أحسّ دبيباً في رأسهِ قد أدمنَ التجوالَ فيه مثل دودٍ جائع ينهشُ تلافيفَ دماغِهِ الذي استسلمَ هامداً حتى بات هذا الدبيب مألوفاً ، أوهامٌ عتيقةً وعفنةً ركَدَتْ في آخرِ أيامِها بعيداً في قعر الرأس واستقرّت دون أن يشعرَ لتبيضَ كثيراً من مزاياها القديمةِ قيئاً و حموضةً على طعمٍ حياتهِ فبدا مُتأففاً متضايقاً مما آل إليه حالهُ،دفعه هذا الزحام المتفاقم للأفكار السود إلى الإستعانة بثقوب الحياة لتكون مهربا مثلما تفعل ذلك الحشرات التي لا تعرف الصراخ ، مد يده إلى جيب بنطاله الرثّ واطمأن لوجود عّصّارةِ السيكوتين ثم واصلَ سيرَه إلى حافة المستنقع الذي تقبع حوله بيوت الصفيح صانعةً تجمعاً أميبياً يغيّرُ شكلهُ بين فترةٍ وأخرى تَخرُجُ من بين امتداته الكثيرة مساربُ المياه الآجنة لتمدهُ بمزيدِ النتانة والقذارات ، جلس هناك على الحافة غير مبالٍ بالعفونة ، رأى أن المستنقع الذي تصنعه قذارات بيوت الصفيح تلك يشبه إخطبوطا يمد أذرعه السود إلى أحشائها محاولاً سحبها إلى جوفهِ وابتلاعها وقد بدا هائل َ الأذرعِ بيد أنها راحت تقاوم بالرغمِ من خسارتها بعضَ صفيحها المُتهرئ لصالح ذلك الإخطبوط الأسود ، وضعَ إنبوبَ السيكوتين لصق منخريه وشمّ بنفسٍ عميق أبخرتهُ عدة مرات فاستقبلت رئتاه شميمَ الأنبوب بنشوةٍ كبيرةٍ ، قرفص على الحافة المتعرجةِ وراح يُحدقُ في السواد، خيل إليه أن ثمةَ ما يتحرك تحت، ألقى بنظرهِ إلى هناك من مسافة ٍقريبةٍ، صار هاجسُه أن يتفحّصَ تلك االإهتزازات والمويجات التي يصنعها تيارٌ من الهواء ضلّ طريقهُ ماراَ من فوق السائل المعتم حتى لكأن مستنقعا آخرَ قد فاض بتلافيف مخه وملأ قحفَ رأسه.
أصبح أمرا ملفتاً للمارةِ جلوسُه الطويل على تلك الحافة يدوّمُ راسه المسطول بين نصفِ غائبٍ عن الوعي ومطأطئٍ قليلا ليرى الذي يحصل هناك وهو يبحلق ثم يفرك عينيه مدركا تماما أن لا ذنب له في كل ما يحصل ولم يعد يبغي غير إبادة الدقائق والساعات ناظرا إلى ماءٍ آجنٍ يتحرك فيه خلقٌ كثير من الدود المنشغل بمصيره غير عابئٍ به ولا بهمومه ولا يشعر به مطلقا معتبراً ظله الممتد جزءاً من العتمةِ الباذخة ، تعجب من انجرافِ تفكيره نحو عمق الهزيمةِ ورجح أن ذلك بسبب انحرافاتٍ قديمةٍ طالما قفزت إلى مخيلته مُنتجةً كل هذا العفن الذي يغزو رأسَه ثم استطردَ محدثا نفسه : كيف لهذا الدود المنهمك بمستنقعه أن يواصل حياته بعيدا عن عفونته وعتمته، أتراهُ يصنع تلك العتمة ويستتر بها خوفا من ضوء الشمس؟ شمسُ الصيف قادمة وعليه أن يفعل ذلك فبعتمته وعفونتهِ يضمن حياته وكأنه يُدرك هذه الحقيقة ،راح يخوض غمار حياته على عجل، بعد مرور زمن ليس بالقصير كان هناك بالقرب منه على حافة المستنقع من يسأل أو ربما جاء ليسخر منه أو يلهو قليلا:
-ماذا...ماذا هناك؟ ودون أن يلتفت وبحروفٍ تعتعها شمّ إنبوبة الصمغ وأبخرة الثنر أجاب:
- دود ...دود كثير.... يتحرك... ..ألا ترى؟
-همممممم...
وأتى آخر بعد ذلك وسأل السائلَ الأولَ الذي امتلك الجواب دون عناء ولم يبخل به لغيره وهذا الأخير لم يبخل به لآخر وهكذا علِمَ الجميع أن دودا أسودَ يواصل حياتهُ في المستنقع...! أليس من الطبيعي أن يكون للمستنقعِ دودهُ ،أدرك ذلك البعض هزّوا أكفهم وغادروا بينما تابع النظر إلى المستنقعِ أولئك الذين لا زالوا مرتابين بالنوايا محاولين تأويل الأمر بأبعد من ذلك ما استطاعوا
هكذا صار يتحلقُ حول المستنقع الكثيرُ من الذين يهربون من آلامهم الصغيرة التي تطاردهم مثل بعوضٍ عنيد وقد أدركوا بحسهم أن شيئا يتعلق بذلك السائل الأسود قد خفيَ عليهم ولابد من استكناهه فليس من المعقول أن يتحلق هذا الجمع حول بركةٍ آسنةٍ دون سببٍ وجيه، بعضهم كان موجودا ليس لأنه يريد معرفةَ ما يجري بل لرغبته في أن ينتمي للجمع المطل على المستنقع فقط، كان السطح في البداية رائقا بالرغم من سواده لكن بعد مضي زمن صارت الفقاقيع تنتفخ فوق سطحه كالدمامل مع ارتفاع وتيرة حرّ الشمس وتتابع انفجاراتها المريعة منتجةً ما عليها من النتانة والقبح وكلما نشطت الفقاعات مطلقةً غازاتها أطلقت تلك المخلوقات العنان لحياتها، الجمعُ المتحلق حول المستنقع الآجن بدا غيرَ مستقرٍ فمنهم من يغادر ومنهم من يلتحق والجميع صار يعرف أن دودا كثيرا يُمارس الحياة في المستنقع ، تخلل ذلك وصلات من الهمهمةِ حول الفقاقيع وبعض الدكنة واللمعان فيما يتعلق بلون الدود ،موحين بأنهم من أولئك الأفذاذ الذين يتأبطون الصحف التي لم تلق رواجا في السوق فحصلوا عليها مجاناً، قال بعضهم أن ما يحصل في المستنقع قد حصل في أمكنة وأزمان متفاوتة وإن كل ما يجري محكومٌ بأسبابه بيدَ أنهم لا يدركون لمَ هم هنا يراقبون وهل أن غيرهم قد فعل ذلك في ما مضى، ؟ وبذلك ظلوا يداومون على الإدلاء بآرائهم التي لم يسألهم عليها أحد وراحوا يلقون نظرةً إلى المستنقع ودودهِ بين جملةٍ وأخرى مرجحين أنه ربما يحصل شيء قد يرغبون برؤيته إلا أنه كان الوحيد من بينهم جميعا ظلّ صامتا حتى اختفاء آخر السائلين والمستريبين والطامحين وخَلا لهُ المكان مرةً أخرى ، مد يده إلى جيب البنطال وراح يعبئ رئتيه بأبخرة السيكوتين التي تنفذ إلى الصدر باستنشاقٍ مستمر حتى سال لعابه من طرف فمه وثقل رأسه وصار كحجروانفلتت مثانتهُ مبللةً الأرضَ من تحته ، ثم أسلم خده الغائرإلى التراب وغاب عن الوجود وقد ازدحم الدود الأسود في رأسه ، رأى في داخل رأسه المُخدر أنه قد استحال إلى دودة ، تعجب لاكتشافه ذلك ها هو يبدو ملتويا مثلها متحسسا الرطوبةَ واللزوجة تماما كما يتطلب ذلك وضعه الجديد، راح يتدحرج حتى سقط في عتمةٍ عفنةٍ يتقلبُ بين دود كثير، دودٌ يتحرك صوب كل الإتجاهات ،شعر أن هذا الدود يناصبه العداء ويزدريه رغم كل ما يتلقاه من عفونة ، لم يفهم لمَ كان الدود منصرفا إلى ازدرائه واحتقاره ، كان في غيبوبته ينظر إلى الدود ولا يجد اختلافا بينه وبين جموعه الزاحفة ، شعر بالدبيب يقترب منه حتى لامسه ، سمعه يهمس : أيها الأبيض الأخرق ألا ترى إلى نفسك ، ليس لك سوادنا أيها البشع ولكنك تتستر بعتمتنا إذهب إلى ضوئك بعيدا عن عتمتنا ، راح الدود الأسود يدفع به إلى حافة المستنقع وقد رأى أنه استوعب محنته تلك و لم يعد أمامه إلا الفرار زحفاً ، راقب نفسه وهو يموت خارج المستنقع يغمرهُ ضوءالشمس بضراوة وتمتصه التربة حتى تلاشى تماماً وفي لحظة التلاشي تلك أحس بقدمٍ تركله ، فتح جفنيه ببطئ وجد الشرطي يأمره بالصعود إلى القفص الحديدي ، أكمل غفوته والسيارة تسير متمسكا بما تبقى لهُ من نشوة أبخرة الثنر في إنبوبة السيكوتين.