حين استمع إلى خطبة إمام المسجد؛ عادت له طفولته.. مدرس التربية الدينية.. التى مازالت علامات عصاه تلون روحه وذاكرته.. كثيرا ما حدثهم عن ليلة القدر، وكثيرا ما قال لهم انتظروها فى العشر الأخيرة من رمضان، وكثيرا ما ظل ساهرا..
لم يكن يومها قد فتح بعد صفحة الأحلام.. لكن هذا المدرس فتح له بابها.. فكان يتمنى أن يقابل ليلة القدر ليطلب من الله أن يختفى مدرسه من حياته، أو يُدخل آياته فى قلبه فلا ينساها ويهرب من مصير دائما ما يقابله فى كل حصص الدين... ذكره إمام الجامع بالحلقة المدورة فى السماء.. الضوء الذى ينير فجأة.. باب الأحلام الذى يُفتح فتتحقق كل الأمانى والامنيات...
ضجيج الصمت ـ نص : مأمون احمد مصطفى
وحيدا تجلس كعادتك، ترنو للسماء المتناثرة بها النجوم لآلئا في ظلام الوجود والعدم. وتارة ترنو للأفق البعيد بعينيك الذابلتين المرهقتين. فأحس وأنا أنظر إليك من شرفتي المقابلة أنك تلقي حبالك على المدى الذي تحيطه عيناك لتدنيه إليك أكثر، لترى ما هو بوضوح أكثر، لكن حبالك كانت تنزلق في كل مرة جارحة بكلاباتها نسيم الصيف الناعم الطري. فيداهمك إحساس بالفشل والإحباط، ودون شعور يتقدم رأسك للأمام، مع اتساع ملحوظ بالعينين، ليستشرف أبعد من المدى المحاط بإشعاعات عينيك، ولكن حين يرتد رأسك، وتستوي عيناك، كنت أعلم أن الفشل واليأس كانا جزءا مما علق بأهدابك وشعرك في رحلة العودة.
سطر الخلاص ـ قصة : سهام العبودي
أنا – على الأغلب – كائنٌ ميْت، وموتي يتجدَّد بعللٍ تافهة؛ كأن لا يرد عامل النظافة الغاضب تحيَّتي لي، أو أن يقع زرُّ قميصي في فتحة تصريف الماء، أو حين ينتهي – بي – عدُّ حجر الرصيف إلى عدد لا يقبل القسمة على اثنين إلاَّ بباقٍ، وأحيانـًا حين أصادف تاءً مربوطةً عاريةً عن غمَّازتيها.
كنت أموت بمعدَّل مرَّة كلَّ شهر تقريبًا، وفي الحالات الضاغطة كنت أموت مرَّتين، في الأوان الأخير أصبحت أموت كثيرًا، صرت أموت بفرطٍ مُقلق. الناس يربكهم أمري؛ صاحب محل الفاكهة شطبني نهائيًّا من قائمة المشترين بالأجل، وقبل أيَّام وصلتني دعوة حفل زفاف وكُتب اسمي على ظهرها بهذا الشكل: "السيِّد: فلان الفلاني ما لم يكن ميتـًا في هذا الوقت"!
أنشغل في القسم الحيِّ من حياتي بتهيئة وضعية مريحة لميتتي المحتملة التالية؛ فتكرار الموت – شأنه شأن تكرار نوع من الطعام، أو اللباس – أمرٌ مرشَّحٌ لأن يكون مُمِّلاً، وحيث يعتني الناس بمسألة الطعام، واللباس بشكل كافٍ يسهل معه أن تجد أنواعًا من الطعام، وأشكالاً من الثياب، فإنَّ الموت لا يلقى هذه العناية، تصبح المسألة – حينئذٍ – مسألة اجتهادٍ شخصِّي، حيث لا يمكن أن تجد من تلوم على سوء الوضعية إلاَّ نفسك!
منفى اختياري ـ قصة : حدريوي مصطفى
صموت ، لا يتكلم إلا لماما. بشوش، تحاياه ابتسامات، و ردوده حمدلات إن سئل عن أحواله.
دقيق في مواعيد خروجه ورجوعه.
هندمته راقية تنم عن ذوق رفيع وخبرة بالتناسق والتنسيق
رفاقه قلة، وأهله او ما يظهرون أهله هم أيضا معدودون؛ غير اجتماعي لكن، عند مجالسته ترتاح الأنفس للحديث معه.
يعيش لوحده، لا زوجة ولا أولاد رغم سنه المتقدمة.
فجأة صار هذه الأيام يخرج لقضاء مآربه والذهاب لعمله ـ كمستشار مبيعات ـ وعكازا أبيض بيده يلتمس به خريطة طريقه ونظارتين سوداوين تحجبان خلفهما عينيه الشهلاوين.
قد أضحى أعمى كيف ؟ لا احد يدري...
ضياع آخر ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
حين نهض من فراشه – كعادته – قال جملته المعهودة في كل صباح: "كل شيء على ما يرام". فهو رجل عادي بسيط، يضع رأسه على الوسادة فينام، دون أي قلق أو اضطراب، ساعات نومه كافية، وساعات صحوه كافية أيضاً، وما بين النوم واليقظة وقت مستقطع للغرق في أحلام يقظة مترعة بالبساطة والسذاجة.
لكنه اليوم على غير عادته لم يزح الستائر ليفسح الطريق لنور الشمس داخل غرفته، وهذا بحد ذاته أمر مستهجن، لأنه ومنذ لحظة تكونه كشخص إلى اليوم السابق لم يتخلَّ عن عادة مارسها منذ تكونه. فماذا حصل؟ وما هو الدافع الذي سكنه ليتنازل عن عادة من عاداته؟ أمر في غاية الغرابة، أمر جعلني أعود بذاكرتي إلى أيام هذا الشخص الماضية عودة اندهاش وانشداه.
السوق ..ـ قصة : رشيد بلفقيه
غادر رحبة المواشي ، وزع ما يملك من مال على جيوبه احتياطا و هو يدلف إلى بقية "الرحبات" بالسوق الأسبوعي الشهير .. لم تمض سوى هنيهات حتى اختلط بأرتال الناس و هم يدرعون الممرات الضيقة ذهابا أو إيابا و في جميع الاتجاهات ، يتأبطون قففهم و يسيرون كل يبحث عن ضالته بين الخيام الموزعة في صفوف خططت كما اتفق ، عقيرة الباعة ترتفع هنا و هناك :
- كوَالة مبادئ .. كوَالة مبادئ ..
قصد رحبة اللحوم ، بحث مطولا عن قلب يكون وجبته للعشاء القادم لكنه لم يعثر على قلوب تستحق الاقتناء فابتاع راسا أو رأسين مجوفين و رطلا من اللحم ..
- كوالة علوم .. كوالة ثقافة ..
الجنة ـ نص : محمد الفاهم
ما أكتبه ليس إلا مجرد طيف لما أفكر فيه .
ما أفكر فيه انعكاس بعيد لحلم عميق يستحيل تذكر ه .
التفكير الحقيقي لا بد أن يكون نوعا من البوح ، شيء ما تقوله بخجل وإذلال ميتافيزيقي في الشفق الداخلي للروح ، كأنه اعتراف من الذات اتجاه نفسها قبل أن يكون اتجاه الآخرين . أفكر بطريقة لا منطقية لكنها مع ذلك ليست مضادة للمنطق ، أفكر فيما يوجد قبل الفكر . أحب كذلك بإحساس سابق على العاطفة في النقطة التي يختلط فيها الشجن مع الحزن . دائما أدفع فيالق الكلمات كي تعبر فوق الجسور الخشبية المعلقة عاليا ، على امتداد جزيرتين غير منظورتين ، وأنا في كل هذا مثل من يعيش بين صرختين مشدود لما يوجد قبل البداية منجذب لما تخفيه النهاية .
اليوم تحت الشجرة المباركة التي لم تطرح هذه السنة إلا بضع زيتونات معدودات ، نزل علي ذلك الإلهام المفاجئ كوحي بدون كلام فقط برغبة مأزومة في تجاوز حدود الذكاء الذي يفرضه علينا العقل . ذلك أن العقل على ما يبدو لي يمكن أن يصبح أحيانا حاجزا أمام الحقيقة.
ضياع ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
أحس بخدر شديد يسري في جسده، فانفلت العود الصغير من بين أنامله بعد أن حفر في الأرض شقا يتسع لدفن ضفدع. تحسس بيده خده المتورم غير الحليق، ثم انساب بكفه نحو الخد الآخر الحليق، ليلمس نعومته العذبة، قال لنفسه: في الوجه خدان، في الرأس وجه، في الخد الأيمن أورام تتكوم، ألام تتكدس، شعر لا يحلق، في الخد الأيسر تنساب نعومة ظل تداعبه نسيمات ورديه.
مد جسده للأمام، فظهر جلده شديد اللمعان تحت سياط الشمس اللاهبه. نفرت أوردته من تحت الجلد، امتزج سمار بشرته بخضرة عروقه، نفرت عروقه بشده، تصلب جلده، تحسس بكف يده بطنه بشكل دائري، ضغط قليلا مكان المعدة، جحظت عيناه، ضغط من جديد، تربد وجهه، بدت تقاسيم وجهه تأخذ شكلا أسطوريا، تليفت أعصابه، وبدا العرق يتفصد من جبهته ومن تحت أذنيه. أحتضن بطنه بشدة، اصبحت حاجته للتقيؤ ماسه. هم بالنهوض لكنه عاد واجل ذلك لمرة أخرى.