استهلال
ينبني هذا العمل-قدر الاستطاعة بطبيعة الحال-على ملاحظة تتبعية لِمجموعة من الأعمال المنشورة في حقل علم النفس الاجتماعي في المغرب. فقد أسعف تعاطينا، من غير شك، مع هذا الكم المعرفي، الجدير حقا بالاهتمام، على تحصيل ملاحظتين اثنتين مُؤَدَّاهُما:1-فتور المواكبة المطلوبة، الرامية، على الأقل، إلى التعريف بالانهمامات العلمية لرواد السيكولوجيا الاجتماعية في الجامعة.
2-برود مَنْزَع القراءة، وتراخي الدًّافعية المُتَطَلِّعة إلى تحليل، وتفكيك أسس وحيثيات الخطاب السيكوسوسيولوجي في أفق نقده فتقييمه بالتساؤل المُهَدِّم للمعرفة المُطمئنة؛ والاستفهام المُكَسِّر للنماذج الرَّكيكة. أَلاَ يُعْتَبَرالنقد الوجيه عَصَبَ المعرفة، ومِهْمَازَها الخَلاَّق للمعاني المُرَجَّحَة، والصانعُ للدَّلاَلاَت المُحتملة؟
فيما أحسب، هذا هو المَسَاق الذي يُؤطرهاته الدراسة التي نَتَوسَّلُ بها الإطلالة على الإنتاج الفكري للمفكر وعالم النفس الاجتماعي الدكتورالمصطفى حدية سَعْياً إلى تقليب تَشَكُّلاَتِ خِطَابِه؛ وغايةً في الوقوف على المَسْأَليَات الأساسية، والطُّرُوحات الكبرى المبثوتة طَيَّ أبحاثه الغزيرة.
أولا: تقاطع الموضوعات والأفْهُومات في الاجتماع النفسي العربي:
بحضوره الوازن في الساحة الثقافية المغربية والعربية على السواء، استطاع الأستاذ المصطفى حدية أن ينحت اسمه ضمن كبار السيكولوجيين العرب. فقد تمكن بفعل اجتهاده ومثابرته من تأسيس مشروع مدرسة قائمة الذات في حقل الاجتماع النفسي بالمغرب تتقاطع، في جزء كبير منها، مع أعمال أكاديميين عرب من عيار حليم بركات، هشام شرابي ومصطفى حجازي على سبيل المثال لا الحصر.
بحرقة لاضديد لها، طَرَقَ هؤلاء المفكرون الجذريون، بين ثنايا أبحاثهم، التي انصبت على المجتمعات العربية، مشكلات التخلف بأورامه المزمنة، وقضايا التنشئة الاجتماعية، والحرية، والهدر بكل أشكاله وألوانه المختلفة...فضلا عن جدلية الثقافة والهوية في عصرمدهش، سِمَتُهُ التَّبَدُّلُ والانقلاب؛ وخِصِّيصَتُه الاحتمال واللاَّيَقِين بفعل نهاية الجغرافيا وهيمنة الأمبريالية الثقافية.2.. فبالاستناد إلى مرجعية متينة تمتح من معين علم النفس، وتنهل من المنهج النقدي الاجتماعي-التحليلي، والإبداع السردي على السواء عمد الدكتور حليم بركات(1933-2023)إلى تفكيك بنيات المجتمع العربي، وخلخلة الطبيعة السلطوية للدولة 3 ليخلص إلى القول بوجود هوة تفصل الإنسان العربي عن مؤسسات مجتمعه وسمها حليم بركات بالاغتراب 4 الذي يرده إلى:
- - التجزئة والتفتت الاجتماعي
- - هيمنة الدولة على المجتمع(=الاغتراب السياسي وأزمة المجتمع المدني) 5
- - تسلط الأنظمة الهرمية القسرية التي يجسدها النظام البطريركي، وهيمنة المؤسسات الدينية، وغلبة التربية المعتمدة على الذاكرة والاستظهار.
- - الاستغلال الطبقي ومايستتبعه من ظلم، وقهر وحرمان، واتساع الفجوات بين المعدمين والأغنياء.
- - التبعية، والهيمنة الخارجية على معظم الثروات والمقدرات العربية
- - سطوة المقدس، وصلابة التقاليد، وثباتية الطقوس التي تعمل على تزمين الصراع بين القديم/التراث والجديد/الحداثة.6
وليس من شك أن هذا الوضع الجحيمي-برأي حليم بركات- يضع المواطن العربي أمام هكذا إمكانيات:
- - إما تحمل الضيم والصبرعلى"البَلاَء"بانتهاج سلوكات تتراوح بين التملق، والتسويغ والتقنع.
- - وإما الانصياع لإرغاماته من خلال كَظْم، وكبت مشاعر الوَغَر والسخط حياله، انتهاء إلى الإعْراض عن كافة الحقوق.
- - أوقد يكون بمناهضته في إطار حركة اجتماعية هدفها تحقيق "التغيير التحولي-التجاوزي""الذي يرجى منه التغلب على غُرْبَة الإنسان؛ وأزمة المجتمع المدني فنتمكن من اجتياز المرحلة الانتقالية المحبطة التي عاشها المجتمع العربي ومايزال يعيشها منذ قرن ونصف.." 7
وطرح الدكتورهشام شرابي(1927-2005)بدوره مكامن تضعضع وتَرَدِّي المجتمع العربي منذ قرار تقسيم فلسطين عام 1948؛ مرورا بلحظة إعدام"أنطون سعادة"عام 1949 التي أعقبها تحطيم مشروع"الحزب السوري القومي الاجتماعي" 8، ووصولا إلى تداعيات النكسة الكبرى في 1967على العالم العربي برمته.9
فقد أدت تلك الانكسارات المُتَلاَحِقَة إلى رَجَّة عنيفة في الوجدان، والوعي القومي العربي تعكسها هذه الفقرة التي صاغها هشام شرابي تعبيرا عن مرارة الإخفاق:
"في أشهر صيف 1948 استولت علي في شيكاغو، بسبب الأحداث في فلسطين(=التشديد مني)، حالة من الانقباض لم أكن أستطيع خلالها عمل أي شيء أو رؤية أحد. كنت أذهب مع كارول (=صديقته)إلى شاطئ البحيرة(=بحيرة ميشغن)وأجلس بجانبها صامتا لاأنطق بكلمة، يَنْهَشُنِي الهَمُّ والأفكار السوداء(=التشديد مني). وكانت كارول تحاول من حين لآخر أن تُرًفِّهَ عَنِّي، فَأًصُدُّها بِصَمْتِي وانْقِبَاضِي، فتعود إلى كتابها، وأبقى عابسا أتَطَلًّعُ إلى الأفق البعيد كأني نابليون في سجنه في جزيرة سانتا هيلينا!"10
إنها الخيبة التي سَتَتَخَلَّقُ منها سؤالات مشروع هشام شرابي الفكري، ومنهجه النقدي الحضاري الذي به"يسلط الضوء على الواقع وتاريخه؛ ويكشف عن حقيقته الظاهرة والخفية" 11غاية في فهم وإدراك سببيات أزمة المجتمعات العربية الكامنة، في تقديره، في أعماق البنية البطريركية 12 بمحمولاتها التنشيئية اللاعقلانية كامتهان المرأة، وإقصاء الشباب عبر آلية "التَّطْفِيل"13 فضلا عن ترسيخ القدرية، وثقافة الاتكال والعجز.14
ومن جهته أسس الدكتورمصطفى حجازي(1936-...)لمقاربة قوية منطلقها مناهج علم النفس التي تم تكييفها من أجل دراسة المجتمعات العربية؛ وطبيعة شخصية الإنسان العربي. فاعتمادا على مناهج علم النفس انبرى مصطفى حجازي بنقد صميمي للنظريات الكبرى التي تناولت ظاهرة تخلف المجتمعات العربية من المنظور الاجتماعي والاقتصادي مهملة للغاية"البنى الفوقية (النفسية، العقلية، القيم الموجهة للوجود)، ولذلك فلا يستقيم الحديث عن التخلف، ولايمكن لصورته أن تكتمل إلا إذا أعطينا لهذه البنى الفوقية مكانتها." 15
لقد خلصت الدراسات التي أنجزها مصطفى حجازي إلى القول إن الإنسان المقهور يعيش في عالم من العنف المفروض ليس بمكنته، بمطلق الأحوال، مدافعته أورده لِأن المجتمع العربي تقليداني محافظ، تَبَعِيٌّ متخلف تحكمه ثلاثية الهدر التي تشتغل في الخفاء وهي:
(أ)-العصبيات: التي تقود مباشرة إلى استلاب الإنسان، وتذويب كيانه الذاتي في"النَّحْن العصبية"المفضية إلى قَطِيعِيَّة الجمهور، والمُوَلِّدَة للهويات القاتلة وهذا هوالأخطر.16
(ب)-الاستبداد بما هو وليد شرعي للعصبيات على اختلاف تلاوينها يدفع إلى الانصياع، والامتثال، ويقصر النشاط الذهني على مستوى المعيش وحده، وليتعطل بالنتيجة كل فكر تحليلي، نقدي، تساؤلي وتجاوزي.17 .
(ج)-فالأصوليات حيث سلطة الفقيه التي تُحَجِّرُ بفتاواها التكفيرية على العقول، وتلغي بأحكامها اليقينية القطعية البرهان لصالح البيان والعرفان 18 تفضي إلى اختلالات بنيوية في الشخصية، ومعاطب نفسانية تتمثل في المعاناة، وتتبدى في العنف، وتتجلى في الاتكالية، واستساغة الخرافة، والركون إلى القَدَرِيَّة التَّسْلِيمِيَّة...وهذه حسب مصطفى حجازي، هي ملامح "المرض الكياني"الذي يرسف الإنسان العربي تحت وطأته ليشل انطلاقته، ويكبح حريته، ويعيق، بالتالي، تنميته.19
وعليه، فلئن كان المثلث المتألف من العصبيات(=غريزة التجمع)، والاستبداد السياسي، والفقه الأصولي يَحُولُ دُونَ بناء الكيان الوطني الجامع، فإنه يُعَثِّرُ، في الآن عينه، كل أفق تنموي على اعتبار أنه ليس ممكنا، وبمطلق الأحوال، "بناء حداثة مستقبلية على تراكمات الماضي وتركها كما هي، بالقفز فوقها من دون مواجهتها ومعاركتها. فالتغيير لايشمل السطح فقط أي الأنظمة السياسية الاستبدادية، وإنما يتناول الأصوليات التي أصبحت نوعا من الثوابث التاريخية. لابد للتغيير أن يصيب ثوابت اللاوعي الثقافي هذا، والتي اتخذت على مر القرون طابع الثوابت الأبدية." 20
على مَا مَرَّ مَعَنَا من معطيات نسجل ملاحظتين أساسيتين:
1-تقاطع الأبحاث السيكولوجية، والسوسيولوجية المشار إليها في مسألة اعتبار تخلف المجتمعات العربية تخلفا شموليا له وَصْلٌ وَكِيدٌ بأسلوب التنشئة الاجتماعية المتبع، وبالبنية البطريركية التي تستمد رسوخها وسطوتها من معماراجتماعي مثقل بالتاريخ، ومحكوم بصنمية التراث، ومشبع بالتقاليد وجثم السلف..
2- إنها أعمال تتقصد الكشف عن معيقات التنمية في المجتمعات العربية بالتعويل على مقتربات نظرية بحثة دون فحص لأسسها ومرتكزاتها؛ ودون نقد ابستيمولوجي ومنهجي غايته اختبار إجرائيتها؛ ومدى جدارتها لحظة التماس، وأثناء الاتصال بالواقع الأمبريقي. ولربما هذا ما فطن إليه الأنثروبولوجي المغربي"عبد الله حمودي"حين قال: "الإشكال اليوم أنك لاتستطيع أن تجد ولو خمسة كتب لمفكرين عاشوا لستة أشهر مع الفلاَّحين في الريف المصري أوغيره. فارتباط المثقفين، والنخب التي تدعي العقلانية كان ارتباطا نظريا، ولم يكن ارتباطا يمس المعيش اليومي والمعرفة القريبة، ولم يكن ارتباطا بالمعنى العلمي الذي يجعل الباحث ينصت لنبض المجتمع ويعرف عن قرب المفاهيم والنظرة التي يفسر بها الأشخاص حياتهم.
كان الفلاح أو القروي دائما محل تعاطف من قبل المفكر التقدمي، لكن ظل هذا المفكر يعتبر ذلك الفلاح جزءا من القرون الوسطى، وإنه محدود الفهم والإدراك.. دون أن يمعن النظر في المؤسسات الاجتماعية التي بناها هذا الفلاح، ولا نظر في البنيات الأساسية (الري، الفلاحة، إلخ...)التي يدير بها الفلاح علاقاته الاجتماعية، وفي إدارة علاقته مع الدولة وحتى معنا نحن المثقفين." 21
ومع أن هذا القول ل"عبد الله حمودي"يشمل به أعمال مفكرين بعينهم[=هشام شرابي]ومن لف لفهم لوقوع بعضهم في التنظير؛ والتعميم السهل، وبعض البعض منهم في شرك "الدراسات الاستشراقية في الغرب" 22 فإنه لاينسحب، فيما نقدر، على المدرسة المغربية في السوسيولوجيا، وتجربة البحث السيكو-اجتماعي الأكاديمي في المغرب الذي يعد الأستاذ المصطفى حدية رائده بلا منازع.
ثانيا:"المصطفى حدية"رائد علم النفس الاجتماعي
لدى عودته سنة 1981 من جامعة "نيس صوفيا-أنتيبوليس"بفرنسا حاملا لدكتوراه السلك الثالث دارت إشكاليتها حول""الهجرة" من الوجهة السيكوسوسيولوجية" 23 التحق المصطفى حدية"بكلية الآداب بالرباط أستاذا لعلم النفس" 24 وبدءا من تلك السنة انكب، وبشكل مُتَسَاوِق، على إنجاز مشروعين من الأهمية بمكان:
1-إعداده لدكتوراه الدولة استكمالا لتحصيله الأكاديمي إذ سيتوجه بدفاعه، وبامتياز، سنة 1987 عن أطروحته العلمية بجامعة"بول فيرلين"بمدينة"ميتز"الفرنسية.
2-الانهمام بالتأسيس العلمي والمنظم للبحث السيكواجتماعي بالجامعة المغربية؛ والذي سيسفر، بالفعل، عن بروز مدرسة مغربية متميزة بمرجعياتها النظرية، ومنهجها في البحث، وطرقها في التحري والاستقصاء.
صحيح أن علم النفس-وعلم الاجتماع أيضا-كان على مدى عقدي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم يُدرس بوصفه "علم نفس فلسفي"؛ أي كفرع معرفي ضمن شعبة الفلسفة في كلية الآداب(بالرباط ثم بفاس)؛ وكانت المواضيع التي يطرقها غير راهنية، مغرقة في الترداد والتكرار، واللوك والاجترار، لأنها لم تكن تحيد عن"التخصصات الكلاسيكية الأساسية في علم النفس والمتمثلة في علم النفس التربوي، علم النفس الفارقي، علم النفس الفيزيولوجي، علم النفس النمائي، القياس النفسي...إلى جانب التيارات والمدارس الأساسية 25 لذلك تزايد الطلب على ضرورة انفتاح علم النفس على المسأليات ذات الأبعاد النفسية-الاجتماعية والثقافية والأنثروبولوجية بالنظر إلى ماطفق يعتمل في عالم اليوم من تحولات كونية كبرى غيرت "علاقتنا بكل شيء: بالثقافة والهوية، بالدولة والسلطة، بالمعرفة والثروة، بالحرية والديموقراطية والإمكان المفتوح هوالعمل على إعادة ابتكار هذه المفاهيم بما يتيح نسج علاقات وروابط جديدة مع الغير والعالم والأشياء" 26 .إن هذه التطورات المتسارعة التي هَمَّتْ الاقتصادات، وشملت المجالات العمرانية، والتكنولوجية، والمؤسسات الاجتماعية المُؤَطِّرة أقحمت إنسان اليوم عنوة في خضم مجموعة من الارتجاجات انعكست على شخصيته؛ وسلوكياته، ومنظوراته، ورؤيته للعالم، ناهيك عن عسراندماجه الاجتماعي إلى حد اضطراب أسلوب عيشه، واهتزاز منظومته التنشيئية؛ وارتباك مرجعياته الثقافية، ومعاييره الاجتماعية...ولِيُحَصِّلً"المصطفى حدية، بناء على ذلك، أن الإنسان المعاصرغدا في يَمِّ هذه التحولات يعيش، بانتظام، في وضعية توتر مستدام تتمثل في أزمة أخلاق27 يُجليها اختلاط القيم28 ، وتنامي العنف، كما السلوك العدواني بمختلف أشكاله وتجلياته داخل"بيئة مشحونة بالتوترات والحرمان والإحباط، مما أصبح معه(...)يعاني من الوحدة والعزلة النفسية في مدن مليئة وشوارع مزدحمة في مختلف بقاع العالم يعيش "العصر الذهبي للأزمات النفسية"29. من ثم كان علم النفس ضرورة ملحة استوجبت إعداد وتكوين مختصين لأجل التصدي بالسؤالات الاستفهامية لمتطلبات الواقع ومستجداته30.
فإلى"المصطفى حدية"، وإليه وحده في تقديري، يرجع الفضل، كل الفضل، في تعريف أجيال جامعية وتمكينها"من الانفتاح على أبرز التخصصات المعاصرة في علم النفس ألا وهوعلم النفس الاجتماعي"31 بحثا علميا وتكوينا أكاديميا. الذي أبان فيه تدريسا، وتأطيرا عن حنكة ودربة الباحث"المجتهد المثابر"32 والأستاذ "المؤطر الغيور"الذي وسم بحضوره المتميز، وتشجيعه الدؤوب أجيالا متعاقبة من السيكولوجيين33 مبتغيا"توسيع أسس وقواعد ودوائر وأدوات"التمكين"المعرفي(...)، وفي سياق تربوي واجتماعي متكامل المكونات"34.
ثالثا: السيكولوجيا الاجتماعية:"هوية ضائعة"أم علم مشروع؟
هل يمكن اعتبارعلم النفس الاجتماعي علما إنسانيا قائم الذات أم أنه "علم هجين"مايزال يبحث عن"هوية"خاصة به بين العلوم الإنسانية؟
فيما يشبه السيرة الذاتية-الغيرية تحدث الباحث السوسيولوجي "مصطفى محسن"عما سماه"العلاقة الإنسانية المائزة"؛ و"الحوار الفكري المتمدن العميق"الذي جمعه ب"المصطفى حدية"وإلى مَاوَسَم علاقاتهما من"مفارقات الاختلاف؛ أوحتى الخِلاَف أحيانا""الذي كان يطبع نقاشاتهما في كل مايتعلق ببعض قضايا التفكير والرأي والموقف والعمل والسلوك"35.
فلطالما عمد د.مصطفى محسن"تسخيناً لحلبة النقاش"36، كما روى، إلى الإعراب عن نقده الصارم لعلم النفس الاجتماعي قائلا: "غير أنني كثيرا ما كنت أستثمر حماسته(=المصطفى حدية)هذه للترافع عن خصوصية وتميز ميدان تخصصه العلمي، فأجره بسلاسة متأدبة إلى أن ينخرط معي في"معمعان جدل فكري"مازح ومفيد في ذات الآن. هكذا كنت أرفع منسوب نقدي الصارم لعلم النفس الاجتماعي، وتوصيفه بأنه مايزال حتى الآن(وقتها)"علما هجين التكوين"، لاهو بالسيكولوجيا العامة ولاهو بالسوسيولوجيا أوالأنثروبولوجيا...إلخ، وبأنه مافتئ يبحث لنفسه عن"هوية ضائعة"يكتسب من خلالها قوام حياة وشروط تفرد ومقومات وجود(...)وأحقق غرضي الثقافي النبيل فتنتفض حفيظة "المصطفى"(=حدية)ليزج بي هو الآخر في أوار نقاش عميق نحلق به وبنا في مدارات فكرية بلاضفاف، نتطارح في سماواتها أسئلة وأفكارا وقضايا تتعلق، في مضمون مجملها، بمقومات مساقات ولادة العلوم الإنسانية والاجتماعية في التاريخ الغربي الحديث، وبسيرورات تطورها وتشكل نظرياتها ومفاهيمها ومناهجها ونماذجها التحليلية والتفسيرية..."37 ولينبري"المصطفى حدية"إلى تلك"المناكفات"مدافعا، منافحا عن مشروعية السيكولوجيا الاجتماعية بما هي تخصص حديث ينتمي إلى العلوم الإنسانية؛ مستقل قائم الذات أسسا، ومتاعا نظريا وإبستيمولوجيا، ثم عُدَّةً منهجيةً فجهازاً مفهوماتياً 38.
وتأسيسا على هذا فإن كان علم النفس العام انْهِمَاماً بسلوكيات الفرد، وكان علم الاجتماع دراسة للسلوك الجماعي؛ فإن علم النفس الاجتماعي طَمْرٌ للفجوة بين السوسيولوجيا والسيكولوجيا، بين الدراسة النفسية وتحليل الظواهر الاجتماعية هدفا إلى رصد التفاعلات الحاصلة بين الفرد والجماعة؛ وطبيعة التأثير المتبادل بينهما39 على اعتبار أن الفرد كائن علائقي بامتياز، يعيش مدركاته، ومشاعره من خلال حياته الاجتماعية التي لها دور لايستهان به في تشكل التمثلات التي يحملها عن ذاته؛ وعن محيطه الاجتماعي من ناحية، وتحدد سلوكاته إزاء ذاته، وحيال أغياره داخل بيئته وحيطه من ناحية ثانية.40 وبهذا المعنى يضحى الفرد قابلا للدراسة العلمية في سياقاته السوسيوثقافية المتعددة والمتداخلة. يكتب"المصطفى حدية"محددا، وموضحا حقل هذا العلم:"يهتم علم النفس الاجتماعي بدراسة سلوك الكائن الحي، آخذا بعين الاعتبار المواقف الاجتماعية التي يوجد فيها. إنه الدراسة العلمية لسلوك الكائن الاجتماعي وهو يعيش في جماعة يتفاعل مع أعضائها، يؤثر فيهم ويتأثر بهم. حيث يتناول بالوصف والتجريب والتحليل والفهم سلوك الفرد في تفاعله مع أعضاء المجتمع في المواقف الاجتماعية أو المجال الاجتماعي. فهو بعبارة أخرى الدراسة العلمية لسلوك الفرد استجابة للمنبهات/المثيرات الاجتماعية المختلفة ومايرتبط بينها من علاقات بين الكائنات الحية"41. وفي موضع آخر، يمضي"المصطفى حدية"عميقا في تعريفه للسيكولوجيا الاجتماعية قائلا: "إن وظيفة علم النفس الاجتماعي تنحصر في عقد تصالح وتوافق بين النفسي والجماعي، مما يجعل الممارسة النفسية والاجتماعية طريقة في التفكير والرصد الإنساني والاجتماعي، كوحدة تنصهر فيها بشكل متداخل عمليات نفسية واجتماعية(...)أي أن الفرد نتاج للعلاقات الاجتماعية، ومنتج لواقعه الاجتماعي"42 ومقتضى هذا النص، دون اسْتِرَابَة، أن علم النفس الاجتماعي مُلْتَقَى علوم، وفروع شتى، ومتداخلة من المعرفة الإنسانية: علم النفس العام، والتحليل النفسي، والإثنولوجيا، والسوسيولوجيا، والفيسيولوجيا 43 تَتَغَيَّا إثراء منظوراتنا، وأفهامنا لديناميات التفاعل السيكو-اجتماعي"جاعلا من المجتمع بمختلف مؤسساته مختبرا للبحث والدراسة ومدى تأثيرهذه الأخيرة على تنشئة الأفراد وتكوين شخصياتهم معرفيا ووجدانيا"44 خدمة للتنمية الاجتماعية الشاملة. وأكيد أن هذا المشروع المنشود لن يتحقق إلا بتفجير طاقات الإنسان، وشحذ كفاءاته، وإثارة مهاراته نحو المزيد من العطاء، والخلق والإبداع عبر سبل تربوية، وتعليمية ومدرسية تنتقل بالفرد/الإنسان العربي. من هامش الوجود إلى صميمه. أَوَلَيْسَتِ الحداثة، بتعبير بليغ ل"مارشال بيرمان"،"عقلا"و"ثورة"؟45
فَغَيْرُ مُنْبَغٍ، بمطلق الأحوال، أن يغرب عن البال أن البحث السيكوسوسيولوجي، مثله في ذلك مثل باقي فروع المعرفة الإنسانية، لن يستقيم إلا بالتَّمَكُّن من النظرية بوصفها أنساقا استنباطية، والتحكم في الفرضيات، والحدوس الفلسفية المُوَجِّهَة، والمنظومات المعرفية المختلفة، المُخْصِبَة لخيال الباحث، والمُثْرِية لِإشكالياته، والكفيلة، بالمُحَصِّلَة، بوضع سيرورات العمل الاختباري الوَضْعَانِي أمام حرارة المساءلة السيكوسوسيولوجية. لأنه لاوجود البتة لحقائق أولية(=فطرية)منقوشة في ذهن خام؛ وبالقدر نفسه ليست هناك معارف جديدة من دون أن تكون تعديلا لما طرأ على معارف سابقة، وهو تعديل لن يُسْتَيْسَر سوى بالتصدي ل"الواقع"46 بناءا على تَجْدِيل الحوار بين الإطار الإرشادي والواقع الأمبريقي.47
لننصت بإمعان إلى هذا التوضيح الذي قدمه"المصطفى حدية": "إنني خلال محاضراتي، وخلال الأبحاث التي نشرتها أدعو باستمرارإلى الاهتمام بالبحث الميداني، لكن ذلك لاينفي أبدا الشق النظري في البحث، كما أني حين أتحدث عن البحث الميداني لا أعني به البحث الاختباري والأمبريقي، فالتنظير يوجه الميدان والميدان يوجه التنظير، أما إذا كنا اختباريين فسوف لانأتي من الميدان إلا بالشيء القليل، لأن البحث لاينمو ولايعطي الجديد إلا عبر مساءلة الميدان والتعامل معه. وكما قلت سابقا بأن البحث الميداني من خلال المعادلة: النظري/الميداني يمكننا من تقديم الجديد وإحداث تراكم على المستوى المعرفي.."48 ومن المحقق أن هذا"الجديد"الذي ينشده"المصطفى حدية"يستلزم التعامل الحذر إلى أقصى الحدود مع الأطر النظرية بقراءتها،
وفحصها، ثم تفكيكها انطلاقا من مرجعية سيكوسوسيولوجية تكوينية دينامية،49 لا الركون إلى نقلها نقلا ميكانيكيا، تعسفيا نظرا لأن طبيعة المجتمع المغربي، وخصوصيات ظواهره وقضاياه تُغَاير في مَنَاحٍ شتَّى الواقع الذي أنجزت وتَمَّتْ فيه تلك الدراسات.50
وإلى هذا، ينضاف تصدي"المصطفى حدية"بالنقد الإبستيمولوجي للمقولات، والجهاز المفاهيمي التي وَظَّفْتْهُ تلك الأبحاث في مناولتها للمجتمعات العربية إذ يرى أنها:
- - صاغت خطابا"يبعث على الملل، ولايخرج عن كونه ذي طابع إنشائي"اختزالي51.
- -سقطت من حيث لاتدري في مطبات التعميم السهل الذي حَادَ بها عن مقتضيات التحليل الموضوعي؛ ومن ثم عن شَرْطِ العلمية المطلوبة في كل إسهام أكاديمي52
ولايقتصرهذا النقد الوجيه والصميمي على الأعمال ذات المنحى السيكولوجي في العالم العربي وحدها بل هَمَّ أعمالا بعينها انصبت بالأساس على التنشئة الاجتماعية للطفل المغربي إذ على الرغم من أهميتها 53 فإنها تظل:
- -دراساتٍ عامةً، لاتميز بين طفل الحاضرة وطفل الأرياف، بين طفل العامل وطفل الفلاح، طفل الأسرالفقيرة وطفل الأسر الميسورة، مُلْفِيًّةً منظومة التنشئة نمطا واحدا ووحيدا يشمل الجميع.
- -وَصْفِيةً تكتفي بالحديث عن مراحل نموالطفل إلى حدود سن الرشد مُعَرِّدَةً تماما عن الكشف والإِبَانة عن الميكانيزمات السيكولوجية المتحكمة في ارتقائه خلال كل مرحلة من مراحل تطوره؛ ليُحَصِّلَ"المصطفى حدية"، في نهاية المطاف، أنها دراسات امتثالية54 "اختزالية تتناول الطفل المغربي، بدون طفل، كأن كل طفل هو صورة طبق الأصل لطفل آخر."55
رابعا: التنشئة الاجتماعية وبناء الهوية
بأيِّ معنى تُشَكِّل التنشئة الاجتماعية والهوية مفهومين-مفتاحين في مُعْتَمَد"المصطفى حدية"السيكوسوسيولوجي؟ وهل بِمُكْنَتِنَا اختزال المفهوم ذاته، كما حصْره، فقط، في سيرورة إعادة إنتاج الثقافة السائدة في المجتمع؟
يندرج اهتمام الباحث"حدية"بِذَيْنَكَ المفهومين ضمن المسأليات الكبرى للمجتمع المغربي، وأبرزها إشكالية التغيرالاجتماعي؛ ومعيقات التنمية؛ بحسبان أزمة المجتمع المغربي تتمثل أساسا في فشل الاستراتيجيات التنموية المنتهجة لعقود طويلة؛ بحيث أفْضَت إلى مأزق عام هَمَّ الثقافة؛ فامتد إلى الهياكل التنشئوية، ثم طَالَ البُنَى المكونة للهوية.
سَاءَلَ الأستاذ"المصطفى حدية"المنظورات التي اتخذت التنشئة الاجتماعية موضوعا لها سواء في مجتمعات الجنوب المتخلفة؛ أو في العالم الغربي فائق التصنيع، 56 ليعمد إلى خلخلة مقارباتها الخطية التبسيطية، ودحض مناولتها الميكانيكية الضيقة للمفهوم 57 الذي حسبته تَعَلُّماً للحياة؛ وحَصَرَتْه، فقط، في اكتساب الفرد للمعايير، والقيم، والأنماط السلوكية التي تسعفه على الاندماج في مجتمعه.58 والحال أن التنشئة تسهم في بناء الهوية النفسية الاجتماعية وتشكيلها 59 وذلك عبرعملية استدخال ثقافة المجتمع لتضحى جزءا من الشخصية وتعبيرا عن هويتها.
وبصيغة مغايرة، إن الفرد خلال مسلسل تنشئته يصنع كيانه، ويشكل طرق تفكيره، ويبني نسق تمثلاته حول ذاته، ويشيد أساليب تواصله وتفاعله مع الغير، واستراتيجيات تأقلمه مع وسطه الاجتماعي.
وبمعنى كهذا، تغدو التنشئة تعلما اجتماعيا، ومسارا يعكس اكتساب خبرات، وقيم، وأدوار متسقة، ومقتضيات، وشروط التوافق، والاندماج في بيئة بعينها. وهذا ما يُجْلِيه النص الآتي: "التنشئة الاجتماعية عملية ضرورية في الربط بين الفرد والمجتمع، أي آلية أساسية تمكن الفرد من التكوين الاجتماعي ككائن إنساني حيث تساهم في سيرورة توافقه وتكيفه من أجل اندماجه مع الآخرين. إنها بعبارة أخرى، عملية نمو الشخصية والهوية في علاقتها بالمحيط الاجتماعي الذي يعتبر بالنسبة إليها وسيطا اجتماعيا، عملية تعلم وتعليم وتربية تقوم على التفاعل الاجتماعي، هادفة إلى إكساب الفرد هوية وسلوكا ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة تيسر له الاندماج في الحياة الاجتماعية"(=التشديد مني)60.
نُحَصِّلُ إذن أن التنشئة الاجتماعية سيرورة منتظمة ودؤوبة على امتداد الحياة؛ قُصُودُها تحقيق التفاعل، والاندماج الاجتماعي للذات الفردية، 61 وإكسابها شخصيتها من خلال استيعاب القيم، والمعايير، والتمثلات الاجتماعية 62 ولكن بأية كيفية يحصل ذلك في ظل تشكيلة اجتماعية واقتصادية معالمها غير واضحة، وثقافتها هجينة؟ وماهي العوامل المُعَثِّرَة لمسار التنشئة الاجتماعية، والمعرقلة لبناء الهوية الفردية؟
خامسا: تنشئة ملتبسة و"هوية سلبية"
في دراسته الميدانية الأساسية الموسومة ب"التنشئة الاجتماعية والهوية" 63، انتهى"المصطفى حدية"إلى القول بأن مجتمعنا يواجه سيرورة تنشيئية مُشَوًّهَة، إن لم نقل مُمَزَّقَة، أفضت بالمحصلة إلى اتصاف الطفل القروي والحضري معا ب"هوية سلبية"لاعتبارات نجملها ضمن هاته النقط:
1-أن الأغلبية الساحقة من الأطفال القرويين والحضريين الممدرسين يكابدون قساوة الخصاصة الأسرية؛ والبؤس الاجتماعي بكل تمظهراته، 64 ومرارة الإحساس بالدونية، ناهيك عن الكبت، ومشاعر الإحباط النفسي الناجمين عن طبيعة المؤسسة المدرسية المغربية كما عن الشروط المزرية التي تتم فيها مختلف العمليات التعليمية التعلمية؛ إلى حد أن بعض المُدَرِّسين، في العالم القروي تخصيصا، يعتبرونهم، باستثناء أبناء الموظفين،"معاقين ثقافيا"لعدم قدرتهم على مسايرة الدراسة 65 وما لذلك من مستتبعات سلبية على مستوى السلوكات المدرسية والاجتماعية66.
2-على أن وضعية المثاقفة 67 التي خضع لها هؤلاء الأطفال فارتقت، نوعا ما بوعيهم مقارنة بآبائهم، تظل رغم ذلك سطحية لاتُقْدِرُهُم على استدخال القيم والأطر الجديدة؛ ال"مُوَلِّدَة لبنيات جديدة من شأنها إثارة سيرورة التغيرالاجتماعي المأمول".68 فقد لاحظ"المصطفى حدية"أن هاته"الهوية السلبية"التي تسم الأطفال الممدرسين"هوية إصلاحية"تقف عند حدود اتهام، وإدانة الشروط المادية للعيش 69 مع الإبقاء على تقديرمكانة الآباء، ومعتقداتهم واحترام الوسط الثقافي، ودون الاجتراء على حقل المقدس، والأشياء الروحية، والثقافة القروية في مجموعها 70 ذلك أن الأطفال والمراهقين يرفضون واقعهم المادي المستلب والمتخلف، من غير يجنح بهم نقدهم له إلى حد الانفصال التام عنه، والقطع النهائي مع وسطهم الأصلي على اعتبار أن الأمر لايتعلق سوى ب"المطالبة بتحسين شروط الحياة-والعمل على وجه الخصوص-كيما تتحقق تنمية، وتقدم اجتماعي، وثقافي، واقتصادي" 71
3-أضف إلى ذلك أن هذه"الهوية السلبية"التي يبنيها، ويطورها الأطفال، والمراهقون القرويون على السواء، هي هوية تلفيقية، توفيقية بسعيها الحثيث إلى العثور، وبأقصرالطرق، على الأجوبة المباشرة والآنية؛ وبكل الاستراتيجيات الممكنة عن حاجاتها الشخصية المادية، ورغباتها اللحظية المُسْتَعِرَة. 72
تكشف هاته"الهوية السلبية"، بما لايدع مجالا لأي ارتياب، عن تنشئة أسرية غير متكافئة، ومتناقضة، متقطعة، وبالتالي مشوهة داخل تشكيلة اجتماعية واقتصادية مركبة؛ وهجينة لغياب مشروع مجتمعي متوافق عليه، ولحضور الخلط، والالتباس في السياسة التربوية المنتهجة من لَدُنِ الدولة-الأمة وهو ما يكبح التطور الاجتماعي الحقيقي.73
مُنْتَهَى
الاقتراب من المجتمعات العربية عموما، والمجتمع المغربي بالأخص، يندرج ضمن نطاق معرفة آليات اشتغال هياكلها، واستجلاء مكامنها الثقافية هدفا إلى فهم مكامن ثباتها، وكيفيات تغيرها عبر الزمان، وغاية في تفهم شكل هذا التحول؛ والميل المحتمل الذي سوف يتخذه هذا التحول لما يستقبل من الزمان.
فلامِراء من أن التغير الحقيقي يَهُمُّ الإنسان بالأساس، ويَتَقَصَّدُه، بحسبانه مبتدأ ومنتهى كل مشروع غرضه التنمية الشاملة التي تبدو كوابحها، فيما أرى، شتى ومتداخلة، ومُعَسِّرَاتُهَا بنيوية عميقة، لارتهانها بالتركيبة الهجينة/الخِلاسية 74 لتشكيلة اجتماعية واقتصادية بالغة التركيب؛ يَسِمُها تضارب الأفكار، والتمثلات، والمعتقدات الدينية، وتنافر مستويات الوعي، ويطبعها اصطراع الذهنيات بشكل لافت إلى حد أضحى معه مجتمعنا خليطا مزجيا من القيم، والمعايير، والمسلكيات، والأطر المرجعية التي تنتصب حائِلاً فعليا حُيَال كل مسلسل تنشيئي متسق للفرد، وعائقا إزاء عملية بناء هويته بصورة إيجابية درءا لأورام التخلف وأدوائه المزمنة التي يعاضدها الاستبداد البطريركي الكابح لبروز الفرد، وتسندها الأصوليات الكابتة للانفتاح، والعصبيات المُنْشَدَّة إلى ماضٍ تَلِيد، وتكرسها التنشئة الاجتماعية المهلهلة؛ المُنْتِجَة للاستلاب، والمُوَلِّدَة ل"الهوية السلبية"، وتَجَنُّباً للهَدْر بكل معانيه، وحمولاته، ومختلف أضرابه وأشكاله، وانتصارا، بالمُحَصِّلَة، لأُفُقِ الحداثة المأمولة.
وهذا يَجُرُّنا إلى الخُلُوص إلى أن مشروع التنمية الحقيقي إرادة فبناء فإنشاء. والتغيير مطلب لامَحِيدَ عنه، وضرورة ملحة.
وعلى ظننا يغلب أن هذا المُبْتَغَى لن ينجز إلا بالوعي الحاد، ولن يترسخ عدا بالثقافة، ولن يستتب سوى بالإنسانيات رَافِدَة التقدم، والعبور إلى حضارة الموجة الثالثة التي أعلنت قطيعتها مع عالم الصناعة"النيوتوني"لإرساء حضارة قشيبة لم تشهد الإنسانية مثلها من قبل، حضارة تعتمد على الذكاء، وترتكز كلية على استغلال المعرفة إلى أقصى الحدود. 75
إحالات مرجعية:
1-أُشَغِّلُ هنا مفهوم"مُعْتَمَد"بالمعنى الذي يُوَظِّفُهُ المفكر"إدوارد سعيد". يراجع في هذا الصدد:
-سعيد(إدوارد):2007، تأملات حول المنفى، الجزء الأول، ترجمة ثائر ديب، الطبعة الثانية، دار الآداب، بيروت، لبنان، الهامش رقم(2) من الصفحة: 16.
2-فريدلاند(لويس أي)وآخرون:2004، تغطية العالم، ضمن: العولمة، الطوفان أم الإنقاذ؟ الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية، تحرير: فرانك جي. ليتشنر وجون بولي، ترجمة: فاضل جتكر، الطبعة الأولى، المنظمة العربية للترجمة-مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص.ص:508-511 ومابعدها.
3-بركات (حليم):2000، المجتمع العربي في القرن العشرين، بحث في تغيرالأحوال والعلاقات، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص.ص:34-36.
4-بركات(حليم):2006، الاغتراب في الثقافة العربية، متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، مركزدراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص.ص:38-40 وص:57.
5-بركات(حليم):2000، المجتمع العربي...مرجع مذكور، ص.ص:36-37 وص.ص:63-64.
6-بركات(حليم):2006، الاغتراب...مرجع مذكور، ص:60.
7-بركات(حليم): 2008، المجتمع العربي المعاصر، بحث في تغير الأحوال والعلاقات، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص:553.
-وبركات(حليم): 2006، الاغتراب...مرجع مذكور، ص:62.
8-نصار(ناصيف):1979، طريق الاستقلال الفلسفي، الطبعة الثانية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ص:77 ومابعدها.
9- شرابي(هشام):[د.ت]، الجمر والرماد، ذكريات مثقف عربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ص: 167.
10-نفسه، ص.ص:167-168.
11- شرابي(هشام):1990، النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص:9 وص:11.
12-شرابي(هشام):1992، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ترجمة محمود شريح، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ص:15.
-وشرابي(هشام):1987، البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، دارالطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ص.ص:19-20 وص:22.
13-حجازي(مصطفى):2005، الإنسان المهدور، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، المغرب، ص:202.
14- شرابي(هشام):1991، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الطبعة الرابعة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ص:39 وص.ص:47-48-49.
15-حجازي(مصطفى):1984، التخلف الاجتماعي، سيكولوجية الإنسان المقهور، الطبعة الثالثة، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان، ص:29.
16-حجازي(مصطفى):2019، العصبيات وآفاتها، هدر الأوطان واستلاب الإنسان، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء،المغرب، ص.ص:33-34، ص:36 و ص:168.
17- حجازي(مصطفى):2005، الإنسان المهدور، مرجع مذكور..ص.ص:183-184.
18-حجازي(مصطفى):2019، العصبيات...مرجع مذكور، ص:36.
-وحجازي(مصطفى):2005، الإنسان المهدور،...مرجع مذكور، ص.ص:183-184.
19-حجازي(مصطفى):2005، الإنسان المهدور، مرجع مذكور، ص:14- ص:38- وص:210.
-وحجازي(مصطفى):1984، التخلف الاجتماعي، سيكولوجية...مرجع مذكور، ص.ص:47-48 ومابعدها.
20-حجازي(مصطفى):2019، العصبيات وآفاتها...مرجع مذكور، ص:48.
21-حمودي(عبدالله):2004، مصير المجتمع المغربي، رؤية أنثروبولوجية لقضايا الثقافة والسياسة والدين والعنف، (حوارات)، دفاتر وجهة نظر-5-المغرب، ص.ص: 17-18.
22-نفسه، ص.ص:15-16.
23-حدية(المصطفى):2022، قضايا في علم النفس الاجتماعي، طبعة مزيدة ومنقحة، منشورات المجلة المغربية لعلم النفس، المغرب، ص: 223.
-Cf :Haddiya(El Mostafa):1981, Le migrant marocain au marché, Approche psychosociologique du problème de la comunication et de son influence sur son intégration sociale, Thèse de 3è cycle, Faculté des Lettres, Nice, France, 331 pages.
24-حدية(المصطفى):2022، قضايا...مرجع مذكور، ص:223.
25-السباعي(خلود)وآخرون:2021، قراءة في كتاب: "قضايا في علم النفس الاجتماعي"، ضمن: علم النفس الاجتماعي في سياق المجتمع المغربي، شهادات ومداخلات وأبحاث حول أعمال البروفيسور د.المصطفى حدية، تنسيق وتقديم: المصطفى شكدالي، الطبعة الأولى، المجلة المغربية لعلم النفس، مؤسسة باحثون للدراسات، ص:105.
26-حرب(علي):2000، حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، المغرب، ص:37.
27-Haddiya(El Mostafa):1995,Processus de la socialisation en milieu urbain au Maroc, Publications de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines, Rabat, Université Mohammed V (Maroc), Série : Essais et Études, Numéro:11, Imprimerie Najah El Jadida, Casablanca, pp:100-101.
-وأيضا: حدية(المصطفى):2006، التنشئة الاجتماعية بالوسط الحضري بالمغرب، ترجمة: محمد بن الشيخ، تقديم ومراجعة: عبد الكريم بلحاج، مطبعة ربا نيت ماروك، الرباط، المغرب،ص.ص:100- 101.
28-Haddiya(El Mostafa):1995, Op.Cit, pp:100-101.
29-حدية(المصطفى):2022، قضايا في علم النفس...مرجع مذكور، ص:194.
30-نفسه، ص:225.
31-السباعي(خلود)وآخرون:2021، قراءة في كتاب...مرجع مذكور،ص:105.
32- محسن(مصطفى)وآخرون:2021، في مديح"الاختلاف"الذي يصنع "الائتلاف"، ملامح من سردية مُعَايشَةٍ فكرية وإنسانية لعالم النفس الاجتماعي أ.د.المصطفى حدية، ضمن:علم النفس الاجتماعي في سياق المجتمع المغربي، مرجع مذكور...ص:16.
33-السباعي(خلود)وآخرون:2021، قراءة...مرجع مذكور،ص:106.
34-محسن(مصطفى)وآخرون:2021، في مديح...مرجع مذكور...ص:16.
35-نفسه، ص:11.
36-نفسه، ص:14.
37-نفسه، ص.ص:14-15.
38-نفسه، ص:14.
39-حدية(المصطفى):2018، الشباب وتحديات الاندماج في مجتمع المعرفة، مطابع الرباط نت، الرباط، المغرب، ص:7.
40-شكدالي(المصطفى)وآخرون:2021، البروفيسور المصطفى حدية، معين لاينضب لتأصيل علم النفس الاجتماعي وترسيخه في سياق المجتمع المغربي، ضمن: علم النفس الاجتماعي في سياق...مرجع مذكور، ص.ص:7-8.
41-حدية(المصطفى):2022، قضايا في علم النفس...مرجع مذكور، ص: 4.
42-نفسه، ص:6.
43-حدية(المصطفى):2018، الشباب وتحديات...مرجع مذكور، ص:7.
44-شكدالي(المصطفى)وآخرون:2021، مرجع مذكور، ص.ص:7-8.
45-Berman(Marshall):1981, All that is solid melts into air. The experience of Modernity, New York, pp:106-107 and sq.
46-Bachelard(Gaston):1934, Le nouvel esprit scientifique, P.U.F, France, p:30.
47-Merton(Robert King):1997,Éléments de théorie et de méthode sociologique, traduits de l’américain et adaptés par Henri Mendras, Armand Colin, Paris, France, 384 pages.
-Et: Mills(C.Wright):1967, L’imagination sociologique, Petite collection Maspéro, Paris, France, 252pages.
48-حدية(المصطفى):2022، قضايا في...مرجع مذكور، ص:231.
49-Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation et Identité, Étude psychosociologique de l’enfant rural scolarisé, Deuxième Edition, Rabat, Maroc, Voir: Marge numéro: 3 de la page:160.
50-Ibid, p:18
51- حدية(المصطفى):2013، دراسات حول الطفولة والشباب، مقاربة نفسية اجتماعية، طبعة ثانية مزيدة ومنقحة، مطابع الرباط نت، المغرب، ص:50.
52-حدية(المصطفى):1982، حول التنشئة الاجتماعية للطفل القروي، دراسة منشورة في مجلة"الدراسات النفسية والتربوية"(العدد الثاني)، الدارالبيضاء، المغرب، ص:48.
53-نفسه، ص:48.
53- كدراسات الأساتذة عبد الواحد الراضي، ومحمد جسوس، وعبد الله زيوزيو، انظر: حدية(المصطفى):1982، حول التنشئة الاجتماعية... مرجع مذكور، ص:48.
54-Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation et Identité…Op.Cit, p:12.
55- حدية(المصطفى):1982، حول التنشئة الاجتماعية للطفل القروي...مرجع مذكور، ص:48.
56-Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation..Op.Cit.p:3.
57-حدية(المصطفى)وآخرون:1992، التنشئة الاجتماعية بين الأسرة والمدرسة في الوسط القروي، ضمن: الأسرة والطفل في المجتمع المغربي المعاصر، منشورات عكاظ، الرباط ، المغرب، ص:102.
58-Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation et Identité...Op.Cit, pp:5-6.
-وأيضا: حدية(المصطفى):2013، دراسات حول الطفولة والشباب...مرجع مذكور، ص:74.
59-Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation et Identité..Op.Cit, pp:8-10.
60-حدية(المصطفى):2022، قضايا في علم النفس...مرجع مذكور، ص.ص:202-203.
61-حدية(المصطفى):2022، قضايا في علم النفس...مرجع مذكور، ص:202.
62-حوار د.المصطفى حدية مع"جريدة الاتحاد الاشتراكي"أجري يوم: 6-2- 2015.
63-Cf: Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation...Op.Cit.
Et: Haddiya(El Mostafa):1995, Processus de la socialisation…Op.Cit.
64-Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation…Op.Cit, p:143 et p:177.
65-حدية(المصطفى):1992، التنشئة الاجتماعية بين الأسرة والمدرسة...مرجع مذكور، ص.ص:104-105.
66-Haddiya(El Mostafa):2022, Socialisation…Op.Cit, pp :186-187.
67-Ibid, p:194.
68-Ibid, p:195.
69-Ibid, p:173 et p:177.
70-Ibid, p:154, p:188, et p:204.
71-Ibid,p:164.
72-Ibid,p:194.
73-Ibid, p:198.
74-Bourqia(Rahma):2001, Identité, globalisation et hybridation, Réflexion sur les frontières culturelles de la société marocaine, In: Mohamed Berriane et Andreas Kagermeier(éds): Le Maroc à la veille du troisième millénaire-Défis, Chances et risques d’un développement durable. Actes du 6è colloque Morocco allemand du paderborn 2000, Rabat, pp:160-161.
75-Toffler(Alvin et Heidi):1995, Créer une nouvelle civilisation: la politique de la troisième vague, traduit de l’anglais(Etats-Unis)par P.E.Dauzat, M.Deutsch, A.Charpentie, J.Chicheportiche, Fayard, France, pp:39-41 et pp:49-50.