تمهيد
أظهرت الفلسفة منذ بداية ظهورها احتواءها على عنصر هدام. يبيِّن عمل أفلاطون " دفاع سقراط " كيفية اتهام مواطني أثينا لسقراط بإفساده أخلاق الشباب والتشكيك في وجود الآلهة. وكان هذا الاتهام ينطوي على شيء من الحقيقة؛ فقد شكك سقراط في المعتقدات السائدة، وأخضع اعتقادات راسخة لفترات طويلة للتدقيق العقلاني، وأعمل فكره في مسائل تتجاوز النظام القائم. وما عرف بـ: " النظرية النقدية " قام على هذا الإرث، فقد ظهر هذا الاتجاه الفلسفي الجديد في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشن أبرز ممثليه حرباً ضروساً على الاستغلال والقمع والاغتراب التي تنطوي عليها الحضارة الغربية.

ترفض النظرية النقدية ربط الحرية بأي تنظيم مؤسسي أو منظومة فكرية محددة، إنها تبحث في الافتراضات والأغراض الخفية للنظريات المتضاربة وأشكال التطبيق القائمة. وليست هذه النظرية بحاجة إلى توظيف ما يعرف ﺑ " الفلسفة الدائمة "، إذ تصر على أن التفكير يجب أن يستجيب للمشكلات الجديدة والاحتمالات الجديدة للتحرر التي تنبثق عن تغير الظروف التاريخية. كانت النظرية النقدية - التي تتسم بأنها متعددة التخصصات، وتجريبية في جوهرها على نحو فريد، ومتشككة على نحو عميق في التقاليد والمزاعم المطلقة كافة - مهتمة دائماً، ليس فقط بالكيفية التي عليها الأمور بالفعل، وإنما أيضاً بالكيفية التي يمكن أن تكون الأمور عليها أو يجب أن تكون عليها. وقد دفع هذا الالتزام الأخلاقي مفكريها الكبار لتطوير مجموعة من الموضوعات والمحاور ومنهج نقدي جديد غير وجه فهمنا للمجتمع.

وللنظرية النقدية مصادر كثيرة، يعرف إيمانويل كانط (1727- 1804) الاستقلال الأخلاقي بأنه أسمى قيمة بالنسبة للفرد، وقد أمد كانط النظرية النقدية بتعريفها للعقلانية العلمية وهدفها المتمثل في مواجهة الواقع باحتمالات الحرية. في الوقت نفسه، رأى هيجل أن الوعي هو محرك التاريخ، وأن التفكير مرتبط بالاهتمامات العملية، وأن الفلسفة هي " المنظور الفكري الذي يُنظَر من خلاله لحقبة تاريخية معينة ". تعلم منظرو النظرية النقدية تأويل الجزء بالنظر إلى الكل. وبدت لحظة الحرية في مطالبة المستعبدين والمستغلين بالتقدير([1]).

لقد جسّد كل من كانط وهيجل الافتراضات العامة المستمدة من عصر التنوير الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد اعتمدا على العقل لمحاربة الخرافة والانحياز والقسوة والممارسات التعسفية من جانب السلطة المؤسسية. كما وضعا افتراضات بشأن الآمال الإنسانية التي تعبر عنها الجماليات، والرغبة في الخلاص التي تنطوي عليها الأديان، وطرق التفكير الحديثة حول العلاقة بين النظرية والتطبيق. أما كارل ماركس الشاب، فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بتأملاته اليوتوبية حول التحرر الإنساني([2]).

لقد تشكلت النظرية النقدية في البوتقة الفكرية الماركسية، إلا أن ممثليها الرواد رفضوا منذ البداية الحتمية الاقتصادية، والنظرية المرحلية للتاريخ، وأي اعتقاد جبري في الانتصار (المحتوم) للاشتراكية. وكانوا أقل اهتماماً بما أطلق عليه ماركس (القاعدة) الاقتصادية منهم ﺑ (البنية الفوقية) السياسية والثقافية للمجتمع. لقد كانت ماركسيتهم بمذاق مختلف، وقد ركزوا على منهجها النقدي أكثر مما ركزوا على ادعاءاتها التنظيمية، وعلى اهتمامها بالاغتراب والتشيؤ، وعلى علاقتها المعقدة بمثل عصر التنوير، وعلى لحظتها اليوتوبية، وعلى تشديدها على دور الإيديولوجيا، وعلى التزامها بمقاومة مسخ الفرد. وتشكل هذه المجموعة من المحاور جوهر النظرية النقدية حسبما استوعبها رائدا " الماركسية الغربية " كارل كورش وجورج لوكاتش. قدم هذان المفكران إطار عمل المشروع النقدي الذي بات يعرف لاحقاً بمعهد البحوث الاجتماعية أو " مدرسة فرانكفورت ".

تقديم:
يحيل العنوان أعلاه على الفصل الأول من كتاب "تجربة المفهوم: ميشال فوكو بين الإبستيمولوجيا والتاريخ" لصاحبه لوقا بالترينيري. "تجربة المفهوم" هو الاسم الذي اطلقه الكاتب على "شكل" فكر ميشيل فوكو، بين نظرية الإبستيمولوجيا والتاريخ: شكل صندوق أدوات ذي صلة خاصة بالتحليل التاريخي لنشوء المفاهيم في المجال العملي، يرغب المؤلف في "جعل استخدامه ممكنا لنا اليوم". في ما يلي محاولة لترجمة هذا الفصل إلى العربية عبر جزأين.
إن نقطة البداية للبحث الذي يجب أن ينتقل من التاريخ الإبستيمولوجي لجورج كانغيلام إلى "أنطولوجيا ذواتنا" الفوكوية لا يمكن إلا أن تكون العلاقة بين الفلسفة وأوجه "خارجها" العديدة. سواء كان الأمر يتعلق بالطب أو العلوم البيولوجية، بالنسبة إلى كانغيلام، أو بالطب النفسي، يالأدب بالاقتصاد ولكن أيضا بالسجون والتمارين الروحية، بالنسبة إلى فوكو، كل شيء يحدث كما لو أن النشاط الفلسفي لم يعد من الممكن فهمه ببساطة من خلال تقليد يخترع نفسه ويعلن نفسه على أنه فلسفي "على نحو أصيل". لم يعد يجب على الفيلسوف، أو لم يعد يستطيع، أن يقرأ الفلاسفة الآخرين فقط: عليه أن ينغمس في الأرشيف وفي راهنية عمل لم تعد حداثته تعترف به على أنه "فلسفي".
هكذا، يرى كانغيلام أن «الفلسفة هي تفكير بالنسبة إليه كل مادة غريبة جيدة، ونقول عن طواعية، بالنسبة إليه كل مادة جيدة غريبة». هذه العبلرة ليست زائدة عن الحاجة، فهي تشير في الوقت نفسه إلى أن الفلسفة ليست تأملا، "خلف أبواب مغلقة"، إذا جاز التعبير، لا تتغذى إلا على نفسها ومفاهيمها، بل إنها منفتحة بنيويا على الخارج، الذي يضع أمامها باستمرار سلسلة من المشاكل، الأسئلة، العوائق. إذا كان هناك تحول في الفلسفة، وإذا كانت هناك إعادة صياغة متواصلة لتساؤلاتها، فلا يحدث ذلك من خلال نوع من الرحلة المستقلة والتدريجية نحو الحقيقة التي تُطرح وتُكشف، بل بسبب انفتاحها البدائي على عالم الممارسات الإنسانية العلمية، السياسية، الجمالية التي تنتج المفاهيم في كل لحظة. إن الفلسفة المنفتحة حقا على الطابع التاريخي للممارسات النظرية لا تتجه نحو ما يشبه الحقيقة المطلقة، بل تبني نفسها من إنتاج الحقيقة الذي يحدث في جميع مجالات النشاط الإنساني. يمكننا أن نجد هنا مبدأ كل الإبستيمولوجيا التاريخية.
1- الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية
بيد أن انفتاح الفلسفة على ما هو خارج عنها يعني بشكل جدي مراعاة نوع معين من المفاهيم: تلك التي، وهي تظهر على شكل ملفوظات علمية، تحمل ادعاء الحقيقة. هذه هي المفاهيم التي تحدد أفق حداثتنا، أفق توجد فيه علاقة متجددة إلى حد ما بين "المعرفة" و"العلم" و"الحقيقة". خلال مقابلة مع آلان باديو، كان كانغيلام قد افترض في الواقع، بطريقة استفزازية إلى حد ما، التكافؤ بين جهات تكوين العبارات الحقيقية والخطاب العلمي، حيث أن العلم هو "المجال الوحيد الذي يمكننا فيه التحدث عن الحقيقة".
لا ينبغي فهم العبارة على أنها حكم قيمة ولا على أنها تأكيد وجودي على وجود الموضوعات العلمية باعتبارها "وقائع خارجية"، بل على أنها تحليل للشروط الصورية لاستخدام كلمة "صادق". في كتابه عن "اليقين"، أشار فيتجنشتاين إلى أننا نستخدم كلمة "صادق" في علاقة بنوع معين من العبارات: ليس تلك المتجذرة بعمق في نظام المعتقدات التي تعصب شكل حياتنا، ولكن تلك التي ما يزال الشك بشأنها ممكنا. إن حقيقة عبارة مثل "أعلم أن هذه يد" لا تقول الوجود الفعلي لليد، ولكنها تعني أن الشك الجدي في مثل هذه العبارة يعني بالفعل الشك في صرح يقينياتنا بأكمله ويجعل بأحد الأشكال من الممكن وضع شكل الحياة ككل موضع نقاش. في الواقع، وفقا لفيتجنشتاين، فإن يقين قضية تجريبية لا يعتمد على تجربتنا في العالم، ولكن على الشروط النحوية لاستخدامها؛ أي أن القضية "تنتمي إلى منظومتنا المرجعية" التي لا تكون فيها حقيقة عبارتنا ضمانة من العالم الخارجي، بل مجرد وسيلة للتحكم في فهمنا للعبارة.

في كل ثورة، يأتي وقت يبدو فيه، بعد القيام بها، أنه من الضروري، إذا جاز التعبير، "الانتهاء منها". لقد بدأ ثوار عام 1789، حتى قبل ظهور الإرهاب، يطرحون على أنفسهم هذه المشكلة: إنهاء الثورة، الخروج من الثورة، الإنهاء معها. ويواجه منظرو البنيوية العظماء مشكلة مماثلة: كيف يمكن الهروب من البنيوية؟ كيف يمكننا الانتقال إلى المرحلة التالية، دون أن نفقد مكتسبات ما قد يظل أعظم ثورة في القرن العشرين في مجال النظرية الأدبية؟

يدرس ستيفانو لازارين في هذه المحاولة حالة نموذجية، وهي حالة تزفيتان تودوروف. المنظر البنيوي للموجة الأولى، ولا سيما مع مختاراته الشهيرة من كتابات الشكلانيين الروس (1965)، مؤلف كتاب ناجح للغاية مثل "مدخل إلى الأدب العجائبي" (1970)، وهو نموذج مثالي للدراسة البنيوية لجنس ما. بدأ تودوروف، في السبعينيات في استكشاف وجهات نظر جديدة: اكتشف عدم خصوصية الخطاب الأدبي وحدود المفهوم الغائي الذاتي للأدب. الأمر الذي سيقوده، في الثمانينات، إلى منعطف حاسم، يبدو أنه تم إنجازه تحت إشارة منظر أدبي عظيم آخر، ميخائيل باختين: اكتشاف تعدد الخطابات، ومسألة الآخر"، و وفي نهاية المقال يتناول الكاتب مفهوما جديدا للأدب كمنبع للقيم الأخلاقية و"كشف عن الإنسان والعالم".

- القيام بالثورة، الخروج من الثورة

في كل ثورة، يأتي وقت يبدو فيه، بعد القيام بها، أنه من الضروري، إذا جاز التعبير، الانتهاء منها. وهذا صحيح سواء في مجال الظواهر التاريخية بالمعنى الدقيق للكلمة أو في في مجال الظواهر الكبرى في تاريخ الأدب والفنون والثقافة بشكل عام. بدأ ثوار عام 1789، حتى قبل ظهور الإرهاب، بالتفكير في هذه المشكلة: إنهاء الثورة، الخروج من الثورة، الانتهاء منها ؛ سيكون التيرميدور (Thermidor) وسيلة لوضع حد لها، وإنقاذ المكتسبات الثورية على حساب بعض التنازلات الحتمية لقصور التاريخ... "الآن هو الوقت المناسب للتوقف": بكتابة هذه الكلمات عام 1799، كان لويس سيباستيان مرسييه بدون شك بعيدا كل البعد عن تصور المعنى الذي ستأخذه يوما ما في أعين الأجيال القادمة. إنها تظهر لنا اليوم كرمز للديناميات الثورية.

ومع ذلك، فإن الثوريين في الفن والأدب، وفي نظرية الثقافة وتأويل النص الأدبي، رغم الطبيعة الأقل دموية لخياراتهم، يجدون أنفسهم بالفعل أمام بديل مماثل: الساعة تأتي، عاجلا أو لاحقا، عندما يتعين علينا أن نعرف كيفية وضع حد للدافع الثوري، لأنه أخطأ، أو قبل أن يحدث ذلك.

مثلا، واجه منظرو البنيوية العظماء سؤالا مماثلا: كيف يمكن الهروب من البنيوية؟ كيف يمكننا الانتقال إلى المرحلة التالية، دون أن نفقد مكتسبات ما قد يظل أعظم ثورة في القرن العشرين في مجال النظرية الأدبية؟ نود أن ندرس هنا حالة تزفيتان تودوروف.

وبعد الترحيب بالأفكار من دون التسليم بها إحدى أهم العلامات التي تميز العقل المثقف“ (أرسطو).
وحتماً، يمكن أن يكون العقل أي شيء... فطريقة تفكيرك هي التي تحدد شخصيتك “ (بوذا).
- تمهيد:
ما تزال الرغبة في السيطرة على أفكار الآخرين وسلوكياتهم وأفعالهم أكثر المطالب إلحاحاً منذ بزوغ فجر الإنسانية. بيد أن قلة نادرة من الناس فقط تدرك أن تقنيات السيطرة على العقل وجدت مع فجر الحضارة نفسها. وبقدر إدراكنا لما وهبنا إياه الله تعالى من عقول متنوعة وطرائق تفكير مختلفة. ندرك في الوقت نفسه تلك الشهوة العارمة للسيطرة على عقول الآخرين وطرائق تفكيرهم، بغض النظر عن الدافع أو الفائدة المبتغاة، ربما يكون السبب نابعاً من رغبتنا في فهم الطريقة التي يفكّر فيها الآخرون، وما إذا كانت تتفق مع طريقتنا أو تختلف عنها([1]).

لكن بالمقابل، يعتبر العقل ميزة الإنسان وقيمته العليا، لا بل هو والإنسان صنوان لا يفترقان وبدونه يفقد الإنسان إنسانيته. وبفضل العقل وقواه استطاع الإنسان أن يصول ويجول ويكشف الحقائق ويُخضع الأشياء لسلطانه وأن يذلل الصعاب ويبدد الظلمات وينشر النور ويتصور الأشياء ويتأمل في الوجود ويسبح في الخيال والفرضيات واللامعقول.

وعن أهمية العقل في التطور البشري يمكننا القول إن العقل هو قوة أساسية تمكن الإنسان من التطور والنمو الشخصي. بفضل العقل، يستطيع الإنسان أن يفكر ويتعلم ويتطور، ويستخدم التفكير العقلي لتحقيق أهدافه واتخاذ القرارات الصحيحة. يساعد العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق النجاح في الحياة([2]).

عندما يستخدم الإنسان عقله بشكل فعّال، يتمكن من استكشاف إمكاناته وتطوير مهاراته العقلية والإبداعية. يسمح له العقل بالتفكير بشكل منطقي وتحليلي، وبالتالي يزيد من فهمه للمشكلات ويتمكن من العثور على حلول إبداعية. يعمل العقل الباطن في خلفية الوعي اليومي للإنسان، وهو المسؤول عن تطوير العادات والمعتقدات وتشكيل الشخصية. لذا، يُعتبر استخدام العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق الأهداف أمراً ضرورياً. من خلال تنمية العقل وتعزيز التفكير المنطقي، يمكن للإنسان أن يحسن من أدائه في جميع جوانب الحياة. فالتفكير العقلي يساعد على اتخاذ القرارات الصائبة ومواجهة التحديات بثقة. كما يساعد في تحليل المعلومات والبيانات بشكل فعّال، وبالتالي يمكن للإنسان اتخاذ قرارات مدروسة والوصول إلى نتائج إيجابية([3]). ولكن قبل الخوض في تحليل ونقد ممارسات العقل الإنساني سنحاول توضيح وتعريف مفهوم العقل في محاولة لفهم جوهر هذا المفهوم لغوياً، وفلسفياً، واصطلاحياً.

- مفهوم العقل: لغوياً العَقْلُ (اسم)، الجمع عُقُولٌ. مصدر عَقَلَ. عَقَلَ: (فعل). عَقَلَ عن يَعقِل، عَقْلاً عُقُول، فهو عاقل، والمفعول معقول - للمتعدِّي. عَقَلَ الوَلَدُ: أَدْرَكَ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ. وأصل معنى العقل المنع والإمساك والحبس، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه، أي يحبسه عن التورط في المهالك، أو لأنه يعقل حقائق الأشياء([4]). ومن المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلاً: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميّز، ويقال: ما فعلت هـذا منذ عقلت. والعاقل هـو الشخص المدرك. ومن المعاني، أن العقل هـو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات. كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل: إنه ما يتميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل.

هناك فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدقها ويحكيها، وبين أن يعي دلالاتها. (فريدريش ڤيلهلم يوزف شلنگ)

1- مقدمة:

ما زالت الأساطير الإغريقية القديمة تشكل منجماً فكرياً فذاً فريداً يستلهمه الأدباء والفلاسفة وعلماء النفس في تفسير نشأة الحضارات وسقوطها. وقد شكلت الأساطير تاريخياً منهج الشعوب في النظر إلى الحياة والتأمل في الكون واستجواب معاني الوجود. وعلى هذا النحو شكلت الآداب الأسطورية منطلقاً للتفكير الفلسفي وبداية لا بد منها للمعرفة العلمية. وعلى هذه الصورة جاءت أشعار هوميروس وهوزيود الأسطورية في بلاد الإغريق لتمهد الطريق أمام التأمّل الفلسفي وتشكيل التصورات الفلسفية القائمة على العقلانية الحديثة. وقد برع فرويد في التوظيف السيكولوجي للأساطير الإغريقية في التحليل النفسي للشخصية والكشف عن الأعماق السحرية اللاشعورية للكائن الإنساني، وعلى هذا النحو وظف أسطورة "أوديب" أجمل توظيف في تحليله للشخصية والكشف عن الميول الجنسية الدفينة في الأعماق للفرد ومنهل اقتبس عقدة أوديب المشهورة في الكشف عن الميول العاطفية بين الآباء والأطفال من الجنسين المتقابلين. وعلى المنوال نفسه وظف تلميذه كارل يونغ أسطورة إليكترا لتفسير علاقة الإناث بالأب وأطلق عليها عقدة إليكترا([1]).

لقد وطف فرويد الرموز الأسطورية في تفسيره لنشأة الأخلاق والدين والحضارة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ إلى حيّزين أسطوريين، يتمثل الأول في الأسطورة الولائمية (الوليمة الطوطمية) بطابعها الأنثروبولوجي الاجتماعي (مقتل الأب الأول)، في حين يتمثل الثاني في الأسطورة “الأوديبية” بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم. وتشكل هاتان الأسطورتان مادة فرويد المميزة في الاستكشاف الرمزي لعمليات التشكل التاريخي للقيم والأخلاق والأنا الأعلى والحضارة. وهو في الوقت الذي يوظف فيها الأسطورة الأولى (مقتل الأب والتهامه) لتفسير منشأ الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية العامة، يوظف الثانية (الأسطورة الأوديبية) في تفسير نشأة الأنا الأعلى والتكوين الخلقي للأفراد في المستويين السيكولوجي والتربوي؛ ولا يخفى على المتأمل وجود تقاطعات كبيرة بين الطاقة الرمزية لكل من الأسطورتين، وتجانس أكبر في الكيفية التي توظف فيها هذه الرمزية لتفسير نشأة الأخلاق والحضارة، إذ تنطلق كلتاهما من موجبات الخطيئة الأصلية (قتل الأب) واللعنة الأبدية (غشيان المحارم) في تفسير ولادة الأخلاق والقيم والضمير الأخلاقي.

ومما لا شك فيه أم جانباً كبيراً من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، حيث تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة والتاريخ والرمز والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات.

وقد دأب كثير من المفكرين على توظيف الأساطير في تفسير نشأة الحضارة وسقوطها ومن أبرز الأساطير التي وظفت في تفسير نشأة الحضارة الغربية يمكن الإشارة إلى أسطورتي برومثيوس وأوديسيوس إذ ترمز أسطورة برومثيوس إلى نشأة التنوير والحضارة الغربية، بينما تشير أسطورة أوديسيوس إلى سقوط التنوير وتشيؤ الحضارة الغربية وبين هاتين الأسطورتين يمكن أن نقع على أساطير جزئية ومهمة مثل أسطورة سيزيف والأسطورة الفاوستية التي تتشاكل بوضوح مع دلالات الأسطورة الأوديسية في مسألة سقوط التنوير وتشيؤ الحضارة.

كتاب من تأليف المفكر المصري الراحل فؤاد زكريا (1927 - 2010)، صدر الكتاب في العام 1980 لتعيد مؤسسة هنداوي نشره في طبعة جديدة سنة 2020. يعرض هذا العمل البحثي أهم الإسهامات الفكرية للفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز (1898 _ 1979)، الذي تحولت كتبه وأعماله - والتي يعد "الإنسان ذو البعد الواحد" أكثرها شهرة - إلى ملهم للحركات الشبابية المتشوفة إلى التغيير كما حدث في الثورة الطلابية بالستينيات. انتقد ماركيوز مجتمعات الغرب الصناعي الحديث بأيديولوجياتها كافة (الرأسمالية – الماركسية السوفييتية) مما أضفى على نتاجه الفكري قدرا من المصداقية والموضوعية، إذ تتلخص أطروحته الأساسية في أن الإنسان الحديث "ذو بعد واحد" بسبب افتقاره للحس النقدي وتحوله إلى مستهلك نهِم مما يتلاءم مع مصالح النظام الإنتاجي السائد.

اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث

يرى الفيلسوف الألماني أن القهر الممارَس بالمجتمع الرأسمالي الحديث هو قهر منظَّم وينضبط لحسابات منطقية دقيقة، على عكس أشكال الطغيان الكلاسيكية التي كانت تخضع لنزوات الحكام وتقلبات أمزجتهم. كما أن القهر الحديث أصبح أكثر نجاعة واتساعا من حيث نطاقه، إذ وضع نصب أعينه تشكيل رغبات الإنسان وتزييفها دون الحاجة إلى استخدام العنف المادي، بحيث لا يعي من يمارَسُ عليه ذلك القمع بأنه ضحية له، وذلك بفضل تطور أنظمة الدعاية والتسويق وأبحاث علم النفس المرتبطة بالآلة الإنتاجية، والتي تستهدف أساسا لاوعي المتلقي بغرض تحويله إلى كائن مستهلك.

كما يمتاز النظام الرأسمالي الحديث بالقدرة على استيعاب المعارضين التقليديين (الطبقة العاملة) وتدجينهم، إذ أصبحت لهم مصلحة في استمرار النظام ما دام أنه يسد حاجاتهم الاستهلاكية ويصطنع حاجات أخرى، وبفعل السيطرة على تفكير الإنسان ومصادرة إرادته الحرة: "قهر يمارَس على الإنسان كله، على حياته الباطنية وعلى تفكيره وعقله وعواطفه بقدر ما يمارَس على مظاهر حياته الخارجية وظروف عمله وإنتاجه وعلاقاته الاجتماعية، وتلك هي قصة القضاء على إنسانية الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث".

وعطفا على ما سبق، يؤكد ماركيوز على التشابه بين النظامين الرأسمالي والسوفييتي (وضع ماركيوز أطروحته في سياق الحرب الباردة بينما كان الاتحاد السوفييتي ما زال قائما) على الرغم من التناقض الأيديولوجي السطحي بينهما، بحيث تسود فيهما مظاهر الاستغلال والاغتراب نفسها. وفي هذا الصدد، يذهب ماركيوز إلى أن النظام السوفييتي هو أبعد ما يكون عن النظرية الماركسية الأصلية ونزعتها المساواتية، حيث تحول الإنسان في ظل هذا النظام إلى مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف الإنتاجية للدولة، وليس إلى غاية في ذاتها كما كان يأمل ماركس. إن من يسيطر على دواليب النظام السوفييتي ليس الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج بل الدولة التي تحولت إلى مصنع كبير يدير دفته البيروقراطيون من كبار الموظفين الذين يسهرون على التخطيط المركزي الفوقي، الشيء الذي يقصي العامل من المشاركة في وضع الخطط الإنتاجية وتحديد الكيفية التي ستوَزَّع بها عوائد الإنتاج، وهنا نتبين الشبه الواضح بين الرأسمالية والاشتراكية السوفييتية من حيث الجوهر رغم الفروق الشكلية بينهما.

بعد فراغ بيرتراند راسل بالاشتراك مع عالم الرياضيات نورث وايتهيد عضو الوضعية المنطقية التحليلية الفلسفية الانجليزية حلقة اكسفورد من تاليفهما كتابهما المشترك (المباديء الرياضية) اللذين امضيا بكتابته ثلاث سنوات 1913 – 1916 اتجه بعدها راسل منفردا نحو معالجة قضايا علمية بعيدة عن الفلسفة التجريدية المنطقية الخالصة في محاولته جعل الفلسفة منهجا تفكيريا في فهم الحياة وليس تغييرها 1. منهج راسل كان يعمل على خلق نوع من التكامل المعرفي غير المتكافيء بين الفلسفة والعلم بين الفلسفة ومنطق الرياضيات حصرا.

ومن كتابات راسل الفلسفية نجد سعيه المثابر والعنيد ربط الفلسفة بالعلم بعيدا عن جزعه من كل خرافة ميتافيزيقية وثقته بقدرة العقل التحليلية وايمانه الشديد بضرورة احلال النزعة العقلانية المنطقية محل سائر النزعات الروحية والصوفية والوجدانية. 2

بعدها نشر كتابه عام 1921 (تحليل العقل) الكتاب الذي حاول فيه راسل هدم النظرية التقليدية القائلة بوجود جوهر عقلي قائم بذاته. أو وعي منفصل مستقل يكمن فيما وراء الادراك الحسي، والتذكر، والادراك العقلي. 3

كان اسبينوزا في القرن السابع عشر صاحب مصطلح الجوهر الالهي المطلق اللانهائي الازلي الخالق التام غير المحدود في عدم ادراكنا العقلي المحدود له.. وميّز اسبينوزا بين الجوهر العقلي المحدود في توزعاته المدركة في موجودات الطبيعة حسب نظريته في مذهب وحدة الوجود. معتبرا اسبينوزا أن الجوهر في مذهب وحدة الوجود في الطبيعة هو المتناهي غير المحدود بجوهر مطلق الهي لا يدرك وانما محدودية جوهر العقل هي في استيعابه معجزات الجوهر الالهي المطلق الموّزع في الطبيعة وموجوداتها وقوانينها.

وهي نظرية صوفية يختلط فيها اللاهوت مع طبيعية مذهب وحدة الوجود في تأمل الطبيعة وتنوعاتها التكوينية من الموجودات التي تجعل وجوب الاهتمام في البحث عن إله الارض الطبيعي الذي  هو دلالة ادراك المطلق الالهي ميتافيزيقيا...

توطئة
تناولت في مقالة سابقة متعالقة مع عنونة هذه الورقة مفهوم الوعي الفلسفي عند ديكارت مرورا بهوسرل وهيدجر وسارتر وكذلك ميرلوبونتي، وناقشت بتفصيل غيرمسهب مفهوم الوعي بذاته في الموجودات غير العاقلة وأختلافه الجوهري عن الوعي الخالص الهدف المنشود والفردوس المفقود عند الانسان كما طرحه سارتر، وعلاقة الوعي التبادلي التواصلي الحواري بين الناس كنوع، كما تناولت تعالق الوعي بكل من اللغة والصمت، ونستكمل في هذه المقالة جوانب أخرى تهم محتوى هذه الورقة البحثية التي يعتبر وعي الذات من المباحث الفلسفية التي شغلت الفكر الفلسفي عصورا طويلة ولا زال مبحث الوعي بحاجة الى معالجات من زوايا رصد جديدة لعلنا نكون موفقين في مقاربة تفسيرية توضيحية لبعض تلك الرؤى..

 وعي الذات بين هوسرل و سارتر

 نرى عقد مقارنة بين عبارة ميرلوبونتي التي ناقشناها من وجهة نظرنا في جزء سابق من هذه الورقة (أنه لا فكر خارج العالم أو الكلمات) وعبارة سارتر ذات العلاقة (أن الوعي الخالص هو فينامينولوجيا جامعة تذهب الى ما يقصد اليه الوعي من أشياء ).(1) ولنا هنا وقفة حوارية أوسع في هذا المجال.

ميرلوبونتي في عبارته لم يكن موفقا في أشتراطه سببيا الجمع بين الفكر في العالم الخارجي ومثله في الكلمات كتعبير صامت في الذهن أو أفصاح معبّر عنه باللغة في أدراك ومعرفة الاشياء في وجودها المادي الخارجي...

الفكر في الذهن هو (انطباعات) زائلة مستمدة من الحس كما يذهب له ديفيد هيوم وجورج بيركلي. وهذه الانطباعات الذهنية هي غيرها الفكر المعبّر عنه في أدراك العالم الخارجي. خارج بيولوجيا العقل بلغة تواصل قد تكون اللغة التداولية المعهودة أو تكون غيرها من وسائل التواصل التي تعتمد حركات الجسد الأيمائية التي توحي بلغة غير صوتية.. الفكر داخل الذهن هو تفكير تجريدي لا يعوّل كثيرا على تعبير اللغة عنه، والفكر خارج العقل هو تفكير لغوي ناجز في تعبيره الواعي عن المدركات في وجودها الخارجي المستقل، وهنا بضوء تأويلنا معنى عبارة ميرلوبونتي يكون تداخل الفكر بالعالم الخارجي هو أفصاح تعبيري لغوي مرة أو أفصاح تواصلي غير لغوي مرة أخرى بغية أثبات أدراك وجود الاشياء ومعرفتها، فليس باللغة المنطوقة أو المكتوبة فقط يتم التعبير عن الموجودات المدركة عقليا المادية منها والخيالية،، فالصمت والحركة لغتان تواصليتان سيميائيا موحيتان بالمعنى التواصلي المطلوب أيضا لكنهما غير منطوقتين صوتيا ولا مكتوبتين أبجديا...

أما أن الفكر لا يكون خارج الكلمات حسب تعبير ميرلوبونتي، فهو خطأ في الفكر قبل خطأ تعبير اللغة المخاتل إذ الفكرالصامت هو تفكير عقلي فسلجي لغوي مكوّن من كلمات وابجدية لغوية لا صوتية خارجيا.ولا تكون الكلمات التفكيرية غير الصوتية استبطانيا هي ليست لغة تعبير وتفكير. وهي لغة لا تعمل بمعزل عن الفكر الذي هو خصيصة عقلية وليس خاصية تفرضها الموجودات على العقل.،

، أذ يمكن أن يكون الفكر خارج الكلمات المنطوقة والمكتوبة، في فعالية العقل التفكيرية بالاشياء والمواضيع تجريدا خياليا مثل الفكرة الصامتة في الذهن المستمدة من الواقع الخارجي أو من مواضيع خيال الذاكرة، أو التفكير الصامت المعبّر عنه في أيحاءات وأيماءات وحركات الجسد الذي لا تلازمه اللغة أو الكلمات المنطوقة ولا يحتاج ملازمة اللغة التعبيرية عنه وأنما يحتاج صور الاشياء المفكربها وترجمتها بلغة الجسد أيحاءا تواصليا حركيا في حمولته المعنى اللامحدود ... في هذه التجليات تكون الحركة الجسمانية فكر ولغة إيحائية لا صوت يميزها.

يمكننا أن نتساءل عن مكانة الفلسفة الاجتماعية من خلال طرح السؤال التالي على الفور: ما هي التيارات الفكرية التي تعبر عنها؟ وماهي التصورات التي تختلف عنها؟ وكيف يتم التعبير نظريا عن الاجتماعي؟

من تفكير يميل، على ما يبدو، إلى إعادة تأهيل سيادة القانون، والإنسانية الفلسفية السياسية، والمثل السياسية التي كان ماركس قد وصفها بأنها "أيديولوجية" (تهدف إلى إخفاء التناقضات الطبقية) كما يتضح من تأثير نظرية جون راولز حول العدالة. لكن، كما يؤكد فرانك فيشباخ، لا شيء يسمح بحجز التحليلات المعيارية في الفضاء القانوني السياسي والتهرب من هذه المعيارية نفسها عندما يتعلق الأمر بالمجال الاجتماعي. وبالتالي فإن العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية ليست بريئة. يؤكد فرانك فيشباخ، بشكل جدلي متعمد، أن المدافعين عن حقوق الإنسان انتهى بهم الأمر إلى جعل الدولة غير ذات أهمية وجعل هدف "إنقاذ البنوك" أولوية حتمية. الميزة الوحيدة لهذا اللجوء إلى أيديولوجية الليبرالية الجديدة الضمنية هي أن الوهم الذي يبرر إقامة معسكر غوانتانامو والحروب القاتلة في العراق - باسم الحق وباسم الخير على التوالي - قد نفذ وقته وفي نهاية المطاف. ولدت "إعادة التسلح المعاصرة للنقد الاجتماعي". لم يعد من الممكن التظاهر بتشويه الماركسية أو الاعتراض على تأثير العلوم الاجتماعية على الخطاب الفلسفي. وهكذا، فإن التشكيك في الحياة المقبولة إنسانيًا يصبح حادًا، في مواجهة النزعة غير المسيّسة وغير المسيّسة للتعامل تقنيًا مع المشاكل الاجتماعية والسياسية. لقد أشار إيمانويل رينو في تجربة الظلم بالفعل إلى الانفصال القائم بين اللغة السياسية وتجارب معينة من الظلم الاجتماعي، والصعوبة التي تواجهها الفلسفة نفسها، في التفكير في تجربة الظلم أكثر من تعريف العدالة بشكل معياري. ما هو تأثير العلوم الاجتماعية على الفلسفة وكيف تقوم الأخيرة بدورها بتخصيبها؟ سؤال يؤدي تعميقه إلى تعريف محتمل لـ "الفلسفة الاجتماعية"، والذي قدمت مدرسة فرانكفورت مع ماكس هوركهايمر مقدماته. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا توجد فلسفة اجتماعية فرنسية، في حين أن "الفلسفة الاجتماعية" ليست مجهولة لدى الألمان. ومع ذلك، يشهد أكسل هونيث، في مجتمع الازدراء، على عدم وضوح الفلسفة الاجتماعية في المنطقة الناطقة بالألمانية، والتي من المفترض إما أن تحمي جميع التخصصات الموجهة نحو الممارسة، أو أن تكون بمثابة مكمل معياري لعلم الاجتماع الذي يتقدم بشكل تجريبي. ... المصطلح، وفقًا لفرانك فيشباخ، لا يحظى بتغطية إعلامية جيدة، بما في ذلك بين علماء الاجتماع، ويتميز بعدم دقته (سيكون بمثابة "رؤية اجتماعية" للأشياء). ومع ذلك، يمكننا تحديد الموضوع والسؤال الحاسم الذي تطرحه علينا الفلسفة الاجتماعية وتطرحه علينا: "ما هي الحياة المشوهة، المنحطة، المغتربة؟"، ولم يعد "ما هي الحياة الناجحة؟" تضاعف الغرض من خلال عمل أكسل هونيث عندما أعلن أن هذه "النظرية النقدية" الجديدة لها الأولوية في "تحديد وتحليل عمليات تطور المجتمع التي تظهر كتطورات أو اضطرابات مفقودة، أي "الأمراض الاجتماعية". وعلى هذا النحو المحدد، تميل الفلسفة الاجتماعية إلى تمييز نفسها عن الفلسفة السياسية القديمة، التي فهمها أرسطو على أنها شرط "للحياة الطيبة"، والأخلاق التي تؤدي إلى السياسة. وأن تنأى بنفسها أيضًا عن محاولات "التعافي" الكانطية الجديدة، وعن النضال الذي يقوده بعض علماء الاجتماع ضد ماركسية الأممية الثالثة. فهو يجسد أكثر من أي مجال آخر المعضلة السياسية الكبرى التي تقوض الفكر الاجتماعي وتقسمه: الإصلاحية أم الثورة، أي جانب يجب أن نعتمد؟ ألا تترجم بطريقة مميزة ما أسماه لويس ألتوسير "الصراع الطبقي من الناحية النظرية"؟

"إنها (أي الِّديكُولوِنْيَنَةdécolonisation) ضرب من الثورة الكوبرنيكية المتمثّلة في الانفصال عن المركز بالتساؤل، لا عمّ يمكن تعليمه للآخرين، بل عمّ يمكن تعلّمه من الآخرين."(مبوندا)
"يتعلّق الأمر بقطع الاتصال بمواقع التعبير والقول المتصلة بالكولوينالية / الحداثة، و وربط الصلة بالذات ، بالمواقع الذاتية للقول ، بـ"الأساطير" الخاصّة، والتحرّر والانفلات من " المصفوفة الكولونيالية للسلطة"، و التحرّر من نظام ابستيمي يمنع من التفكير بذاته وانطلاقا من ذاته "( أ. ماري مبوندا)ّ
 "إنّ العقل ( الكولونيالي) المتكبّر أو الخامل، هو العقل الذي يرفض تعلّم إماتة أفكاره المسبقة ، والذي يرفض التخلّص من مقولاته الأبدية والكونية، و إزاحة الحواجز للتفكير على نحو آخر، للتفكير مع الآخر وللتفكير في الغيرية". ( أزم. مبوندا)

     إنّ مقولة دِيكُولِونْيَنَةِ décolonisation المعارف أو تحريرها من النزعة الاستعمارية، حاضرة بشكل يتزايد في أعمال العلوم البيوطبية biomédicales ، وفي العلوم الاجتماعية ، وفي الأدب وفي الفلسفة. وبإمكاننا كذلك تعريفها في عبارات التفكيك   déconstruction ، و" العصيان الإبستيمي"  (1) « désobéissance épistémique ، وفقدان الوجهة أو " التيهان"(2) « désorientation ، و" ترييف أوروبا" « provincialisation de l’Europe(3)، وباختصار في إدانة كلّ إدّعاء هيمني وغير تساؤلي لحيازة المعرفة الكونية ، إدانة مؤائمة للدفاع من أجل "الإزاحة عن المركز"décentrement »  و تداول المعارفsavoirs"  « circulation des . إضافة إلى أنّ تفعيلها يصطدم بعوائق  يجعلها جدّ خيالية . تتميّز هذا الديكولونينة للمعارف في مجال الفلسفة ، إنْ لم نقل ملغومة ، بجملة من " النزاعات" المتّصلة بتاريخها وجغرافيتها وأمكنتها وأنماط إنتاجها وذواتها وموضوعاتها.

نجد فيها غالبا التساؤلات التالية : هل يوجد فلاسفة لاغربيين ؟ هل توجد فلسفات هندية، صينية وإفريقية؟ أيّ منزلة تحتلها الفلسفات اللاغربية في شرائع  الإستوريوغرافياhistoriographie  أو عمل المؤرخ للفلسفة؟ إيّ منزلة تحتلها الفلسفات اللاغربية في برامج تعليم الفلسفة في الغرب وفي أماكن أخرى؟ هل بإمكان المستعمَرين القدامى الكلام والتفكير" على نحو آخر مغاير لنمط الجواب والتفاعل في اللغة ووفق منطق التحكّم والهيمنة؟"(4) .

   لقد اخترت التعبير عن عنوان هذا المقال بصيغة السؤال التي فضلا عن ذلك ، تحمل لأول وهلة، بعبارة "ممكنة"، على التفكير في تحيّز ريبي بالنسبة إلى ما هو موضوع الرهان. وبالفعل، فالسؤال يمكن أن  يُؤوّل بما هو استفهام عن الطابع الممكن ببساطة لمثل هذه الديكولونْينة. وقد يكون بإمكاننا أيضا، للتشديد على هذا الارتياب الظاهري، إعادة صياغة السؤال على النحو التالي: ما هي شروط قابلية التفكير pensabilité أو شروط إمكان ديكُولُونْينة فعلية للمعارف في الفلسفة؟  بهذه الصياغة للسؤال ، وبالتشديد على شروط ديكولونْينة للفلسفة ، تترك الرّيبية المجال مفتوحا لإمكانية فحص بنّاء لما يظهر كممارسات لديكولونْيَنَة للمعارف. سأبدأ هذا الفحص بمحاولة توضيح مقولة ديكولونْينة المعارف ذاتها. ثمّ سأحلّل ما أسمّيه " نزاع" ديكولونْينة المعارف في الفلسفة بالارتكاز بالخصوص على حالة الفلسفة الإفريقية التي تبدو لي احد المختبرات الرئيسية لهذا النوع من التساؤل . و سأحاول،انطلاقا من هذه الحالة الخاصّة ، بيان أنّ المحاولات البارزة لديكولونْينة لمعارف في الفلسفة الإفريقية تجد صعوبة في التخلّص من مكر العقل الاستعماري أو الكولنيالي. إنها ( أي هذه المحاولات) ، سواء قدمت نفسها في شكل مطالبة "بحقّ الاختلاف"أو " بحقّ التشابه"، ذات ميل إلى تثبيت، على نحو مفارقي، هيمنة المعرفة الكولونيالية. إنّ إمكانية ديكُولونْينة للفلسفة تقتضي فيما يبدو لي الأخذ بعين الاعتبار لهذه المفارقة.

يذهب ميرلوبونتي الى ان العالم الخارجي ليس حقيقة. وكذلك (الذات) ليست حقيقة. اعتقد انه من المتفق عليه انه بدلالة العالم الخارجي ندرك ذواتنا في مغايرة ادراكاتنا الموجودات. وليس بهذه الخاصية الادراكية المتفردة نستطيع معرفة حقيقة العالم الخارجي ايضا. الذات جوهرفردي لا وجود له سوى بالمغايرة الادراكية العقلية للاشياء والتفكير بما حولنا.
العالم الخارجي مفهوم وليس كينونة وجودية متعيّنة ماديا محدودة بابعاد الموضوع سواء اكان الموضوع ماديا أو غير مادي يدركه العقل ويمكنه بها معالجة العالم الخارجي كموضوع. متى يكون موضوع تفكير العقل غير مادي؟ كل مواضيع تفكير العقل المستمدة من الخيال هي غير مادية. هي تصورات ذهنية يبتدعها العقل ويعبّر عنها لغويا او يتم التعبير عنها بأنشطة ادبية وفنية.
مالمقصود بالعالم الخارجي انه ليس حقيقة؟ هل هو الطبيعة بكل شموليتها البايولوجية المتنوعة الكائنات والمكونات بما لا يمكننا حصره ومعرفته لا تمتلك حقيقتها؟ أم العالم الخارجي الذي هو الموجودات والعلاقات البينية التي يتوزعها المحيط من حولنا ولا تمتلك حقيقتها؟ نكران حقيقة العالم الخارجي يوجب علينا الايمان بحقيقة ميتافيزيقيا خرافة التسليم بفرضية فلسفية عتيقة في امكانية وجود عالم خارجي حقيقي غير عالمنا هذا لا ندركه هو غير عالمنا الخارجي الزائف الذي يدركه العقل ونتعامل معه ونعيشه. العالم الخارجي كمفهوم اصطلاحي يكون تعاملنا معه بما يحتويه من موجودات لا حصر لها هي مواضيع جاهزة لمعالجتها الادراكية عقليا.