يتنزّل مفهوم الفضاء هو الآخر ضمن نسق الأشكال الرّمزيّة، إذْ سيعمل كاسيرر بنفس الطّريقة على نقل الخلاف حول الفضاء من ساحة الهندسة والعلوم الرّياضيّة إلى حقل الثّقافة. فيحُدّ بذلك من انحسار المفهوم في مجال الفيزياء والرّياضيات مُتخطّيا بذلك مقولة الفضاء المطلق عند الذرّيين وفكرة الفضاء الماقبلي في فلسفة كانط. وسيتبنّى كاسيرر وجهة نظر مغايرة ترى الفضاءَ ليس جوهرا ثابتا مطلقا بقدر ما هو مفهوم وظيفيٌّ عَلَقيٌّ ومنطقيٌّ. مثلما تحدّث عن أفضية أخرى يُنشئها الذّهن الإنساني بالتّرميز والتّخطيط وما الفضاء النّظري الرّياضي إلاّ واحد من ممكنات أخرى.
وقبل تفكيك وتفسير متصوّر الفضاء الكاسيرري، لا بدّ من التّذكير بالمتصوّرات السّابقة الكلاسيكيّة انطلاقا من الذرّيين وصولاً إلى كانط ولايبنتز حول الفضاء.
نُشير هنا إلى أنّ نظريّة الفضاء المُطلق، من أقدم النّظريات الكوسمولوجيّة حول الفضاء، وقد قال بها الذرّيون (Les atomistes) قبل سقراط مثل "لوسيب" (Leucippe de Milet) و"ديمقريدس" (Démocrite d’Abdère) و"أبيقور" (Epicure) وغيرهم. وأساس الفكرة أنّ العالم يتكوّن من جُزيئات أو ذرّات غير متناهية والفضاء هو بمثابة الوعاء الحاضن لهذه الأجسام والذرّات. وهو ثَاِبت وسابق بصفة منطقيّة لهذه الأجسام وقابل للبقاء في حال زوال هذه الأجسام. فهو فضاء ضروريّ وأبديّ وغير مخلوق. وفي ضوء هذا التّصوّر بنى فيما بعد أفلاطون نظريّته في الهندسة. ففي "طيماوس"[1] (Timée)، وهو الحوار الأخير من جملة محاوراته يقوم بتركيب العناصر الأساسيّة المُنشئة للكون وهي: الماء والهواء والنّار والتّراب على أربعة أشكال هندسيّة أساسيّة. فيمنحُ الماءَ شكْلَ "العشريني الوجوه" (Icosaèdre) والتّراب شكل المُكعّب والنّار شكل الهَرم والهواء أو الأثير شكل "الاثني عشر وجها" (Dodécaèdre).

ونفس مُتصوّر الفضاء المُطلق هو الّذي سيُكيّف الفيزياء الميكانيكيّة لدى نيوتن. ففي الأصول الرّياضيّة للفلسفة الطّبيعيّة يقول: "الفضاء المُطلق، بطبيعته وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، يبقى دائما ثابتًا وهو نفسه"[2]. ثمّ يُميّز في نفس السّياق بين الموضع والفضاء، فالموضِع نسبيٌّ وقابلٌ للإدراك الحسّي من خلال علاقته بالأجسام الّتي تحُلّ فيه، في حين الفضاء المطلق هو مفهومٌ مجرّد لا يمكن الاستدلال عليه إلاّ رياضيّاً. وعادة ما يخلط "الإنسان العادي [الفضاء النّسبيّ أو الموضع] بالفضاء الثّابت"[3] والمطلق. وجوهر الميكانيكا النيوتونيّة يقوم على تحديد الأشياء ضمن المواضع التي تحلّ فيها، أي كلّما حدّدنا شيئًا مّا في موضعٍ ما، نكون قد أنشأنا علاقةً. "فالكتاب موضوعٌ على الكرسيّ وهو بدوره على يسار النّافذة"[4]. فالمَوْضَعَةُ تعني إنشاءَ علاقةٍ مّا، يمكن أن تأخذ مثلاً صفة المسافة (بعيد، قريب) أو الاتجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام، إلخ).
كما لا يمكن عزل فكرة الفضاء المطلق واللاّمحدود عن مظانّها الميتافيزيقيّة المتحكّمة في النّسق النيوتني. إذْ هي في النّهاية تعبيرة فيزيائيّة عن فكرة اللانهائيّة الإلهيّة. وسيتوضّح الأمرُ أكثر في كتاب "البصريات"(1706) عندما يستعيرُ للفضاء عبارة "جهاز الاستشعار الإلهي"[5] (Sensorium dei)، أي أنّ الفضاءَ هو الموضعُ الذي من خلاله نتحسّس الوجود الإلهي ومن خلاله أيضًا يتجلّى الفعل الإلهي في تشكيل وتنظيم حركة الكواكب في الكون. فالفضاء هو بمثابة العضو الحسّي الذي من خلاله يكون الإلهُ حاضرًا وحالاًّ في العالم.
هذا المتصوّر لفضاءٍ مطلق لامتناهٍ، وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، سيلقى نقدا واعتراضا من قبل الفيلسوف الألماني "ويلهالم لايبنيتز"(Wilhelm Leibniz)، وسيُنقَلُ النّقاش الخلافي في شكل مناظرة بالتّراسل بين لايبنتز ونيوتن جُمعت تحت عنوان "مراسلات لايبنيتز وكلارك"[6]. وفي ضوء هذا النّقاش الخلافي سينحتُ كاسيرر تصوّره الجديد للفضاء المتعدّد.
ولا بدّ من التّذكير أنّ الفضاء النيوتني قائم على خاصيات بديهيّة وهو كذلك الوسيط الذي يؤثّر من خلاله الإلهُ في الأشياء. هذه الفكرة ينقضها "لايبنيتز" انطلاقا من مبدأ تنزيه الإله عن حاجته لوسيط حتّى يؤثّر ويفعل في الكون. فيقول في أحد ردوده: "لا توجد عبارة جديرة بالرّفض في هذا الموضع كتلك التي تمنحُ اللّه إحساسًا أو استشعارا. ويبدو أنّ مثل هذه الفكرة قد تجعلُ من اللّه روح العالم" [7].
وهُنا تأتي جدّةُ الطّرح اللايبنيتزي، فيتصدّى لفكرة الفضاء المطلق ويستبدله بالفضاء المثالي والنّسبيّ. وصفة المثالي (Idéale) تكاد تُرادف معنى التمثّل، أي أنّ الفضاء يتجلّى في طريقة مَوْضَعَتِنَا (Juxtaposition) للأشياء عندما نكتشف العالم، فهو ليس بمعزل عن تمثّلاتنا الذّهنيّة للعالم. والموضعة تُفهم في النّسق اللاّيبنيتزي بوصفها إنشاء علاقات بين الأشياء والأجسام من قبيل الاتّجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام،) والمسافة والحجم (بعيد، قريب، عريض، طويل، قصير، إلخ). فالفضاء نسبيٌّ بحُكم علاقته بتمثّلات الذّهن وهو يَعْقِلُ الكونَ. هكذا ينفي "لايبنيتز" صفة الإطلاق والجوهرانيّة عن الفضاء فيقول: "هؤلاء السّادة (نيوتن وتلاميذه) يؤكّدون أنّ الفضاء هو مُعطىً حقيقي ومطلق وهو يؤدّي بهم إلى مزالق جمّة منها أنّ هذا المُعطى يجبُ أن يكون لانهائيّاً وأبديًّا وهو ما حمل البعض على الاعتقاد بأنّه هو اللّه نفسه في صفته وعظمته. غير أنّ هذا المُعطى يحتوي على أجزاء وحدود وبالتّالي لا يمكنه أن يتناسب مع اللّه"[8].
ولو لخّصنا انتقادات لايبنيتز لفكرة الفضاء المطلق النيوتونيّة، لألْفَيْناها قائمةً على مرجعيّتين: أولى منطقيّة تستندُ إلى مبدأ التّطابق (Principe des indiscernables) والذي يقول بأنّه لا يُمكن أن يُوجدَ شيئان منفصلان عن بعضهما البعض ويشتركان في نفس الوقت في نفس الخصائص. وكأنّ لايبنيتز يستعيدُ مبدأً اعتزاليا قديما يقوم على التّنزيه، أي عدم القبول منطقيّاً بمشاركة الزّمان والمكان الإلهَ في صفة الإطلاق واللاّتناهي.
أمّا المرجعيّة الثّانية فميتافيزيقيّة وقاعدتها مبدأ "السبّب الكافي". وبناءً عليه يفترضُ "لايبنيتز" أنّه إذا ما كان الفضاءُ خَوَاءً لامتناهيا ثمّ وضع فيه الإلهُ هذا الكونَ، فليس من المعقول أنّ يكون الإلهُ قد اختار فضاءً من جملة أفضية أخرى ليضع فيها الكون.
ينتهي "لايبنيتز" في الأخير إلى أنّ الفضاء هو نظام "المتواجدات المشتركة" أي مجموع العلاقات التي يبنيها الذّهنُ أثناء إدراكه للعالم وموضعة الأشياء فيه. فهو ليس وعاءً سابقا وحاضنا للأشياء، وإنّما هو نظامٌ من العلاقات بين الأشياء. والنّقطة في الفضاء لا تختلف عن عنصر في مجموعة، وهذا ما جعل "لايبنيتز" يرى في الفضاء الإقليدي المسطّح مجرّد مجموعة أو نسق بالمعنى المنطقيّ الرّياضيّ.
وسيستثمر "كاسيرر" مفهوميْ "النّظام" و"العلاقة" في النّقاش الخلافي بين لايبنيتز ونيوتن، لكنّه سيستفيد أيضًا من نقد كانط للوثوقيّة التّجريبيّة لنيونتن والوثوقيّة المثاليّة للايبنيتز. فالأوّل كان محتاجًا للفضاء المطلق الخاوي والسّابق لِيَبْنِيَ عليه كلّ قوانين الفيزياء الميكانيكيّة، والثّاني جعل من الفضاء تمثُّلاً مُجرّدا للعلاقات بين الأشياء. وسيُفرِغُ كانط مفهوم الفضاء من كلّ سمات الإطلاقيّة والمثاليّة ويجعلُ منه ظاهرة ذاتيّة حدسيّة في علاقة بالذّات العارفة. ولنعرضْ قبل ذلك اعتراضات كانط على لايبنيتز قبل تفسير نظريّته بخصوص الفضاء والزّمان.
قبل بلورة نظريّته في المكان والزّمان في "نقد العقل المحض" كتب كانط سنة 1768 نصًّا تناول فيه بالتّحليل الطّبيعة الأنطولوجيّة للمكان، وفيه نقد تعريف لايبنيتز للمكان والزّمان باعتبار الأوّل نظام تواجد (Ordre de coexistence) والثّاني نظام تتابع (Ordre de succession). ولا بدّ من التّذكير هُنا أنّ أُسًّ الجَدل الكانطي اللايبنتزي لا يقوم فقط على الخلاف المفهوميّ، بل يتجاوز ذلك إلى تصوّر المعرفة. وهي نقطة الانطلاق في الخلاف بين الرّجلين. فحسب رؤية لايبنيتز المنطقيّة والمفهوميّة،كلّ القضايا هي تحليليّة، أي أنّ المعرفة لا تنشأ إلاّ في صُلب القضايا التّحليليّة. ماذا يعني ذلك؟ بشيء من التّبسيط يمكن القول أنّ المعرفة كامنة في إحدى العبارتيْن المُكوّنتيْن للقضيّة من قبيل: الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نُقطتيْن. فهذه قضيّة تقدّم لنا معرفة انطلاقا من مكوّناتها الدّاخليّة المُحايثة، أي بناءً على منطقها الكامن في العبارات المكوّنة للقضيّة. ولسنا في حاجة إلى القيام بتجارب وقيس كلّ خطّ مستقيم حتّى نستدلّ على صحّتها. فالمعرفة هنا تحليليّة باعتبارها اكتشاف للمنطق الكامن في المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة.
بالنّسبة إلى كانط الموقف مُعاكسٌ تماما، فالمعرفة لا تكون إلاّ تأليفيّة، أي لا توجد في العبارات المكوّنة للقضيّة، بل نحتاج مغادرة المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة للاستدلال على صحّتها. وفي مثالنا السّابق لا يمكن التأكّد من صحّة القضيّة التي تقول بأنّ " الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين" إلاّ في ضوء مقارنة خارجيّة تستدعي أوّلا الخروجَ من مفهوم الخطّ المستقيم واستحضار الخطّ المُحدّب مثلا أو الخطّ المنكسر حتّى نُثْبِتَ أنّه الأقصرُ مسافةً بين نقطتين. فلا بدّ أن نتجاوز ونتخطّى ثمّ نعقد ونؤلّف القضيّة مع مقولات أخرى خارجيّة حتّى تحصل المعرفة ونتأكّد من سلامة القضيّة المطروحة.
أنّ لايبنيتز أمام هذا الاعتراض يعتبر أنّنا لم نُغادر البتّة المنطق التّحليلي. لماذا؟ لأنّه يعتبر الخطّ المستقيم هو الحدّ الأدنى أو الحدّ الصّفر للخطّ المُحدّب، أشبه بالسّكون الذي هو الحدّ الصّفر للحركة.
نخلص ممّا سبق إلى أنّ المعرفة عند لايبنيتز اكتشاف وتملّك بوصفها كامنة في المفاهيم، بينما هي عند كانط تجاوز وبناء وتأليف باعتبارها جامعة بين المفهوم وما هو خارج المفهوم. هذا هو أسّ الخلاف الذي سيفيض على بقيّة المسائل ومنها قضيّة "مبدأ التّطابق" اللايبنيتزي الذي عارضه كانط بشدّة. يقول لايبنيتز أنّ كلّ اختلاف هو في النّهايةِ مفهوميٌّ، فإذا اختلف شيئان مثلاً، فلا بُدّ من أن لا يختلفا فقط في العدد والشّكل وغيرهما، وإنّما أيضا في المفهوم. ويكفي تحليل المفهوم حتّى نقف على الاختلاف. بالنّسبة إلى كانط لا يمكن اختزال الاختلاف في المفهوم، وهُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة. فعندما ندرك العالم كما يتمثّل لنا، نجدُ صنفين من التّحديدات: تحديدًا مفهوميًّا كأن نقول "الطّائرُ هو الّذي يطير" وتحديدًا ثانيًا زمانيًّا مكانيًّا يجعلُ الشيءَ المُحدّد قائما في الزّمان والمكان أي: الآن وهُنا. بمعنى يملأ مساحة من المكان ويجري في الزّمان، فهو على اليمين أو على اليسار وهو ماثلٌ أمامي أو ورائي وهو يدوم إلى حيّز ما من الزّمن. هذا هو البُعد الثّاني في تحديد الأشياء وضبط اختلافها الذي يُضيفه كانط، وهو البعد الزّمكاني. والمثال الذي يُعارض به كانط لايبنيتز، هو اليَدَانِ، فرغم اشتراكهما في التّسمية والسّمات، إلاّ أنّهما لا يتطابقان بحُكم التّحديد المكاني والزّماني الذي يجعل يدًا واقعة في الجهة اليُمنى والأخرى في اليُسرى.
فحسب كانط نظام الاختلاف أو التّطابق يبقى دائما خارج المفاهيم، لأنّه محكوم باختلافات زمانيّة ومكانيّة. فالمعرفة حصيلة تأليفيّة بين التّحديدات المفهوميّة والتّحديدات الزّماكانيّة. فلا يمكن تصديق القضيّة القائلة بأنّ "الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتيْن"، بدون استحضار إحداثيات مكانيّة وزمانيّة.
نصلُ هُنا إلى نقطة الخلاف التي انطلقنا منها حول مفهوم الزّمان والمكان. وأين تكمن الجدّةُ في الاستدراك الكانطي على لايبنيتز؟ وحتّى نمسك بالمسار الجدلي بينهما لا بدّ من التّذكير بالتّعريف المفهوميّ للمكان والزّمان عند لايبنيتز. والذي يقول فيه أنّ الأوّل هو "نظام تواجدات ممكنة" والثّاني "نظام تتابعات ممكنة". والاعتراض الأوّل لكانط هو في اعتبار المكان نظام تواجدات ممكنة، والحال أنّ التّواجد هو تزامن أي إحلال الأشياء في الفضاء في نفس الحيّز الزمنيّ، وبالتّالي التّواجد هو منوال زمنيّ ولا يمكن أن نُعرّف به المكان أو الفضاء. فالتّواجد يجري هو الآخر في الزّمان. الاعتراض الثّاني، مُنطلقه المناويل الثّلاثة التي يحدّ بها كانط الزّمان وهي: الدّيمومة (ما يدوم)، التّتابع (ما يجري)، والتّزامن (ما يتواجد). وبالتّالي لا يمكن تعريف الزّمان بنظام تتابع، لأنّ التّتابع هو أحد مناويل الزّمن، أي مجرّد بُعد من أبعاده.
لندفع بالتّحليل قليلاً، ونضع لايبنيتز في سياق التّصوّر الكلاسيكي للزّمان والمكان. فنظام التّتابع ونظام التّواجد يقتضيان بالضّرورة تصوّرَ الزّمان والمكان كجوهرٍ أو ماهيةٍ، أي أنّ النّظامَ المكانيَّ لا معنى له بدون الأشياء التي تملأ المكانَ، فهو في النّهاية ماهيةٌ. وفي هذه النقطة المفصليّة يأتي المنعطف الكانطي الذي يُحوّل الزّمان والمكان من ماهية أو جوهر إلى شكلٍ. المكان هو شكلٌ وليس ماهيةً. ماذا يعني ذلك؟ هو الشّكل الذي يأتينا من خلاله كلّ ما هو خارجٌ عنّا. الشّكل الذي من خلاله نتملّك العالم الخارجيّ. يعني ببساطة، بدون مكان لا يمكن الحديث عن خارجٍ. أمّا الزّمان فهو شكل الدّاخل، أي الطّريقة التي يكون بها الشّيءُ داخِلَ نفسه. وإذا كانت الأشياءُ كائنةً في الزّمان، فإنّ ذلك يعني أنّ لها داخليّةً.
وفي ضوء مقولتيْ المكان والزّمان، يُحدّد كانط مفهوم الظّاهرة التي يشحنها بدلالة تأويليّة مخصوصة. فالظّاهرة بالنسبة إليه ليست التي تحجُبُ ماهيةً أو جوهرا. وليست أيضًا مجرّد الظّهور المحسوس بالمعنى البسيط والسّاذج، وإنّما الظّاهرة هي كلّ ما يبرز في الزّمان والمكان ويمنحها شكلاً أو معنى أو لنقُل سِمةً وعلامةً بالمعنى "البيرسي". وبناءً على هذا المُتصوّر لم يعُد يُنظر إلى الظّاهرة في علاقتها بالماهية أو بالجوهر وإنّما في علاقتها بالشّروط الزّمكانية أو بالمعنى المَمْنُوحِ لها. هكذا تَرَكَ مفهومُ الماهية مكانَه لمفهوم المعنى والدّلالة أو الشّروط. وخلف ستار الظّاهرة لا يوجدُ شيءٌ لنراه غير المعنى والدّلالة التي يصبغها التمثّل الذّهني على الأشياء في الكون.
إلاّ أنّ السّؤال الذي يطرح نفسه ضمن هذا السّياق، ماذا يعني كانط بمفهوم الشّكل المنسوب للزّمان والمكان؟ وأيّ فرق بينه وبين الزّمان والمكان كمفهوم لدى لايبنيتز؟ هُنا لابدّ أيضا من استحضار المفاهيم الأساسيّة التي نحتت التّصوّر الكانطي للأشياء، فالجدّة والتّجاوز في التّفكير الفلسفي تنهضُ بدرجة أولى على ابتكار شبكة مفاهيم جديدة نقتصر منها على مفهوميْ: الماقبلي (L’apriori) والمتعالي (Le transcendantal). وللأمانة فإنّ الماقبلي والمابعدي (L’apostériori) مفهومان قديمان غير أنّ كانط غيّر المعنى. وإذا أخذنا الماقبليَّ في معنى ما هو مستقلٌّ عن التّجربة وحاصلٌ بالبديهة والعَقْلِ بصفة مُسْبَقة عن كلّ إدارك أو تجريب، فالسّؤال يكون: هل ثمّة معارف حاصلة بصفة ماقبليّة وبشكل مستقلّ عن التّجربة؟ وفي ضوء السّؤال سيكون الوجودُ مُعطًى ثانويًّا بالنّظر إلى الماقبليّ الأوّل.
والإجابة الكانطيّة الأولى عن هذا السّؤال تأتي في شكل حدٍّ بالوصف، فالماقبليُّ ليس فقط ما هو مستقلّ عن التّجربة، بل هو الحتميُّ والكونيُّ. ماذا يعني ذلك؟ لنأخذ مثالاً يقول: "إنّ كلّ الأجسام تسقُط حتما على الأرض بنفس السّرعة". هذا قانون فيزيائي لا يمكن الشّك في صحّته، غير أنّه ليس في وسع التّجربة وحدها أن تثبت صحّته لأنّه لا يمكن إجراء التّجربة على كلّ الأجسام الموجودة في الكون حتّى نتأكّد من ذلك. بمعنى أنّ التّجربة لا تُغطّي إلاّ عددًا قليلاً من الأجسام، بناءً على فرضية وجود أجسام تسقط بسرعة مختلفة عن البقيّة التي شملتها التّجربة. فالتّجربة لا تشمل إلاّ ما هو جُزئيٌّ وطارئٌ. والسّؤال في هذا السّياق: من أين أتتْ عبارة "حتما"؟ قياسا على عبارات أخرى مثل "كلّما"، "دائما"، بـ"الضّرورة"، وغيرها. هُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة في إدخال مفهوم المقولات (Les catégories) الماقبليّة، وهي عبارة عن صفات أو تعريفات تُقال وتنطبق على كلّ الأشياء في الكون ولا تحتاج إلى تجربة للاستدلال عليها كأَنْ نقول: "لكلّ شيء سببٌ ما". فالمقولات هي الأشكال الماقبليّة للوعي الخالص بالكون والأشياء. غير أنّه هُنا لا يجب أن تُفهمَ المقولات بوصفها معارف أوليّة مجرّدة بشكل خالص. فهي لا تنشأ وتتطوّر في الذّهن بمعزل عن المُدركات الحسيّة. لأنّه بفضل المقولات يمكن للذّهن البشريّ أن يقوم بتأليف المختلف وتنظيم فوضى الأشياء المُدركة في الكون وهو ما يُسمّى "مَقْوَلَة" العالم. وكأنّ كانط يقول لنا أنّه خارج المَقْوَلة التي يقوم بها الذّهن وهو يَعِي العالمَ، لا يوجد إلاّ سديمٌ من الفوضى، وليس لنا من سبيل للسّيطرة على الفوضى إلاّ عبر عمليّة المَقْوَلَة. ماذا يعني ذلك أيضاً؟ يعني أنّ العالمَ المُدرَكَ يأتينا في شكل معارف ومعلومات مُهيكلة ومُنمّطة، وممقولة، وليس في شكل معلومات مشتّتة ومفاجئة. ويوعز كانط هذا الأمر إلى "المنطق المتعالي" (La logique transcendantale) الذي يسبق "المنطق العامّ"، فهو يُشبه إلى حدّ ما "البرنامج الأدنوي" التّشومسكي والذي يُحاكي تقريبا برنامج المُدخَلات والمخرجات الأساسيّة للنّظام الحاسوبي (Bios). فلا يُمكن تحميل أيّ نظام تشغيل بدون البرنامج القاعدي الأساسي.
ويُقسّم كانط المقولات تقسيما ثلاثيّا إلى أربع عائلات[9] كما هو موضّح في الجدول التالي:
مقولات الكمّ
|
مقولات النّوع
|
مقولات العلاقة
|
مقولات الجهة
|
الوِحْدَة
|
الإثبات
|
الجوهر والعرض (ماهوي/عرضي)
|
ممكن/ممتنع
|
التّعدّد
|
النّفي
|
السببيّة والتّبعيّة (سبب/نتيجة)
|
موجود/منعدم
|
الإجمال
|
المحدوديّة
|
الاشتراك (التفاعلية بين الباثّ والمتقبّل)
|
الوجوب/ الجَواز
(واجب/جائز)
|
وبالعودة إلى ما انطلقنا منه، جديرٌ بنا أن نتساءل: هل الزّمان والمكان في النّسق الكانطي هُما من جنس المقولات أم لا؟ وإذا سلّمنا بأنّهما يشتركان مع المقولات في خاصيّة الماقبليّة ولكنّهما يختلفان عنها في نفس الوقت، يكون السّؤال المنطقيّ: لماذا ميّزهما كانط عن المقولات؟ أو لماذا لم يعتبرهما من ضمن المقولات؟
يمكن النّظر إلى المسألة من زاويتيْن: الأولى في علاقة بتكامل النّسق النّظري الكانطي، إذْ لو جعل الزّمان والمكان من جنس المقولات، لسقط في نفس التّجريد النّظري والمفهومي والذي عابه على "لايبنيتز". ثمّة إذًا نوعان من الماقبليات: المقولات والزّمان والمكان. ولكنّ ما هو وجه الاختلاف بينهما؟
تأتي هُنا الإضافة الفارقة لكانط: فإذا كانت المقولات مفاهيم متولّدة عن التمثّلات الذّهنيّة الماقبليّة للكون والأشياء، فإنّ الزّمان والمكان هُما شرط ظهور الأشياء وحدسها، بناءً على أنّ هذه الأشياء لا تكون أشياء إلاّ بما هي واقعة في إحداثيات المكان والزّمان. فالزّمان والمكان يتعلّقان بشكل تمظهر الأشياء، في حين المقولات ترتبط بمنوال تمثّل هذا الظّهور. من خلال هذا التّصوّر يمكن أن نقفَ على نتائج جدّ مُهمّة. وإن لم يعلن عنها كانط فقد بلورها وطوّرها في ما بعد تلاميذه منها:
- أنّ العالم ليس له خاصّيات مكانيّة في ذاته إلاّ ما ينسبه إليه الذّهن البشريّ. فالأبعاد والمسافات والمواقع وأشكال الامتداد، هي ثمرة التمثّلات الذّهنيّة للعالم الخارجي والقائمة بدورها على الاستعدادات الفطريّة الأوليّة والتي تمثّلها المقولات والزّمان والمكان.
- الزّمان والمكان هُما شكلٌ وليس ماهية.
- الحدس الفطريّ بالأشياء في الزّمان والمكان، هو شرط ظهورها وتمثّلها ذهنيّا وصَوْغِها مفهوميًّا.
لا شكّ أنّ كاسيرر باعتباره كانطيّا مُجدّدا، سيستفيد من مفهوم الشّكل، والخُطاطة وغيرها، ليضع متصوّر الزّمان والمكان ضمن فلسفة الأشكال الرّمزيّة وتحديدا الوظائف الرمزيّة الثّلاث: الوظيفة التّعبيرية، الوظيفة التّمثيلية، والوظيفة الدّلاليّة. وضمن كلّ وظيفة يتشكّل تصوّرٌ مخصوصٌ حول الفضاء والزّمان. فثمّة الفضاء الأسطوري المرتبط بالتمثّلات العفويّة والبدائيّة للإنسان حول الفضاء. وثمّة الفضاءُ الجماليُّ الذي تُنشئه شتّى الأشكال الثّقافيّة والرّمزيّة التي يُبدعها الإنسان. وأخير يوجد الفضاء النّظري الذي تبنيه العلوم انطلاقا من تصوراتها للعالم والأشياء. وسنعود بالتّفصيل لكلّ نوعٍ على حدة. غير أنّه من الجدير بالتّذكير أنّ كاسيرر استفاد أيضا من فكرة نظام التّواجد ونظام التّتابع للايبنيتز، ليخلُص إلى أنّ المسألةَ ذات بُعْدٍ عَلَقي (Relationel) أي الكيفيّة التي نُنشئ بها علاقة مع العالم والأشياء وهي تختلف من حقل إلى آخر. وفي نفس الوقت لا يمكن فصل التّصوّر الزّمكاني عن كيفيّة معرفتنا بالعالم المُدرَك أو الممكن أو المُتخيّل.
هذا الجانب العلقيُّ، يُشبه إلى حدّ ما مفهوم الأنموذج التّفسيري أو البراديغم (Paradigme) في إيبستيمولوجيا تاريخ العلوم. فالمكان مثلاً أخذ أوجُهًا عديدة في حقل العلوم على مرّ التاريخ، فنجد الفضاء الفيزيائي الكوسمولوجي النيوتني المطلق، ونجدُ المكان والزمان "المينكاوسكي" (Minkowski) رباعيّ الأبعاد، ونجد زمان ومكان النّسبية العامة لإينشتاين.
حسب النّسق الكاسيرري، لا يوجد حُدسٌ عامّ وثابت حول الفضاء، ولا يكتسبُ الفضاء محتواه وخصائصه إلاّ في ضوء الدّلالة والتّرميز الذي يمنحه له الإنسان في ظرفٍ تاريخيّ ما وضمن نسقٍ مخصوص من التّرميز. يُستشفّ من ذلك أنّ الفضاء ليس مُعطىً أو بنيةً ثابتةً، بل قابلاً للتّغيّر وفقًا للتّنظيم الدّلالي الذي يهيكل به الإنسان العالم من حوله. وضمن هذا التّصوّر، يُفهم الفضاء الأسطوريّ كواحد من الممكنات أو من الأشكال التّرميزيّة للفضاء من جملة أشكال أخرى. وهو الشّكل شبه الأوّلي المرتبط بالوعي العفوي والحسّي للإنسان. وقبل الحديث عن الخصائص المميّزة للفضاء الأسطوريّ لا بدّ من التّذكير أنّ المكان والزّمان بالنّسبة لكاسيرر، هُما الأسّ والإطار الحاضن الّذي تُبنى في ضوئه كلّ معارف الإنسان وتصوّراته حول الأشياء والعالم. وانطلاقا من ذلك يكون حدس المكان والزّمان حاملاً لمظانّ معرفيّة تختلف من نسقٍ رمزيّ إلى آخر.
ولعلّ أولى التصوّرات التي ينبني عليها حدس المكان والزمان في الرّمزيّة الأسطوريّة، تقوم على ظاهرة التّماهي بين الإنسان والعالم والأشياء. ويبرز التّماهي في الوعي الأسطوريّ من خلال عدم الفصل بين الأجزاء والكلّيات وبين الصّور والأشياء وبين الأسماء ومُسمّياتها. فالتّأثير السّحريّ مثلاً يُمكن أن يحدُث بوسائط وجزئيات تمثّل الشّخص نفسه حتّى وإن كان غائبا من قبيل: خصلة من الشّعر، اسم الشّخص أو ظلّه[10]، بعض ممتلكاته، إلخ. وهي أشياء لا تُعدُّ في الرّمزيّة الأسطوريّة مجرّد تمثيل أو بديلاً للشّخص وإنّما يُنظر إليها بوصفها الشخص ذاته على سبيل التّماهي. ونفس الشيء يُقال حول العلاقة بين الاسم والمُسمّى القائمة على المُحايثة والتّماهي بين الدّال والشّيء المدلول عليه. أي أنّ الكلام في الوعي الأسطوري البدائي له طاقة وقوّة إنجازيّة كبيرة، أي يكفي التلفّظ بالشّيء حتّى يتحقّق حضوره على نحو ما وإن كان غائبًا عن العيان. وبه نستطيع أن نفهم سحر الكلام وقوّته الإنجازيّة في النّصوص الدينيّة (في البدء كانت الكلمة) وكذلك أهميّة التّعاقدات الكلاميّة في المجتمعات البدائيّة.
في ضوء ظاهرة التماهي يتنزّل حدس المكان في الوعي الأسطوري، فيكتسي طابعا ذاتيّا وعاطفيّا وحسّيا، أي لم يرتق بعدُ إلى تخطيطٍ وفهمٍ مُجرّد. ويُفسّر هذا الحَدس البيولوجي والعضويّ للمكان انطلاقا من نتيجة توصّل إليها الأنتروبولوجيون، وهي أنّ الإنسان في هذا الطّور يُهيكل العالم انطلاقا من جسده[11]. وبهذه المركزيّة يغدو المكان أو الموضع أو الحيّز مشروطا بما يحتويه وبالحضور المادّي والحسّي لمن يحدس المكان. فالـ "هُنا" والـ "هُناك" في الفضاء الأسطوريّ هي لحظة آنيّة سرعان ما تنتفي وتنتهي بانتهاء لحظة الحضور ولحظة حدس المكان. أي لا يُمكن تمثّل الـ"هُنا" والـ "هناك" كفضاء مجرّد رمزيّ في حال الغياب. فالفضاء الأسطوري البدائي، فضاءٌ عمليّ عضويّ مرتبط بالحواس البصريّة والّلمسيّة، والسّمعيّة، والشّميّة، وغيرها. وهو فضاء متنوّع ومتغيّر وغير متجانس لأنّ الإنسان البدائي لم يصل بعدُ إلى مَوْضَعَةِ (Objectivisation) الفضاء كمُخطّط (schème) أو كنظام رمزيّ مجرّد. يقول كاسيرر: "ويدلّنا علم الأنتروبولوجيا على أنّ القبائل في العادة موهوبةٌ بإحساسٍ للمسافة غاية في الحدّة، فالفردُ من تلك القبائل ذو بَصر بأدقّ الدّقائق في بيئته، مُرهف الحسّ لكلّ تغيّر يطرأ على الموجودات المألوفة من حوله...فإذا جدّف أو أبحر تتبّع بدقّة بالغة كلّ منعطفات النّهر ذاهبًا وآيِبًا، لكن إذا دقّقنا الفحص اكتشفنا لدهشتنا أنّه يفتقر افتقارا غريبا لإدراك المسافة...فإن سألته أن يُعطيك وصفًا عامًّا، أي تخطيطا لمجرى النّهر عجز عن ذلك، وإذا رغبتَ إليه في أن يرسم خريطةً للنّهر ومنعطفاته المتعدّدة لم يكد يفهمُ ما تقول. ومن هذا نتبيّنُ بوضوحٍ وجلاءٍ أمر الاختلاف بين الفهم المحسوس والمُجرّد للمسافات والعلاقات المسافيّة"[12]. فالمعرفة بالفضاء لدى البدائي قائمة فقط على العرض والتّعيين (Présentation)ولمْ تَرقَ بعدُ إلى مستوى التمثّل (Représentation)[13].
وهو الفضاء المُتشكّل ثقافيّا من خلال أفانين النّحت والرّسم وشتّى الأشكال التّعبيريّة. وضمن هذا المستوى المتقدّم يكون الإنسان قد غيّر منظوره إلى الفضاء مُتجاوزا الحدس البيولوجي والوجداني إلى مستوى أرقى من التّرميز والسَّميأة (Sémiotisation) الثّقافيّة. وانطلاقا من هذا المنظور يكون الإنسان قد حقّق نسبة من التّحرّر بخصوص مركزة الفضاء في علاقته بالذّات، أي موْضَعته وإخراجه من حيّز الأنا إلى حيّز الموضوع القابل للنّقل والتمثّل والتّرميز. فالموضعة هي النّقطة الفارقة بين الحدس البيولوجي الحيواني للفضاء، والتمثّل الذّهنيّ والإنسانيّ له كموضوع مستقلّ وقابل للتّرميز بواسطة اللّغة أو الرّسم أو النّحت أو التّصوير وغيرها من العلامات.
ج- الفضاء النّظري
ويقصد به كاسيرر الفضاء الذي أنتجته العلوم الرّياضيّة والمُلائم للمقتضيات العلميّة. وتُعتبر الهندسة الإقليديّة أوّل مظهر من بواكير مَوْضَعَة الفضاء من النّاحية العلميّة. وهي هندسة ثلاثيّة الأبعاد قائمة على فضاء مُسطّح. غير أنّه رغم نجاعة الهندسة الإقليديّة، فإنّ مُتصوّر الفضاء سيهتزّ هو الآخر على المستوى الرّياضي والعلميّ بمُجرّد نقض إحدى نتائج المُسلّمة (Axiome) الخامسة من قوانين إقليدس الهندسة. وعندما نقول مُسلّمة في النّسق الإقليدي، فإنّ ذلك يعني حقيقة بديهيّة وحتميّة وليست في حاجة إلى البرهنة والإثبات. وعندما نتحدّث عن نقض المُسلّمة، فإنّ ذلك يعني نفي البداهة عنها وتحويلها من مُسلّمة إلى مُجرّد فرضيّة أو إواليّة (Postulat)قابلة أن تصدُق في فضاء مُسطّح، وأن لا تصدُق في أفضية أخرى غير مُسطّحة. ولنعُدْ إلى البديهة الخامسة لإقليدس.
في الحقيقة، لم يتحدّث إقليدس في كتاب "العناصر" عن نظريّة المتوازيات، وإنّما تولّد القانون منطقيًّا ورياضيًّا من المُبرهنة الخامسة. يقول نصّ المُبرهنة "إذا قَطعنا مُستقيمان بمُستقيمٍ ثالثٍ وكان مجموعُ زاويتيْه الدّاخليّتيْن والواقعتيْن على جِهةٍ واحدة، أقلَّ من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المُستقيميْن سيلتقيان من جِهَةِ القَاطِعِ إذا مُدّ إلى ما لا نهاية"[14]. ونُوضّح المبرهنة بالرّسم الهندسيّ التّالي:

يتوضّح من الرّسم أيضا، أنّ مجموع زاويتيْ القاطع (AB) إذا كان أصغر أو أكبر من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المستقيميْن(D) و(D’) سيلتقيان لامحالة إذا مُدّا إلى ما لا نهاية. ماذا يعني ذلك منطقيّا ورياضيّاً؟ يعني أنّ المستقيميْن (D) و(D’) لا يتقاطعان ويمتدّان بشكلٍ متوازٍ إلى ما لا نهاية إذا كان مجموع زاويتيْ القاطع (AB) مُساويًا لمجموع زاويتيْن قائمتيْن. ويمكن توضيح ذلك بالرّسم الهندسيّ التّالي:

نصلُ الآن إلى الاستنتاجات أو القوانين المتولّدة من البديهيّة الخامسة، لأنّه في الحقيقة لم تردْ عبارة التّوازي في مبرهنة إقليدس، وإنّما جاءت كفرضيّة منطقيّة تقول "أنّه انطلاقًا من نقطة خارجيّة (M) عن مستقيمٍ (D) يمرّ فقط مُتوازٍ واحدٌ للمستقيم (D)" ويمكن تمثيل الفرضيّة بالشّكل الهندسيّ التّالي:

في سنة 1902 قدّم هنري بونكاريه مِنْوَالاً هندسيّا يثبت فيه عدم صدقيّة مبرهنة إقليدس الخامسة وما يترتّب عنها من نتائج، لكنّ قبله بما يٌقارب القرن من الزّمان وتحديدا سنة 1820، طلبت الامبراطوريّة الألمانيّة من الرّياضي "فريديريك غوس" (Friedrich Gauss)أن يُقدّم لها مَسْحًا جغرافيّا لمساحة المملكة وهُنا فكّر "غوس" في مساحة الكرة الأرضيّة وتساءل: كيف يمكن رسم مستقيم على فضاء مُحدّب؟ وهل أنّ تعريف المستقيم بوصفه أقصر مسافة بين نُقطتيْن يصدقُ في أفضية أخرى مثل سطح الأرض؟ والسّؤال الأهمّ بالنّسبة إليه هو كيف نُنجزُ هندسةً ونحن نعيش على فضاءٍ كرويّ؟ وانطلاقا من هذه الأسئلة بدأ "غوس" في التّفكير في هندسة أخرى مُغايرة للهندسة الإقليديّة القائمة على فضاء مُسطّح أو مُستوٍ. وهي نفس الأسئلة الّتي ستفتح الطّريق فيما بعد لنيكولا لوباتشفسكي (Nicolas Lobatchevski) لينقُض المبرهنة الخامسة وفرضيّة المتوازيات فيما يُشبه القطيعة الإيبستيمولوجيّة مع النّسق الإقليدي الكلاسيكيّ.
قدّم لوباتشفسكي منوالا هندسيّا قائما على فضاء مُقعّر وأثبت من خلاله بُطلان المبرهنة الخامسة. إذْ يمكن أن يمُرّ عبر النّقطة (M) الخارجة عن المستقيم (D) ما لا نهاية له من المستقيمات (d1,d2,d3…) مثلما هو مُوضّحٌ في الرّسم التّالي:

أمّا منوال جورج ريمان (Georg Riemann) الكُرويّ أو المُحدّب فلا يكفي أنّه ينقُضُ إمكانيّة رسم مستقيم على فضاء مُحدّب أو كُروي، فإنّه يُثبتُ استحالة رسم أيّ مُتوازٍ للخطّ (D) ويمرّ عبر النّقطة الخارجة (M).

يبدو من الرّسم استحالة رسم متوازي للخطّ (D) بحُكم أنّ كلّ نقطة خارجة عن الخطّ الذي يمرّ عبر مركز الكرة سيكون أقلّ منه ارتفاعا.
إنّ هذا التّعدّد في متصوّر الفضاء من النّاحية الهندسيّة، سيكشف لكاسيرر، أنّ الفضاء مقولة علقيّة ووظيفيّة تكتسبُ نجاعتها وصدقيتها داخل النّسق المنطقيّ والرّمزيّ الذي يحتويها. أي أنّ كلّ فضاء سواءً كان أسطوريا أو جماليا ثقافيا أو علميًّا نظريًّا، له منطقه الخاصّ ومبرّراته الدّاخليّة.
[1] Platon. Œuvres complètes. Paris, Gallimard, 1977, T2, p.473-480.
[2] Isaac Newton. Principia mathematica. Paris, J. Gabay, 1990, p46.
[3] Ibid, p46.
[4] Ibid, p47.
[5] Isaac Newton. Optique, trad. P. Coste, Paris 1720, p56.
[6] André Robinet, Correspondance Leibniz-Clarke, Paris, PUF, 1957.
تمّت المراسلات تحت إشراف أميرة بلاد الغال "كارولين دانسباش" (Caroline d'Ansbach) في محاولة منها للجمع والتّوفيق بين لايبنتز ونيوتن. وقد رفض نيوتن في الأوّل ثمّ خيّر أن يتراسل مع لايبنيتز عن طريق سامويل كلارك (Samuel Clarke) قسّ القصر الملكيّ، وهو الناطق بلسان نيوتن. وقد توقّفت المناظرة عند المراسلة الخامسة من كلارك على إثر موت لايبنيتز سنة 1716.
[7] Ibid. 4 ème Lettre, remarque 27. p93.
[8] Ibid, p52.
[9] Emmanuel Kant. Critique de la raison pure. Paris, Librairie philosophique de Ladrange, 1845, P103.
[10] يُعتبر الدّوس على ظلّ الشّخص في كثير من التّقاليد إلى اليوم إلحاقا للأذى.
[11] تتأكّد هذه الفكرة في علم نفس النموّ عند بياجيه، من خلال ظاهرة مركزيّة الذّات أو الأنويّة. فالطّفل الشّبيه بالإنسان البدائي في أطواره الأولى يتأمّل العالم انطلاقا من رؤيته الخاصّة معتقدا أنّ كلّ ما يُحيط به هو في خدمته وهو في نفس الوقت امتداد لجسده وذاته ورغباته.
[12] أرسنت كاسيرر. مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانيّة أو مقالٌ في الإنسان. ترجمة إحسان عبّاس، بيروت، دار الأندلس،1961، ص99.
[13] نتحرّز بكلّ لطف على ترجمة إحسان عباس (Présentation) بـ "الحَمل" و(Représentation) بـ "النّقل"، وهي ترجمة بعيدة كلّ البُعد عن المعنى المقصود في النصّ الأنقليزي.
[14] Euclide. Les Eléments. Traduction par F. Peyrard, Paris, 1804.