"أليس الأدب(كما الفلسفة) مجابهة لا تملّ لوضعية إلغازية هي وضعيتنا؟"
" الشعراء والمفكرون" هم بالتحديد أولئك الذين هم في مقدورهم تذكيرنا بكثافة العالم ووضع المألوف الظاهر والمسلّم به في علاقتنا بالعالم ، موضع السؤال."م. بلانت
"ينمّي الأدب والميتافيزيقا إذن خطابهما انطلاقا من هذا العدم الذي، مع ذلك يدفعنا إلى التفكير؛ أحدهما من خلال العبثي والشعريّ، في الرجّة التي يحدثها فينا، والآخر من خلال الدهشة الفلسفية ، التي تفهم بوصفها الشرارة التي تُلهب الفكر وتقذف به في غرابة وضعيته، باستثارة التساؤل الموجّه صوب العالم وصوب الكائن."م. بلانت

***

" كتب دوستويفسكي برهافة حسّ أنّه:" إذا ما سمح العالم لوحش بتعذيب طفل ، فلن أجادل الإله ، بل سأعيد له تذكرتي. " هذه الجملة التي جاءت على لسان إيفان كرامازوف، تصوّر برقّة أبعاد ما نسمّيه بكلّ أريحية منذ ألبار كامي عبثية الوجود البشري. وليس من قبيل الصدفة أن التفكير في العبثية قد كان في البداية تفكيرا في العدالة. لكن هل يمكن لمثل هذا التفكير أن يتجنّب التحوّل إلى استفهام لاهوتيّ وأن يضع موضع السؤال حتى لطف - إن لم يكن وجود- الله، طالما قد صار من المستحيل تجاوز المأزق بشأن أحداث مفزعة و مفجعة تجرح في الإنسان شعوره بالإنصاف الأشدّ أولية؟ وبما أننا قد جعلنا للإله مَهمَّة تحقيق العدالة ، فهل بالإمكان تجنّب انهياره كأصل لمعنى كلّ الأشياء حينما أضحى من البيّن أنّ المبادئ اللاهوتية حتّى لا تستطيع بصورة معقولة أن توفّر تفسيرا للواقع دون أن تتناقض مع ذاتها؟
لا يمكننا مع ذلك أن نتغافل عن وجود أشكال من العبث تبدو قد تخلصت من النسبة إلى تفرّد الوضع البشري. لكن تظهر هذه الأشكال - التناقضات المنطقية والنحوية والتركيبية - في حياتنا اليومية بوصفها أخطاء واستثناءات وأمور غير منتظرة ومزعجة، يتعلّق الأمر بتجنّبها واستبعادها بأقصى سرعة ممكنة من الفضاء الحواري والعقلاني بوصفها مخالفات لا معنى لها. وقد يكون من المفيد بالفعل التذكير بأن أول أهداف فلسفات اللغة ومشاريع أخرى للغة الصورية هو استبعاد إمكانية ورود لامعنىnon-sens وقضايا باطلة، وتعتبر هذه الأخيرة قضايا إشكالية من حيث أنها تُلقي غموضا على الحقل الخاص للتفاهم والفهم والفكر. إذن حينما ننظر في ذلك عن قرب ، يبدو أن جميع أشكال العبث تجتمع وتلتحق بالمنبوذية l’ostracisme التي تصدمها وتنفي عنها كلّ قيمة وضعية أو خلاّقة. يصبح العبث ، - في كلّ المجالات ماعدا ربّما في الفكاهة - ، اللاقيمة non-valeur بامتياز، والخطاب الهذياني و الملتبس أو غير المعقول؛ وفي أفضل الحالات المضحك ، وإلاّ كان خطابا مُدانا وموضع ارتياب دائما. يبدو إذن أنّ العبث " الوجودي" والعبث " المنطقي" يجتمعان في نمط باريدغماتي لغياب المعنى. من هنا نبحث عن تمعين شيئين في آن واحد:1) غياب الوجهة التيلولوجية ( الغائية)، لغائية مرسومة وثابتة . نلاحظ إذن ، على نحو ساخر، بأنّ العبث ، سواء كان وجوديا أو منطقيا، يظلّ تابعا داخل نسق ذهني، في حين أنه يجب عليه أن يكون ذاك الذي يخترق ويعيد النظر في القدرة المطلقة للمعنى. تزعم الفلسفة على هذا النحو بأنها استنفدت مقولة العبث. لكن، في الحقيقة، هل فعلت شيئا آخر غير تحييدها؟ هل توصلت الفلسفة حقّا إلى التفكير فيما يحمل على التفكير في العبث ؟ ألا تعلمنا تجربة الأدب أنه يوجد شيء من العبث ينفلت عن قراءته الفلسفية الخالصة؟ ما هو هذا الإفراط وإلى ماذا يشير؟

أجرى آلان براكونييه Alain Braconnier حوارا مطولا مع جوليا كريستيفا Julia Kristeva لفائدة الموقع الاكاديمي cairn.info الذي نشره يوم فاتح يناير 2010. قبل الاطلاع على فحوى هذا الحوار، يستحسن التعريف بضيفة الموقع في سطور.
ولدت الكاتبة واللغوية والمحللة النفسية الفرنسية جوليا كريستيفا في بلغاريا. هاجرت إلى باريس للحصول على الدكتوراه، وانضمت إلى مجموعة تيل كيل (Tel Quel) بقيادة فيليب سولرز، وتابعت دروس جاك لاكان. بصفتها مُنظِّرة لغوية، درست اللسانييات والأدب في جامعة باريس 7 - دينيس ديدرو Dénis-Diderot وفي جامعة كولومبيا في نيويورك. في الوقت نفسه، عملت كمحللة نفسية وكاتبة. وهي مؤلفة لنحو ثلاثين كتابا كلها مترجمة إلى حوالي ثلاثين لغة، بما في ذلك "سيميوتيكي. بحث من تحليل سيمنطيقي" (1969)، "قوى الرعب. مقالة عن الحقارة" (1980)، "قصص حب" (1983)، "في البدء كان الحب. التحليل النفسي والإيمان" (1985)، "شمس سوداء. الاكتئاب والحزن" (1987)، "غرباء عن أنفسنا" (1988)، "الساموراي" (1990)، "أمراض الروح الجديدة" (1993)، "المؤنث والمقدس" (1998، مع كاثرين كليمان)، "الزمن المحسوس. بروست والتجربة الأدبية" (1994)، "المعنى والامعنى في التمرد" (1996)، "التمرد الحميمي" (1997)، "رؤى أساسية" (1998)، "العبقرية الأنثوية" (3 مجلدات: حنة أرندت، 1999؛ ميلاني كلاين ، 2000؛ كوليت 2002)، "جريمة قتل في بيزنطة" (2004)، "الكراهية والصفح" (2005). تعمل جوليا كريستيفا حاليا أستاذة في المعهد الجامعي الفرنسي وحصلت على جائزة هولبرغ (التي تعادل جائزة نوبل في العلوم الإنسانية) في عام 2004.

آلان براكونييه: كتابك الأخير، "الكراهية والصفح"، يستعرض ويكمل المواضيع الأربعة الرئيسية التي سبرت غورها منذ أولى أعمالك في التحليل النفسي: دور اللغة، والسرد والكتابة، ومسألة المؤنث، إلى حد كبير لم تكتمل من قبل فرويد وحتى تلميذاته من المحللات النفسيات، الأسئلة التي يثيرها الدين وظاهرة الإيمان، وأخيرا المساهمة المعاصرة للتحليل النفسي. هل يمكنك إنشاء خط شخصي يسمح لقرائنا بفهم الروابط التي سمحت لك بالاعتكاف على مواضيع بحث مختلفة بشكل متتابع ومشترك؟

جوليا كريستيفا: طموح فرويد هو، في الأصل وبشكل أساسي، علاجي: عبقريته النظرية، وثقافته الواسعة كيهودي التي جعلت أفكار التنوير (Aufklärung) في حوزته، ساهم غالبا في نسيان ذلك. في مواجهة هذيان الكائنات الناطقة التي نكونها، يكتشف أن الرغبة هي الموجة الحاملة، وأن في هذا التذاوت الغرامي الذي سيكون هو التحويل، تبقى اللغة هي أفضل وسيلة والوسيلة المثلى (الوحيدة؟ ) التي تسمح لكل واحد منا بإعادة بناء هوياتنا الهشة والمهددة دوما. إذا لخصت التشاؤم الفرويدي والتزامه العلاجي بهذه الطريقة، فذلك أيضا من أجل تحديد نطاق وحدود منهجه، منهجنا.

الترجمة:
سؤال إيمانويل رينو:
لقد أعطت نظرية مدرسة فرانكفورت النقدية في الستينيات والسبعينيات، وحتى مع نظرية العمل التواصلي ليورغن هابرماس (1981)، أهمية كبيرة للنظرية الاجتماعية. كيف يمكنك تحديد مشاريع النظرية الاجتماعية التي تم تطويرها وتنفيذها خلال هذه العقود من قبل تيودور أدورنو ويورغن هابرماس على وجه الخصوص؟ وكان لهذه المشاريع، من بين أمور أخرى، وظيفة التغلب على فصل الفلسفة عن العلوم الاجتماعية. هل حققوا ذلك؟

جواب أكسل هونيث:

أنت على حق تماما. خلال هذه الفترة، كان أحد الافتراضات الأساسية هو أن المشروع الشامل للنظرية النقدية يجب أن يرتكز على نظرية اجتماعية قوية. ومع ذلك، في رأيي، فإن النظرية الاجتماعية التي كانت مفترضة مسبقًا في كتابات أدورنو عانت من غياب النظر في العمليات التواصلية التي يستطيع الفاعلون من خلالها تحقيق فهم متبادل للمعايير التي تحكم تفاعلاتهم - وقد سعيت إلى إظهار ذلك في الفصول الأولى من كتابي "نقد السلطة" الذي تُرجم للتو إلى الفرنسية. أعتقد أن هذا "العجز السوسيولوجي" للنظرية الاجتماعية لمدرسة فرانكفورت قد استوعبه بالفعل هابرماس عندما ألهمه التقليد المعياري لإميل دوركهايم وتالكوت بارسونز لبناء نظريته الاجتماعية الخاصة. ولا أزال أعتقد أن نظرية الفعل التواصلي، رغم حدودها وأخطائها، تشكل المحاولة الواعدة لتأسيس نظرية اجتماعية يمكن أن تخدم طموحات النظرية النقدية. يتم التقليل من أهمية هذا الكتاب بشكل غير عادل اليوم على الرغم من أنه يستحق اعتباره مساهمة في النظرية الاجتماعية لا تقل أهمية عن تلك التي قدمها إميل دوركهايم وماكس فيبر وتالكوت بارسونز.

سؤال إيمانويل رينو:

 نقد السلطة، الذي ذكرته للتو والذي يشكل كتابك الأول، صدر عام 1985 في طبعته الأولى. لقد تدخل في سياق لا تزال فيه المناقشات المتعلقة بالنظرية الاجتماعية ذات أهمية كبيرة بالنسبة لأولئك الذين يدعون أنها نظرية نقدية. لقد طورت نظريتك في الاعتراف في السنوات التي تلت ذلك، وهي السنوات التي بدأت خلالها النظرية الاجتماعية تفقد جاذبيتها. هل يمكنك العودة إلى هذا السياق الجديد وحالة المناقشات المتعلقة بالنظرية الاجتماعية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات؟

تؤدي الملفوظات اللغوية وظائف متنوعة. إحدى هذه الوظائف هي الإحالة على العالم. تتحقق هذه الوظيفة عن طريق الجمل الوصفية. وإذا كان الخطاب التخييلي بدوره خطابا وصفيا، من وجهة نظر لسانية محضة، فإنه مع ذلك بعيد عن أن يكون خطابا مرجعيا، لأن جمله لا تحيل على مراجع "واقعية". لكن هذه الصيغة هي بمثابة تحديد سلبي خالص وغير مقنع للتخلييل : إن المشكل الأساسي الذي يجب أن تواجهه كل نظرية ليس هو أن تبين لنا ما لا يفعله الخطاب التخييلي، بل هو أن تقترح تفسيرا لكيفية اشتغاله بطريقة إيجابية (تعوض وظيفة الإحالة على أشياء "واقعية").
التخييل والمرجعية
من وجهة نظر منطقية، وبالتحديد من وجهة نظر الالتزام بالواقع، فإننا نحدد الخطاب التخييلي باعتباره فارغ الدلالة المباشرة. إن العناصر اللسانية التي تؤدي في الخطاب ذي البعد العملي وظيفة الإحالة المباشرة (الوصف الدقيق، أســماء الأعـــــلام، أســــــماء الإشارة ، المشيرات الخ) هي في أغلب الحالات على الأقل فارغة من حيث الدلالة المباشرة. من وجهة نظر فريجه ، فإن الملفوظات التخييلية تحمل معنى ولكن لا مرجع لها : "حينما نستمع مثلا لقصيدة ملحمية، فإن ما يثيرنا فيها، عدا إيقاعها اللفظي، هو أساسا معنى الجمل، وكذا الصور والمشاعر التي تثيرها. وإذا طرحنا سؤال الحقيقة ، فإننا سنهمل جانب المتعة الجمالية وسنلتفت صوب الملاحظة العلمية". هذا التحديد للتخييل كخطاب عديم الدلالة المباشرة تم قبوله عمليا من طرف كل المناطقة، لكن ن. كودمان (1968) أكد على أن الأمر يتعلق هنا بحقيقة ضرورية ولكنها غير كافية بالنسبة للتخييل، وإلا لكانت الملفوظات الخاطئة (وحتى الكاذبة) كلها ملفوظات تخييلية. بل لا يمكن حتى أن نقول إن كل الملفوظات الخاطئة التي توجد في النصوص الأدبية (بالمعنى الجمالي والمؤسسي للكلمة) هي ملفوظات تخييلية. ففي عمل أدبي ذي طبيعة عملية، كالسيرة الذاتية مثلا، فإن الإحالة المباشرة الفارغة سوف تعتبر خطأ أو كذبا ، لا ملفوظا تخييليا. أضف إلى ذلك أن المحكيات التخييلية التي كل ملفوظاتها ملفوظات ذات إحالة مباشرة فارغة هي حالات نادرة: فالرواية التاريخية تستمد الجزء الأكبر من جاذبيتها من الطريقة التي تمزج بها الملفوظات ذات المرجعية المباشرة القوية مع الملفوظات ذات المرجعية المباشرة المنعدمة، والتي تشكل الإطار العام للمحكي. يمكن أن نستنتج أن خصوصية التخييل تكمن قبل كل شيء في كون إحالته المباشرة الفارغة معلنة بشكل صريح (كودمان) أو واردة كافتراض ضمني مفاده مثلا أن لا فرق بالنسبة لنا أن يكون لاسم "يوليوس" مرجع أم لا (فريجه). ومن هنا يصبح ضروريا أن نأخذ بعين الاعتبار مكونا تداوليا في تعريف التخييل (انظر أدناه).

انطلاقا من قلق فلسفي ما فتئ ينتابني بخصوص مصطلح "الأنثروبومورفية" وفي محاولة لاستكشاف نطاق دلالته، توقف مؤقتا مسعاي في هذا الصدد عند حد الأنسنة التي يضفيها الإنسان على الحيوان. ومن أجل إشراك القارئ الكريم في اكتشاف هذا الحيز من القارة التي تشملها الأنثروبومورفية، تجشمت عناء ترجمة مقال جان كلود بودان.

ارتبطت الأنثروبومورفية بصحافة سيئة ويُنظر إليها على أنها ساذجة في أحسن الأحوال. إن الاهتمام بالحيوانات لا يعني إسناد قدرات الإنسان ومهاراته إليها، ولا يعني الغرق في سخافة الحديث معها كما يحدث مع الإنسان. في كتابه ألف باء "A مثلما في Animal"،* يميز جيل دولوز بين صنفين من العلاقات بالحيوان، العلاقات الإنسانية والعلاقات الحيوانية. إن تبني علاقة إنسانية أمر ممكن فقط مع الحيوانات الأليفة أو بالأحرى العائلية، التي تدعم الإسقاطات الرمزية للتحليل النفسي. إن حب الحيوانات الأليفة يؤدي إلى هذا السلوك غير المحتمل المتمثل في التحدث إليها وإقامة مجتمع معها ينكر حيوانيتها. إن الإسناد الأنثروبومورفي مطلوب بالضرورة في هذا الموقف. ويعارض دولوز هذه العلاقة التي تأخذ في الاعتبار وجود العوالم الحيوانية وخصوصيتها. يتضمن التواصل مع الحيوانات تحديد وقراءة العلامات التي من خلالها تبني الحيوانات عالمها الخاص. تحل السيميولوجيا وعلم سلوك الحيوان محل علم النفس التناظري التلقائي. يؤكد دولوز على أن الصيادين، الصيادين الحقيقيين، يصبحون حيوانات بطريقة ما عندما يتعرفون على آثار الحيوانات ويتفاعلون معها، ويتصرفون بطريقة حيوانية مع الحيوانات.

ولكن يمكننا أن نقول إن الأنثروبومورفية ليست مشكلة إذا سلمنا بأنه لا توجد طريقة أخرى للحديث عن الحيوانات والتحدث إليها سوى استخدام لغتنا الطبيعية ومقولاتها. والحال أن من يتصرف بهذه الطريقة لا يدعي إذا سئل أنه يؤمن بمعنى الكلمات التي يستخدمها. فكما تظل لغتنا بطلمية بينما علمنا كوبرنيكي عندما نقول أن الشمس تشرق، كذلك القول بأن الحيوان ذكي لأنه حسب طريقه للهروب من الفخ لا يحمل بالضرورة مذهبًا عن ملكات تشبه ملكاتنا. ومن المؤكد أن الذي ينجو من شبهة الأنثروبومورفية هو الديكارتي، المؤيد للآلة الحيوانية. لا يمكن أن يكون هناك أي غموض: إذا قلت إن قطة معينة تفكر في تغطية برازها، فأنا أعلم أنها لا تفكر في ما تفعله، ولكنها تنتج فعلًا يحدده جهازها العصبي آليا، وما إلى ذلك. والدليل أنها لا تكاد تغطيها بالكامل. الميزة الإبستيمولوجية لهذه النظرية هي أنها تطيع قانون مورغان للبخل الذي يأمرنا بعدم اللجوء إلى ملكات عليا عندما يمكننا الاستغناء عنها لتفسير السلوك. لكنها بدورها تصبح عرضة للسخرية إذا تعهدت، بدعوى الاستغناء عن المفاهيم ذات الأهمية الإنسانية، بوصف صرخة كلبة تم ركلها للتو بالقول إن ما نسمعه صرير نوابض معدنية.

(...) نحتفظ بالخصوص من بين هذه السمات العامّة للخطاب، بالعلاقة بين فعل الخطاب ومحتواه، بقدر ما تحتوي هذه العلاقة الجدلية الأكثر بساطة لتخارج و موضعة  الخطاب. تَتْبَعُ هذه الجدلية استقلاليةُ مختلف أشكال الخطاب المعروفة تحت مسمّى " الأجناس الأدبية ". وباختصار: مهما قيل، فإنّ ذلك يقف بعدُ في مسافة معينة إزاء فعل الخطاب أو حدث الكلام. تتّسع مسافة مماثلة بين الخطاب والمتحدّث، بين البنية الداخلية والمرجعية الخارج - لسانية، وبين الخطاب ووضعيته الأصلية وفي النهاية بين المتحدّث والإنصات الأوليّ. هنا يبدأ مشكل التأويل.  ولا ينحصر هذا المشكل في النصوص المكتوبة، بل يبدأ بالجدلية الدقيقة الحاضرة بعدُ في اللغة الشفهية، والتي بفضلها تتخارج هذه الجدلية، وتتمفصل وتُثُبّتُ في أشكال مختلفة من الخطاب.  والأهمّ من هذا الاستنتاج الأول أيضا، هو اعتبار هذه الأشكال ذاتها، أي الأشكال التي، تسمّى في النقد الأدبي" أجناسا". غير أنّني أفضل الحديث عن أشكال من الخطاب للتأكيد على الدور الذي تلعبه هذه الأنماط الألسنية في إنتاج الخطابات. وبالفعل، يتضمن النقد الأدبي تحت عنوان " الأجناس" ، مقولات تساعد النقد على تبيّن السبيل داخل التنوّع اللامحدود للنصوص. بيد أن أشكال الخطاب هي أكثر من أدوات تصنيف؛ هي أدوات إنتاج. من هنا أفهم بأن أشكال الخطاب هي مصفوفات matrices بواسطتها يُنْتَج الخطاب بوصفه عملا. إلاّ أن هذه السمة للخطاب لم يلاحظها الفلاسفة إلاّ قليلا، لأنّها  تستخدم مقولات لا تتعلق أوّلا بمجال اللغة، بل بمجال البراكسيس، بمجال الإنتاج والخلق. لكن، هذا هو الحال بالضبط: الخطاب عمل، منظّم وفق وحدات أو كليات totalités من الدرجة الثانية، مقارنة بالجملة بما هي وحدة  دنيا للخطاب وبالتالي بما هي وحدة من درجة أولى. يسمّي أرسطو في الخطابة هذه المقولة الأساسية " الوضع"- تاكسيس taxis ؛ ويضعها بين " الاكتشاف" « découverte » ( الحجج) - – heurèsis وبين " الإلقاء" « diction » - lexis. وبفضل هذا " التاكسيس" ( الوضع) ، يوفّر النص المنطوق أو المكتوب نسيجا يجب على بنيته أن تُؤَوّل. إنّ تأويل نصّ يعني دائما أكثر من ضمّ معاني جمل معزولة.  يجب أن نمسك بالنص بما هو كليّة من وجهة نظر تراتبيّة "الطوباي" topoï أي الخطابات التي تكوّنه. يجب أن تردّ وظيفة الأجناس الأدبية إلى هذا المفهوم للنص بوصفه كليّة ، وحدة كلية totalité  - أو ، مثلما سنقول من هنا فصاعدا، وظيفة مختلف أشكال الخطاب : سرد ومثل سائر أو حكمة ، الخ. ومثلما تمارس القوانين النحوية وظيفة توليديّة وتنتج الخطاب بوصفه جملة، فإنّ للرموز الأدبية codes littéraires أيضا في مستواها، وظيفة توليديّة. فهي تولّد الخطاب بوصفه سردا أو بوصفه هذا الخطاب أو ذلك. وبهذا المعنى فهي في حاجة إلى شعريّة توليديّة ستتوافق، على مستوى "التاكسيس" ("الوضع") الأرسطي ، مع " النحو التوليدي " لتشومسكي .

في 7 أكتوبر 2023  شنت حركة حماس وفصائل المقاومة بقطاع غزة، عمليات عسكرية أطلق عليها اسم: الطوفان الأقصى، هذا الموقف العسكري الذي أقدمت عليه حماس، جاء ردا على سلسلة اعتداءات إسرائيلية وممارستها الوحشية، وسط تأييد صهيوني عالمي وسكوت عربي إقليمي.

تحت نيران مكثفة استهدفت سكان مدنيين، ظهر بيان تنديدي من قبل ثلة من الفلاسفة الغربيين، في البداية ساد الاعتقاد أن هذا البيان جاء في سياق فعل تضامني وواجب أخلاقي، غرضه التنديد بجرائم يرتكبها مُحتل غاصب، لكن البيان كان له رأي آخر، حيث هاجم المقاومة الفلسطينية ونعتها بأبشع النعوت، وأسقط عنها حق الدفاع عن نفسها، وفي المقابل انتصر بيان الفلاسفة إلى مشاعر الاستقواء الإسرائيلي، ودعم حقه في الاعتداء ضدا على المواثيق الدولية وأشكال التضامن العالمي.

يحمل البيان، الذي نتحدث عنه، توقيع كل من يورغن هابرماس، و راينر فورست، وكلاوس غونتر، ونيكول ديتلهوف، حيث جاء فيه: "إن المجزرة التي ارتكبتها حماس والمصحوبة بنيتها المعلنة لإبادة الحياة اليهودية بشكل عام، كانت سببا في دفع إسرائيل إلى الانتقام بهجوم مضاد". وقد اعتبر البيان أن الهجمات الإسرائيلية مبررة من حيث المبدأ الأخلاقي.

في نفس السياق، بادرت الفيلسوفة سيلا بن حبيب بالرد على رسالة مفتوحة وقعها مئات الفلاسفة من أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا، من بينهم  جوديث بتلر (جامعة كاليفورنيا، بيركلي)، إتيان باليبار (جامعة كينغستون)، دوناتيلا ديلا بورتا (سكولا نورمال سوبيريور)، نانسي فريزر (المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية)، إدواردو مينديتا (جامعة ولاية بنسلفانيا)، ألبرتو توسكانو ( غولدسميث، جامعة لندن) جاء في مضمون رسالتها، أن حركة حماس تمارس "إباحية العنف " ضد إسرائيل، وترتكب جرائم الإبادة ضد شعب لا يجب أن يُنظر إليه كمستعمر استيطاني.

حينما يقرر الكاتب العربي التوجه إلى بلدان الغرب للاستقرار وخوض تجربة الكتابة بلغة البلد المضيف، يجد نفسه تلقائيا أمام تحديات كبيرة تؤثر على إنتاجه الأدبي. فتجربة الكتابة في ثقافة ومجتمع جديدين، يجعل الكاتب يتأرجح بين ضفاف الظروف الاجتماعية والثقافية واللغوية المختلفة وفرص محدودة للغاية للتعبير الأدبي. فلا يمكن بأي شكل من الأشكال تفادي هذه التأثيرات التي تلقي بظلالها السلبية على إنتاجه وتجعل من عملية الكتابة تحدًيا صعبًا ومعاناة حقيقية.

بلا أدنى شك، أبرز التحديات التي يواجهها القلم العربي في بلدان الغرب  في بادئ الأمر هي مشكلة اللغة التي تعتبر لغزًا حين يحاول الكاتب التعبير عن تجاربه وأفكاره بلغة ليست لغته الأم. هذا يؤدي إلى فقدان القوة والعمق الذي يحمله في لغته العربية مع بعض الجوانب التي قد تكون حاسمة في تشكيل هوية واضحة لمؤلفاته سواء السردية، النثرية أو الشعرية.

لا ننكر هنا أن اللغة الأجنبية يمكن أن تكون أداة قوية للتعبير عن تجارب متنوعة، بدليل أن بعض الكتاب يتمكنون من عبور حدود اللغة والثقافة، وفي نفس الوقت يعتنون بجذورهم اللغوية ويحتضنون تراثهم الأدبي بلا عقبات. إلا أنها تشكل تحديًا كبيرا لفئة لا بأس بها من المبدعين الذين يحتاجون إلى التغلب عليه لتحقيق إبداع فعّال ومقبول في الوسط الثقافي الذين يحاولون التسلل إليه.