تاريخ وتراث

لعل متقدمي الأصوليين لم يفردوا  قاعدة "لا اجتهاد مع نص" مبحثا أو بابا خاصا، وإنما اعتبروها داخلة في أبواب الاجتهاد ومتفرعة في بعض قواعده العامة، ولذلك يصعب على الباحث أن يصنف القاعدة هل تدخل في الحقل المعرفي الأصولي، أم في الحقل المعرفي الفقهي، مادام أن كلا من الأصوليين والفقهاء لم يهتموا بها حق الاهتمام، ولذلك لم يتم التكشيف عن مضمرات هذه القاعدة المهمة رغم ذكرها في المصنفات الأصولية خصوصا في باب التعارض والترجيح.

وعلى العموم فإن أكثر من تكلم عن هذه القاعدة قال بعدم تجاوز النص والاجتهاد مع وجوده، بل إن الاجتهاد يتطلب عدم وجود نص في المسألة، لكن السؤال المطروح هنا هو مالذي يقصده الأصوليون  بإطلاقهم لفظة النص؟

وهل كل نص يسمى في عرف الأصوليين نصا يمنع معه الاجتهاد؟ ثم ماهو الاجتهاد المقصود عند الأصوليين؟ وماهي مضمرات القاعدة؟

وهنا سوف أسوق بعض تعريفات الأصوليين للنص ليتبين لنا مقصودهم من إطلاق هذا اللفظ:

يعرف صاحب المنخول النص بأنه " اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال، وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع"[1]

ويعرفه أيضا في موضع آخر بأنه " هو الذي لا يحتمل التأويل"[2]

ونجد القرافي يفصل في التعريف شيئا ما فيقول:" النص فيه ثلاث اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء العدد، وقيل مادل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق، وقيل: مادل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء"[3]

ومن المتأخرين عرفه الأستاذ علي حسب الله بقوله: " هو اللفظ باعتبار دلالته على المعنى المقصود بالسوق أصالة، دلالة تحتمل التفسير والتأويل مع قبوله للنسخ في عهد الرسالة"[4]

مقدمة..

أنْ توظّف المصطلح التراثي القديم في الكتابات الحديثة، يُقلل من قيمتها وقوتها؟ أم أنَّ التّخلّي عن المصطلح القديم وهجرانه والتنكر له بدعوى أنه لا يؤدي أو لا يُوصِلُ إلى المراد والمبتغى من النص، يعطي النص قيمة أكبر وإبداعا؟ وهل أمام التغييرات الطّارئة والوافدة من الغرب، وتسارع النظريات النقدية، وفي إطار ما يُسمّى بالمثاقفة، أصبح من الضروري على الكاتب الانخراط في هذه الموجة بدعوى مسايرة ما جدَّ في عالم الكتابة والنقد لإثبات قدراته على المواكبة والتطور؟

بين الإحياء والاحتفاء..

بما أن الكتابة دعوة إلى اكتشاف الاستثنائي والمنسي في اللغة، ـ إذ، لا يكتب الكاتب إلاّ إذا كان لديه دافع قوي لموضوع جديد، لغة وتيمة ـ  والجميل والمدهش في السرد والحكي، وبما أن اللغة تُميّزُ نصّا عن نص، وتُعلي نصا وتخفض نصّا، بترويض مصطلحاتها واستخراج مكنوناتها الدلالية، وبما أن اللغة هي المُشَكّل الأساس لكل سرد، بل هي السرد ذاته، وبما أن اللغة كائنٌ حي، وانسجامٌ وتناغمٌ ونظامٌ، ونسجٌ يحتاج لقلم درب يشد القارئ دون أن يُشعره بتجوال النص وصراعه بين الحديث من المصطلحات وقديمها، بالحفاظ على المستوى الفني للنص، والخيط الجامع والنّاظم للسرد ليكون لبنة قوية ومتماسكة، وبناء معماريا مترابطا ومتراصّا بعضه ببعض، فإنّ حركية المصطلحات القديمة تحيى زمانها، ويتلاشى بريقها حين يقل استعمالها، وتتطور بتطور الحركات الحضارية أو الفكرية أو العلمية، وكل تحول في المسيرة الإنسانية عموما من تقدم فكري أو علمي يؤثر بالضرورة على المصطلح القديم، لكنه لا يموت، قد يركن إلى الظل، لكنه أبدا يظل في انتظار من يبعث فيه الحياة، ويسمح للمصطلح الجديد أن يحيى زمانه هو الآخر، مؤثّرا ومتأثرا بما يموج من حوله من تفاعلات نقدية وإبداعية وعلمية، مانحا لنفسه مكانة قوية راسخة تتجدد بتجدد اللغة.

إن توظيف المصطلح القديم في الكتابات الحديثة، لا بد أنه عمل شاق يحتاج إلى كاتب يفني أكثر وقته ـ حين كتابة نص ما ـ جُهدا وتمحيصا ومسْحا شاملا مضنيّا وذكيا للمعاجم العربية، لتدقيق المصطلح والمفهوم الدّال على المعنى المراد طرحه، كما يقتضي إلْماما كافيا وتفكيرا بلُغةٍ تمَّ نسيانها وإهمالها، والثقة فيها بأنها ما زالت قادرة على إيجاد صِيغٍ للتعبير وإيصال المعاني، مع استثمار ما تمنحه اللغة من أساليب الكتابة لإنتاج نص جميل بأثر قرائي جميل، وتأثير متميز يجعل القارئ يعود إلى منابع اللغة، والبحث في المعاجم، الشيء الذي افتقدناه حين قراءة أي نص أدبي غني بالمصطلحات.

إن أول ما ينبهنا عليه الكتاب، هو أنه يصعب علينا القول بالفصل بين علمي "الأصول"    و" الكلام"، " مادام أن هناك تداخلا وتواصلا بين العقدي والعملي في التجربة الإسلامية الأولى"[1] خصوصا وأن المصنفين في علم الأصول كان أغلبهم ذا مرجعية كلامية، إذ أن الجانب العقدي يمثل ذلك التوجيه النظري أو الإيديولوجي للممارسات العملية داخل المجتمع، وخصوصا الممارسة السياسية نظرا لأهميتها في تحقيق استقرار المجتمع والسهر على تنظيمه.

لقد كان الهدف من إثارة هذا الموضوع هو الوقوف على تلك العلاقة الجامعة بين العالم والسلطان، والتي كما يصفها الأستاذ الوضيفي " علاقة مهادنة ومنافسة تارة، وموالاة وصراع تارة أخرى"[2]، وما كان ذلك كله إلا لأجل الاستئثار بالنص الشرعي من طرف السلطان وتأويله حسب ما تقتضيه  مصلحته الخاصة ، ومن جهته  يسعى الفقيه أيضا لحفظ هذا النص من التلاعب به على يد السياسيين ولي عنقه. وهذا مادفع الشافعي لوضع قانون يضبط به بعض المصطلحات الأصولية التي أصبحت مشحونة بشحنات سياسية كمصطلح البيان الذي عرفه بأنه "اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع"[3]

وما كان ذلك منه إلا لأجل إعادة النظر من جديد في تلك المصطلحات والمفاهيم، في سعي منه لجعل تلك المصطلحات ذات معاني شرعية محضة لا تكاد تفهم إلا من طرف العالم المتخصص الذي يدرك أسرارها وحقيقتها الشرعية، وذلك حتى لا يتسنى لأحد أن يتجرأ على تفسير النص الشرعي أو تأويله حسب الهوى، " وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول اللهﷺ أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا وفي العدل وفي جزاء الصيد،  ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق"[4]ماخلق صراعا بين العالم أو الفقيه ورجل السياسة أو السلطان.

كتاب من تأليف الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، وهو بمثابة استكمال للجزء الأول من الدراسة التي أعدها الباحث والموسومة ب "النبوة والسياسة"، صدرت الطبعة الثانية المنقحة من الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2012، إذ يقع في قسمين رئيسيين وعشرة فصول، بحيث يتناول أبعاد وخلفيات الصراع المسلح على السلطة الذي نال من وحدة المسلمين خلال عهد الخلافة الراشدة، وتحديدا أثناء حكم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وسنضيء فيما يلي على أبرز محطات ذلك الصراع الدامي، فضلا عن الخلاصات التي يسعنا استنباطها حول المسببات الفعلية لتلك الأحداث. 

أولا: حروب الردة: تمرد سياسي من قبائل الأطراف على دولة المدينة

عرفت فترة حكم الخليفة أبي بكر الصديق وقائع صادمة اصطلح على تسميتها ب "حروب الردة" بعد وفاة الرسول (ص)، والتي هددت مصير الجماعة الإسلامية في وقت مبكر من اجتماعها السياسي بحيث طال التمرد أجزاء واسعة من الجزيرة العربية حينئذ (اليمن، البحرين، عمان... إلخ)، ويمكن إيجاز أهم أسبابها وخلفياتها كما يلي: 

* لقد كان إسلام القبائل المرتدة في معظمه بعد فتح مكة إسلاما صوريا أو مصلحيا أملاه الخشية من فشو وتوطد سلطان دولة المدينة بعد إسلام قريش، وليس إسلاما عن قناعة وتصديق، بل حتى إسلام قريش كان – عند الكاتب - إسلاما سياسيا بمعياري توقي الضرر واستجلاب المصلحة.

* آذن حدث وفاة النبي عند القبائل المتمردة بانهيار دولة المدينة وانفراط عقدها، وهو التقدير السياسي الذي أثبتت وقائع الصدام المروعة بأنه بُني على حسابات خاطئة، إذ تصدى أبو بكر الصديق بكل حزم وغلظة لتمرد القبائل، مما أفضى إلى سحقه ومن ثم الحفاظ على وحدة الجماعة الإسلامية في حدودها الدنيا.

قدم صاحب البرنامج المذكور أعلاه والمذاع عبر اليوتوب الدكتور حسن نجمي كضيف متميز، فريد من حيث بروفايله، باعتباره يجمع بين الحسنيين: بين النخبة ورقيها ونخبة النخبة وبين نخبة الأرض وشعبيتها ورائحتها ووجعها، بالإضافة إلى أنشطة أخرى ومسارات متقاربة ومتقاطعة. كل هذا اجتمع في شخصية مغربية ووطنية التي هي الأستاذ والشاعر والأديب وابن الشعب حسن نجمي.
بعد هذا التقديم، شكر حسن مضيفه على هذه الاستضافة الكريمة. فما كان من صاحب البرنامج إلا أن جدد ترحيبه بضيفه، مذكرا إياه بأنه قال في إحدى المرات: "اسق نبتة النعناع قليلا كي يخضر طعم الشاي".
وافق الضيف الكريم على ما قيل وأشار إلى أنه قاله في قصيدة "النافذة" ولا يزال يذكر ذلك.
من أجل مواصلة الحوار، طلب بنشيكر من ضيفه الحديث عن علاقته بالشاي. فقال إنه كان منذ الطفولة يعتبر الشاي مشروبا أثيرا جدا، وعشنا المستوى الاجتماعي الذي فيه "كب وكسر حتى يوفى العمر". كان الشاي مركزيا في حياتنا كأسرة وعائلة بالنسبة إلي شخصيا. كان الشاي هو زيت الأعراس، هو سبب اللمة والجمع بين العائلات والناس والأصدقاء، خصوصا في الفضاءات القروية.
واصل حسن نجمي جوابه بالقول إن الشاي لا غنى عنه. فمنذ أن جاءت هذه النبتة الطيبة الكريمة الجميلة إلى المغرب في بدايات القرن الثامن عشر، وبالضبط في نهاية حكم السلطان مولاي إسماعيل، أثير حولها نقاش بين الفقهاء الذين حاولوا منع شرب الشاي واعتبروه عن خطإ حراما، تماما كما وقع مع القهوة والتبغ عند دخولهما إلى بلادنا.
لكن، اليوم أصبح الشاي مرتبطا بالوجدان والمتخيل وحياتنا اليومية. نعتز فعلا بكون الشاي مشروبا مرتبطا بالهوية المغربية، مع أنه نبتة آتية من بعيد، من أقصى جنوب شرق آسيا، من الصين بالخصوص والبلدان المجاورة، لكنها أصبحت تقريبا نبتة مغربية من حيث الشراب والأحاديث، وأصبح الشاي حاضرا في المتخيل والكتابة والملحون والعيطة وعدد من الأشعار الشفوية.

لقد غلب على ظن كثير من الباحثين المعاصرين أن أصول الفقه علم تجريدي لا علاقة له بواقع الناس، محتجين على ذلك بأن ما يدرسونه ومايتدارسونه داخل المدارس ومدرجات الجامعات لايجدونه مطابقا للواقع ما يدفعهم للقول بمثل هذه التفسيرات  المغلوطة. هذا يطرحنا على سؤال لماذا أصول الفقه؟ وما الغاية منه؟

إن هذا السؤال يجعلنا نرجع للبحث في تاريخ نشأة هذا العلم، كيف نشأ الفكر الأصولي وكيف تطور، إلا أان هذا يستدعي أن يخصص له بحث مستقل ومفصل.

إذا كنا ندرك جميعا حقيقة أصول الفقه ونعتبره  كمنهج في البحث والبناء، أي البحث في الأدلة وبناء الأحكام، فإننا سنجزم بأن هذا أمر متعلق بمنهج تنظيمي، ولايمكن أن يكون التنظيم تجريديا، هذا من جهة. ثم من جهة أخرى إذا ما أردنا أن نقرأ الفكر الأصولي كي نفهم حقيقته، فلابد أن نقرأه قراءة موضوعية وواقعية، وليس قراءة تجريدية متعالية. ولعلي أقصد هنا بالواقعية، قراءة الفكر انطلاقا من واقعه، إذ أن هذا الأخير هو الذي يكشف لنا عن الصورة الحقيقية للعلم أو الفكر.

نحن لا ننكر أن هناك بعض القراءات التجريدية لهذا العلم جردته من علميته وواقعيته، لكن هذا ليس دافعا للقول بانتهائه والحكم بموته.

يجب أن نعلم جميعا أن أصول الفقه قبل أن يكون علما، فهو منهج تفكيري يبحث في أدلة الأحكام بدقة عالية، ولذلك أطلق عليه ((منطق المسلمين))، ذلك لأنه يشبه المنطق الأرسطي في وضع قوانين توجه العقل الفقهي في عملية التفكير وبناء الأحكام، وتحفظه من الوقوع في الأخطاء في تفسير النصوص الشرعية، فالأصول "هو قانون عاصم لذهن الفقيه من الخطأ في الاستدلال على الأحكام، كما أن المنطق عاصم لذهن الفيلسوف من الخطأ في التفكير"[1]

كتاب عبارة عن دراسة علمية رصينة من إنجاز الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، صدرت طبعته الثانية عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2011، يتضمن ثمانية فصول موزعة على ثلاثة أقسام رئيسية (222 صفحة). يذهب الكاتب إلى أن قلة من الباحثين – سواء العرب أو الغربيين – من ركز على البعد السياسي من المشروع النبوي، إذ استأثر الجانب الديني والدعوي بالقسط الأوفر من اهتمامهم، ذلك أن النبي (ص) كان أيضا قائدا سياسيا (ما يميزه عن مجموعة من الرسل) تَوَسل بوسائل السياسة والقوة المادية للتمكين لرسالة الإسلام، وكانت تصدر منه تقديرات واجتهادات سياسية لا تخلو من فطنة وبعد نظر. وهكذا يتحدد موضوع البحث في "تكوين المجال السياسي الإسلامي والموقع التأسيسي للمشروع النبوي فيه". وفي هذا الصدد، لا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بالمشروع السياسي النبوي وعظمة قائده محمد (ص).

وعليه، فقد شغلت المسألة السياسية مكانة مركزية في الإسلام منذ صدره الأول لحاجة الرسالة الدينية إلى سلطان سياسي يرسخ دعائمها، ويوسع من رقعة انتشارها، ويضمن بذلك استمراراها ومنعتها. فما هي مظاهر وتجليات حضور مشروع سياسي نبوي؟

أولا: الوظيفة السياسية للحرب

رغم تشديد البعض على المضمون الديني الصرف للحرب، فإنها تنطوي أيضا على وظيفة سياسية تكتيكية ضرورية لخدمة الهدف الاستراتيجي الديني، مثل إضعاف شوكة العدو (قريش) اقتصاديا وتجاريا لحمله على الدخول في الإسلام، إذ ليس يخفى وجود اعتبارات "سياسية" و"اقتصادية" تفسر تعنت قريش ورفضهم لدعوة الإسلام، تتمثل في الخوف من تضرر مصالحها المادية والتجارية التي تدرها عليها الأصنام والأوثان (القوافل التجارية الكي كانت تفد إلى موسم الحج بمكة... إلخ)، فضلا عن حاجة المسلمين الماسة إلى خوض الحروب من أجل توفير الموارد الاقتصادية الضرورية عن طريق تحصيل الغنائم، باعتبار ضعف اقتصاد المدينة الفقير حينئذ مقارنة بمكة التي كانت تعد قوة تجارية كبرى. ولما كانت "الحرب خدعة" بتعبير النبي (ص)، جرى الحرص على نسف تحالفات العدو إبان الحرب عبر نشر الأخبار الكاذبة المضللة.

تمهيد:
تندرج هذه الدراسة في إطار التأريخ لأدبية مدغرة الشعرية، لاسيما شعر المديح النبوي المدغري، كجزء لا ينفصل عن الأدب المغربي الأصيل في أبعاده الأدبية والروحية والصوفية، فقد أسهم شعراء مدغرة على مدى قرون في الدينامية الفكرية لمجتمع الواحة، مستلهمين من محبة النبي «صلى الله عليه وسلم» المتجذرة في نفوسهم، أفكارهم الدينية، وهي الأفكار التي ترجموها إلى أشعار مدحية، تخاطب روحَ وعقلَ ووجدانَ وفؤادَ الإنسان المدغري المُحِب في الجناب النبوي الشريف، فالتدين من السمات الأساسية التي تطبع شخصية المجتمع الواحي المدغري، لذلك أبدع هؤلاء الشعراء في نظم قصائد مدحية نبوية شريفة إبداعا يليق بمكانة النبي «صلى الله عليه وسلم»، موظفين أغراضا شعرية ترسم فيها قصائد المديح النبوي المدغري عبر أبياتها تجليات العشق المحمدي كما عاشه هؤلاء الشعراء، فالتغريدة النبوية المدغرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين وبالمقدس في أغلب أشعارها، سواء في الشعر الفصيح أو الملحون، بهذا المعنى تسموا المدحة النبوية المدغرية بلغتها الشعرية المدحية فصيحا وملحونا فوق الزمان والمكان إلى عوالم روحانية مشرقة، لتضيء ظلام النفوس الحائرة، والأرواح المنكسرة والقلوب المكلومة، إنها تستمد من الوحي الإلهي القرآني والسنة النبوية الشريفة، وكذا من شعر المديح النبوي السني الصافي الخالص روحانيات نورانية مضيئة، تفيض منه محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»، لتروي ظمأ الأرواح العطشى وتشفي مايعتري صدور الخلائق من غم وهم وأحزان، تطهيرا للروح والبدن من الأدران الدنيوية التي تحجب نور الهدي المحمدي.

كثيرا ما أصبحنا نسمع في الآونة الأخيرة أن الفقه الإسلامي لم يعد يعالج قضايا الواقع، بل أصبح فقها يغلب عليه طابع الترديد والتكرار والتقليد، مما أدى إلى الإعراض عن الفقهاء وفتاواهم التي لاتتجاوز سقف الحفظ والاجترار، بل ولم يظهر عليها أثر الاجتهاد. إذ أنهم يعيدون ترديد الفتاوى القديمة ويسقطونها على واقعنا المعاصر دون أدنى تأمل في الواقع ولا أخذه بعين الاعتبار، مما أثر على الفقه الإسلامي بشكل سلبي.

وهنا نطرح السؤال ؛ هل فعلا لم يعد الفقه قادرا على مسايرة العصر وأحداث الواقع التي تتولد يوما بعد يوم، أم أن الفقيه هو الذي لم تعد له القدرة على النظر والتأمل والاجتهاد في الفتاوى وبناء الأحكام؟

لقد سبق وان قلت في مقال سابق إن الفقه ابن زمانه، وإن الواقع له تأثير كبير في إصدار الفتاوى وبناء الأحكام، لكن وعلى ما يبدو أن بعض متفقهة زماننا أضحى يغلب عليهم الجمود، إذ يمكن أن نسميهم فقط "ناقلي فقه" وليسوا فقهاء. ولست أدري هل مثل هؤلاء بالفعل فقهاء، أم يدعون ذلك فقط ، وعلى العموم فإن الفقيه الحقيقي هو الذي ينزل الواقع منزلة النص حين لا وجود لنصوص قطعية في المسائل المعروضة، أما القياس على الفقه الجاهز فإنما يزيد الطين بلة ويجعل فتاوى الفقيه بعيدة كل البعد عن واقعه ومتعارضة معه.

ولعلنا إذا تأملنا في الفتاوى القديمة وجدناها ذات واقعية تامة، إذ كان الفقيه يفتي انطلاقا من واقع المستفتي وحاله. وهذا موجود أيضا حتى في فقهياتنا المعاصرة، وإن بشكل قليل قد لا يراه أكثر الناس، فإذا ما أخذنا بعض الوقائع التي وقعت في زماننا ورجعنا إلى أجوبة الفقهاء عنها، لوجدناها أجوبة تلامس الواقع وتتماشى وكليات الشريعة ومقاصدها في الآن ذاته.

في فترة الثمانينيات، دارت فصول حوار فكري مثير وشائق في صفحات مجلة اليوم السابع بباريس بين اثنين من أهم أعلام الانتلجنسيا العربية، المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010)  والمصري حسن حنفي (1935 – 2021)، وهو الحوار الذي جرى ضمه لاحقا في كتاب صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت في العام 1990، بحيث يعكس أهم القضايا والمواضيع التي شغلت عقول النخبة المثقفة العربية وكيفية تعاطي الأخيرة معها، بالتزامن مع التحولات الدولية التي كانت تلقي بثقلها على الثقافة العربية في سياق الانتقال إلى نظام القطب الواحد والعولمة المكتسحة لكافة مجالات الاجتماع الإنساني. وسنعمد فيما يلي إلى تلخيص أهم مواقف المفكريْن من القضايا والأسئلة موضوع هذا الحوار:

الأصولية والحاجة إلى "كتلة تاريخية"

يرى حنفي بأن ما يسمى ب "الظاهرة الأصولية" تتسم بسمات عامة اعتبارا لهيمنة الجناح اليميني عليها: القراءة الحرفية للنصوص دون مراعاة "أسباب النزول"، التشبث بإسلام طقوسي شكلي عوض الالتفات إلى روح الشريعة ومقاصدها السامية، رفض وإقصاء المكونات السياسية والأيديولوجية الأخرى (يساريين، ليبراليين، قوميين... الخ). ومن ثم فإن التحدي أمامنا – عند حسن حنفي - هو تقوية الجناح اليساري في الحركة الأصولية الذي برغم أفكاره العميقة ما زال يفتقر إلى الإطار التنظيمي الملائم.

بينما يرفض الجابري التحزب لهذا التيار الفكري أو ذاك (سلفي، ليبرالي، قومي، ماركسي) بالرغم من إقراره بشرعية وجود تلك الاتجاهات الفكرية. وبدلا من ذلك، يدعو إلى البحث عن "نقط التقاء" بينها في إطار كتلة تاريخية تستوعب جميع الأطياف الأيديولوجية للتفكير بجدية في قضايا المصير المشترك التي تهم الأمة بأسرها.

الموقف من العلمانية

يذهب المفكر المصري إلى أن العرب والمسلمين في غنى عن التمسك بأهداب العلمانية الغربية، إذ يكفي الإنصات لروح ومقاصد الشريعة التي تتصف بقدر كبير من المرونة والقدرة على مواكبة التطور التاريخي والعمراني لكونها جاءت لتحقيق مصالح العباد وحقوقهم: "الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية".

وبالمقابل لا يوافق الجابري محاوره على العبارة التي استخدمها (الإسلام دين علماني)، ويذهب إلى أنها تعمق سوء الفهم بدل تبديده. لكنه يتفق من حيث الجوهر مع حنفي من خلال إقراره أن مفهوم العلمانية كما طرح في الغرب لا يجيب عن الحاجات التاريخية والموضوعية للمجتمعات العربية لما يكتنفه من لبس شديد، وبدلا من تلك اللفظة يطرح مفهومي الديمقراطية والعقلانية كخيارين لا مندوحة منهما لنهوض العرب.

على مدى آلاف السنين الماضية، كان تاريخ العالم مدفوعاً بقوى أربع حضارات مهيمنة: الصينية، والهندية، والعربية، والأوروبية. وبينما طورت هذه الحضارات الأربع هوياتها الخاصة وشرائع الأعمال المقدسة، كان هناك على مر التاريخ قدر كبير من التلقيح المتبادل بين الحضارات الأربع. ونذكر مثالاً واحداً فقط من أمثلة متعددة: كان العالم العربي المسلم، ابن رشد (1126-1198)، المولود في قرطبة، وهو عالم في الفلسفة الأرسطية، ويُعرف على نطاق واسع بأنه الأب المؤسس للفكر العلماني في أوروبا.

تطورت الحضارات الأربع وتوسعت من خلال مزيج من التجارة والاستكشاف والحرب والغزو والأيديولوجية (الدين). وكانت الحضارة العربية هي الأخيرة من الناحية التاريخية. نشأت من زمن النبي محمد” ﷺ " (570-632) وتجميع القرآن الكريم، مدفوعاً بمفهوم الأمة – مجتمع جميع المسلمين الذين يوحدهم الدين وليس العشيرة أو العرق. وفي القرون التالية توسعت الأمة عبر معظم جنوب وشمال البحر الأبيض المتوسط، وشمال وشرق أفريقيا، وعبر آسيا الوسطى وصولاً إلى الهند، عبر المحيط الهندي، عبر بحر الصين الجنوبي، لتصل إلى ما يسمى اليوم إندونيسيا.

بدأ صعود أوروبا مع "عصر الاكتشافات" في أواخر القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث أتاحت التقنيات البحرية الجديدة ورسم الخرائط وانتشار المطبعة للإمبراطوريات الأوروبية المنقولة بحراً غزو "العالم الجديد". مع الثورات الزراعية والعلمية والتجارية والصناعية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي حدثت، منذ أوائل القرن التاسع عشر، أصبح شمال غرب أوروبا يهيمن على العالم. وفي حين كانت حصة أوروبا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1700 تبلغ 20%، فإنها بحلول عام 1900 تضاعفت إلى أكثر من 40%.

لقد تحطم التوازن الاقتصادي والسياسي والعلمي والعسكري والثقافي والنفسي الذي كان قائماً بين الحضارات الأربع لعدة قرون في ضوء صعود أوروبا الذي لا يرحم على ما يبدو، وفي ضوء تحول الأوروبيين، على حد تعبير عنوان العمل الذي كتبه الراحل المؤرخ فيكتور كيرنان، "أسياد الجنس البشري" (1969). يشير الصينيون إلى الفترة التي تلت حرب الأفيون الأولى (1839) إلى التحرير (1949) باسم "قرن الإذلال". لقد تعرض جميع غير الأوروبيين للإذلال.

" هل يمكن أن نكتب بحثا متماسكا عن الشخصية المغربية؟
لقائل أن يقول يا أيها المؤرخ نحن لا نسألك عن الطباع والوجدانيات التي لا جدال في أنها مثل الرياح لا تستقر على قرار، ولكن نسألك عن الشخصية المغربية التي هي لباب كل ذلك.. وعن الثوابت التي تجعل المغربي يدرك عن وعي أو غير وعي بأنه يختلف عن باقي الأقوام فيترتب على ذلك قدرة الأجانب على تمييزه هم أيضا عن كل شبيه به. أليس دور المؤرخ استخراج الثوابت من المتغيرات علما أن..التغيّر هو السر الذي لا يتغير؟".
المؤرخ ابراهيم بوطالب(تاريخ المغرب الحديث والمعاصر،ج1،ط1،2014،ص.217).
التساؤل عن النفسانية المغربية والشخصية المغربية موضوع عاد إليه المؤرخ الطيب بياض بطموح كشف الضوء عما تراكم أسفل طبقات البنيات العميقة وضمن منظور الزمن الطويل وتاريخه البطيء، وبعنوان درس افتتاحي بنفس بحثي قدمه برحاب جامعة الحسن الثاني يوم 09 يناير2024 .
ولتعميم المعرفة التاريخية صدر الدرس في كتاب تحت عنوان" الشخصية المغربية، تأصيل وتأويل" عن منشورات باب الحكمة، سنة2024 .
يقع الكتاب في 91 صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن توطئة عرضها خالد الحياني أستاذ علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ومدير المكتبة الجامعية محمد السقاط، كشف فيها سياق اختمار الفكرة وتطور المشروع الفكري حول الموضوع لدى المؤرخ الطيب بياض من زاوية بحثية من صميم اهتمامات المؤرخ .
بعدها يأتي الموضوع وفق منهجية تصاعدية وعبر محاور كبرى :
- مقدمة
- في تقديم الإشكالية وعدة معالجتها
- ولادة مبكرة وتشكل في الزمن الطويل
- بصمة الاسلام وصدمة الحداثة
- عصر الازدواجية أو مغرب الثنائيات
- استشراف أفق أو في معنى أن تكون مغربيا
ثم بيبليوغرافيا وفهرس.

كشفت حالة الفوران التي تشهدها الظواهر الدينية عن تخبّط في الوعي بحقل المقدّس وقضاياه في البلاد العربية. وهو تخبّط يعود في عمقه إلى عدم تطابق أدوات المعرفة مع حقل المعرفة. حيث يستحضر "العقل الخامل" أدوات معرفية لاغية أو محدودة الأثر، متوهّماً قدرتها على فهم "الكائن المتدين" وحلّ إشكالياته العصيّة. فما الذي فات الدارس العربي ليلج طور الحداثة في فهم الدين والتحكم بتشظيات المقدّس والإحاطة بتحولاته؟

المنهج اللاهوتي والمنهج العلمي

بدءاً يتلخّص الإسهام العلمي للمناهج الحديثة في دراسة الظواهر الدينية، وِفق ما أوضحه الفرنسي ميشال مسلان في كتاب "علم الأديان" (مشروع كلمة، 2009)، في التركيز على متابعة العلاقة الأفقية وتخطّي العلاقة العمودية في علاقة "الكائن المتدين" بالمقدّس. بوصف علم اللاّهوت هو علم معياري سياقاته مشروطة بمدى ما يتمتّع به الإيمان من صدق... ذلك أن المقاربات اللاهوتية تجيب عن سؤاليْ: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ في حين يهتمّ علم الأديان بكلّ ما هو معتقَد من قِبل البشر. وبذلك يكون علم الأديان جملة القواعد والضوابط العامة -التي تحضع لها التجربة الدينية، تجربة الإنسان مع المقدّس- المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية.

ولتتّضح معالم النهجين، أعود إلى التطرق إلى خاصيات مجالات اللاهوت، أو لنقل "العلوم الشرعية" بصيغة إسلامية. فهي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخية، تُعبّر عن وجهة نظر المؤمن "الداخلية". حيث أن أصل كلمة "teo-logia" إغريقي، وفي مدلولها العربي تعني "خطابا حول الله"، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت. حيث ينصبّ اهتمام علم اللاهوت على دراسة القضايا الفقهية والمسائل التشريعية، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيات، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الصلات بين العبد وخالقه، بغية تقديم نظام أخلاقي دنيوي، في وصال مع ما يتصوّر المؤمن أنه الحقيقة المطلقة. أي ضمن أي السُّبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي.

كتاب من تأليف المفكر المغربي سعيد بنسعيد العلوي، صدر عن المركز الثقافي العربي ببيروت في العام 1987، يضم في طياته سلسلة من المقالات المتفرقة التي تشكل في مجموعها الإطار العام للبحث المتمثل في الوقوف على كيفية تعاطي الفكر العربي المعاصر مع أسئلة النهضة والحداثة.

أولا: السلفية الإصلاحية وامتداداتها في المغرب

استهل المؤلف قراءته لأهم تيارات الفكر العربي المعاصر بالتيار الإصلاحي السلفي الذي ظهر في المشرق إبان ما عُرف بعصر اليقظة العربية، ومن بين طروحاته الأساسية تشديده على أن سبب التأخر والانحطاط ليس هو الإسلام كعقيدة، بل يعزى أساسا إلى انزياح المسلمين عن تعاليم دينهم. كما يصدر الموقف السلفي من إشكالية سياسية ترد الواقع المتردي إلى استبداد وجور الحكام، قبل أن تتحول (في لحظة تالية) إلى إشكالية دينية من خلال المناداة بإعمال العقل والاجتهاد عبر ترك البدع المثبطة للتقدم.

ويشير الكاتب إلى أن المغرب لم يكن في منأى عن هذا الطرح الفكري، بحيث تَبَلور وعي سلفي ظهرت إرهاصاته الأولية في مطالع القرن العشرين مهدت له الظروف العصيبة التي كان يعيشها المغرب في السنوات السابقة للاستعمار (تهديد خارجي، فتن وثورات داخلية... إلخ)، قبل أن يبلغ لحظة النضج الفكري مع الحركة الوطنية ومُنَظرها الفكري علال الفاسي. وفي هذا الباب، يعرض الباحث لنموذج "مثقف مخزني" برز أثناء فترة الحماية ألا وهو محمد بن الحسن الحجوي (1874 – 1956)، ليخلص إلى أن موقف التيار السلفي من دعوة التحديث والاجتهاد كان ذا نطاق ضيق في مجمله، بحيث طال البنى المادية للمجتمع (التجارة والصناعة... إلخ) دون أن يمتد ليشمل الحداثة الفكرية بمفهومها الواسع.

ضمن ما سأتطرّق إليه بشأن بيان حدود الاتصال والانفصال بين المنهج العلمي والمنهج اللاهوتي في معالجة الظاهرة الدينية، أستهلّ حديثي بكلمة قالها الفرنسي ميشال مسلان في كتاب "علم الأديان": "أن نتابع الحفر في خندقنا مع إلقاء نظرة بعيدا صوب الحقول الأخرى". بهذا الشكل يتجنّب دارس الظاهرة الدينية الانحصار داخل رؤية ضيّقة، ويثري أدواته برؤى خارجية. ومن جانب آخر تدفعني مقولة البولندي زغمونت باومان بشأن سمة "السيولة" التي تطبَعُ عالمنا اليوم: "المجتمع السائل"، و"الحداثة السائلة"، إلى إدراج الدين ضمن هذا الواقع السائل، الذي بات عصيّا على الفهم ضمن إطار محدد. فـ"الواقعة الدينية"، و"التجربة الدينية"، و"الكائن المتدين"، و"المقدّس" عامة، هي مظاهر نابعة من معين واحد، وهي في أمسّ الحاجة إلى تنويع المناهج وتوحيدها، في الآن نفسه، لسبر غور تلك التشظيات.

الظاهرة الدينية

سوف تتمحور هذه الدراسة حول ثلاثة عناصر أساسية: الظاهرة الدينية، المنهج اللاهوتي/المنهج العلمي، لأخلص بالحديث إلى آفاق التكامل بين المنهجين. في البدء يقتضي الحديث تعريفا لمفهوم الواقعة الدينية أو الحدث الديني الذي نحن بصدد معالجته، وهو ما نُطلق عليه تجوزا الظاهرة الدينية أو التجربة الدينة. ذلك أن الظاهرة/التجربة هي اختزالٌ لبُعد أنثروبولوجي لازم الكائن المتدين، وهي تجلٌّ ديني، نحاول حصره ووضعه بين قوسين. إذ صحيح أن الظاهرة الدينية هي ما يظْهَر من فعل مشوب بمسحة قداسة؛ ولكن كلمة "الظاهرة" هل تغطّي ما يعتمل في ذات الفرد وباطنه أيضا؟ لنأخذ على سبيل المثال حالة الوجد الصوفي، أو ما شابه ذلك من مظاهر الورع والتقى والربّانية، والتطويب والتقديس في السياق المسيحي حصرا، فهي مظاهر شفّافة غير قابلة للرصد العيني أحيانا. وذلك ما أملى إضافة توضيحية لكلمة الظاهرة، كأن نقول: "الظاهرة النفسية"، "الظاهرة الاجتماعية"، "الظاهرة التاريخية"، "الظاهرة الدينية"، في مسعى للإحاطة بما تتعذّر الإحاطة به بالركون إلى كلمة "الظاهرة"، كونها في الأصل متابعة لما يظهر لا غير.

ضمن هذا السياق يجرّنا تناول الظاهرة الدينية إلى إدراج الموضوع ضمن مبحث عام ألا وهو "الظواهرية الدينية"، بوصفه الإطار الأشمل والأعمّ لاختبار الظواهر. إذ يعود مصطلح "ظواهرية الدين" إلى الهولندي بيار دانيال شانتبي دي لا سوساي (P.D. Chantepie de la Saussaye) مدرّس تاريخ الأديان في جامعة أمستردام مع أواخر القرن التاسع عشر، في كتابه: "مدخل إلى تاريخ الأديان" (1887). فأمام إدراكه أن مقصد الظواهرية ليس قاصرا على متابعة العيني والمرئي، أي ما ظهر للعلن، جرى تفريع الانشغال إلى فرعين أساسيين: "الظواهرية الدينية الوصفية" و"الظواهرية الدينية الفهميّة"، وهذه الأخيرة هي ما حاول فان دير لاو تأسيسها، حيث عرّف الظاهرة بقوله "هي في الآن شيء على صلة بموضوع وموضوع على صلة بشيء"[1]. معتبرا أن المكوث عند التقرير الوصفي دون الولوج إلى غور الظواهر يُبقي الدارس عند مجرّد وصف الظاهرة الدينية[2]. وبالتالي السؤال العميق المطروح أمام الظواهرية الدينية هو سؤال الفحوى والدلالة بشأن معنى الظاهرة. إذ لا يفي بالغرض رصد الحالة وتوصيفها، ما افتقر الحدث إلى تأويل ومعنى. وفي اللسان العربي كلمة الظاهرة هي ترجمة مستوحاة من الإغريقية (phainomenon)، التي تعني حرفيا الشيء الظاهر، الظاهرة، والمصطلح كما هو مخاتل في اللغات الغربية، هو بالمثل في العربية.

استعمل الفيلسوف-المؤرخ عابد الجابري مفهوم الاستقلال التاريخي بعد أن استعاره من الحقل المفاهيمي والنظري للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، ووضعه ضمن نسق فكري ومنهجي جديد يتوافق مع الأطروحة الفكرية والسياسية للوطنيين المغاربة في علاقتها بالتراث(السلفية الوطنية) وبالآخر (الغرب) فأصبح الاستقلال التاريخي لدى الجابري هو قدرة الأمم على فَحص تراثها بعقل متحرر، ونقد علاقتها بالغرب لامتلاك أسباب استقلالها الذاتي.
انقلبت موازين المواجهة في الحرب العالمية، وتراجعت قوة "نظام فيشي" بفرنسا وتأسس تيار "فرنسا الحرة" الذي سيعقد مؤتمرا له في برازفيل سنة1944 (حضره جاك بيرك ممثلا للإقامة العامة حينها) نضجت فكرة مطلب الاستقلال لدى الوطنيين المغاربة.
لقد فقدت فرنسا فرصة الحفاظ على الوضع القائم قبل الحرب، ولم يعد بإمكانها تأمين "الوجود الودي" و"نظام التفاهم" (ستعود إليه بعد1953 ومعها ستطرح فكرة الاستقلال في إطار التبعية لأول مرة سنة1954 ).
تقدم الوطنيون بعرائض ومذكرات في كل من المنطقة السلطانية والخليفية ولدى قناصلة الدول بطنجة الدولية، ولم يعد سرا لدى المؤرخين أن وحدة المطالب هي ما يفسر وجود أكثر من وثيقة أو مذكرة للمطالبة بالاستقلال، لعل أشهرها، لأنها صدرت عن أكبر تنظيم سياسي جامع حينها ومؤثر، هي وثيقة 11يناير1944.
تقول الرواية التاريخية الجديدة بأن هناك أيضا "مذكرة تطوان" بتنسيق ما بين حزب الإصلاح الوطني(ع.الخالق الطريس) وحركة الوحدة المغربية(المكي الناصري) يوم 14فبراير1944، ثم مذكرة الحزب الشيوعي المغربي(إ.عمران المالح).
بيان11يناير 1944 جاء بعد 10سنوات من تقديم دفتر مطالب الشعب المغربي ومطلب الإصلاحات، وشكّل أرضية للمطلب المشترك للوطنيين في علاقة بالمنتظم الدولي:

كتاب من تأليف الباحث المغربي عبد الهادي البياض، صدر عن دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت، يتألف من بابين رئيسيين موزعيْن على عدة فصول، وهو بمثابة دراسة أكاديمية تبحث في تأثير الكوارث الطبيعية (القحوط، المجاعات، العواصف، السيول، الجراد، الحرائق، الزلازل، الأوبئة) على ذهنية وسلوك إنسان المغرب والأندلس، وما قد تفضي إليه من تحولات قيمية، وذلك في الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الثامن الهجري، عبر مقاربة منهجية تمزج بين ما هو كمي إحصائي، فضلا عن المناهج الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، ومقاربات التحليل النفسي والسلوكي، والمنهج المقارن. كما يقر صاحب الكتاب ببعض الصعوبات المنهجية التي اعترضته من قبيل ندرة المصادر النصية التاريخية التي يمكن الاستناد إليها.

وفيما يخص الآثار المترتبة على وقوع كارثة ما، عادة ما ينجم عن ذلك عواقب ديمغرافية من حيث تناقص عدد السكان، فضلا عن بروز توزيع جغرافي جديد (هجرة القبائل الصحراوية إلى الأراضي الخصبة، إذ كان سكان المناطق الصحراوية أكثر صمودا في وجه الكوارث بفضل المناخ الصحراوي الحار ونظام التغذية المعتاد على التقشف)، بالإضافة إلى تداعيات سياسية مثل إضعاف وباء 610 ه لسلطة الموحدين، ومن ثم استفادة خصومهم المرينيين من ذلك المعطى، دون إغفال تداعيات أخرى سنعرض لها فيما يلي:

مقدمة:

     عرف المغرب عبر حقبه الطويلة والممتدة، ظواهر اجتماعية وسياسية عديدة، لعل أبرزها ظاهرة العنف التي بصمت تاريخه بأشكال مختلفة فطبعت بذلك نصوصه التراثية، ولعل تسليط الضوء على هذه النصوص باستقرائها، سيساهم في الكشف عن مدى تفاقم هذه الظاهرة، التي تتوخى هذه الدراسة المتواضعة تقديم قراءة تحليلية على تجربة تعتبر النموذج الأمثل لها، وهي التجربة الموحدية.

1- الاسطوغرافيا والعنف الموحدي:

     بإلقاء نظرة خاطفة على المصادر التي أرخت للدولة الموحدية، على اختلاف مشاربها واتجاهاتها نجدها متفقة على العنف الذي مارسه الموحدون منذ ظهورهم على مسرح الأحداث، ويكفي في هذا الموضوع ذكر أسماء كل من أخبار المهدي للبيدق، ونظم الجمان لابن القطان...

     والظاهر من خلال هذه النصوص، أن الدولة الموحدية مارست إكراهها وعنفها " الشرعي"، بأساليب متنوعة، وتقدم متون الفترة انطباعا عن كثرة القتلى، وسفك الدماء، ولاتعوزنا النصوص التي تصف المهدي بن تومرت بأنه كان " سفاكا للدماء غير متورع فيها ولا متوقفا عنها يهون عليه سفك دم عَالَم من الناس في هوى نفسه وبلوغ غَرَضِه"[1]، مثلما تصف عبد المومن بن علي بأنه " كان كثير السفك لدماء المسلمين على صغار الذنوب "[2].

     ولم يفت أحد الجغرافيين أن يسجل على الموحدين أنهم " سفكوا الدماء، وباعوا الحرم كل ذلك بمذهب لم يروا فيه حلالا"[3]، كما تكشف النصوص عن الأعداد الهائلة من السكان الذين لقوا حتفهم بسبب الحملات التي شنها الموحدون على مناوئيهم، ففي إحدى الحملات العسكرية التي شنها الموحدون ضد مدينة مراكش" قتلوا ما لا يحصى"[4]، كما " قتل أهل أغمات مقتلة عظيمة ومات فيها من جناوة ثلاثة آلاف أسود"[5]، أما في منطقة درعة فقد " قتل فيها من شيع التجسيم نيف عشرين ألفا"[6].

     وأثناء دخول عبد المومن بعض المدن المغربية لم يتردد في قتل أغلب مناوئيه، فقد كان دخوله مدينة فاس سببا في هلاك " خلق كــــــثير "[7] وفي مكناسة تعرض السكان لأغرب طرق التعذيب التي قام بها الموحدون في غزواتهم، بإحراق الناس أحياء في حادثة فريدة، حيث فر منهم مجموعة من الناس وهرعوا إلى شجرة تغصاص كبيرة " ظنوا النجاة فيها فتعلق بها منهم خلق كثير، وضم الموحدون الحطب لتلك الشجرة وأضرموا النيران حولها فسقط كل من كان فيها واحترقوا عن آخرهم"[8] .

آخر الأنشطة الثقافية والعلمية

  • تنظيم ندوة في موضوع: جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية
    تنظيم ندوة في موضوع: جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية نظم مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء، بتنسيق مع فرقة البحث في الإبداع النسائي، كلية الآداب بتطوان، صبيحة يوم الخميس 30 نونبر2023، في رحاب كلية الآداب بنمسيك، ندوة في موضوع "جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية"، بحضور ثلة من الباحثين والباحثات من مختبرات ومجموعات بحث تنتسب لكليات وجامعات مغربية مختلفة. كما جرى نقلها مباشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بمساهمة الدكتورة جيهان الدمرداش من مصر. انطلقت الجلسة الافتتاحية، التي تولت رئاستها الأستاذة مريم ودي، بكلمة للسيدة سميرة الركيبي، نائبة العميد المكلفة بالشؤون الأكاديمية، رحبت فيها بالحضور ونوهت بموضوع الندوة والآفالق التي يفتحها أمام الباحثين والباحثات، ثم تلتها كلمة الأستاذ شعيب حليفي، رئيس مختبر السرديات، الذي أكد أن المختبر، وخلال مسيرته التي بلغت الثلاثين سنة بحلول عام 2023، قد…