abstr5556جالسا في الجهة المقابلة من المقهى،ظل يتأملها بشغف كبير راسما بذهنه أروع السيناريوهات البوليودية الملونة ، وكانت إيماءاتها شديدة الدقة و نظراتها غاية في الإتقان والروعة، تجرد من كل أبعاد الحياة من الزمان والمكان،سافر بعيدا بمخيلته الخصبة فأطلق العنان لفانتازياته البطولية،وتناسى كل كائن وجودي بجانبه،أبى إلا أن يكون البطل في قصته القصيرة مرددا ذلك الحوار الإفتراضي بينه وبين نفسه الصامتة.. إقترب منها النادل وطلبت منه بلغة الإشارات أن يجلب لها "براد أتاي" كانت صماء بكماء...

chalk starكان الأستاذ عبد البديع إذا ما جلسَ؛ أطرَفَ، بقميصِهِ الفضفاض، وبرأسِهِ المنفوش، ثمَّ انكفأ، يأخذُ الأنفاسَ، وينفثها، ومع كلَّ نَفَسٍ يسحبه؛ يمسحُ دمعه بكمّيه، ويُنقّلُ عينيه بين الوجوه، لا يبدي رضى عن حديثٍ، أو امتعاضا، فقط يسعلُ، ويدخن، وإن نصحه معلمٌ بتركِ التدخين؛ غادرَ صمته مثل ملسوعٍ، وكمستجيرٍ صاح:
هه .. وماذا نفعلُ من بعدِها؟
وإذا ما دقَّ جرسُ درسِه؛ قام متثاقلا، ليخطو كمن يزحفُ  اتجاه حتفِه، يستقبله دقُّ المقاعدِ، والغناء، فيتعثرُ الأستاذُ عبد البديع، يتعثرُ، أو يكاد، قبل أن يصلَ، ليعبرَ باب جهنم، ويمارسَ هجمتَه مثل ثورٍ جريح، يصفعُ طالبا هنا، ويبصقُ على آخر هناك، لكنَّ الضجيجَ يستعرُ، والقيامةَ تقوم  إلى أن يأتيَ المدير.

abstract-12430عاش إلى عهد قريب كغجري ،يتوسد ديوان شعر و يدخن لفافاته  المعقدة  و أفكاره المفبركة مقتنعا بأن من أراد حياتا بلا هم أو فِكر فليجعل نديميه دوما لفافات  و ديوان شعر ، عاش يذرف الأدب ألوانا و  أصنافا  و يستنشق للحياة حنينا  مستعصيا إلى كل  من غادروه إلى غير رجعة و رهنوا الأرض أو باعوها تحت قدميه.
كنت التقيه دوما غاديا أو رائحا يدندن لحنا مهشما لأغنية قديمة ،متجولا في خراب عوالم كان يعمّرها بخيال شرس و ريشة فكر لا غير .
 يداه في جيبي سترته المائلة  ألوانها إلى الاندثار و التي نالت منها الشمس  ما نالت ،ملامحه جامدة غالبا، رتيبة بل قليلة حركاته ،واثق من أن شيئا ما سيحدث و سيتغير كل شيء إلى الأفضل . وكنت أستمتع دوما بالإنصات إليه و هو يحكي قصصا غريبة لا تشبه أي قصص نمطية أخرى عن أناس أعرفهم و لكنني لم اكن أتكهن بان يتحولوا في سرده أحيانا إلى تلك الدرجة من البشرية أو من الدنو إلى  مرتبة الحيوانية أحايين أخرى ، وكنت استغرب من أين تأتيه كل تلك التفاصيل ،لاشك أن خيالا مسعورا يوحي إليه بما يوحي.
كان  كل شيء ، قد كان .

Abstract vector artistic 714من سخريات القلم أن تجيد الكتابة عن هموم الآخرين وما تنثره أيامهم في شارع الحظ السيء من بقايا أحلام وأماني ذابلة، لكن حين تغرف من قدر التعاسة مصابا أو نكبة أو جرعة هموم ،فإن هامش الإفصاح يضيق لاسيما إذا كنت ممن يأنفون الإقرار بأن فارس القلم قد يترجل، وأن شباك الهموم لا تميز الخبيث من الطيب !
أمي معلمة،لذا لا أخفيكم ضجري من تقليب صفحات المعجم حتى تولد حكايتي هاته مبرأة من كل خطأ إملائي أو زلة نحو،إلا ما اقتضته المشيئة من سهو.فنحن ،أبناء المعلمين، موصوفون في الذاكرة الطفولية الهشة بالقرب من معين الضاد،والسلامة من التأتأة والفأفأة وعقد اللسان.كنت الابن الثاني الذي ركل أحشاءها في حجرة الدرس،ولم يشأ التريث حتى تتشرب العقول الصغيرة حكمة انفراد الله بالخلق.وفي بلدة لا تبلغ فيها سيارة الإسعاف موقع الحادث إلا بعد انفراج الأزمة،تولى عون حراسة نقلها إلى المركز الصحي على عربة حين بلغ وجع المخاض أشده.أمي تؤمن بأن أداء الواجب ممر سحري إلى السكينة وإلى قلوب صبية يعولون عليك هنا للإفلات من الضنك.يغبطني بعضهم لأني ابن معلمة،فأمثالي ممن يولدون وفي فمهم ملعقة فظة لا يليق بهم أن ينحتوا الصخر لأجل لقمة العيش.وحدي كنت ألوك في الصدر مرارة لا يبدد غيمتها سوى جدة تولت مكرهة دور الحاضنة.

Abstract circle abstractكان يقود السيارة على عجل من أمره كأنه يسابق الزمن كي يسافر عبره، الطريق ملتو لا ينتهي يفوق الأفعى في التوائها، قرص الشمس يسير نحو التواري كي ينير عالما آخر، هدوء كبير يلف المكان والزمان والذكريات البعيدة جدا... تناول سيجارته المفضلة، كان طعمها يبعث فيه حلاوة المنتشي من إنجاز حققه، وكم كان الأمر مثيرا عندما ضغط زر الموسيقى حيث أغنية "سلو قلبي" لأم كلثوم تسمو به في أقصى الأقاصي، هناك في الأفق حيث الحلم يحضن كل كبيرة وصغيرة، حيث الطموح سيد العالم، وحيث الامتنان لشيء مجهول لا يفوقه امتنان، فجأة رن هاتفه النقال الذي كان كافيا لانتباهه إلى السرعة التي يسير بها، نظر بعين واحدة نحو شاشته فكانت مفاجأته كبيرة حين لمح اسمها تطلبه بعد غياب دام زهاء سنتين وما ينيف...
تردد في الاستجابة لطلب مكالمتها، كان مستعدا لاستقبال أي شيء إلا هذا الذي يحصل معه الآن، كيف تذكرته وقد انقطعت أخبارها بالمرة، هكذا قال في نفسه، هام طويلا فلم يترك لنفسه مهلة التردد ثم اتخاذ قرار الإجابة من عدمه، غاص في شيء لا يدري طبيعته وجوهره، إلى أن غاب عنه صوت رنين التلفون، وكان هذا كافيا لتذكرها من جديد، مرت أمام مخيلته بوجهها الشاحب وابتسامتها الهادئة، ومرت معه لحظات لا حصر لها عندما كانا معا، توتر بعض الشيء لعودتها إلى سطح الذكريات، اختلطت عليه الأشكال والأشياء، فقرر التوقف قليلا حيث لفه صمت المكان بسحره إلى جانب سحرها مما أضفى على وجدانه طابع الانصياع لذكريات تبخرت وأفل نجمها، أشعل سيجارة مرة أخرى علها تحرق ما مضى، كان يتأمل الفضاء الشاسع أمامه لكن في قلبه ضيق احتمل كل الأشياء بما فيها الشساعة نفسها، وحده صوت أم كلثوم يعيده إلى ماهو عليه الآن، نظر في كل الاتجاهات، رمى السيجارة أسفل حذائه، سحقها بكل حسرة ومرارة متخيلا نفسه يسحق تلك القرارات الرعناء التي أخذها عن طيب خاطر، ثم عاد للسيارة طلبا في إكمال نهاية هذا الطريق الملتوي عله ينتهي...

Abstract landscape small        قافلة عربات تجرها بغال صبورة، تخترق الشارع الطويل في اتجاه الجديدة ذهابا، ومراكش عند الرجوع. تغدو وأهل المدينة نيام، قاصدة حقول الشمندر المسقية، فتعود محملة بالأعشاب  والحشائش مملوءة عن آخرها، وعلى قمة الحشائش تجلس "حادة بنت الكركاع"، بساقين على شكل زاوية منفرجة، تتأبط ابنها الصغير، موثوقا إلى ظهرها وقد أطبق بفمه على ثديها، يستجدي حليبا ودفئا.  لا أحد يستطيع التعرف عليها وعلى أمثالها من نساء القافلة:  فقد تلفّعن  بسترة لا تُعفي من الوجه إلا العينين. أغلبهن مصحوبات بصغارهن من الأبناء أو الإخوة، يتخذن منهم دروعا بشرية إذا لزم الأمر، كأنْ يتدخل صاحب حقل مسقي لمنعهن من دخوله ، فتمسك حادة برجل ابنها، ورأسه مَهْوى الأرض، مهددة إياه بضربه على صخرة، فيبتعد مخافة تهمة باطلة، ثم تنفجر الأخريات ضاحكات مستبشرات، ساخرات من جبن مهين، معتدّات بفعل "حادة" البطولي في نظرهن .
 

flames-sun-hd-free-abstract-wallpaper(فصل من رواية باي العربان، تصدر قريبا عن دار زينب)
عُدْتُ إلى دير الحبراء. صلّيت وأشعلت شموعا أمام الهيكل، وبكيت طويلا من أجل روح أمي التي لا أعرف لها قبرا... لم يتعرّف عليّ أحد في الدّير، فقد شاخ الحبر إسحاق وشحّ بصره، لكنه رحّب بي ككل التونسيّين حين يأتيهم غريب، ثمّ تركت بعض النّقود على قبر الرّبّي نعمان وعدت إلى داري كي أنتظر رجلي حُلُمي حتى يعود من زيارة الباي الذي شرّفه بقبوله في قصره بتوصية من المقيم العام الفرنسي.
أوّل مرة دخلت الدّير كان عشيّة يوم الجمعة، حيث يقام احتفال "السّبّات". يتكرّر الأمر كل جمعة: سيدي يعقوب مساعد الرّبّي إسحاق يمرّ من منزل لآخر يطرق أبواب اليهود، كل مرّة يأتي إلى منزل الجدّة " لكن لا أحد يذهب، لأن جدتي لا تهتم بما يحدث في الأديرة ولا في المساجد.
اليوم ذهبت، أمام الباب المفتوح سمعت همهمة الصلاة، وأحسست بالخشية الطفولية نفسها. تمرّ أمامي نساء يرتدين السّواد، يدخلن القاعة دون أن ينظرن إليّ. عرفت "جوديت" التي تسكن في آخر العطفة تضع شالا أسود على رأسها، وحينما همّت بالدّخول التفتت نحوي وحيّتني بإشارة لطيفة.
بقيت مدّة طويلة في النّاحية الأخرى من الطريق أنظر إلى الباب المفتوح. ثمّ، فجأة، دون أن أدرك السبب قطعت الطريق ودخلت الدّير. كان الظّلام دامسا مثل مغارة، اتّجهت نحو أقرب جدار كأني أريد الاختباء.النّساء أمامي واقفات متّشحات بشالاتهن السّوداء، ولم يهتمّ بي أحد سوى فتاتين التفتتا نحوي. عيون الأطفال السّوداء تلمع بإصرار في الظلام الذي بدأت تتقلّص حدّته. ثم تقدّمت نحوي "سيسيل" وهي تقطن قرب منزل " جوديت"، وقدّمت لي غطاء رأس قائلة: " يجب أن تضعي هذا على رأسك" ! وعادت إلى وسط القاعة الفسيحة أين تتحلّق الفتيات. أحسست أنّي أكثر اطمئنانا منذ غطّيت رأسي ووجهي.

painting-for-sale-yellow-flowersفوق بساط ذلك المكان ،جلس ويده اليمنى تداعب شعيرات رأسه ، كان كهلا باغتته أيام  الخريف فنزعت من حياته  شعاع  البهجة.
كان المكان غاصا بالذكرى ،منازعا لتلك الأصوات المتضائلة ،حين أرادت أن تنال من ذلك الصمت الذي وشح المكان بذلك الوشاح الفطري المهيب ،لقد كان يطل برأسه من بين تلك الأعشاب، فيبدو ككومة صوف منفوش .
هو ذاك المكان الذي امتزجت بذرات هوائه نسمات الهوى، الذي ضاع بين تألق تغاريد الطيور، و زقزقات صغارها ، كانت حركات شملت أرجاء ذلك العش الضيق ،فعانق الناظر إليها تلك الأهداب الشعاعية المتناثرة من خيوط  أشعة الشمس الذهبية ،فاعتادت مداعبة تلك الأمكنة التي تمتثل لشحوب المنظر ، فيغرق المكان  كله في صمت عميق اعتلته  صفرة الخريف  .
كان الرجل  قد اختفى بين تلك الألوان ، تذكر تلك الأيام  التي كانا يقصدان فيها المكان ،لقد كان صمتا بدلالات لا تنتهي متاهاتها المحيرة ،فتزهو الذكرى منتشية في ذلك الحيز الذي تناثرت فيه أحلامهما ،كانا ككيان واحد ضم شخصين اجتمعا على الجمال، فارتويا من قطرات نبع ذلك الحب ،فلم يكن الزمان قد خلق في أحدهما شيئا ،إلا وكان له شبيه في الآخر ،لاحت له في سماء المكان عناوين تجلت حينا من الوقت ثم غابت،وأخرى لاحت له من بعيد وأعلنت أنها  آتية حين يقبل الخريف قبل الأوان ،قطف بعض الأزهار التي كانت تتراقص حوله ، ثم قال: هكذا كُنّا نقطف أزهار تلك الأيام واحدة واحدة ، ثم حلّ الخريف، وها أنا ذا وكل الفصول قد مرت  إلا هو ،لأجدني وحدي ، ها هو ذا يعبث بما بقي من جمال ليلقي به في مسارات الذكرى ،ويعزف على أوتار الحياة  أغنية "ناهاواندية "تؤثث لرقصة الوداع المتجلية في تلك الأنحاء.

مفضلات الشهر من القصص القصيرة