لا يمكن اختصار منزلة السّؤال في كونه شكلاً وحيداً ومستقلاًّ من أشكال الخطاب الأدبي في مدوّنة التوحيدي، فهو يخترقُ أكثر من شكل فنجده في التّناظر كما في المنافرة وقد يكون أيضاً مُنطلقاً للرّواية والتّذاكر وغيرها. وليس المقصود هنا بالسّؤال مجرّد السّؤال العاديّ ذي البُعد التّواصلي بالأساس وإنّما السّؤال المُولّد للتّفكير ذي البعد التبصّري، فهو آليّة تفكير وأكثر منه مجرّد أداة تواصل وتبليغ، وهو الحامل لمُشكل معرفي قد يتجاوز الاستخبار ولا يتطلّب بالضّرورة إجابة مُحدّدة أو إجابة واحدة. هو تقريباً شبيه بالسّؤال التّوليدي* بالمعنى السّقراطي أي في معنى المُساءلة المستمرّة لتوليد المعارف والوصول إلى نتيجة مفادها أنّه لا توجد إجابة نهائيّة. وفي الكتاب الثامن من "المواضع " لأرسطو والمُخصّص لـ"ممارسة المُحادثة الجدليّة "نجدُ تنظيراً مخصوصاً بمنطق الأسئلة وتمشّياتها باعتبارها آليّة ضروريّة تسبق الفهم وإطلاق الأحكام وسمّاه "علم السّؤال*" وهو علمٌ واصفٌ للطّرق والآليات التي تُطرحُ بها الأسئلة على المُحاور.

   ولا يخفى أيضاً أهميّة السّؤال بالنّسبة للمفكّرين والفلاسفة ما بعد أرسطو، فـ"كارل يسبرز" مثلاً اعتبر الأسئلة أهمّ من الأجوبة في عمليّة التّفلسف، دون اعتبار طبعاً أنّ كلّ إجابة مفترضة تتحوّل بدورها إلى سؤالٍ فلسفيّ جديد، ومنه يُستنتج أنّ السّؤال الحامل لمشكل معرفي، بالقدر الذي يبعثُ فينا الدّهشة والتّفكير، يظلّ حاملاً في نفس الوقت لقوّته وحيويّته ومُتأبّياً عن الانغلاق والفناء في الإجابة. "والقُدرة على السّؤال تعني القُدرة على الانتظار ولو كان ذلك مدى الحياة كلّها"([1]) على حدّ عبارة هايدغر، ويقصد بذلك أنّ السّؤال الأصيل يظلّ متجذّراً في الجواب إلى ما لانهاية وهو ما يؤكّده في سياقٍ آخر مشابه قائلاً: "كلّما زاد اقترابنا من الخطر تبدأ الطّرق إلى المُنقذ تلمعُ بجلاء أكبر، ونُصبحُ أكثر تساؤلاً، ذلك أنّ التّساؤل هو قمّة التّفكير"([2]). ويذهبُ "موريس ميرلوبونتي" بعيداً في تناول فلسفة السّؤال بأن يمنحه بُعداً أنطولوجيّاً، أي أنّ الوجودَ الإنساني في حدّ ذاته سؤالٌ ومنذ أوّل سؤال يبدأ الإنسان في تخطّي عتبة الحيوانيّة ففي "المرئي واللاّمرئي" يقول: "إنّ الأسئلة مُحايثة لوجودنا، لتاريخنا، فهي تولد بداخلها، وتموت بداخلها كلّما حصلتْ إجابةٌ ما، وفي غالب الأحيان فإنّها تتحوّل بداخلنا"([3]).فكأنّما الأسئلة لا تموت باعتبارها جوهر الإنسان، وحتّى الإجابات لا تُنهي المساءلة بل تظلّ مستكنّة فيها، فهي في النهاية أسئلة مُقنّعة وإن ظهرتْ بمظهر الإجابات.

إن الحديث عن تجديد الخطاب الديني في الفكر العلماني الحداثي يدعونا للوقوف على عنصرين مهمين أعتبر أنهما المكون الأساس لخطاب التجديد لدى التيار العلماني، أما أولهما فهو الاجتهاد؛ ماذا نقصد بالاجتهاد، وما هي حدوده وأبعاده؟
والعنصر الثاني، و هو المصلحة؛ ماذا نقصد بالمصلحة وما هي حدودها وأبعادها؟
إن الانطلاق في تحرير هذه الورقة من هذين العنصرين سيصل بنا في الأخير إلى النتيجة المطلوبة، وهي الوقوف على أبعاد دعوى تجديد الخطاب الديني وأهداف هذا المشروع.
لقد تعمدت أن أبدأ بالاجتهاد قبل التجديد، لأن الاجتهاد يعتبر مدخلا للتجديد في الفكر الحداثي، على اعتبار أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا بالاجتهاد، لذلك لا بد من تحديد معنى الاجتهاد أولا إذ من خلاله يمكن أن ندرك حقيقة التجديد بمعناه الحداثي.
لست أريد أن أتتبع أصول هذا المصطلح الأصولي المحض بقدر ما أريد أن أنطلق من تحديده لدى علماء الأصول، ثم مراحل تطوره إلى أن تغيرت معالمه ودلالاته لدى الفكر الحداثي، وذلك حتى لا نكون متسرعين في إصدار أحكام مسبقة حول الموضوع.
لقد عرف مفهوم الاجتهاد تطورا كبيرا داخل الحقل المعرفي الديني ذاته، إذ أنه انتقل من كونه معنى من معاني القياس كما نجده مع الشافعي، فالاجتهاد عنده لا يخرج عن دائرة القياس حتى قال: " والاجتهاد القياس"[1]، وحتى إذا تجاوزه فإنه لا يتعداه إلا للقياس الخفي (الاستحسان)، " ولم يكن دالا على بذل الجهد لاستنباط الأحكام من النص وفي ذاته"[2]، وهذا المعنى الأخير لا نكاد نجده إلا مع تطور هذا المفهوم عند الأصوليين خصوصا بعد القرن الخامس الهجري إذ أنه أصبح بمعنى " استفراغ الوسع في النظر في الأحكام الشرعية"[3]، وبذلك نجد أن معنى الاجتهاد قد تجاوز القياس إلى أن أصبح يطلق على النظر في دلالات النص والبحث في أبعاده ومقاصده، خصوصا إذا كان النص ظني الدلالة. وبالتالي فإن دائرة الاجتهاد قد اتسعت مع تطور علم الأصول منذ الشافعي إلى مابعد الشاطبي، وإذا رجعنا إلى الخطاب العلماني فإننا نجد أن وجه المطابقة بينه وبين الأصوليين في تفسير معنى الاجتهاد لا يختلف في ظاهره، إلا أنه أصبح من الضروري عندهم رفع تلك الشروط التي وضعها الفقهاء للاجتهاد، وترك المجال مفتوحا لكل التيارات الفكرية على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية، وذلك من خلال " حل مشكلة شروط الاجتهاد [...] تلك الشروط التي وضعها العقل الفقهي منذ أكثر من ألف عام واعتبارها ضوابط وقواعد للاجتهاد حتى في العصر الحالي وفي كل العصور"[4]، فالاجتهاد في الفكر الحداثي مختلف في عمقه عن معناه الشرعي الذي عرفه الفقهاء، إذ أصبح الاجتهاد بمعنى (التأويل الجديد للإسلام)، " وفي اعتقادنا فإنه حان الوقت لدعم ما يسمى "إسلام التأويل الجديد" لأنه يحاول فتح باب الاجتهاد مرة أخرى [...] وإسلام التأويل الجديد يحتوي على تيارات مختلفة واتجاهات عديدة"[5] ، وبهذا المعنى يصبح الاجتهاد وتأويل النصوص الدينية متاحا للجميع فضلا عن أهل الاختصاص من فقهاء وعلماء، وإذا كان الاجتهاد من المنظور الحداثي بهذا المعنى فإننا نقول؛ إن الخطاب الحداثي لم يستوعب ـــ حتى الآن ـــ معنى الاجتهاد كما قررته المنظومة الفقهية، ولم يقف على معانيه وأبعاده وإن حاول ترصدها، ثم إن الادعاء بسد باب الاجتهاد أمر غير مسلم به، وأي اجتهاد يقصدون؟

         يمثل هذا المقال حصيلة أولية لعمل مجهد، امتد على مدى أزيد من أربع سنوات متقطعة، في محاولة قراءة وفهم العوار الكرنولوجي المزمن لمصادر السيرة النبوية، وينطلق من سؤال واضح و بسيط. هل كانت وقعة بدر الكبرى بين المسلمين بقيادة النبي محمد بن عبدالله، والمعارضين لدعوته من قبيلته قريش، بزعامة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، في: "يوم الجمعة لست أو سبع عشرة ليلة  خلت من  شهر رمضان"[1]  من السنة الثانية للتأريخ العمري، الموافق في الكرنولوجيا السائدة يوم الثلاثاء - أو الأربعاء تنزلا - 16 مارس 624 ميلادية غريغورية؟ وهل كان ثمة إجماع قديم حول هذا التأريخ في مصادر السير والمغازي؟ أم أن هناك من تجرأ وأرخ هذه الوقعة العظمى خارج رمضان الجمهور؟

نعم هذا هو التأريخ وموافقه الشمسي الميلادي! يمكن للقارئ أن يتجاوز المفارقة الزمنية القائمة فيه بالهروب إلى الأمام، متذرعا بالهلال، يمكنه أن يزعم أن الزمن النبوي زمن مقدس عصي على القبض، مفارق لأي محاولة للضبط، بل أكثر من ذلك، يمكنه أن يتهم الإصلاح الغريغوري بخلخلة نظام الأيام.

 قد يجادل أيضا في أن الشهر شهر رمضان، وإن الخلاف قديم في العدد دون اسم اليوم والشهر رادا بذلك روايات متظافرة ينصر بعضها بعضا عن شهود عيان، تضاهي في حجيتها الروائية لدى المحدثين والمؤمنين بقداسة الرواية أحاديث شعائر الإسلام، لصالح تـأريخ ترقيعي ثابت كلنداريا في شهر النسي المواطئ للتأريخ السائد: "الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت[2]" من شهر جمادى الأولى النسي المواطئ لشهر رمضان العدة المستقيمة من السنة الثانية للتأريخ العمري، الموافق 19 مارس 624 ميلادية غريغورية، وتأريخ يوم الخروج  إلى بدر تبعا لذلك، بيوم "الاثنين لثمان خلون"[3] الموافق 8 مارس 624 م. غريغورية، وهو تأريخ ابن هشام. أو بتاريخ ابن اسحاق "الأربعاء لثلاث خلون"[4] الموافق 3 مارس 624م.غريغورية، بيد أن المفارقات في تأريخ وقعة بدر الكبرى أكبر من أي حل ترقيعي جاهز، وبمناسبة الحديث عن المفارقات، فإن هذا التأريخ السائد لبدر الكبرى، هو أيضا جمادى النسي وربيع أول شبح على رأس خمسة وعشرين شهرا، أرخ به الواقدي مقتل خنيس بن حذافة السهمي ربما ثاني اثنين قتلا ببدر؟ أو وفاته بالمدينة مرجع النبي منها، وزواج عثمان بن عفان من أم كلثوم بعد وفاة أختها رقية والرسول ببدر، وهو أيضا تأريخه لغزوة ذي أمر ولسرية محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف؟!

بقدر ما يبدو هذا السؤال نوعا من الترف الفكري، فإن الضبط الزمني للواقعة التاريخية يعتبر بالنسبة  لنا عاملا أوليا حاسما في الرقابة على الرواية الشفوية، ومنخلا يسمح بفرز  الخبر التاريخي وتصنيفه وإضفاء طابع المصداقية التاريخية عليه، بل والبناء عليه كنقطة مرجعية في تركيب تصور ذهني عن الوقائع التاريخية السابقة واللاحقة وفق منظور اتساقي واضح، ومن ثمة الخروج بسردية تاريخية تقارب الحدث التاريخي العام من زاوية العلاقات السببية والسياقية القائمة بين مجموع الأحداث المتشابكة التي تفاعلت في صناعته. بل لا نبالغ إن قلنا: إن زحزحة تأريخ واحد يمكن أن يطيح بكامل السردية، فاتحا  بذلك الباب لذاكرة الهامش المقصي من الحضور، للبروز والتجلي في أبهى الصور.

 يكتسب هذا السؤال في واقع الأمر جدته وجديته، بالنظر إلى الاستعادة المحينة لكل وقائع الإسلام المبكر على مدى التاريخ الإسلامي كأحد أهم طقوس حفظ الذاكرة الروائية من الاندثار؛ وفي سياق فكري عالمي يتسم براهنية السؤال عن الإسلام المبكر، وبمراجعات لتاريخية هذا التاريخ ومصداقيته، بوضعه على محك الاختبار و الدرس الأكاديمي المبعثر الرؤى هنا وهناك، و بطروحات أضحت أكثر سماجة والتصاقا بخيالات أصحابها من أي وقت مضى، تاركة "المعطيات الهشة القابلة للتلف" التي حملها التقليد الروائي على مدى عهود طويلة من الزمن، في نوع من الجحود والإنكار لمجهود خرافي بالقياس إلى تاريخ أي أمة أخرى في بداياتها المبكرة. وبدل الاستعادة المتكررة لهذه الذكريات النبوية الحاضرة في المعيش اليومي لجميع المسلمين، فإن الوقوف عندها بالدرس والتحليل والنقد المتجاوز لتقديس الرواية الشفوية وأقوال السلف لكفيل بخلق عقلية أخرى أكثر جدلا في مقارعة الخصوم الثقافيين لهذا التراث، و بناء تصور تاريخي أكثر اتساقا  وتصالحا مع بعضه البعض أولا وأخيرا.

بهذا المعنى، فإن المفارقة القائمة في تأريخ وقعة كبرى من حجم وأهمية بدر القتال تضع كل فهمنا التاريخي أو جزء منه على المحك، وإن استمرار مثل هذا العوار الكرنولوجي المزمن في مصادر تاريخ  الإسلام، يعيق بناء أي تصور حقيق بالاعتبار والإنصاف الموضوعي النسبي لما هي عليه الأمور في واقع الأمر، مما يزيد من حدة التشويش الروائي والضبابية القائمة حول عدد من الوقائع والأحداث المرتبطة بالسيرة النبوية، وبتاريخ الإسلام المبكر بشكل عام.

قال السهيلي " وولد بالغفر من المنازل وهو مولد النبيين". ومنزلة الغفر لمن لا يعرف من منازل القمر، يوافق طلوعها  السنوي تقريبا الثاني عشر من شهر نونبر ؟؟  وقال الذهبي "نظرت في ان يكون مولده صلى الله عليه وسلم في ربيع وأن يكون ذلك في العشرين من نيسان - شهر أبريل- فرأيته بعيدا من الحساب يستحيل أن يكون مولده في نيسان إلا أن يكون مولده في رمضان" (سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي -ج 1- ص 336).

ولد الرسول محمد بن عبد الله حسب الرواية السائدة بمكة، يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وبعث يوم الاثنين على رأس الأربعين من عمره الشريف في شهر رمضان، وقدم المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعد ان بعثه الله بثلاث عشرة سنة، وتوفي - بعد عشر سنين كوامل-  يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، في  العام الحادي عشر للتاريخ العمري. (السيرة النبوية، ابن هشام الحميري- ج 1 ص 155. ج 2 ص 427).

ثمة أقوال أخرى غيبت في قاع الذاكرة الروائية، فقيل لاثنتي عشرة خلت من رمضان. وقيل ولد في صفر. وقيل في ربيع الآخر. وقيل في المحرم لخمس بقين منه...، ليستقر قول جماهير أهل السنة بالخصوص على ما ورد أعلاه من تقرير لا يخلو من اشكالات و تناقضات حسابية، في ظل استحالة مولده بربيع الأول لما كانت بعثته في شهر رمضان على رأس الأربعين من عمره الشريف؟ واستحالة مواطأة هذه الأثانين المذكورة كلنداريا، ما يجعلها  والحالة هذه أياما شبحية لا وجود لها في الرزنامة السائدة، وأقرب إلى  تواريخ محددة بالتقدير الحسابي الارتجاعي؛ أكثر من كونها  أخبارا أصيلة عن شهود عيان. ولم يتجاوز الاخباريون على ما يبدو فيما يخص تحديد تأريخ المولد سقف طرح 53 عاما، وهي عمره الشريف ساعة هجرته - كما نص على ذلك ابن اسحاق في السيرة- من تأريخ وصوله إلى المدينة في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، الموافق في الكرنولوجيا السائدة شتنبر 622 ميلادية،  ثم أضافوا إليه عشرة أعوام كاملة، لتكون وفاة النبي بالتالي في يوم اثنين شبح لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من العام الحادي عشر للتاريخ العمري، الموافق يونيو 632 ميلادية. فكأن القوم لم تتوفر لهم من كسور الأيام إلا الثاني عشر فاحتاجوا إلى اعتبار جل مدد مراحل دعوته مددا كاملة بعمليات طرح وجمع لا أقل ولا أكثر، ليكون الناتج دائما هو الثاني عشر من ربيع أول، فكان تقريرهم مولده في الثاني عشر من ربيع الأول حاصل عملية حسابية لا محصلة رواية عن شاهد عيان، وأنى لهم ذلك وربيع قريش ربيع ضلالة لا ربيع عدة مستقيمة؟

كتاب من تأليف الفيلسوف المصري الراحل فؤاد زكريا، صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في العام 1987، قبل أن تعيد مؤسسة هنداوي نشر هذا العمل في طبعة عصرية مؤخرا. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية، تدور في مجملها حول رصد مَواطن القصور التي تعتور تعاطي نماذج من الفكر الإسلامي المعاصر مع قضايا مصيرية يتوقف عليها مصير الأمة، وذلك في سياق الصعود الكاسح لما سمي وقتئذ ب "الصحوة الإسلامية"، التي اكتسحت المشهد الفكري والمجال التداولي في أعقاب انحسار تأثير التيارات الأيديولوجية المنافسة (قومية، اشتراكية، ليبرالية).

أولا: في نقد مضمون الصحوة الإسلامية

إن تعبير "الصحوة" - الذي يُستخدم عادة لوصف حركات الإسلام السياسي وتيارات سلفية متعددة - لا يخلو من لبس وتضليل، فالصحوة على مستوى الكم واتساع قاعدة المنتمين إلى تلك التنظيمات لا تعني البتة صحوة على مستوى المضمون الفكري المتعلق بها، لأنه أقل عمقا وجرأة من السلفية الإصلاحية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إبان عصر اليقظة العربية.

وتأسيسا على ذلك، يضيء المؤلف على مظاهر ذلك العجز الفكري، وفي جملتها الإمعان في التركيز على الجوانب الشكلية من العقيدة (اللباس، الشعائر التعبدية...الخ)، والذي يقابله عدم امتلاك رؤية واضحة وعملية فيما يخص القضايا المصيرية التي تتوقف عليها نهضة المجتمعات (التنمية الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، العلاقات الدولية... الخ).

ثانيا: لماذا لا نمتلك رؤية واضحة للمستقبل؟

إن التفكير المستقبلي المبني على أسس علمية، والمرتكز على التخطيط والرؤية المتبصرة واستباق المشكلات قبل وقوعها، لم يجد طريقه بعد إلينا سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات ما خلا حالات محدودة، الشيء الذي يفضي إلى استفحال المشاكل البنيوية واستعصاء حلها (مديونية الدول، الانفجار السكاني، عدم تنويع الاقتصاد بالنسبة للدول الغنية بالموارد النفطية المعرضة للنضوب... إلخ).

وعليه، ينبه فؤاد زكريا إلى أهم الأسباب الكامنة وراء تلك الظاهرة المقلقة، ولعل من أبرزها الاعتقاد بأن المستقبل ليس من صنع البشر وإنما هو في علم الغيب ويدخل في نطاق المشيئة الربانية، وهو التصور الذي يُسقط من حساباته دعوة الدين إلى إعمال العقل والأخذ بالأسباب. ولما كان عصر النبوة والخلافة الراشدة هو المرجع الأساسي والأمثل للتقدم في إطار الرؤية الإسلامية السائدة، فلا يمكن أن يكون المستقبل المنشود إلا إحياء لذلك التاريخ بهذه الدرجة أو تلك، الأمر الذي يفسر سيادة النظرة التشاؤمية للتاريخ بدل النظرة التطورية والتصاعدية.

   أن تدرج السنة النبوية كنص مقدس، يضاهي في حجيته النص القرآني، وأن يمنحها فقهاء الإسلام الشرعية التشريعية، على الرغم من كل المؤاخدات الموضوعية التي ووجهت بها، إن قديما أو حديثا، فإن ذاك ما يتطلب تسليط الضوء على مناطق العتمة العديدة التي تعتري تراثنا الديني.

  يجمع فقهاء الإسلام أنفسهم، على أن السنة النبوية ليست إلا ظنية الثبوت، كما وأنها ليست كلها قطعية الدلالة.  يقول النووي: " وذكر الشيخ ( أبو عمرو بن الصلاح ) أن ما روياه أو أحدهما (البخاري ومسلم) فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر."(1) . وحيث إن الاختلاف هو السمة المميزة في كل القضايا التي خاض فيها رجال الدين المسلمون، فإننا نجدهم هنا وقد اختلفوا كذلك فيما إن كانت المرويات الحديثية قطعية الثبوت أم ظنية. إلا أن النووي يؤكد  في هذا النص، على حقيقة أن أكثرية " أهل العلم" ، تذهب إلى كونها ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة. وهذا ما أكده الفقيه الأزهري محمد شلتوت حين قال " وإذا كانت العقيدة لا تثبت إلا بنص قطعي في وروده ودلالته، كان لا بد من تبيين المبادئ التي تقوم عليها قطعية السنة أو ظنيتها. وأول ما يجب التنبه إليه في هذا المقام، أن الظنية تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة... ومتى لحقت الحديث على أي نحو ...فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعيا في وروده وفي دلالته " (2)  

  وإذا ما نحن علمنا؛ أن نسبة الأحاديث المتواترة لا تكاد ترى بالمقارنة مع أحاديث الآحاد، إذ لا تتجاوز في أحسن الأحوال خمسون حديثا من أصل آلاف الأحاديث المتضمنة بالمروية السنية المعتمدة؛ (مسند أحمد وحده يضم بين دفتيه ما يقارب 38 ألف حديث) خلصنا؛ إلى حقيقة أن المدونة الحديثية السنية ظنية الثبوت، ولا يصح بالتالي الأخد بها، وهذا بمعايير أهل السنة أنفسهم، وتطبيقا لقاعدتهم الفقهية القائلة بــ: "ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال". وهذا ما يحيلنا على حجم معضلة التشريع في الإسلام.

  ولعل أسئلة مشروعة تطرح نفسها هاهنا؛ إذ كيف يعقل أن نجعل من السنة النبوية "وحيا إلهيا ثانيا" كما أصل لذلك فقهاء الإسلام، وهي ظنية الثبوت؟ وكيف يمكن اعتبارها "وحيا إلهيا ثانيا" وهي تخالف الوحي الأول (القرآن) في العديد من مواضعها؟ وكيف يمكن منح الشرعية التشريعية لأصل من دون أن يكون قطعي الثبوت؟

   لقد ووجهت المدونة الحديثية السنية بالكثير من الانتقادلات إن قديما أو حديثا، تخص بالأساس ما تضمنه مثنها من غرائب وأساطير وأحكام، تخالف في العديد منها القرآن نفسه، وتخالف العقل والعلم والفطرة الإنسانية السليمة، وتشرعن للظلم، والقهر، والميز العنصري، والعنف، والكراهية... فكيف يمكن القبول مثلا؛ بمنظومة فقهية تشرعن قتل المرتد، بناء على حديث تشوبه عيوب كثيرة على مستوى السند كما المثن (من بدل دينه فاقتلوه)، في الوقت الذي يؤكد فيه نص قرآني صريح الدلالة،  على حرية العقيدة (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)؟ سورة يونس الآية 99.

لعل متقدمي الأصوليين لم يفردوا  قاعدة "لا اجتهاد مع نص" مبحثا أو بابا خاصا، وإنما اعتبروها داخلة في أبواب الاجتهاد ومتفرعة في بعض قواعده العامة، ولذلك يصعب على الباحث أن يصنف القاعدة هل تدخل في الحقل المعرفي الأصولي، أم في الحقل المعرفي الفقهي، مادام أن كلا من الأصوليين والفقهاء لم يهتموا بها حق الاهتمام، ولذلك لم يتم التكشيف عن مضمرات هذه القاعدة المهمة رغم ذكرها في المصنفات الأصولية خصوصا في باب التعارض والترجيح.

وعلى العموم فإن أكثر من تكلم عن هذه القاعدة قال بعدم تجاوز النص والاجتهاد مع وجوده، بل إن الاجتهاد يتطلب عدم وجود نص في المسألة، لكن السؤال المطروح هنا هو مالذي يقصده الأصوليون  بإطلاقهم لفظة النص؟

وهل كل نص يسمى في عرف الأصوليين نصا يمنع معه الاجتهاد؟ ثم ماهو الاجتهاد المقصود عند الأصوليين؟ وماهي مضمرات القاعدة؟

وهنا سوف أسوق بعض تعريفات الأصوليين للنص ليتبين لنا مقصودهم من إطلاق هذا اللفظ:

يعرف صاحب المنخول النص بأنه " اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال، وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع"[1]

ويعرفه أيضا في موضع آخر بأنه " هو الذي لا يحتمل التأويل"[2]

ونجد القرافي يفصل في التعريف شيئا ما فيقول:" النص فيه ثلاث اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء العدد، وقيل مادل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق، وقيل: مادل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء"[3]

ومن المتأخرين عرفه الأستاذ علي حسب الله بقوله: " هو اللفظ باعتبار دلالته على المعنى المقصود بالسوق أصالة، دلالة تحتمل التفسير والتأويل مع قبوله للنسخ في عهد الرسالة"[4]

مقدمة..

أنْ توظّف المصطلح التراثي القديم في الكتابات الحديثة، يُقلل من قيمتها وقوتها؟ أم أنَّ التّخلّي عن المصطلح القديم وهجرانه والتنكر له بدعوى أنه لا يؤدي أو لا يُوصِلُ إلى المراد والمبتغى من النص، يعطي النص قيمة أكبر وإبداعا؟ وهل أمام التغييرات الطّارئة والوافدة من الغرب، وتسارع النظريات النقدية، وفي إطار ما يُسمّى بالمثاقفة، أصبح من الضروري على الكاتب الانخراط في هذه الموجة بدعوى مسايرة ما جدَّ في عالم الكتابة والنقد لإثبات قدراته على المواكبة والتطور؟

بين الإحياء والاحتفاء..

بما أن الكتابة دعوة إلى اكتشاف الاستثنائي والمنسي في اللغة، ـ إذ، لا يكتب الكاتب إلاّ إذا كان لديه دافع قوي لموضوع جديد، لغة وتيمة ـ  والجميل والمدهش في السرد والحكي، وبما أن اللغة تُميّزُ نصّا عن نص، وتُعلي نصا وتخفض نصّا، بترويض مصطلحاتها واستخراج مكنوناتها الدلالية، وبما أن اللغة هي المُشَكّل الأساس لكل سرد، بل هي السرد ذاته، وبما أن اللغة كائنٌ حي، وانسجامٌ وتناغمٌ ونظامٌ، ونسجٌ يحتاج لقلم درب يشد القارئ دون أن يُشعره بتجوال النص وصراعه بين الحديث من المصطلحات وقديمها، بالحفاظ على المستوى الفني للنص، والخيط الجامع والنّاظم للسرد ليكون لبنة قوية ومتماسكة، وبناء معماريا مترابطا ومتراصّا بعضه ببعض، فإنّ حركية المصطلحات القديمة تحيى زمانها، ويتلاشى بريقها حين يقل استعمالها، وتتطور بتطور الحركات الحضارية أو الفكرية أو العلمية، وكل تحول في المسيرة الإنسانية عموما من تقدم فكري أو علمي يؤثر بالضرورة على المصطلح القديم، لكنه لا يموت، قد يركن إلى الظل، لكنه أبدا يظل في انتظار من يبعث فيه الحياة، ويسمح للمصطلح الجديد أن يحيى زمانه هو الآخر، مؤثّرا ومتأثرا بما يموج من حوله من تفاعلات نقدية وإبداعية وعلمية، مانحا لنفسه مكانة قوية راسخة تتجدد بتجدد اللغة.

إن توظيف المصطلح القديم في الكتابات الحديثة، لا بد أنه عمل شاق يحتاج إلى كاتب يفني أكثر وقته ـ حين كتابة نص ما ـ جُهدا وتمحيصا ومسْحا شاملا مضنيّا وذكيا للمعاجم العربية، لتدقيق المصطلح والمفهوم الدّال على المعنى المراد طرحه، كما يقتضي إلْماما كافيا وتفكيرا بلُغةٍ تمَّ نسيانها وإهمالها، والثقة فيها بأنها ما زالت قادرة على إيجاد صِيغٍ للتعبير وإيصال المعاني، مع استثمار ما تمنحه اللغة من أساليب الكتابة لإنتاج نص جميل بأثر قرائي جميل، وتأثير متميز يجعل القارئ يعود إلى منابع اللغة، والبحث في المعاجم، الشيء الذي افتقدناه حين قراءة أي نص أدبي غني بالمصطلحات.