يقال أن أطول اللحظات هي تلك التي نقضيها لوحدنا عند قطع شارع مظلم في وقت متأخر ، تتقاطع فيها مشاعر الخوف و الوحدة و الكآبة في آن واحد ، صوت مواء القطط .. صرير الحشرات و الكثير من الصمت ، و أي محاولة لتشتيت ذلك الصمت تؤول للفشل دائما لأن ما يرعبنا مصدره دواخلنا لا غير .
قدري أن أعيش تلك اللحظات بعد خروجي من البيت مباشرة و بعد نشرة إخبارية معتمة تنبيء بقرب تجاوزهم الحدود في طريقهم إلينا .. هم لا يحملون معهم ورد الجوري خلاب اللون و لاالزنبق ذا الطابع الكئيب .. هم لعنة تسير على قدمين .. يحلُّون .. ليحل معهم الظلام ، أخبار ما خلف الحدود مرعبة .. لا يمكن وصفها بغير ذلك ، و أكثر ما يرعب فيها هو وصف ما يحدث هناك بالنزاع السياسي .. هناك فوضى عارمة لا غير .
في الطريق .. كنت أفكر .. غريبة تلك اللحظات التي نعيشها في سعادة مفرطة .. أن تدمع أعيننا ضحكا .. أن تؤلمنا وجنتنا لكثرة ضحكنا ، لا أعلم كيف لنا بالفرح و السرور و الأرواح تحصد من حولنا ، قد أكون مخطئا حين أقول تحصد .. الحصاد شيء جيد يعني الخير يعني الرخاء ، لا شيء خَيِّر بخسارة هذه الأرواح الطيبة ، كم من روح جد يعشق أحفاده أزهقت ، أم تحمل قلبا يسع الفضاء ، و أب يمسح عرق جبينه .. يحمل هم الحياة .. يتأمل طفليه و يأمل أن يكون بطلهم الذي يتغنون به حين يقسو عودهم ، مؤلم أن تغادرنا تلك الأرواح الطيبة فلا تلقَ حزن بحجمهم ، العالم يفقد كماً من الطيبين .. و لا يستطيع تعويضهم ، عالم عنيف لا يحتمل حاملي النوايا الحسنة ، يراهم مخربين .. طائشين ، و على كل حال .. كل عين تبصر ما تريد .
كنت أردد دائما ـ حديث كويلو ـ لمن حولي بأن أحلك اللحظات هي تلك اللحظة التي تسبق شروق الشمس .. رأيت ما يفعله هؤلاء الوحوش و أنا على يقين بأننا لم نرَ أحلك اللحظات بعد ، لازال لديهم الكثير ليفعلونه .. لم يأخذني أحد يوما بمحمل الجد حينما كنت أحدثهم لكن يوما ما .. سيجدون السكاكين على أعناقهم و لن أقول بأني قلت لهم ذلك لأنني على الأغلب لن أكون بالقرب منهم فقد أكون أول الضحايا .. كحال عديمي الحيلة في الأوقات العصيبة .. مُقَدَمين في الصفوف الأولى أو نستخدم كدروع بشرية يحتمي بها وغد لا يعرف ما الوطن و لا يعرف لِم يطلق البارود و على من ! .
لا شيء أسوأ من أمل زائف .. و لسوء حظنا .. قد يكون أكثر ما نتداوله كشعوب عربية هو ذلك الأمل الزائف .. نمني أنفسنا بمستقبل أفضل بحياة أجمل بيوم لا تختلط فيه الابتسامة العابرة بشعور يقبض على القلب لذكرى لا تبارح مكانها ، حتى وسط الحروب نقول بأن الأمل لا زال قويا و حاضرا بيننا متجاهلين حقيقة الصراع الذي يصفه الأديب اليمني إبراهيم طلحة “ في البلاد العربية تقوم الحرب في الغالب بين طرف لا تهمه مصلحة الشعب وطرف آخر لا تهمه مصلحة الشعب أيضا.. المهم أن رحی الحرب تدور فوق رأس الشعب ! “ قد لا أجد أصدق من هذا التعبير عن حالنا ، ما عادت هناك مصالح شعب .. هنالك مصالح سياسية .. كرسي و علبة غراء للحظات و الانتكاسات الصعبة التي قد يأتي بها الزمن ، رغم أن الزمن بالعادة وفيٌّ لهم .
القادمون من وراء الحدود ليسوا أول خطر يجعلنا نتلفت حولنا خوفا و يجعلنا نغلق الأبواب و نتأكد بأن الأقفال موصدة خلفنا كل ليلة قبل أن نتوسد أحلامنا ، القادمون ينعشون هذا الشعور بعد أن اعتدناه فقط .. القادمون يتوعدون أجسادنا لا غير .. أما العسس من حولنا فيصطادون أحلامنا ، يقتلونهم الواحد تلو الآخر ، و يتنفسون من حولنا علهم يلتقطون رائحة حلم صغير حديث العهد .. لم يجد له مناصرون يسندونه فيتحقق بعد ، لِمَ يصطادون الحلم الصغير بالتحديد ؟ لأن الصغير يحفر عميقا ممهدا لجذور الأحلام الكبيرة ، و ما الأحلام العظيمة إلا عدة اجتمعت لتشكل ما يسمى تهديداً أمنيا وطنيا برتبة إرهاب يهدد الكرسي و علبة الغراء .
تنبهت حينها .. أطول اللحظات ليست تلك التي نقضيها لوحدنا في قطع شارع مظلم في وقت متأخر ، أطول اللحظات هي تلك التي نقضيها بلا حلم يعيش فينا ، يغذي آمالنا و يصد التعاسة التي نواجهها كل ساعة ، أن نمشي في الظلام ليس مخيفا جدا .. فعلى أقل تقدير أحلامنا تشاركنا المسير ، أما بلاها فما هدف المسير .. أعلم أن هذا الحديث شكل من أشكال الأمل الزائف و لكن .. هكذا نعيش و هكذا نستمر في الحياة .