anfasse110103هذه النَّفسُ! ضَعيفَةُ العريكَةِ، صعبَةُ المرَاسِ، تستطيبُ كلَّ طربٍ ماجنٍ، مائجٍ، وتخنعُ أمام كلِّ ضربات الرذيلة. آه يا نفسُ ما أَضْعَفَكِ!
في هُدوءٍ كهنوتيٍّ، ثنى الراهبُ قُصاصته، وغاصَ بعيداً في ظلمة نفسهِ الخانعةِ، مستكيناً إلى جَسَامَة الصور المُتسللة من ثُقوبِ الذاكرة. طالعتهُ أحداثُ الساعة المنصرمة، واستسلام الجسدِ صاغراً، لمعاولِ الشّهوة المُقدسة. لم يكن يعلمُ أنَّ النيرانَ اللاهبةَ تبدأُ بنظرةٍ مسرُوقَةٍ وتنتهي بِذَبْحَةٍ خاطفةٍ تحزُّ العنقَ من الوريدِ إلى الوريدِ.
انتفضَ واقفاً، حمل كتبه الصفراء المُلقاة على الأرض، قاصداً الممر اللولبي المُؤدي إلى أقبيّة الدير، ثم تلاشى وراء ضَبَابِ الصباح الحليبي، وهواجس الخوف تسطو على ذهنه الشريد، وتنغص عليه صفاء الخاطر، لكأنَّها ديدان قبرٍ ناغلة تنخرُ جسدهُ الموشومَ بحروف الخطيئة. وحوشٌ تحاصرهُ، تتقدمُ، تتقدمُ، عُيونها حمراء، ألسنتها كبيرةٌ رطبةٌ متدليّةٌ. تسحبها قليلاً إلى الداخل، تصبح مثل شياطين وسخة.

anfasse04092الشمس خافتة اللهب، تنسحب ببطء خجول كسول من بين ثنايا الصباح، وكأنها لا تود جرحه أو إيذاءه، لتنطلق في الأفق مترنحة عارية، تتلوى بصورة مغرية على أسطح المنازل المرتفعة وعلى أرصفة الشوارع المفتوحة، وكان الغبار المتطاير بين رموشها المرسلة يظهر وكأنه حبات فضة تتلألأ وهي تتهادى متنقلة من رمش إلى آخر.
صباح مدينتا جميل بكل ما فيه، باندفاعه المفاجئ من قلب العتمة، بتفتح براعمه أمام العين في حياة جديدة تغص بالدفق والحيوية، جميل بأهله السارين لالتقاط لقمة عزيزة من بين أنياب الصخر والنعاس لا يزال يرسم فوق جفونهم خطوطاً زرقاء قاتمة، جميل بمقاهيه المنتشرة على الشوارع لتعطر الأجواء برائحة النراجيل والقهوة على امتداد قلب المدينة كلها.

anfasse04091مسجى دونما يديه الرفيعتين الممتدتين على جانبيه. صامت بلا حراك؛ عدا زفير خافت بالكاد يلحظ ؛ يتضاءل له الصدر الضاوي البارزة أدق تفاصيله من تحت الغطاء ، عيناه الغائرتان بين محجريه النصف المغمضتين لا قرار لهما تسافران جيئة وذهابا كمكوك في أرجاء سقف الغرفة الموصدة عليه .
كان يشكل خياله المشوش جراء مؤثرات داخلية شتى من تموجات الصباغ والشقوق الدقيقة وذرات الغبار العالقة هنا وهناك، واعتباطية الأنوار والظلال السائبة في الفضاء وجوها عابسة ، ضاحكة، مخيفة، وحيوانات سريالية ما رأى لها في حياته مثيلا... وحين يجهده البحث والتشكيل يلجأ إلى أكواريل جانبه  على نحو غريب يتأملها... يطمع أكثر فيمدد يده نحوها وهي البعيدة؛ فما يطالها. لا يستسلم؛ يزحف عليها بعينيه، فيستولد خياله المرهف من رقص الألوان وبهرجتها مساراتِ الفرشاة وانعطافاتِها، يعتليها حتى تصير اللوحة شيئا منه . آنئذ، ينهار الزمن ويتلاشى بُعده في قرار الذاكرة، ذاكرته ؛ فيرى نفسه منتصبا كشمعدان يمسح يديه بيديه ليزيل الصباغة اللزوج وهي ما زالت نديا؛ دونما شعور، يغمض عينيه المغمضتين فتجتاح أنفه تلك الرائحة المميزة التي تنبعث من اللوحة قبل جفافها ،فلا يقاوم سحرها فيه بل، يشهق ملء رئتيه وكأنه يريد احتواءها خالصة له.

anfasse21084مساء الثاني والعشرين من أكتوبر 2013م، شمسٌ خريفيَّة تسطع على ميادين بوخاريست المزدحمة بالعائدين من أعمالهم، وزحام المبنى رقم (7) يدفعنا إلى الانتظار وقوفًا على السلَّم الدائري الضيِّق الذي يؤدي إلى العيادة، كانت عيادة العيون تغصُّ بمراجعين أغلبهم من كبار السنِّ. في منتصف السلِّم وعلى عتبتين متجاورتين اجتمعنا: سيِّدة رومانيَّة تجاوزت الخمسين، وأنا، لا أتذكَّر السؤال المفتاح الذي طرحتـُه لكنـَّه كشأن المفاتيح الصالحة قادني إلى حيث ينبغي، ردَّت بإنجليزيَّة متقنة، وعرفت – لاحقًا – أنـَّها تدرِّس اللغة الإنجليزيَّة في إحدى ضواحي بوخاريست، كانت العيادة ضيَّقة وتشغل مبنى قديمًا في وسط المدينة، وحين قالت – بعد حديث قصير عن الازدحام – : "إنَّ على الطبيب أن يبحث عن عيادة أخرى كي تستوعب هذا العدد الهائل من المراجعين" قلت: إنَّ الأمر سيكون محزنـًا؛ لأنَّ المبنى جميل، وأنا أحبُّ أن أتأمل هذه المباني العريقة التي تملأ وسط المدينة.

anfasse14088اليوم الأول...
(داخل الزمن)
الخروج من بين أربعة جدران- كما كنت أرى- تقترب من بعضها، تلغي المسافات الفاصلة، تمحوها، تتمرد عليها بكل ما فيها من موت وسكون. كنت أرقب الجدران وهي تقترب من بعضها، بتصميم، بعزم متوقد، بزحف يبحث عن التوحد، التلاصق، الاندماج، الذوبان في تيار الذرات المكونة لها. وأنا، وأنا عيناي تطفحان بالرعب، بانخلاع القلب والعقل، بالدهشة. أنكمش على نفسي انكماش قطعة مطاط تداعبها حرارة النار.
أنا وسقف الغرفة في مأزق واحد، تلاصق الجدران، توحدها، اندماجها، ذوبانها، انصهارها في بعضها. بالنسبة لي، هذا يعني موتاً محققاً، زوال، اندثار، خروج من رحم الحياة، دخول في رحم الموت. في النهاية الممتدة في خيال الفلاسفة، المفكرين، الشعراء، في نهاية رحبة، رحابة الأفكار التي انبثقت من عقول وقلوب مجموعات هائلة من البشر. بالنسبة للسقف تعني الانهيار، التشظي، التناثر، التفرق، تفرق الذرات في سماء وهواء، في فضاء وأثير، انفصال التماسك، تداعيه.

anfasse14081حين شعرت أن النهاية على الأبواب، قررت أن أترك  للتاريخ بعض تفاصيل حياتى.. حتى لا تضيع  كما ضاع الكثير من أحداث زماننا الهامة. 
ولدت في بيت عادي لم تكن به إلا نافذة واحدة تطل على شارع ضيق جدا بالكاد كنت أستطيع - حين كبرت- أن أعبره بالنظر لأسقطه على صدر بنت الجيران - طائرا جارحا-  والتي لم ترني أبدا رغم قرب المسافة وحرارة النظرات.
كانت  مدرستي الأولى قريبة من بيتنا، في يومي الدراسي الأول تعرفت على صديقي الأول،  كنا نشترك في خصال كثيرة، المريلة التي بالكاد تخفي الجسد، الحذاء الذي تعبره الأصابع بلا خجل، والدموع التي ترفض ترك حضن الأم، جاءت جلستي بجانبه كأن القدر كان يعدنا لذلك الأمر الهام الذى حدث، لكني في حينها لم أنتبه، رغم ذكائي المتقد وعبقريتي التي تفجرت منذ اليوم الأسود الذي انفصلت فيه عن حبل أمي السري، وجدت على وجهه نفس الدموع فشاركته بأن جعلت  صوتي مصاحبا لدموعه، وانتصرنا معا على المدرسة - أو هكذا اعتقدنا- فذهبنا إلى  البيت عند انتهاء اليوم الدراسي.

anfasse07085ذرعه القيء ، فاستجمع ما بقي من قوته الخائرة، وقصد الحمام. مشى على رؤوس أصابع رجليه وهو يضع جماع يده على فمه حتى لا يُسمع، ولا ينسكب شيء من عصارة أمعائه على الارض ، كم استطال المسافة بين غرفة نومه والحمام !  رغم،  أن بيته في غاية الصغر: صالة  وغرفتان  و ...
 لا ريب أن مرضه استغول و بلغ مرحلة متقدمة عما كان عليه فالتعب تضاعف والالم استفحل. انكفأ على المغسل ، و أفرغ ما جاد به جوفه ذاك الصباح ، ثم  غسل فمه بماء دافق غسلا حتى لا يعود شيء مما أفرغ إلى بطنه ، فيظل يتمطق مرورته، وصب على وجهه قدرا سخيا منه ، عل برودته تنعشه ، وإن لم تفعل فقد تلطف شيئا من الحرارة التي تتأجج بين حناياه .
 استوى ونظر في المرآة فعكست له  عينين متعبتين بالسهر والمرض، ووجها تلفه صفرة فاقعة ،  تلمسه بيد مرتعشة فهاله نتوء عظمتي وجنتيه وغور محجريه.

anfasse24074استيقظت اليوم باكرًا.
ربما كانت الساعة السابعة، أو قبل السابعة بقليل، لم يكن أمر الوقت مهمًا؛ فقد كنت في حلٍّ من أي ارتباط، كنت حرَّة: صنعت شاي الصباح على مهل، تأمَّلت بخار الماء المغلي وهو يلتصق بمربَّعات البورسلان التي تغطي جدار المطبخ، ورسمت فوقها أشياء كثيرة: رسمت قلوبًا، وورودًا، وابتسامات، ورسمت إمضاءاتي الكثيرة، كان الإبريق يقذف البخار بشدة، فتختفي الخطوط الأولى سريعًا، وأعود إلى الرسم من جديد، لا أعرف كم استغرق الأمر مني لكنـَّني رسمت أشياء كثيرة مبهجة. كان مزاجي رائقـًا إلى هذا الحدِّ، إلى حدٍّ جعلني أعيد اكتشاف بخار الماء العالق بالأشياء: طواعيته، عمره القصير، جماله الذي لا يحصل على قدرٍ كافٍ من الإطراء.
كنت مملوءة برضا فيَّاض، ولوهلة تملَّكني هذا الشعور: أنَّ السعادة لا يمكن أن تكون شيئـًا غير هذا الهدوء، وغير هذه السكينة، هذا الصفاء النادر الذي يجعلني أكتشف جمال الأشياء الخفي، وتلك التفاصيل التي ينضب العمر دون أن يتدفـَّق فيها، قبل أن أنهض من السرير – مثلاً – صرفت بعض الوقت في مراقبة ستارة الغرفة؛ كنت قد تركت قسمًا من النافذة مفتوحًا قبل النوم، ظلَّ هذا القسم المفتوح يبعث هواء معتدلاً طوال الليل، ولم يكفَّ الهواء عن مداعبة الستارة، كانت الستارة تمتلئ بالهواء فترتفع، ثمَّ تهبط، وهكذا مع كلِّ هبَّة هواء تأتي من الخارج، أتصوَّر أنَّ هذا كان يحدث كلَّ يوم، وكنت – لسبب ما – لا أراه، هكذا فيما يبدو كانت الستارة تبدأ يومها: لا قهوة، ولا جرائد، ولا إنترنت، لا شيء إلاَّ أن يغدو هذا الموسلين الحليبي اللون كرةً لوهلة، ثمَّ ينسدل، هكذا حتى تصمت النافذة!

مفضلات الشهر من القصص القصيرة