نزعت كلثوم لجام الحصان العجوز،بعدما حررته من العربة المرهقة أعمدتها الحديدية أكثر من حمولتها المتواضعة،دفعته برفق إلى زريبة ضيقة وسط بقايا القش ولبنات من التراب متناثرة هنا وهناك،صهيل متعب للحصان أفزع بضع دجاجات اتخذت من ركام أكياس الشعير مستقرا لها للمبيت،فقفزت في ضجة وتناثر ريشها في الهواء،ربطت الحصان بعقال مثبت بوتد على الأرض ثم وضعت أمامه علفا في صحن مصنوع من قاع برميل حديدي،أضافت إلى العلف المكون من عشب المراعي حفنتي شعير،وطفقت تنزل الأكياس من العربة ورائحة العطارة تنبعث منها،تملكتها رغبة متعثرة وجامحة في العطس،تجاهد نفسها أن تعطس بلا ضجيج، لكنها تعطس بقوة، فيتناثر مخاط أنفها على نحرها، تمسح أنفها بالكم الأيمن لقميصها،تعرج على البوابة الخشبية المتهالكة الكبيرة للبيت، لتتأكد من إحكام إغلاقها بمزلاج خشبي،الصوت الخشن لزوج أمها العطار ما زال يتردد صداه في أعماقها وهي تستحضره دوما في هذه اللحظة من الليل ،يحذرها كل ليلة قبل أن يأوي إلى فراشه" اغلقي دائما الباب جيدا....بيتنا معزول عن الدوار، و لصوص الليل لا ندري متى يحضرون".
ورم (2) ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
ثمَّة لحظات يُرِيد المرء أن يوتر عقله وقواه إلى أقصى حدود الألم؛ حتى تنبجس المعرفة كشرارة، فإذا بطُيوف من النُّبوءَة تَجتاح النفسَ المرتعشة، النفس القلقة، لتنبِّئها بالمصير الذي ينتظرها، إنَّ كياننا كله - وقد جرفه الظمأ إلى الحياة بأيِّ ثمن - يستَسلِم عندئذٍ للأمل، مهما يكن هذا الأمل أعمى، ومهما يكن عنيفًا، ويَنأَى عن المستقبل بكلِّ ما فيه من مجهول وسر، يُنادِيه أن يأتي إن صَحَّ التعبير، يُنادِيه ولو كان مشحونًا بالعَواصِف والزوابع، حسبه منه أنَّه الحياة.
(دوستويفسكي، نيتوتشكا نزنفانوفا، ص – 228).
ورم (1) ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
الثامنة صباحًا، في أقصى الشمال الأوروبي، أفَقتُ كعادتي، تسلَّلت نحو الصالة لأُعانِق فنجان الشاي الصباحي، ولأحرق ثلاث دخائن، دخلت الحمام، غرقت تحت مياه حارَّة، يَتصاعَد البخار منها ليهرب من فتحة صغيرة، خرجتُ وكالعادة كانت القهوة التي أعدَّتها زوجتي تقتَحِم خلايا دماغي بقوَّة، فللقهوة مكانةٌ في قلبي لا يعرفها إلا المقرَّبون منِّي، أحرقت ثلاث دخائن أخرى، ارتديت ملابسي، وخرجت.
العاشرة صباحًا، موعِدٌ مع طبيبي الخاص، قدت السيارة إلى مكانٍ بعيدٍ عن العيادة؛ طلبًا للتمشِّي واكتِساب بعض أنفاسٍ من هواء نقيٍّ، لم ألتَفِتْ إلى شيء، ولم أدقِّق بأيِّ تفصيل؛ فالشوارع معهودة، وكلُّ ما عليها أصبح بسبب العادة لا يُثِير دهشتي أبدًا.
انتظرت في الصالة، كان أفراد دائرة السير يختَفُون خلفَ العيادة مباشرةً، يصطادون السيارات المارَّة، لا بُدَّ وأنَّ الراتب الشهريَّ الذي اقتَرَب كان همهم الأوحد، فلا بُدَّ لخزنة الدائرة أن تكتظَّ بالنقود، وبين ملامح هؤلاء والسائقين كان هناك اختلاف كبير.
إرثٌ قديمٌ ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي
تَجمّعَ الناسُ وقدْ أخذَهمُ الذهولُ حولَ حمار ٍفي ساحةٍ يرتادها الناسُ عادةً، الناسُ المحترمون، ظلّ الحمارُ ينهقُ منذ صياحِ الديكِ الذي أخرسَهُ نهيقُ الحمارِ وهو يقطع عليه صَلاتَهُ الصباحية،سكتَ الديكُ وبقيَ الحمارُ ينهقُ، وكذلك أنهتِ الكلابُ نباحَها وهي تُنصِتُ إلى نهيقٍ متصلٍ على غيرِ العادةِ ، وحدَها الأحصِنةُ كانت صامتةً فهي لا تصهل أبداً عندما تنهقُ الحميرُ استيقظ َالناسُ وامتلأتِ الشوارعُ والطرقاتُ بهم ولازالَ الحِمارُ ينهقُ دونَ أن يكلّ ، انهالَ عليهِ رجالُ الشَرَطة بالعصيّ و لازال ينهقُ ولكنْ هذه المرة بطريقةٍ خيّلَ للناس أنها تشبه الضحكَ من عصي الشرطة مكشرا عن أسنانهِ البيض وهم يحاولون سحبَه من أذنيه الطويلتين وجرّهُ بالحبال بيدَ أنهُ أحرنَ ولم يطاوعْهم وهو يصمّ آذانَ المارة بنهيقهِ .
ذاكرة شارع مظلم ـ نص : لقمان عبدالله
يقال أن أطول اللحظات هي تلك التي نقضيها لوحدنا عند قطع شارع مظلم في وقت متأخر ، تتقاطع فيها مشاعر الخوف و الوحدة و الكآبة في آن واحد ، صوت مواء القطط .. صرير الحشرات و الكثير من الصمت ، و أي محاولة لتشتيت ذلك الصمت تؤول للفشل دائما لأن ما يرعبنا مصدره دواخلنا لا غير .
قدري أن أعيش تلك اللحظات بعد خروجي من البيت مباشرة و بعد نشرة إخبارية معتمة تنبيء بقرب تجاوزهم الحدود في طريقهم إلينا .. هم لا يحملون معهم ورد الجوري خلاب اللون و لاالزنبق ذا الطابع الكئيب .. هم لعنة تسير على قدمين .. يحلُّون .. ليحل معهم الظلام ، أخبار ما خلف الحدود مرعبة .. لا يمكن وصفها بغير ذلك ، و أكثر ما يرعب فيها هو وصف ما يحدث هناك بالنزاع السياسي .. هناك فوضى عارمة لا غير .
في تلك الليلة ـ قصة : حسن لشهب
قبل أن أخلد إلى النوم، كان المذيع يعلن بنبرة صارمة محذرة :
"سيستمر تساقط الثلوج ، وسيبقى الجو شديد البرودة إلى نهاية الأسبوع. "…
في لحظة ما من الليل ، التقطت أذناي صوتا غريبا منبثقا من عمق الظلمة الحالكة...
مكرها، غير مدرك لما يجري، أخرجت جسدي المتعب من السرير، ورحت كالأعمى أتلمس طريقي في الظلام، بحثا عن زر النور...
يقودني الصوت المستغيث بعد أن صرت أتبين طبيعته ومصدره ، كنت أسمع صوت شخص حاصرته الثلوج في الهزيع الأخير من الليل، وأحس ألم من يطلب النجدة بيأس وكأنه موشك على الهلاك...
في رحاب المشانق ـ قصة : مالكة عسال
إلى دهليز منفرد بارد ، دحرجوني ككرة من نار يخاف انتشار ألهبتها في الأذهان ،هوإفساد مخططات تحددت مسبقا معالم أهدافه ...هُمْ على موعد مع خنق صوتي بأي وسيلة يرغبون ،حتى لاينفجرَ من تَلّ لسانه نبعٌ مِن الرصاص، فيصيب نخلة حلمهم المرسومة في الأحداق ..ولو أني أعرف أن الِخِيار أولا وأخيرا هو الشنق ، فأنا في غنى عن الخوف أو الرهبة التي يذكيان سعيرها ، والعهدة على دمي الساخن ونبضي المشتعل .لأني منذ البدء وحتى آخر رَمَق ، نقشت في كفي بحناء الأمل مربّعَ الصمود ...واتقاء مضاجعهم التي يقدّها ضجر مربك لدفين من الأحاسيس، ودينصور خوف مزعزع للكوامن يتضخم في الدواخل وينمو ، يريدون ردْم منارة مشعة يتدفق شلالها بفاكهة اللوز ، قد تنسرب إلى أدمغة تختمر في طراوتها فتتقد بالنضج الأخير ، وبشرارتها تُحرق المخروم من الفلسفات الفاشلة ، لترفعَ فواحش الأغطية عن دنان رداهة ،لاتفقس غير حزمة من القوارير الفارغة ، حلال تكسيرها وخدْش بزجاجها خدّ الزمن الذي هيّأَ لهم ظرفا ذهبيا ، ليتبوّؤوا معارجَهم النكراء على ظهور العباد ، مَن يلعقون مِن مراجل القهر وأطباق التهميش عرقَهم ممزوجا بقشّ المهانات وشوائب الأتعاب ..
المُستنقعُ ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي
أحسّ دبيباً في رأسهِ قد أدمنَ التجوالَ فيه مثل دودٍ جائع ينهشُ تلافيفَ دماغِهِ الذي استسلمَ هامداً حتى بات هذا الدبيب مألوفاً ، أوهامٌ عتيقةً وعفنةً ركَدَتْ في آخرِ أيامِها بعيداً في قعر الرأس واستقرّت دون أن يشعرَ لتبيضَ كثيراً من مزاياها القديمةِ قيئاً و حموضةً على طعمٍ حياتهِ فبدا مُتأففاً متضايقاً مما آل إليه حالهُ،دفعه هذا الزحام المتفاقم للأفكار السود إلى الإستعانة بثقوب الحياة لتكون مهربا مثلما تفعل ذلك الحشرات التي لا تعرف الصراخ ، مد يده إلى جيب بنطاله الرثّ واطمأن لوجود عّصّارةِ السيكوتين ثم واصلَ سيرَه إلى حافة المستنقع الذي تقبع حوله بيوت الصفيح صانعةً تجمعاً أميبياً يغيّرُ شكلهُ بين فترةٍ وأخرى تَخرُجُ من بين امتداته الكثيرة مساربُ المياه الآجنة لتمدهُ بمزيدِ النتانة والقذارات ، جلس هناك على الحافة غير مبالٍ بالعفونة ، رأى أن المستنقع الذي تصنعه قذارات بيوت الصفيح تلك يشبه إخطبوطا يمد أذرعه السود إلى أحشائها محاولاً سحبها إلى جوفهِ وابتلاعها وقد بدا هائل َ الأذرعِ بيد أنها راحت تقاوم بالرغمِ من خسارتها بعضَ صفيحها المُتهرئ لصالح ذلك الإخطبوط الأسود ، وضعَ إنبوبَ السيكوتين لصق منخريه وشمّ بنفسٍ عميق أبخرتهُ عدة مرات فاستقبلت رئتاه شميمَ الأنبوب بنشوةٍ كبيرةٍ ، قرفص على الحافة المتعرجةِ وراح يُحدقُ في السواد، خيل إليه أن ثمةَ ما يتحرك تحت، ألقى بنظرهِ إلى هناك من مسافة ٍقريبةٍ، صار هاجسُه أن يتفحّصَ تلك االإهتزازات والمويجات التي يصنعها تيارٌ من الهواء ضلّ طريقهُ ماراَ من فوق السائل المعتم حتى لكأن مستنقعا آخرَ قد فاض بتلافيف مخه وملأ قحفَ رأسه.