جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء العشرون) - أحمد رباص

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

قام هيجل بخطوتين في جوابه على السؤال: ما نوع الحقيقة التي تحيل إليها القضايا الرياضية؟ في الأولى أوضح أن الرياضيات تخضع، مثل الفلسفة، للديالكتيك. فبعيداً عن أن يكتفي ببيان نتيجة مجردة، يجب على عالم الهندسة أن يقدم برهاناً عنها، ويربط هذه النتيجة بالأسباب التي أدت إليها. ولذلك لا توجد "إجابة واضحة" في الرياضيات، بمعنى أنه يمكننا إعطاء إجابة فورية لمشكلة ما، دون عملية جدلية.
في الرياضيات، يعد البرهان لحظة أساسية من لحظات الحقيقة، حتى لو لم نكن واعين بها دائما: "حتى في المعرفة الرياضية، ما يزال الطابع الأساسي للبرهان بعيدا عن أن يكون معناه وطبيعته لحظة من النتيجة الصحيحة: في هذه النتيجة يكون البرهان على العكس النقيض من ذلك شيئا قد مضى واختفى".
مع البرهان يظهر الجدل: ذلك الذي يربط النتيجة بالأسباب التي أدت إليها، ولكن أيضا الذي يوحد الذات (عالم الرياضيات) بالموضوع (المبرهنة) في عملية المعرفة. فعلا، إنما عن طريق البرهان سيقتنع عالم الهندسة بالنتيجة (المبرهنة)، وسيمنحها موافقته الباطنية:
"لن نعتبر عالم الهندسة شخصا يحفظ نظريات أقليدس عن ظهر قلب، أي من الخارج، دون أن يعرف براهينها، دون أن يستوعبها […] بطريقة استبطانية".
لكن سنجد هنا العلاقات الجدلية التي سوف تقام بين الذات والموضوع، بين الوعي وموضوعه. هكذا، "حتى الحقائق المجردة من النوع المذكور كأمثلة ليست معفاة من حركة الوعي الذاتي"، هذه الحركة الجدلية التي وصفناها أعلاه.
الأمر نفسه ينطبق على الحقائق التاريخية (تاريخ ميلاد قيصر): "إنما فقط في معرفة هذا الأخير بصورة مشتركة مع أسبابه سيتم اعتباره شيئا له قيمة حقيقية، حتى لو أن [...] النتيجة المجردة هي وحدها ما يفترض فيها أن يتعلق به الأمر".
لنستنتج أن "النتيجة المجردة"، "الجواب الواضح"، هما، مثل المعرفة المباشرة وأي شكل آخر يدعي الإفلات من الديالكتيك، مجرد أسطورة.

في الخطوة الثانية، أكد هيجل أن الجدل في الرياضيات يتسم أساسا بفقره. نتيجة لذلك، لا يمكن لهذا التخصص إلا أن يدعي أنه يدرك حقيقة أقل شأنا. وهي إحدى أولى مراحل البحث عن الحقيقة، وليست مرحلتها الأخيرة كما يظن الناس.
تعتمد الرياضيات على أدلة نتائجها. ولكن هذا الدليل ما هو إلا علامة على فقر موضوعها:
"إن بداهة هذه المعرفة المعيبة التي تفتخر بها الرياضيات، والتي تتباهى بها أيضا أمام الفلسفة، لا تتوقف إلا على فقر غايتها وعلى الطبيعة المعيبة لموضوعها، ويعود إذن إلى نوع لا تملك الفلسفة إلا أن تزدريه".
إنما العدد هو الموضوع المناسب للرياضيات. يتعلق الأمر بالقياس، بالعد، بإجراء العمليات، بتحويل الأرقام إلى أحجام... لكن، كيف نفكر في الأمر من وجهة نظر جدلية؟
"– الغاية التي تصبو إليها، أو حتى مفهومها، هي الحجم. وهذا يعني بالضبط العلاقة غير الجوهرية، بدون مفهوم. ولهذا فإن حركة المعرفة تتم على السطح، لا تمس الشيء نفسه، ولا تمس الجوهر ولا المفهوم، ولهذا السبب لا تكون تصورا".
من ناحية أخرى، يكون الهدف الصحيح للهندسة هو دراسة الأشكال في المكان. يمكن القول أن المكان هو الشيء الأكثر واقعية. لكن التفكير السريع يكفي لإدراك أن هذا عنصر مجرد وغير فعال. لكن، لنتذكر أن الحقيقة بالنسبة إلى هيجل تكمن في الملموس والفعال.
"- المادة التي تكشف عنها الرياضيات ككنز مبهج من الحقائق هي المكان والواحد. والمكان هو الوجود الذي ينقش فيه المفهوم اختلافاته كما في عنصر فارغ وميت، أو أنه على حد سواء غير متحرك وبلا حياة. والفعال ليس مكانية كما نعتبره في الرياضيات".
نتيجة لذلك، لا يمكن للتأمل الحساس الملموس ولا للفلسفة أن يكتفيا بعدم الفعالية هذا الذي تعاني منه قضايا الرياضيات.
هذا التجريد يدعو إلى التشكيك حتى في الطابع الجدلي للرياضيات، والذي أكده هيجل مع ذلك في الفقرات السابقة:
في هذا النمط من العنصر غير الفعال، لا توجد، فضلا عن ذلك، سوى الحقيقة غير الفعالة، أي فقط القضايا الثابتة، الميتة؛ يمكننا أن نتوقف عند كل واحد منها؛ فالتالية تبدأ من جديد لحسابها الخاص دون أن يتم نقل الأولى إلى التالية، ودون أن يولد من طبيعة الشيء نفسه، بهذه الطريقة، اتصال ضروري [لهذا السبب] تسير المعرفة على طول خط الهوية. ما هو ميت فعلا، لا يتحرك بذاته، لا يصل إلى اختلافات جوهرية، لا يصل إلى التضاد أو اللاهوية الجوهرية، ولا إلى عبور النقيض للتقيض، إلى الحركة النوعية المحايثة، إلى الحركة المستقلة".
يبدو لنا أن ما يؤكده هيجل هنا هو بالأحرى أننا نجد في هذا التخصص نوعا أدنى من الديالكتيك المفقر، على صورة موضوعه، العدد، ونوع الحقيقة التي يصل إليها.
بسبب تجريدها، تمثل الرياضيات مرحلة واحدة فقط من المراحل الأولى للمعرفة، وليست المرحلة النهائية. في الواقع، يفشل هذا التخصص في الارتقاء إلى ذروة المفهوم، الذي هو الموضوع الصحيح للفلسفة، والذي يحدد في النهاية العلاقات الرياضية نفسها:
"ذلك لأن الرياضيات لا تأخذ في الاعتبار سوى الحجم، الفرق غير الجوهري. تتجاهل كون المفهوم هو الذي يقسم المكان إلى أبعاده ويحدد الروابط بين هذه وبداخلها".
في حين أن "الفلسفة […] لا تأبه بالتحديد غير المركزي؛ فهي تفحص التحديد إلى الحد الذي يكون فيه تحديدا جوهريا. فعنصرها ومضمونها ليس المجرد أو غير الفعال، بل الفعال، ما يطرح ذاته ويحيى لذاته، الوجود في مفهومه".
من ثم نفهم لماذا أكد هيجل أن طبيعة حقيقة من هذا النوع تختلف عن طبيعة الحقائق الفلسفية . لا يمكن للحقيقة الرياضية أن ترتبط بالمفهوم؛ فالفلسفة هي التي تتمتع بهذا الامتياز؛ ونتيجة لذلك، فهي لا تتعارض مع في ما بينها، ولا يمكن للرياضيات أن تشكل بأي حال من الأحوال اعتراضا أو نموذجا للفلسفة.
ما هو المنهج الذي يكمن وراء هذا العلم الذي اقترحه هيجل؟ بنفس الطريقة التي يكمن بها المنطق وراء العديد من التخصصات الأخرى، ماذا سيكون منطق فينومينولوجيا الروح هذه؟
ليس هناك في الواقع منهج ولا منطق يمكن اعتباره شرطا ضروريا لتكوين وفهم هذا العلم، هذا النسق الهيجلي. بالفعل، لا يكون المنهح والمنطق ضروريين إلا عندما نفصل بين شكل ومحتوى العلم، بين النسق نفسه وموضوعه، الحقيقة، وعندما يسعى أحدهما إلى تنظيم نفسه للوصول إلى الآخر.
لكن، هنا، لا يتعلق الأمر بتشكيل "نسق" جديد، بل بكشف الحقيقة نفسها، والسماح لها بالانتشار ذاتيا في أشكالها المختلفة: "الحقيقة هي حركة نفسها داخل ذاتها، بينما هذا المنهج هو المعرفة خارج ذاتها. ولهذا فهو من خصائص الرياضيات.
ليست هناك حاجة إذن إلى المنطق كأساس مسبق للنسق، أو، بعبارة أخرى، "المنهح ليس [...] شيئا آخر سوى بناء الكل القائم في جوهريته الخالصة"، أي عرض النسق ذاته: إن عرضه بشكل صحيح هو المنطق نفسه.
لهذا السبب فإن النسق هو الشكل الأنسب لعرض الحقيقة، وليس الجهاز الرياضي: "الحالة العلمية التي أورثتنا إياها الرياضيات – كل جهاز التفسير، التقسيم الفرعي، البديهيات، سلسلة النظريات، ببراهينها، مبادئها، والاستنباطات والاستنتاجات التي نستخلصها منها – أصبحت قبلا، على الأقل في الرأي نفسه، قديمة جدا".
يمكن توجيه هذا النقد نفسه، في الفلسفة، إلى السكولائية وحتى إلى "المحاورة الاستدلالية" السقراطية أو المشائية: هذه ليست أشكال كافية لعرض الحقيقة:
"إن طريقة طرح قضية ما، وتقديم مبرراتها، وكذلك طرح الآخرين لدحض القضية المضادة، ليست هي الصورة التي يمكن أن تظهر بها الحقيقة على الساحة".
ومع ذلك، عندما نفكر في نسق ما، أو في علم ما، فإننا نتخيل الجداول والخطاطات التي ستختزل ثراء الكل في عدد قليل من العناصر. مثلا، يترك جدول المقولات الموجود في كتاب كانط "نقد العقل الخالص" انطباعا راسخا لدى القارئ ويضفي طابعا علميا على العمل.
ليس هذا ما ينوي هيجل اقتراحه: بالنسبة إليه لا يتعلق الأمر بتلخيص مستقبل الروح في جداول قليلة. سنفقد هنا، في هذا التجريد وهذه الشكلية، حياة المفهوم:
"من المؤكد أن "الشكل الحقيقي قد استقر في محتواه الحقيقي، ونشأ مفهوم العلم"، لكن "لا يمكننا أن نعتبر استخداما علميا لهذا الشكل الذي به ينحدر إلى مستوى خطاطة هامدة، ترسيمة شبحية النمط بالمعنى الضيق، والتنظيم العلمي وقد اختزل في جدول".
أحيانا، نعارض العلم والحياة؛ ننكر أن ثراء الكل يمكن أن يقتصر على نشق ما: وهذه المعارضة على وجه التحديد هي التي يهاجمها هيجل هنا. وهو يحاول تحديد الشروط التي يمكن من خلالها رفع هذا الأمر، ووصف النظام الذي يمكن أن يفسر ثراء الحياة.
للقيام بذلك مر بمرحلتين: بدأ بإثبات حق المنتقدين لهذا النوع من النسق أو العلم الذي يعمل بخطاطة، والذي ليس إلا ثمرة "فكر الفهم":
"فهم النوع الجدولي يحفظ لنفسه [ليس بمعنى الحفاظ بل المصادرة] ضرورة ومفهوم المحتوى، ما يصنع الملموس، الفعالية والحركة الحية للشيء الذي يضعه في لوحته، أو وبتعبير أدق، لن نقول إنه يحتفظ بكل هذا لنفسه، لكنه لا يعرفه؛ لأنه لو كان له هذا الفهم للأشياء لأظهره بلا شك. إنه لا يعرف حتى الحاجة إليه: لأنه عندها سيكتم تخطيطه، أو على الأقل، بفضله، لن يتمكن من معرفة أكثر مما يقدمه فهرس المواد؛ هذا الفهم يعطي فقط ملخصا عن المحتوى، لكنه لا يقدم المحتوى نفسه".
فهم هؤلاء المنتقدون بوضوح أن ما يفلت من هذا النوع من البناء هو الحياة:
"الفهم الصوري يترك للآخرين إضافة هذا الشيء الكبير [وهو الحياة]. وبدلا من الدخول في المحتوى المحايث للشيء، فإنه ينظر دائما إلى الكل من مكان عال جدا، ويقف فوق الوجود المفرد الذي يتحدث عنه، أي لا يراه بالمرة. بينما تتطلب المعرفة الفردية، على النقيض من ذلك، أن نعود إلى حياة الموضوع، أو ما يعادل نفس الشيء الموجود أمامنا وأن نذكر الضرورة الداخلية له".
.يعطي هيجل مثالا صارخا لهذا العلم الذي ينكر الحياة، وفي نفس الوقت يفقر الكل باختزاله في بضعة عناصر في نسق: الفيزياء أو "فلسفة الطبيعة". "هذه المقاربة الصورية للطبيعة تعلمنا، مثلا، أن الفهم هو الكهرباء". نحن نعلم أن النبضات العصبية الصادرة من الدماغ (موجات الدماغ) هي ذات طبيعة كهربائية. ومن ثم نعتقد أننا نفهم حقيقة العقل، في حين أن هذه النزعة الصورية، عن باختزالها عن طريق التجريد إلى عنصر واحد، قد جعلت الجوهر يختفي: الحياة نفسها.
ضد هذا "الفهم الميت والمعرفة الخارجية"، هذه المعرفة الميتة، يدافع، في خطوة ثانية، عن نمط آخر، ما هو؟ الجواب على هذا السؤال في السطور التالية.
في الحقيقة، يجب أن ندرك أن "العلم لا ينتظم إلا من خلال الحياة الخاصة للمفهوم؛ التي فيها تكون هذه الحتمية […] روح المضمون المنجز الذي يتحرك من تلقاء ذاته".
يدعم هيجل إمكانية تقديم نسق يعرض هذه الحياة ذاتها، ويحافظ عليها. لأجل ذلك، يجب على هذا العلم أن يعيد إنتاج حركة المفهوم ذاتها، هذه الحركة الجدلية التي سبق أن فحصناها والتي يصفها هيجل هنا على النحو التالي:
"تتمثل حركة هذا الذي يوجد من جهة في أن تصير من وجهة نظرها بالذات إلى [لحظة تمايز سلبية] أخرى وفي أن يصير بالتالي مضمونها محايثا [لحظة تأمل ذاتي]، ومن جهة أخرى يستعيد هذا الذي يوجد في ذاته هذا الانتشار أو هذا الوجود الذي هو [لحظة العودة إلى الذات]".
إذن لم نعد هنا في فكر الفهم، بل ارتقينا إلى مرحلة العقل، وإلى الفلسفة في أعلى أشكالها، الفلسفة التأملية:
"طبيعة المنهج العلمي هذه، المعرفة من ناحية بأنها غير منفصلة عن المضمون، ومن ناحية أخرى بأنها تحدد من تلقاء ذاتها إيقاعها الخاص، لها عرضها الخاص، كما ذكرنا سابقا، في الفلسفة التأملية".
إن النسق الذي يدعو إليه هيجل، أي علم الكل، يجب أن يحافظ على هذه الحركة التي نجدها في قلب كل شيء، والتي يعرّفها هيجل بـ”الضرورة المنطقية” ثم “التأملية”:
"بحكم الحقيقة البسيطة أن الجوهر […] ذات في حد ذاته، يكون كل مضمون انعكاسه الخاص في ذاته". هكذا، إنما في هذه الطبيعة الخاصة لهذا الذي يوجد، والتي هي للوجود في وجوده مفهوم خاص به، تكمن بكل بساطة
الضرورة المنطقية؛ هي وحدها العقلاني وإيقاع الكل العضوي؛ إنها معرفة بالمضمون بقدر ما يكون المضمون مفهوما أو جوهرا - أو مرة أخرى، هي وحدها التأملي".
علينا أن نفكر في هذه الحركة الجدلية، وأن نعيد إنتاجها في ذاتها حتى ندرك كنهها: "ما يهم في الدراسة التي يقوم بها العلم هو بذل الجهد، وإتعاب المفهوم".
لكن من الصعب الخروج من فكر الفهم القائم على فكرة الهوية البسيطة، لأجل الارتقاء إلى التأملي، إلى فكر الحركة، أي فكر التناقض والتركيب.
"لكن إذا كنا على استعداد لاعتبار هذا النوع من التفكير ذا مضمون […] فهو أيضا ذو جانب آخر يجعل من الصعب تصوره".
يصف هيجل صعوبة التفكير بطريقة جدلية، أي التفكير في الحركة المنحصرة في قلب المنطق، في عدة فقرات من بينها التالية:
"حينما يكون المفهوم الذات الخاصة للموضوع، التي تقدم نفسها على أنها مصير هذا الموضوع، فهو ليس ذاتا ثابتة وساكنة تحمل الأعراض دون أن ترمش، بله المفهوم الذي يتحرك ويسترجع إلى ذاته قراراته. في هذه الحركة، تتوه الذات الثابتة نفسها […] بحيث تتزعوع الأرضية الصلبة التي يجدها العقل المنطقي في الذات الساكنة، وتصبح هذه الحركة نفسها هي الموضوع".
شرح هيجل كيف أن اللغة نفسها، العنصر الذي يعبر به الفكر عن ذاته، تتجه نحو المرحلة التأملية. بعبارة أخرى، هناك جدلية تعتمل في قلب اللغة نفسها.
ماذا نرى فعلاً في حكم بسيط، من قبيل "القطة سوداء"؟ محمول (أسود) مسند إلى ذات (القطة). الكلمتان منفصلتان، متمايزتان تماما، وفقا لمبدإ الهوية، ولما يتطلبه الفهم.
على أي، لنمعن النظر في هذا الحكم الآخر: "الله موجود". نعتقد أن لدينا هنا كلمتين متمايزين. لكن في الواقع، من وجهة نظر معينة، يبدو أن الذات (الله) فقدت نفسها بالكامل في هذا المحمول (الوجود). يبدو أن لدينا هنا: الله ليس كائنا آخر غير الوجود، إذن لا وجود لله:
"يبدو أن الله قد توقف عن أن يكون ما يكونه وفقا لمقتضى القضية، معرفة، ذاتا ثابتة ومتسقة. فعوض أن يستمر الفكر في التقدم أثناء العبور من الذات إلى المحمول، علما بأن الذات تاهت، يشعر على العكس بكونه معرقلا ومطوحا به نحو فكر الذات، طالما يأسف لغيابه […] بقدر ما يفقد الفكر الأرض الثابتة والأرضية الغيرانية التي كانت لها عند الذات، بقدر ما يحال إليهما في المحمول، ويعود، ضمن هذا الأخير، ليس في حد ذاته ولكن في ذات المضمون".
هنا نرى الحركة الجدلية تعتمل، في اللغة نفسها، بين الذات والمحمول. ما أراد هيجل تعميمه هو كالتالي:
"طبيعة الحكم، أو بكل بساطة القضية التي تتضمن في حد ذاتها اختلاف الذات والمحمول، يتم تدميرها بواسطة القضية التأملية، و[...] قضية الهوية التي صارت هي الأولى تتضمن الإنتكاسة التي تتفاعل مع هذه العلاقة الأولى". من هنا التناقض بين شكل القضية عموماً ووحدة المفهوم الذي يهدم هذه الشكل.
يأتي التركيب كمخرج جدلي من هذا الصراع: في القضية الفلسفية، يجب ألا تلغي هوية الذات والمحمول اختلافهما، المعبر عنه بواسطة شكل القضية، ويجب أن تنشأ وحدتهما، على النقيض من ذلك، مثل انسجام .
هكذا نرى أن شكل اللغة ذاتها يكشف أن مبدأ الهوية، رغم بداهته وبساطته الظاهرة، يجب تجاوزه نحو شيء آخر.
هكذا يجب أن نتعلم كيف نفكر بشكل مختلف، بطريقة جدلية، "في ما وراء مبدإ الهوية أو التناقض"، وهذا أمر صعب. هذا ما يجب أن نسعى جاهدين للقيام به، للابتعاد عن "التفكير التمثيلي" البسيط أو "الحس السليم" لدى الرأي العام.
اختتم هيجل كتابه وهو يسخر من الحس السليم، ويأمل أن يحظى عمله باستقبال إيجابي:
"ما هو ممتاز في فلسفة عصرنا يضع قيمته ذاتها في العلمية و(...) لا يمكن الاعتراف به وتقديره إلا من خلالها. ويمكنني إذن أن آمل كذلك أن تجد هذه المحاولة لادعاء العلمية للمفهوم وعرضه في هذا العنصر المميز لها الذي هو له، مدخلها من خلال الحقيقة الداخلية للشيء. ويجب أن نقتنع بأن الحقيقة من طبيعتها القيام بالاقتحام عندما يحين وقتها، وأنها لا تظهر إلا عندما يحين ذلك الوقت".
بعد هذا العمل التحضيري، هذه الدراسة لمقدمة "فينومينولوجيا الروح"، أصبحنا جاهزين بشكل أفضل للدخول إلى متن الكتاب، واكتشاف المراحل المختلفة للانتشار الذاتي للروح. هذا ما نقترح إنجازه لاحقا.
(يتبع)

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟