأسيس العلم في المعرفة المباشرة للمطلق (شيلينج). يوضح هذا النقد المزدوج البعد المناهض للتأسيسية في الفلسفة الهيجلية، والذي، بدلاً من البحث عن أساس للحقيقة، يهدف إلى تجذير الشك في صحة المعرفة، أو، كما سنرى، "شكوكية في طور الإنجاز" (§6، 161/56).
نقد كانط وشيلينغ (§ 1-4)
تركز الفقرات الثلاثة الأولى على نقد كانط للمعرفة، وقد جرى تقديمه كتمش يقتضي إرادة فحص ملكة المعرفة قبل المعرفة. لفهم معنى هذا النقد، قد يكون من المفيد البدء مرة أخرى ب"دروس في تاريخ الفلسفة"، حيث يتم تقديم الفلسفة الكانطية بلمسة من السخرية:
"تسمى هذه الفلسفة كذلك بالنقدية لأن هدفها الأول، كما يقول كانط، هو نقد ملكة المعرفة. قبل أن نعرف، يجب علينا أن نفحص ملكة المعرفة […]. يتم تمثل المعرفة كأداة، كعملية للاستخواذ على الحقيقة […]؛ يجب أن نعرف ما يتغير في الموضوع حتى لا نخلط بين هذه التغيرات وتحديدات الموضوع. يبدو الأمر كما لو كان بإمكاننا اصطياد الحقيقة بالعصي والمجارف. قبل الحقيقة، لا تعرف المعرفة شيئا حقيقيا […]. إن فحص ملكة المعرفة يعني معرفتها. الشرط إذن هو التالي: يجب أن نعرف ملكة المعرفة قبل المعرفة؛ إنها نفس أرادة السباحة قبل النزول إلى الماء".
يفترض كانط إمكان المعرفة (إمكان ملكة الفهم) لتحديد كيف تكون المعرفة ممكنة. نحن هنا أمام شكل من أشكال الحلقة المفرغة: من أجل تحديد حدود المعرفة، يجب أن أكون بالفعل حائزا على المعرفة... ولتجنب هذه المعضلة، يؤكد هيجل أن المعرفة عملية لا يمكن دراستها بشكل مستقل عن تطورها الفعال. تماما كما يتوجب عليك القفز في الماء إذا أردت تعلم السباحة.
فضلا عن ذلك، فإن الطريقة التي يطرح بها كانط مشكلة شروط إمكان المعرفة بشكل عام تعتمد على مجموعة من التصورات غير المناسبة، أو من أخطاء التصنيف، التي تم التنديد بها في الفقرة الأولى من المقدمة. المعرفة ليست "أداة"، أو "وسيلة" تهدف إلى التقاط المطلق عن طريق تشويهه، أو "وسطا" يأتي إلينا عبره المطلق معدلاً بقوانين الانكسار. عيب هذا المفهوم الأداتي عن المعرفة هو أنه يقيم بين المعرفة والمطلق "حدا يفصل بينهما بشكل مطلق" (الفقرة 1، 155-156/53-54).
بالنسبة إلى كانط لا يمكن للإنسان أن يعرف ما يوجد في الحقيقة إلا من خلال منظور قدراته المعرفية المحدودة. إنه لا يعرف إلا الوجود كما هو بالنسبة إليه، الوجود المتعلق بنمط معرفته، الشيء الذي يستبعد كل معرفة بأي شيء من المطلق.
هاتان الصورتان غير مناسبتين لأنهما تشيران إلى أن المعرفة تواكب دائما تحول الموضوع الذي نسعى إلى معرفته، بحيث تكون دائما مختلفة عن موضوعها. من صورتي الأداة والوسط اللتين يفترضهما التصور الكانطي للمعرفة، تنحدر صورة الحد الذي لا يمكن تجاوزه والذي يفصل المعرفة عن المطلق، ظاهرة الشيء في ذاته. ومع ذلك، فإن فكرة المعرفة في الواقع تفترض بالنسبة لهيجل التطابق مع الموضوع، أي فكرة الحقيقة. كيف يمكن أن تكون هناك حقيقة أو معرفة إذا كانت المعرفة لا تتوافق أبدا مع موضوعها؟ إن فكرة المعرفة التي لا تتعلق بالواقع نفسه، ولكنها مع ذلك تكون صحيحة، هي فكرة غامضة بالنسبة إلى هيجل، الذي يتحدث في هذا الصدد عن "فرق بين الحقيقة التي هي كذلك على الإطلاق وحقيقة من نوع آخر” (الفقرة 3، 158/54). ويبدو في الواقع أنه إذا كان للكلمات معنى، فإن المعرفة يجب أن تكون حقيقية بالنسبة إلينا بشكل مطلق وليس بشكل نسبي، كما يجب أن تعتمد الحقيقة على قدرة المعرفة على فهم الواقع نفسه، أو بعبارات أخرى "المطلق". وهذا يعني أن الواقع موجود بشكل مطلق وليس بشكل نسبي بالنسبة إلينا. وهذا هو معنى الإقرار الذي بموجبه "وحده المطلق يكون حقيقيا، [...] وحده الحق بكون مطلقا" (الفقرة 3، 158/54). وبينما قصد كانط تأسيس المعرفة، انتهى إذن النهج الذي طبقه إلى تساؤل جذري حول قيمة المعرفة. وبينما ادعى أن الدافع وراءه هو "الخوف من الخطإ"، فقد تبين أن هذا هو "الخوف من الحقيقة" (الفقرة 2، 157/54)، وهو عدم ثقة في العلم تم إدراجه في الافتراضات المسبقة نفسها لنقده للمعرفة. ماذا يمكن أن نستنتج من فشل النقد الكانطي للمعرفة؟ فهل من العبث السعي إلى تبرير ادعاءات المعرفة، وهل يجب أن نبدأ مباشرة من المعرفة المطلقة؟ كان الجواب الشيلينجي على هذا السؤال هو أنه بما أن المرء لا يستطيع الوصول إلى أي معرفة قبل المعرفة، فمن المناسب أن يبدأ فورا بالمعرفة المطلقة، مستنتجا نسق المعرفة بأكمله من المبدأ الأسمى للمعرفة الوارد في الحدس العقلي. يرفض هيجل هذا الموقف بقوله إن العلم «لا يمكنه، في ما يتعلق بالمعرفة غير الحقيقية، لا أن يكتفي برفضها باعتبارها رؤية عادية للأشياء والتأكيد على أنها معرفة مختلفة تماما، وأن هذه المعرفة لا شيء على الإطلاق بالنسبة إليها يستدعي معرفة فضلى في حد ذاتها” (الفقرة 4، 159/55).
يردد هذا المقطع صدى المقدمة التي عارضت التقدم المضني في الفينومينولوجيا والمؤدي بالوعي، خطوة بخطوة، إلى المعرفة المطلقة، إلى "الحماسية البادىة فورا، كما هو الحال عند إطلاق النار من مسدس، بالمعرفة المطلقة، والتي تنتهي بالفعل إلى وجهات نظر أخرى بقدر ما يعلن أنه لا يأخذها في اي اعتبار" (101/ 24).
لماذا يعتبر النهج الشيلينجي غير مشروع؟ لأن الادعاء بالبدء بحدس المطلق غير مبرر تماما مثل ادعاء أشكال المعرفة غير الفلسفية التي يرفضها. لا يكفي، في الواقع، تأكيد تفوق المعرفة الفلسفية من خلال وصفها بأنها "علم"، لأن أشكال المعرفة غير الفلسفية تصدر عنها أيضا مثل هذه الادعاءات بالعلم، وهي على وجه التحديد تؤكد باسم هذا الأخير تفوقها على المعرفة الفلسفية: “ضمان شيء ما يساوي تماما ضمان شيء آخر تماما” (الفقرة 4، 159-160/55، (الترجمة بتصرف طفيف).
لا يمكن تبرير المعرفة التأملية إلا إذا توقف تأكيد صحتها عن أن يكون فوريا فقط، إلا إذا تم تاسيسها عقلانيا أو "علميا". لكن لا يمكن لنا الحصول على مثل هذا التبرير العلمي إلا من خلال إظهار أوجه القصور والتناقضات في المطالبات الأخرى المتعلقة بالمعرفة واحدا تلو الآخر. إذا كان النهج الذي يتكون من البدء مباشرة من المعرفة المطلقة غير مشروع، فذلك لأنه اعتباطي، ووجهة النظر المحددة التي يجب على الفلسفة من خلالها نشر العرض المنهجي للحقيقة يجب أن تكون موضوع تبرير عقلاني. ولكن كما أوضحت المقدمة، فإن هذا النهج غير مشروع كذلك لأنه يكتفي بمناشدة قدرة بعض الأفراد أن يكونوا قادرين على التفلسف، دون إعطاء الجميع الوسائل ليتعلموا هم أنفسهم الفلسفة، دون منحهم "السلم" للصعود إلى المعرفة المطلقة (المقدمة 99/ 23).
يهدف كتاب "فينومينولوجيا الروح" إلى إشراك قارئه في عملية "التكوين-التعليم"، أو "الثقافة" ( Bildung )، التي سنرى في الفصل السادس أنها ذات بعد تاريخي. وبهذا المعنى يقال إن رحلته هي رحلة "التاريخ المتحقق بتفاصيله الثقافية التي يتشكل بها الوعي نفسه في العلم" (الفقرة 6، 161/56).
الشكوكية والجدلية (الفقرات 5-8)
تنتقل الفقرات الثلاثة التالية من السجال المزدوج ضد كانط وشييلنج إلى عرض النهج الذي سيتم تنفيذه لتحليل المطالبات بصحة أشكال مختلفة من المعرفة. تم شرح هذا النهج أولاً في مبدئه العام. حتى الآن، اكتفى هيجل بالإشارة إلى أن "الفينومينولوجيا" تقدم دراسة نقدية لمطالبات الأشكال المختلفة للمعرفة بالحقيقة. ويضيف الآن أنها تتمثل بشكل أكثر دقة في فحص الطريقة التي تصبح بها المعرفة غير الفلسفية – “الوعي الطبيعي” – واعية بقصورها.
يمكن اعتبار "فينومينولوجيا الروح"، من وجهة النظر هذه، بمثابة طريق الوعي الطبيعي الذي يبذل اندفاعه في اتجاه المعرفة الحقيقية، أو بمثابة طريق الروح التي تسير عبر سلسلة تكويناتها كمحطات ثابتة لها مسبقا بحكم طبيعتها، بحيث تطهر نفسها لتكون روحا، وذلك بالوصول، من خلال التجربة الكاملة لذاتها، إلى معرفة ما تكون في ذاتها. (الفقرة 5، 160/55)
هذه الصيغ الغامضة، التي تجعلنا نفكر في تناسخ الأرواح، تجد بداية تفسيرها في الفقرة 8، عندما أكد هيجل أن الوعي هو مفهومه الخاص. وهذا يعني أن كل شكل من أشكال المعرفة يرتبط بمجموعة من المتطلبات الإبيستيمية (المحددة لمفهوم المعرفة محل البحث)، وأن هذه المتطلبات تسمح له بإدراك التناقضات الكامنة في معرفته: “الوعي لذاته – هو مفهومه، من هنا فعل الذهاب فورا إلى ما وراء ما هو محدود، وإلى ما وراء ذاته بما أن ما هو محدود على هذا النحو ينتمي إليه." ( الفقرة 8، 163-164/57). إذا لم تكن أشكال الوعي المختلفة مصحوبة بمثل هذه المطالب، فلن يكون هناك "دفعة في اتجاه الحقيقة". لا شيء يمكن أن يشكك في ادعاءات الصحة التي تصاحب المعرفة بشكل عام، بما في ذلك المعرفة المحدودة.
ستكون الفينومينولوجيا إذن "علم تجربة الوعي" بمعنى دراسة الطريقة التي يصبح بها الوعي غير الفلسفي واعيا بأن معرفته لا ترقى إلى المتطلبات الإبستيمية التي تتضمنها هذه المعرفة نفسها. يتم تقديم نهج الفينومينولوجيا هنا في معارضة ما سيكون نهج النسق: فهي ليست “العلم الحر، المتحرك في الشكل الخاص به” (الفقرة 5، 160/55). بالفعل، هي لا تقدم نفسها كعرض للحقيقة في شكل حقيقة («المعرفة المطلقة»)، ولكن كعرض للاحقيقة «المعرفة الظاهرة» - الأمر الذي قاد هيجل إلى شرح العلاقة التي تربط نهجه بالشكوكية في الفقرة التالية (الفقرة 6). كما أنها ليست تحليلاً تأمليا للأفكار ، بل تحليلًا لتجارب الوعي. ومن ثم فإن كتاب "الفينومينولوجيا" يطبق تصورا أصليا للفلسفة كملاحظة بسيطة، أو كوصف بسيط لتجربة الوعي. بعد أن أوضح أن الوعي الطبيعي نفسه هو الذي يقيس معرفته على ضوء معاييره الخاصة التي ربطها بها، كتب هيجل في الواقع أن كل ما يبقى للفيلسوف هو “ببساطة أن ينظر ليرى [ das queen Zusehen ]”. (13, 167/59§). وهكذا كان أول من تصور الفلسفة كعلم وصفي. سيتم افتراض مثل هذا المفهوم في القرن العشرين، بطريقة مختلفة، من خلال الفينومينولوجيا الهوسرلية والتحليل الفتجنشتايني للغة العادية. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أنه بالنسبة إلى هيجل، فإن هذا النهج لا يصف الفلسفة على هذا النحو، بل فقط المشروع المحدد ل"الفينومينولوجيا" الذي يظل مقدمة للفلسفة الصحيحة، ويُفهم على أنه عرض تأملي للحقيقة.
كذلك هي أصلية تماما الطريقة التي يتم بها التفكير في مفهوم التجربة هنا. في "تجاربه"، يتحمل الوعي العنف الذي يسمح له بأن يدرك لاحقيقة معرفته. وهذا يعني على وجه الخصوص أن مساهمة التجربة في الحقيقة لا توجد في التجارب الإيجابية (لتأكيد المعرفة من خلال الملاحظة) بقدر ما توجد في التجارب السلبية، وخيبات الأمل بطريقة ما، التي لا تقتضي فقط زيادة الوعي بخطإ هذه المعرفة أو تلك (التفنيد التجريبي للقضايا أو النظريات)، ولكن بشكل أكثر جوهرية، لا حقيقة بنيات أو تكوينات المعرفة، "أشكال الوعي". قد يبدو غريبا أن نسمع مصطلح "التجربة" بهذا المعنى، ومع ذلك، أليست هي نفس قوة التساؤل الجذري التي نضفيها على التجربة، عندما نقول إننا قمنا "بالتجربة المريرة"، أو "التجربة الصعبة" لشيء ما؟
إن تجربة الوعي، التي يُنظر إليها على أنها سؤال جذري ومتكرر حول تكوينات المعرفة، يتم تقديمها كطريق من الشك واليأس و"كشكوكية في طور الإنجاز" (الفقرة 6، 161/56). إن هذا الاستحضار للشكوك متناقض. يتم تقدير هذا المصطلح في إشارة ضمنية إلى الشكوكية القديمة، التي يفضلها هيجل دائما على الشكوكية الحديثة، سواء كانت تأخذ شكل الشك المنهجي لديكارت، أو، وهو الأسوأ في نظره، شكل الشكوكية الممزوجة بتجريبية هيوم. ما يستبقيه من الشكوكية القديمة هو المطالبة بفحص وحدة المعرفة، في مجمل محتواها وافتراضاتها:
"الشكوكية الموجهة إلى كامل مجال الوعي، مأخوذة في مظهرها، تجعل، بالمقابل، العقل وحده قادرا على فحص ما في الحقيقة، بقدر ما تقود إلى اليأس من التمثيلات، الأفكار والآراء التي يفترض أنها طبيعية، والتي من غير المهم أن نسميها حقيقية أو غريبة، والتي ما زال الوعي الذي شرع مباشرة في فحصها مباشرة ممتلئا ومتأثرا بها، في حين أنه في الواقع غير قادر على القيام بما يريد القيام به". (الفقرة 6، 162/56)
وحدها هذه الشكوكية بإمكانها أن تؤدي وظيفة قيمة في البحث العلمي عن الحقيقة. هي المقصودة بفكرة «شكوكية في طور الاكتمال»: وهي تذهب بفحص المعرفة إلى أقصى الحدود، تؤدي الشكوكية وظيفتها الخاصة. يُعتقد أن هذه الشكوكية تتعارض مع الشك الديكارتي الذي يتميز بثلاث خصائص رئيسية. إنه منهجي، بمعنى أنه يتنثل فقط في منهج يتم تطبيقه بطواعية. إنه مؤقت، لأنه يهدف إلى إزالة كل شك، إلى إيجاد المعتقدات المشكوك فيها في البداية (المتعلقة بوجود الأنا، العالم والله)، على شكل يقين لا يقبل الشك. وأخيرا، فهو صوري إلى الحد الذي لا يركز فيه على محتوى المعرفة، بل فقط على فعل الاعتقاد والأسباب التي يمكن أن تشرعنه، من أجل إعطاء شكل جديد لمحتوى معرفي غير متغير: شكل معرفة يقينية. تقع هذه الخصائص المختلفة للشك الديكارتي ضمن نطاق انتقادات هيجل.
المسار الذي اتبعته "الفينومينولوجيا" "يمكن اعتباره طريق الشك، أو بشكل أكثر دقة، طريق اليأس؛ بالفعل، ما يحدث في مساره ليس هو ما نعنيه عادةً بالشك، فعل زعزعة هذه الحقيقة المفترضة أو تلك، يليه اختفاء بدوره، كما يجب، للشك، والعودة إلى الحقيقة الأولى". (§ 6، 161/56)
تصف "الفيتومينولوجيا" شكا منتابا (في التجارب السلبية) وليس شكا يمتد إلى محتوى المعرفة بأكمله بدلاً من التفكير فيه كطريقة خارجية تهدف إلى منح اليقين لمعرفة غير متغيرة بالأساس، شكا لا يؤيد المعتقدات التي تنصب عليها، المعتقدات التي هي كذلك لاحقائق على طريق الوعي نحو العلم. كما نأى هيغل بنفسه عن الشكوكية القديمة لأن نتيجتها هي التعليق البحت للحكم. كل هذه الأشكال من الشكوكيى هي شكوكيات غير مكتملة، إما لأنها تفتقر إلى الراديكالية (الشكوكية الحديثة) أو لأنها تختزل الفلسفة في البحث عن الحقيقة (الشكوكية القديمة).
من المؤكد أنه لا مفر من أن يقدم الوعي الطبيعي تفسيرا متشككا لتجاربه السلبية. بالنسبة للأخيرة، فإن اكتشاف أن معرفتها في كل مرة "غير واقعية"، غير متوافقة مع توقعاتها الإبستيمية، هو تجربة يائسة، وتدمير محض وبسيط لما اعتقدت أنه حقيقي (الفقرة 6، 160 -161)/56). هذا هو بالضبط التفسير السلبي البحت لتجارب الوعي الذي تم انتقاده في سائر "الفينومينولوجيا". لا ينبغي تفسير الشكوكية في طور الاكتمال على أنها اكتمال للشك فحسب، بل على أنه تجاوز له أيضا. من ناحية، "مفهوم المعرفة" موجود بالفعل في الوعي الطبيعي، لذا فإن طريق اليأس هو أيضا الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة. من ناحية أخرى، “تقديم الوعي بلا حقيقة في لا حقيقته ليس مجرد حركة سلبية” (الفقرة 7، 162/57). البرهنة على عدم كفاية أشكال المعرفة المختلفة – أشكال الوعي – لا يؤدي إلى “العدم المحض” (الفقرة 7، 162/57)، لأنه أيضا تحديد لقصور محدد (“لنفي محدد") يحمل، من هنا بالذات، الطلب على معرفة أكثر سموا قادرة على هذا القصور. هذا هو محرك التقدم الجدلي في "الفينومينولوجيا":
"بقدر ما يتم إدراك النتيجة كما هي في الحقيقة، باعتبارها نفيا محددا، ينبثق من هنا على الفور شكل جديد، وفي النفي، يقع المرور الذي يحدث من خلاله التقدم نفسها من خلال سلسلة كاملة من الأشكال". (الفقرة 7، 163/57)
يتمثل نهج هيجل إذن في تفسير عملية الشك (فحص التناقضات المحايثة للمعرفة) بطريقة لا تؤدي بعد الآن إلى نتيجة متشككة. وهذا يعني جعل فحص تجربة الوعي، الذي من خلاله يدرك عدم كفاية معرفته، فحصا جدليا، من خلال الفهم الجدلي للحظة السلبية في عملية يتم خلالها تسليط الضوء على تناقضات المعرفة قبل حلها في حقيقة أعلى. سيتحدث هيجل في نهاية المقدمة عن "الحركة الجدلية" للوعي (الفقرة 14، 169/60)، وسيؤكد مرة أخرى أن نتيجة هذا الجدل، على عكس النتيجة الشكية، ليست "العدم الفارغ، ولكن [ …] العدم الذي هو نتيجة له؛ نتيجة تتضمن ما في المعرفة السابقة من حقيقة” (الفقرة 15، 170/61).
منهج "ظاهريات الروح" (الفقرة 9-17)
إن المنهج الذي سجعل من الممكن الكشف عن عدم كفاية المعرفة غير التأملية وقيادتها إلى وجهة نظر المعرفة التأملية ("المعرفة المطلقة") معروض انطلاقا من الفقرة 9. يتم تقديمه كحل لمشكلة معيار الحقيقة، أو بالأحرى، معيار صحة المعرفة الظاهرة. يبدو في الواقع أنه لإثبات عدم كفاية، لاحقيقة المعرفة، من الضروري أولاً امتلاك معيار يحدد قيمتها: يستخدم هيجل مصطلح Maßstab، الذي يمكن أيضًا تقديمه على أنه "وحدة قياس" أو "قياس مرجعي". والحال انه إذا كان الفيلسوف هو الذي يحدد المعيار المعني، فإننا نقع مرة أخرى في المشكلة التي تمت مواجهتها في الفقرة 4. التقييم الذي سيتم إجراؤه للمعرفة سيكون اعتباطيا تماما مثل المعرفة غير التأملية التي يقيمها، وسوف يكون إذن غير قادر على تحقيق الوظيفة التبريرية والتربوية لل"فينومينولوجيا". ذلك أنه من أجل الاعتراف بصحة التقييم انطلاقا من معيار معين، لا بد من الاتفاق على أن هذا المعيار هو بالفعل المعيار الذي تعتمد عليه حقيقة المعرفة. لكن بما أن الوعي الطبيعي لم يصل بالفعل إلى المعرفة الحقيقية، فإنه لا يتمكن من فهم شرعية معيار هذه المعرفة: "هنا، حيث لم يعمل العلم سوى على الدخول إلى المشهد، لا هو نفسه ولا أي شيء آخر غير مبرر كجوهر أو شيء في ذاته؛ وبدون شيء من هذا القبيل، يبدو أنه لا يمكن إجراء أي فحص" (الفقرة 9، 165/58).
الغرض من الفقرات التالية هو وصف الحل المناسب لهذه المشكلة. مبدأها هو ما يلي: من الممكن تنفيذ ما يمكن أن نسميه نقدا محايثا للمعرفة الظاهراتية. والحقيقة أن هذه المشكلة التي جرى عرضها للتو لا تطرح إلا إذا افترضنا أن تقييم واقع المعرفة يجب أن يتخذ شكل نقد خارجي يقيس المعرفة في ضوء معيار خارجي لا تعترف به هذه المعرفة كما هو. وعلى النقيض من ذلك، تختفي الصعوبة إذا كان النقد المحايث ممكنا، بمعنى آخر، إذا كان من الممكن فحص المعرفة وفقًا لمعاييرها الخاصة . لكن، وفقا لهيجل، الوعي هو معياره الخاص، فهو “يعطي لنفسه معياره المرجعي، ولهذا سيكون الفحص بمثابة مقارنة ذاته بذاته” (الفقرة 12، 166/59). بمعنى آخر، لتقييم نوع معين من المعرفة، يكفي مقارنته بما يعتبره الوعي الطبيعي معيار صلاحيته. وبقدر ما يكون الوعي الطبيعي هو الذي يربط هذه المعرفة بهذا المعيار، وبقدر ما يلتزم علاوة على ذلك بشرط التخلي عن المعرفة التي لا تتوافق مع هذا المعيار، فإنه يحتوي في ذاته على جميع عناصر النقد المحايث لمعرفته:
"مع ذلك، ليست هناك فقط، اعتبارا للجانب المتمثل في أن المفهوم والموضوع، والمعيار المرجعي وما يجب فحصه، حاضرون في الوعي نفسه، إضافة من جانبنا لا لزوم لها، ولكننا معفيون أيضا من عناء المقارنة بين [المصطلحين] ومن الفحص نفسه، فبينما يفحص الوعي نفسه، لم يبق لنا، من هذا الجانب، سوى أن ننظر لنرى". (الفقرة 13، 167/59)
وبعد أن تم شرح مبدإ الحل، دعونا نأتي إلى كيفيات تنفيذه الذي يتم وصفه من خلال ثلاثة مفاهيم أساسية في "الفينومينولوجيا": "الوعي" و"شكل الوعي" و"تجربة الوعي".
الوعي
بالوعي، يقصد هيجل العقل بوصفه منقسما بين المعرفة والموضوع الذي تستهدفه هذه المعرفة، العقل الذي يربط مباشرة معرفته بالموضوع بينما يميز هذا الموضوع عن معرفته. لذلك فهو شيء آخر غير ما يُفهم كلاسيكيًا من خلال هذه الفكرة: ليس شرطا لكل معرفة، بل شكلاً من أشكال المعرفة. لقد جرى شرح معنى مصطلح "الوعي" في الفقرة 10 من خلال تعارضين: تعارض "الشيء في ذاته" و"الوجود-من-أجل-آخر" لهذا الشيء في ذاته، وتعارض يؤكد تعارض "الحقيقة" و"المعرفة". "يميز الوعي من تلقاء ذاته شيئًا يتعلق به في نفس الوقت؛ أو كما يقال: هناك شيء من اجله؛ والجانب المحدد من هذا الارتباط أو من وجود شيء من أجل وعي هو المعرفة. لكن عن هذا الوجود من أجل آخر [بالنسبة إلى الوعي] نميز الوجود في ذاته؛ ما يتعلق بالمعرفة يتميز أيضًا عنها بشكل واضح ويفترض أنه خارج هذه العلاقة أيضا؛ الجانب من هذا الموجود في ذاته يسمى الحقيقة". (الفقرة 10، 165-166/58)
تتيح الفقرات من 11 إلى 13 توضيح معنى هذه التعارضات المبنية على ثلاث أطروحات. في المقام الأول، يرتبط الوعي بموضوعية يتميز بها عن نفسه: وهذا ما يسميه هيجل هنا “الموجود في ذاته”. لكي يتمكن من القيام بهذا التمييز، يجب أن يكون للوعي بنية مزدوجة، قصدية مزدوجة كما يقول هوسرل، يجب أن يكون من ناحية وعيا بالموضوع، ومن ناحية أخرى وعيا بذاته: "الوعي هو، من ناحية أخرى، وعي بذاته. وعي بما يكون حقيقة بالنسبة إليها، ووعي بما لديها من معرفة به” (الفقرة 13، 167-168/59). "الوعي بذاته" هنا يشير إلى الوعي الذاتي الصوري وليس إلى ما سيفكر فيه هيجل تحت مفهوم "الوعي الذاتي" في الفصل الرابع من "الفينومينولوجيا". المقصود هنا ببساطة هو حقيقة أن الوعي واعٍ بمعرفته، وأنه يعلم أن موضوعه لا يختلط بالمعرفة التي لديه عنه. وتؤكد الأطروحة الثانية أن الوعي يمتلك على وجه التحديد المعرفة بالموضوع. إذا تم تعريف الموضوع على أنه "الشيء في ذاته"، فإن هذه المعرفة هي "الوجود-من-أجل-آخر" لهذا الشيء في ذاته، أي وجوده من أجل الوعي (الفقرة 12، 167/59). وبما أن الشيء في ذاته هو ما يربط الوعي بمعرفته، فإن الشيء في ذاته – الأطروحة الثالثة – هو حقيقة المعرفة: “هذا الآخر ليس بالنسبة لها فحسب ، بله أيضا خارج عن هذه العلاقة أو الشيء في ذاته؛ [هذه هي] لحظة الحقيقة” (الفقرة 12، 166-167/59).
(يتبع)
نفس المرجع