قصة ودراسات أدبية

( يغلب عليها حرف القاف لقوته وقلقلته بين الحروف )
قال "قاسم" لصديقه "قدور" لقد قضَّني الحَنَق في مرقدي ياصديقي من نقض الحقوق والقوانين وسحقها في أقاليم وأقطار العقوق والمروق..
والمتفاقمة من أقصى الشرق وبقاع سمرقند والعراق – أرض الشقاق- والقوقاز إلى أنفاق قمعستان وقيرغيزستان القريبة من القوقاز . حتى إن الطبقات المسحوقة برحيق الاسترقاق والتي تئن من تضييق الأرزاق ، لا قبل لها بثقلها على الأعناق والأحداق والأشداق..
قال "قدور" : ياصديقي المقرب الى قلبي الحق حق ، فلا يقبر أو يقهر.. ولا يستحق أن يستقر في قرار سحيق .. أو يلقى في قعر عميق..
الحقوق والقوانين قميئة أن تتوافق مع الواقع وإلا انقرضت وانسحقت..
فلا تقلق ياصديقي قاسم.
قال "قاسم" أتفق مع مقولتك أن الحقوق قميئة بتوافقها مع الواقع..

في مغامرات طفولتي المزهرة، كنت أزرع في قلبي بذور التذمر، مراقبًا كيف تتفجر الشرارات لتقزم لعبي وتمسخ أفكاري، كمن يرسم بالفحم على جدران ذاكرتي. كنت كبرعم غير متفتح بعد، يتساءل في جدية كوميدية: "هل أنا من كوكب آخر؟"، غير قادر على تحديد موطني في هذا الكون المترامي الأطراف. أذكر كيف كانت ضحكاتي تنطلق، لا من الفرح، بل من روح تستهزئ بكل شيء، من الأفق اللا متناهي إلى السماوات الشاسعة، متمردًا على النسيم، محتجًا على الدموع الغادرة التي تسرق الفرح من عيني. كانت أفكاري المشتتة - من الأحكام إلى القيم والمبادئ - تبدو كقيود تثقل كاهلي، تخنق براعم الحرية لدي وتكبل أجنحة الإبداع. كثيرًا ما كنت أتساءل، في لحظات فكاهية ذاتية، لماذا أنا، من بين كل الناس، أرى ما لا يرون وأشعر بما لا يحسون؟ هل لأنني مخلوق فضائي، أم لأن هذا الأنف الكبير الذي كان مصدر تسلية أخي قد منحني هذه القدرة الخارقة؟ وبفضل تفكيري العميق، أهداني القدر صلعًا مبكرًا، تاركًا لي خصلات قليلة يتيمة، تحاول بشجاعة أن تضيء ظلمة الليل كنجوم قليلة وخجولة. في أحضان أسلو، تلك المدينة اللطيفة التي لم تكن قط في قائمة أمنياتي السياحية، وجدت نفسي ضائعًا في كوميديا الأخطاء، حيث الثلوج تتنافس على منح أفضل عرض للجمهور والليالي طويلة كمسلسلات الدراما التركية. بدأت هنا مغامرة لم أسجل لها في دورات التدريب، فصل جديد يضع "المغامر" بدلاً من "النبي المزيف" على بطاقة تعريفي. أهلًا بك في النرويج، حيث الأحلام تتخذ شكل فطائر الوافل والحياة ملونة ككرات الديسكو. في أيامي الأولى، كان كل شيء يبدو كأنني انقلبت من كوكب آخر، من السكان الشقر إلى الطبيعة التي يمكن أن تكون بطاقة بريدية. وأنا أتجول في أسلو، تلك المدينة العريقة بمبانيها التي قد تعتبر معالم تاريخية أو مجرد مراكز تسوق قديمة، كنت أحاول استيعاب هذا الكوكب الجديد. من الأضواء التي تزين المدينة كأنها تحتفل بعيد ميلادها كل ليلة، إلى الناس الذين يحملون قصصًا قد تصلح لمسلسل أو فيلم وثائقي عن "سكان الشمال. وأنا، ذلك الغريب الذي يبدو كشخصية من كتاب طبخ عالمي، تعلمت لغتهم، وغصت في ثلوجهم، وحاولت أن أفهم إذا ما كانوا يضعون الكريمة على كل شيء كما يفعلون مع القهوة. وفي أعماقي، كان هناك هذا النقاش الداخلي الطريف: هل أنا هنا للبقاء أم مجرد زائر يتساءل عن مكان البيتزا الجيد؟ في الليل، بينما أتأمل الأضواء الشمالية التي تبدو كحفلة ليزر فاخرة، كنت أجد نفسي محاطًا بالغربة، تلك الغربة التي تجعلك تتساءل: هل كل هؤلاء الناس يشعرون بالبرودة مثلي أم أن لديهم جينات مضادة للثلج؟ في نهاية المطاف، بينما كنت أقارن بين النرويج وبلادي، بدا لي أن الحياة هنا تمزج بين الحفلات والاحتفالات بالنهار القصير والليالي الطويلة التي تعطي فرصة لمشاهدة المزيد من الأفلام. وأدركت أنني، على الرغم من كل شيء، قد وجدت في هذه الأرض مكانًا يمكن أن أسميه منزلاً، حتى لو كان الجيران لا يفهمون مزاحي دائمًا.

صرخت وسقطت أرضا. غابت عن الوعي، اقتربت منها ابنتها نوال، حاولت اسعافها. ارتبكت، بحثت عن هاتفها، اتصلت بوالدها. هاتفه مقفول كالعادة. عندما يغادر البيت الى العمل أو المقهى، يقفل هاتفه ولا يهتم باحتجاج ابنته أو زوجته التي قالت له يوما في عز غضبها " أكيد سأموت بسببك. كيف سنتصل بك إذا كنا بحاجة اليك؟".
اتصلت نوال، بالإسعاف وهي ترتجف وتنام بين الغضب والخوف والحزن. كان لصراخها وخوفها على والدتها "نادين" الأثر القوي على ذلك الصمت الليلي الذي كان يخيم على المكان. سألتها جارتها: "أين والدك؟" احتارت في الإجابة، ونامت دمعة ثائرة بين مآقيها، وقالت محاولة تلميع صورته:" انه مسافر، لقد اتصلت به وسيحضر بعد قليل."
مكثت طوال الليل الى جانب والدتها نادين، تمسك يدها وتحضنها. وفي نفس الآن، تلقي نظرة على هاتفها ربما يحن والدها لصراخها الذي مزق هدوء ذلك الليل الصيفي. ظلت نادين، غائبة عن الوعي، لكن رفضت ابتسامتها التي لازمتها في أحلك أزماتها معه أن ترحل، كأنها حارسها الأبدي من كل مكروه. فتحت عينيها ببطء شديد، نوال ابنتها على جانب السرير وهاتفها بين يديها. مسحت بيدها على رأسها كأنها تقول لها، "أنا ما زلت معك، لا تخافي انني اقوى من غياب والدك."
كان يوما خاصا، لا يشبه باقي الأيام العادية بالنسبة لنادين. يوم التقت بزوجها أحمد. كانت تركض في الشارع وتصرخ بكل قوتها الى جانب باقي المتظاهرين رافضين التضييق على حرية التعبير. نادين، كانت تخطو ببطء في عالم الصحافة، تهتم كثيرا بكل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد، وتحلل وتطرح الأسئلة كمن يبحث عن ابرة في قش. كانت ترفض أن يزج بها في الجريدة بخانة الطبخ وتموت كل طموحاتها السياسية والفكرية. الكتابة بالنسبة اليها كالهواء والماء، لا تستطيع أن تتنفس من دونهما. كانت تجري وترفع صوتها، يعلو في الفضاء كسهم محارب يدافع عن أرضه. أثناء المسيرة الاحتجاجية، اقترب منها شاب وسيم ويظهر على ملامحه الجدية والمسئولية. سلم عليها وقال لها" ان حرية التعبير هي عنوان تقدم الشعوب." ابتسمت وتابعت سيرها العنيف الذي يحمل رغبة شديدة في تغيير الوضع المأزوم. كانت تدك الأرض برجليها دكا، كأنها ترغب في اختراقها واخراج ما بباطنها حتى تختلط الأشياء وتولد البلد من جديد. لم تجبه، ظل ماشيا الى جوارها. وقال لها " أنا أيضا كنت من المؤيدين لهذه المسيرة الاحتجاجية."
طل يوم جديد على نادين وهي بالمصحة، نوال ابنتها نائمة الى جانبها على سرير آخر. فتحت عينيها وهي تتأمل أن تجده الى جوارها وتفرح بتلك الابتسامة التي أسرتها يوما. جالت بنظراتها داخل الغرفة، كأنها تبحث عن شيء مفقود منها. رمقت ابنتها، نائمة بشكل غير مريح، من شدة التعب والخوف. فهي لم تفارقها وكانت كالمجنونة تريد أن تفهم ماذا أصابها بتلك السرعة. مسحت الغرفة من جديد بنظراتها المتعبة ثم توقفت عند الباب، ربما سيطل بعد قليل، ويرتمي بين يديها ويقبلها ويطلب منها العفو لأنه كان مشغولا وكان هاتفه مقفلا.
بعد انتهاء المسيرة، كانا قد تبادلا رقمي هاتفيهما، وتواعدا على اللقاء. كثرت لقاءتهما وتعودا على بعض. و لا يمكن أن يمر يوم دون أن يلتقيا. استيقظت نوال مفزوعة على صوت الممرضة التي أتت تبلغ والدتها بأن حالتها قد تحسنت ومرحلة الخطر قد عدت. بكت كثيرا من فرحتها وقبلت أمها التي كانت بالأمس بين الحياة والموت. استسلمت نادين، من جديد الى حنين الأمس وتركت الحرية لنظراتها ترحل وتنتظر قرب باب الغرفة على أمل أن يظهر أحمد. ستغفر له كما عودته على كل هفواته وغياباته. ستغفر له صمته الطويل بالبيت وانزواءه بغرفة الجلوس مع هاتفه. ستغفر له اقفال هاتفه كلما غادر البيت كأنه يرغب في الانسحاب من حياتها والذوبان في عالم آخر. ستغفر له لأنه الحب كله بالنسبة اليها. وكان دائما يقترب منها ويحضنها ويهمس لها بين أنفاسها على انها هي الحب كله. وتبتسم وتبدأ صفحة جديدة كمن يولد لأول مرة ويرى الدنيا بعينين حالمتين باحثتين على الأمل والحياة. سألت نوال بصوت يحمل أثار الألم والحزن: "ألم يتصل والدك؟"
نظرات نوال قلقة لأنها كانت تتمنى أن تسمعها الجواب الذي ترغب فيه. لكنها حاولت ان تختار أحسن الكلام، حتى لا يكون صدمة قوية على روحها كمن سقطت عليه صخرة من أعلى قمة جبلية، وقالت لها "أكيد سيتصل يا ماما، أنت تعلمين أنه يقفل هاتفه كلما خرج من البيت. أكيد أن هاتفه مازال مقفلا."
لكن نادين كانت تدرك في قرارة نفسها بانه بالبيت. وبأنه سعيد هناك لوحده، وبأنه يعد طعامه لوحده، وبأنه يتنقل بين التلفاز وشاشة هاتفه. أو ربما فرح فرحة العمر لما ولج البيت ولم يجد من ستمطره بالأسئلة التي يكرهها ويعتبرها كاستنطاق بوليسي. أو أنه نائم كما تعود دائما، لما يعود في آخر الليل ويدلف داخل غرفته وينام. ظلت حبيسة أسئلتها وتكهناتها طوال اليوم. تحسنت حالتها وأمر لها الطبيب بمغادرة المصحة على أن تهتم بصحتها كثيرا وتبتعد عن كل الضغوطات.
كانت مستلقية على السرير في انتظار ابنتها، سافرت بذاكرتها خارج الغرفة، توالت المسيرات الاحتجاجية السلمية والرغبة في تغيير الحصار المفروض على حرية التعبير التي أصبح كالكمامة على الأفواه. كان هناك الى جانبها، هتافات ولافتات وحماس شعبي ترتعش له الأبدان والعقول. في لحظة جد مفاجئة، حوصروا برجال الأمن وتم القبض عليهما على أساس أنهما يساهمان في الفوضى والشغب. تم الافراج على نادين فيما بعد وظل أحمد محبوسا أسبوعا كاملا. تذكرت كيف كانت تقضي يومها وليلها في انتظار الافراج عنه. شاخت قدميها ودمت أصابعها من كثرة الوقوف والذهاب والإياب. لم تمل ولم تيأس لأنها كانت مؤمنة بقضيتهما وكانت مؤمنة أيضا أنهما يمارسان حقوقهما الدستورية ولم يساهما في أي شغب. بعد أسبوع، كانت هناك، تنتظره، وجدت عددا كبيرا من الناس فيهم الأب والأم والأخت والصديق، كل واحد جاء يحمل بين يديه قلبه في انتظار سماع خبر الافراج الجماعي. تجمهر كبير، حجب عليها الرؤيا، رؤوس تتمايل يمنة ويسرا، تتعالى في الفضاء، أيادي تنادي وأصوات تصرخ. اشتبكت الحناجر والأحاسيس واهتز المكان. كل واحد ينادي على قريب له. حالة من الذعر والفرح والدموع. كانت نادين في آخر الصف، تنتظر وتترقب كمن ينتظر نتيجة الامتحان. طل بقامته الطويلة وشعره المشعث، كانت تحب فيه هذه الفوضى المستوطنة لجسده، كان لا يهتم بتناسق الألوان في لباسه، ولا بتسريحة شعره، كان يعتبر كل هذا ترفا لا فائدة منه. كان يبحث بين الجموع عليها. سرت قشعريرة بين ضلوعها وارتفعت نبضات قلبها وانطلقت كالسهم تخترق الصفوف وتبحث عن منفذ يوصلها اليه. سمع صوتها، التفت، ارتمت بين أحضانه وتمنت ساعتها لو أن الزمن توقف حتى تعيش تلك اللحظة القوية وتختبئ بين ضلوعه. قبلها وقال لها" لم أكن أدرك أنني أحبك كل هذا الحب؟".
دلفت نوال داخل الغرفة، تساعد والدتها على جمع حاجياتها ومغادرة المصحة. سألتها من جديد، وصوتها يحمل كل الأمل " هل اتصل والدك؟" ترددت نوال في الإجابة، حاولت أن تغير دفة النقاش مستغلة وضعها الصحي وما قاله لها الطبيب. لكن صمتها أشعل النار بداخل قلبها المرهف، وأعادت السؤال على نوال. توقفا قليلا خارج باب المصحة، في انتظار سيارة أجرة. حضنت نوال والدتها وقبلتها وقالت لها" أعلم أنك تتألمين لغيابه الدائم وعدم اهتمامه بك أو بنا، لكن يا أمي، والدي حنون جدا وطيب جدا غير أنه له طبائع لا تحتمل. أرجوك، لا تهتمي. أنا معك"
كانت نوال تعلم أن الأمر ليس بهذه السهولة، فقد جعلت منها الأيام الماضية، شاهدة على صراع مستمر بين والديها وخصوصا غياب والدها المتكرر واقفاله لهاتفه كأنه يتحلل من كل مسئولية. لم تفهم سبب سلوكه حتى نبتت برأسها فكرة التجسس عليه. فهي تخاف من الغد الذي لا لون له، فأصعب شيء على النفس هو عدم معرفة المجهول الآتي. فهي تحب والديها وتخاف على أمها من الانهيار. وتكره كما يكره كل مظلوم أن يعاقب ظلما، أن يفترقا يوما وتعيش بين بيتين وعطلتين وحياتين، فبيت الأسرة هو وطنها الذي تعلمت فيه أولى خطوات الحياة، ونطق فمها أولى الحروف ولعبت فيه أولى لعبها. فهي ترفض بتاتا أن يهدم أو يبنى في مكانه بيتا آخر. "الوطن لا يموت "كانت تهمس دائما لروحها لما تكون تقتنص بعض لحظات الراحة والمتعة النفسية بعيدا عن كل ضجيج وصداع الرأس. لكن هذه الفكرة لم ترق لها، هل تحادثه في الموضوع حتى تفهم ما يجول بخاطره. ظلت حبيسة حيرة استوطنت عقلها وسلوكها، حتى وهي في المصحة مع والدتها، كانت الأفكار تطاردها كما يطارد المجرم من العدالة.

القاعة فسيحة ومضاءة بنور باهر متناسق مع الألوان التي طليت بها الجدران التي تفنن التلاميذ المفتونين بالألوان في تزويقها رفقة أستاذ الرسم الذي جمعهم في ناد يمارسون فيه أنشطتهم الإبداعية. تدافع التلاميذ على الدخول. علا الضجيج وارتفع اللغط كل يبحث عن الرقم الملصق على الركن الأيمن من المقعد. حِيزَت الأماكن وتناثروا فوق المقاعد وأطبق على القاعة صمت، تطلعت العيون إلى الظرف المختوم بين يدي الأستاذ. كان كل التلاميذ في لهفة لمصافحة ورقة الامتحان. بعض العيون اخترقت الظرف وتسللت إلى الكلمات تتهجاها تسترق النظر علها تلتقط بعض الحروف. شردت الأذهان وبحلقت العيون. وفجأة دق الجرس معلنا بدء الحصة، فازداد نبض القلوب وارتفع صوت وجيبها وخيم الصمت على القاعة فلم يعد الأستاذ يسمع غير الأنفاس تعلو وتنخفض. صوت نزع اللاصق من على الظرف بدا كمثل هبة ريح قوية ارتجت له الأجساد وتردد صداه في أرجاء القاعة.
سُحبت الأوراق من داخل الظرف في حركة عمد الأستاذ إلى جعلها تثير مزيدا من التطلع في نفوس أعياها الانتظار. وبدأ توزيع الاختبارات على التلاميذ. ما إن وُضِعَت الورقة الأولى فوق طاولة التلميذ الذي قُدِّر له أن يكون مجاورا لمكتب الأستاذ المراقب، حتى بدأت الوشوشات، وتحول الهمس إلى كلام مسموع. سرت كلمات مشفرة بين الممتحنين. تحركت الشفاه فالتقطت الآذان المرهفة تلك المبهمات وفكت شفرتها: النمذجة، الهوية، الفن.
صمت مطبق يعم القاعة من جديد، لحظات اكتشاف وتجلٍّ وانصبت العيون على الأوراق وانشدت الأذهان للكلمات، وراح التلاميذ يقرؤون الأسئلة، يتأملون ويتألمون. ارتفع صوت من وسط القاعة يشق الصمت الذي كان مخيما "عَوْجُونا"، علت على إثره الهمهمات واختلطت المشاعر بين مستبشر ومتذمر. نقر الأستاذ بأصابعه نقرات خفيفة على المكتب فعاد الهدوء إلى القاعة. بعض الوجوه علاها الوجوم، وطفت الفرحة على أخرى. لكن لا مفر، على الجميع أن يفكر، أن يكتب، أن يحلل، أن ينثر أفكاره ويعرضها، أن يُجري الامتحان.

تبعته يوما. كان يمشى أمامي. شعر بأني أراقبه فلم يلتفت، لم يكن يهتم لوقع خطواتي التي دنت منه. بهيأته المديدة وشعره الأشعث المغبر لمحته يدلف إلى المقهى فتبعته. رأيته يجمع الأكواب ويسكب بقايا القهوة في إحداها ثم يشرع في التقاط أعقاب السجائر وينزوي في ركن معزول من المقهى الضاج دوما بالزبائن ثم يشرع في إشعال تلك الأعقاب الواحدة تلو الأخرى. كثيرة هي أثار كيِّ نار السجائر على معصميه وظهر كفه. لم يتعلم من الحياة دروسها مهما حاول أن يكون مجدّا في التعلم. ظل يراوح مكانه متأرجحا مثل بندول ساعة معلقة على جدار محطة هجرها المسافرون فلا يتوقف فيها القطار. لم يتقدم ولم يتأخر، حسبه أنه يحيا.
الوجه شاحب والعينان غائرتان والوجنتان بارزتان وعظام الكتفين ناتئة. أرسل شعر لحيته القليل وتركه دون تشذيب فتناثر فوق وجهه وقد غلب بياضه سواده. هدته الأيام وتغضّن جبينه. لم أعرفه عندما وقعت عليه عيناي. لم أره منذ زمن. كبر خلاله عقدين كاملين، وَخَطَ لشيب فوديه. تسمرتُ في مكاني أحدق فيه، أتملى ملامحه وقد فعلت فيها الأيام فعلها. لم يكن يراني، كان يقف قبالتي لكن عينيه كانتا تحدقان بعيدا، تتبعان خطى روحه الهائمة التي لا تعرف الاستقرار في مكان. ما يكاد يجلس حتى ينهض من جديد ويسير ينوء تحت كلكل من الهموم الثقال والخيبات المتعاقبة. أعرضت عنه الدنيا، صفعته بلا شفقة، كالت له الضربات الموجعة، أنشبت أنيابها الحادة في لحمه البض الطري حتى بلغت العظام. لم ترحم غربته ولا ضعفه، تجاهلت يتمه وعذابات السنين التي قاساها.

الإحساس بالفقد رهيب ومرعب والأنكى منه فقد الوالدين عندما نكون في أمس الحاجة إليهما. هكذا استقبلته الحياة يتيما فذًّا. لم يحس يوما بدفء حضن أم ولا حماه جناح أب. ضُرِبت عليه المسكنة منذ صرخ الصرخة الأولى وتدحرج زغلولا بلا ريش إلى هذه الدنيا. مدفوعا على الأبواب شبَّ تتقاذفه الليالي والأيام، تسلمه المواجع للمواجع. أضناه البحث عن مأوى آمن يلجأ إليه. محروما من اللجوء إلى حضن أمه فكواه برد البلاطات في المحطات وعلى عتبات المساجد وعلى أرصفة الطرقات. قشة ذرتها الرياح ولَهَتْ بها فتطايرت في الفضاء ورحلت بها من مكان إلى مكان. مضت به الحياة عبر دروب ملتوية ملغومة لا يدري متى ينفجر عليه أحد الألغام فيفتت جسده النحيل. ولج متاهات وعرة وخاض عباب يم متلاطمة أمواجه. لم يكن مهيأ لخوض كل هذه المعارك، لكنها الأقدار ساقته إلى ما لا يعرف من الدروب، وطوّحت به بين المدائن والمداشر يتنكب لقمة يسكت بها سغبه.

استفاق أحمد مضطرب المزاج، مشوش الذهن.. حاول ان يطرد من رأسه أفكارا و هواجس ليبدأ نهاره كالمعتاد، لكن تأثير الصدمة كان أقوى .. فلم تفلح محاولاته الكثيرة للعثور على الكتاب..الكتاب الازرق او الصديق الوفي كما يحلو له ان يسميه..
لقد قضى البارحة يومه باحثا عنه ، لكن اجتهاده باء بالفشل..
الكتاب عنده بمنزلة الصديق..
اشتراه عندما كان طالبا في المستوى الاعدادي..
لازمه طيلة سنوات الدراسة، وكان فخوارا به بين زملائه..
بحث عنه وسط كومة كتب قديمة قل استعمالها، وداخل مجموعة أوراق ملقاة بأحد جوانب البيت.. وفكر ان يسأل زوجته في الموضوع لكنه تراجع عن الفكرة..
لهفته على الكتاب ليس لها حد، وفكرأن يسأل صديقه بشير الذي شاركه غرفة بالحي الجامعي أيام الدراسة فأجابه الصديق قائلا« ما عادت لي صلة بالكتب مثلما كنت يا صديقي..العمل في الادارة يأخذ كل وقتي..».

    حنين، حنيني إليك، أين المفر منه ومنك؟ فأنا أهرب منك إليك، أهرب بعيدا، وما تهرب إلا مخيلتي وراء الذكريات، فأين المفر؟ أهرب لأجد نفسي في حضن الذكريات، ذكريات قال عنها إنها زادي وملاذي في ساعات الوحدة، لأعثر عليها تتلصص على ألمي وتتفق مع الشيطان في طرح جسدي لخبايا الشر، تقدم دموعي ونزيف قلبي قرابين ليظل سيّد الشر، وتظل هي عالقة في مخيلتي، إفرازات الهوى تشدني بخيط ناظم يفصل بينه وبين ذكرياته، يمكن أن نقول عنه فن الوخز بالإبر؛ وخز يجعلك تحس بالألم في البداية؛ ثم يتلاشى شيئا فشيئا من مخيلتك الصغيرة، لكن الوخز الحقيقي الذي يوجعنا أكثر و يظل يرافقنا، هو وجع ذكرياتنا.

     هذه أول خاطرة لندى مع أفكارها، عنونتها ب: "لماذا أكتب"، وكان هذا أول تساؤل انتاب مخيلتها، و أول كلمات أثقلتها ليلة كاملة منذ أن التقت بأحمد زميل دراستها القديم، أعادت رفع القلم مرة ثانية بعد أن انتهت من مناوشاتها مع ذكرياتها، لكنها عجزت عن الكتابة، شملت جسدها رعشة رقيقة؛ رعشة الموت و الحياة، لم تجد سلواها إلا في تسليم أمرها للدموع، والمشي بخطوات مبعثرة  من اليمين إلى اليسار؛ ومن اليسار إلى اليمين، تحاول شغل أفكارها عن التفكير في أحمد، ظلت ليلة كاملة ما بين جبروت الصحوة و ميلان النوم، منتظرة بكل لهفة بزوغ شمس يوم جديد.

في الصباح الباكر خرجت ندى تهرول بين الأزقة والشوارع هائمة على وجهها مثل شخص نسي اتجاهاته، أو كأنها هاربة من شبح يطاردها، أحست فجأة بالتعب والجوع يدغدغ أمعاءها الصغيرة، فقررت العودة إلى بيتها و تناول وجبة دسمة نكاية في طيفها المجهول، ومواجهة مخاوفها، واتخاذ القرار البعيد القريب؛ القرار الذي ظل مؤجلا لسنون من الزمن؛ بسبب خوفها وانفعالاتها التي تقف حجر عثرة في حياتها.

دخلت منزلها أخيرا، وبدأت بإعداد وجبة الفطور، وحملت كالعادة إبريقها النحاسي وبدأت في صنع قهوتها المعتادة، رغم وجود آلة كهربائية لصنع القهوة، لكن ندى تحب طعم القهوة في الإبريق؛ فرائحة القهوة تساعدها على تصفية ذاكرتها، وعند الانتهاء من وجبة الإفطار الإجباري- فالجوع سيد المواقف- حملت فنجانها و ذهبت إلى غرفتها و بدأت بخط أول كلماتها لأحمد منذ ودعتها رغبة الكتابة، اليوم تكتب بارتجاف يدها و كأنها أمام جلسة الغفران.

في بادئ الأمر كان الأمر عسيراً جداً. أن تمضي الليل مستيقظاً، ليس أفضل الخيارات. لكنني لم أكن سيد القرار. وكان عليّ تقبل وردية العمل المسائية.
لم تكن لدي مهام وافرة، بحيث أكسب وقتاً كافياً لأختلي بكنزي، وأطالع بعضاً من فصول كتابي، فطالما عشقت مجالسة المؤلفات والدواوين في الليالي الحالكة، أستدفئ بدفئها وأستنير بنورها.
لا أحد يزعجني. وحدها أصوات الأجهزة كانت تلاطف مسمعي وتؤنسني.
أحياناً كان زميلي أسد يأتيني بكأس القهوة، ونتجاذب أطراف الحديث، ثم يعود إلى مكتبه الذي يبعد عن مكتبي بثلاثة أَقسام.
مضت سبعة أشهر على هذا الحال الذي لم أرتح له، لكن قبِلت به إلى أن حانت ليلتي الأخيرة هناك.
كنت أستمتع بكوب قهوتي في المنزل حين هاتفني حسين مساءً. توسّلني أن أعمل مكانه تلك الليلة بسبب مرض ابنته صوفيا التي كنت أحب ملاعبتها دائماً. قبِلت طلبه لعطفي على الصغيرة، ولحظي التعيس كانت ليلة ماطرة.
هاتفت سائق سيارة الأجرة، الذي كان رقمه المحمول بحوزتي، وأقنعته بإيصالي إلى مكان عملي في أجواء عاصفة.
لدى بلوغي المقر، وجدت أسد في انتظاري عند المدخل، لكن مزاجي السيئ منعني من أن أبادله التحية بأحسن منها فدخلت مسرعاً.
مضت من وقتي ساعة في تعديل الملفات، التي عرفت كثرة الأخطاء، وبعد تعبي قصدت آلة القهوة، لأعدل مزاجي الذي تعكر بسبب غباء الموظفين في التعامل مع المعلومات، فأحسست أن مقر عملي مكتظ بالبلهاء.

اكتشفتها في سطرين أو ثلاثة. تلك البلاغة العميقة عن الموت ورحيل الآخرين بلا استئذان. كان أبي أحدهم، وربما لم أفقد غيره بمثل تلك الدعابة الفجة التي صاغها حكيم عن الفراق المبكر للحياة.
نمشي إلى الموت غير مصدقين. حيارى يأكلنا الحنين إلى انبثاقات الرحم، حيث تبدأ الحياة صراخا كأنها لا تطاق منذ البداية. ثم يصير الأمر عادة قبل أن ندمن وهم الخلود. وفي هدأة العمر حين ترتخي العضلات، يبرز صدأ الحقيقة المتدثر بالأمنيات: فلان مات!
وفلان هذا يقطن غرفة في سطح البناية. متران على ثلاثة أمتار هي كل ما جادت به الدنيا على "عمي حدو". كهل قارب الخمسين بلا ولد أو وتد. زعموا أنه كان يخنق النصراني بيديه زمن الاحتلال الفرنسي، ويلقي الجثة في مزبلة خارج البلدة. بحثوا عن الفاعل شهورا طويلة قبل أن تشي به أرملة في الأربعين لعشيقها الذي يعمل كلب حراسة في فيلا الكولونيل.
سوق النسا سوق مطيار يقول عبد الرحمن المجذوب. وبعد أن سطعت شمس الحرية و الاستقلال كثر المجاذيب في حينا. منهم من قضى نحبه تحت وطأة الجحود، أما عمي حدو فكان يشير بسبابته إلى السماء راضيا. تحملوا وطأة التعذيب ورطوبة الزنازين ليفترشوا عتبة الوطن حتى حين. وطال ال" حين" سنوات قبل أن تشرع الحكومة في جرد اللوائح وتخصيص المعاشات.
في فيلا يملكها تاجر قماش بفاس وجد حدو ضالّته. ها هو يقضي يومه في سقي أحواض النعناع والثوم والفلفل الحار، مترقبا عشية السبت ليتجاذب أطراف حديث مقتضب مع الحاج الصقلي. شيء غامض يجمع بين الاثنين، ويرفع الكلفة في حضرة براد شاي منعنع، وعلبة حلوى فاسية يبللها حدو بريقه ثم يبلعها بشغف.

".. وإنما يستبدع ذلك ممّن زجّى عمره راتعاً في مائدتهم تلك ثمّ لم يقْوَ أنْ يتنبّه."[1]

فاتحة

   قُلنا في بداية هذه السّلسلة من المقالات أنّها مُخصّصة لاستعمال محمد العمري للبلاغيّين العرب القدامى في كتاب "المحاضرة والمناظرة"، الّذي ألّفه للدّفاع عن البلاغة ومناقشة كتاب "التبالغ والتبالغية" لرشيد يحياوي، وقد دفعنا اختلاط ما قاله فيه عن السّكاكي إلى مراجعة كتاب "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" علّنا نعثر فيه على بعض ما يساعد على فكّ ذلك الاختلاط وإظهار مبرّرات الأحكام المرسلة. لكنّنا وجدنا فيه، عكس ما توخّيناه، إسقاطا وتعسّفا وتزويرا لا يمكن أنْ يبرّر بالاختيار القرائي غير التّوثيقي[2]: صنّف السّكاكي "مختصراً"[3] لقّبه بـ"مفتاح العلوم"، وحدّد في مقدّمته مقاصده وفسّرها، وعيّن أنواع العلم الواجب الاعتماد عليها والاستمداد منها، وبيّن الْكَيْفيّة الّتي ينبغي أن تتراتب بها تلك الأنواع وتترابط بما يجعلها نسقا نافعا لعموم المهتمّين بالأدب في زمانه، وبرّر كلّ ذلك تبريرا علميّا كافيّا لا يخفى على المنصف، واحتاط بأنْ خاطب قارئه قائلا له إنّ "الاستعمال بيدك"[4]؛ بيد أنّ العمري يَكْفُر كلَّ ذلك، ويتورّط  في الإتيان بآراء غريبة وأحكام متعسّفة وتَقوّلات غاية في الفحاشة، بدا معها صاحب المفتاح متهافتا، ومختزلا، ومحكّماً للنّحو والمنطق في البلاغة!. وقد ناقشنا بعض ذلك، وظهر لنا أنّ العمري ساقه بدون تحقيق، وحشر في كلامه آراء متفاوتة ينفي بعضها بعضا ويقع جلّها بعيداً عن بنية المفتاح ومقاصده.. لهذا نعود إلى كتاب "المحاضرة والمناظرة " الّذي نخصّص له هذه السّلسة من المقالات لمناقشة "محاضرته" الّتي يجعل من طوائف مخاطَبيه فيها الطلبة والتّلاميذ[5]!  

  • الجرجاني والسّكاكي مؤسّسان ومختزلان:

   يقول العمري: «بدأت عملية اختزال البلاغة العربية مع الجرجاني نفسه، ثم خَطتْ خطوةً واسعةً مع السكاكي، وبلغت نهايتها مع القزويني وباقي الشراح والملخصين. ولا لوم على أحد منهم، فقد استجابوا جميعا لحاجيات عصرهم وأسئلته، واستثمروا إمكانياته. بل يمكن شكر المتأخرين منهم على إيواء البلاغة في لحظات احتضارها كما آوتها الكنيسة في أوروبا بعد ذهاب شبابها اليوناني واللاتيني. سنبدأ من البداية ونسير مع عملية الاختزال خطوة خطوة إلى العصر الحاضر[6] «.

   قلتُ: يكفي أن تعرف أنّ العمري يرى، مثل آخرين كثيرين، أنّ عبد القاهر الجرجاني " هو المؤسّس الحقيقي للبلاغة العربية"[7]، وتعرف أنّه يرى، وحدَه هذه المرّة، وكما هو واضحٌ في هذا المقتطف، أنّ عبد القاهر الجرجاني  نفسه هو أوّل من اختزل تلك البلاغة لتتأكّد من تنكّبه عن سبل الضّبط والتّحقيق في "المحاضرة والمناظرة". ففي الرّأي الّذي لا يقيم للمعرفة – بلهَ العلم- وزنا يمكنك دائما أن تقول إنّ الجرجاني أسّس البلاغة واختزلها، وتبرّر التّنافي بالقول إنّ ذلك الاختزال إنّما هو اختزالٌ منهاجي يمكن أن يؤيّد أو يعارض، دون أن تكلِّف نفسك بأن تسأل: إذا كان هو المؤسّس، فبالقياس إلى ماذا يمكن اعتبار عمله مختزلا؟ ومادام اختزاله اختزالا منهاجيّا، فكيف يمكن أنْ يُؤيّد أو يُعارض؟ لا يجب أن نكلّف أنفسنا السّؤال لأنّ كلّ ذلك سائغ في المحادثات التي يتحكّم فيها الهوى والرّأي بعيدا عن واجب التّفكير في تحقيق القول والتّدليل عليه: يتحدّث بعض المهتمين بالبلاغة من المعاصرين عن "البلاغة العامّة"، وفي مرحلة ما قبل الجرجاني كان هناك الكثير ممّن تناولوا،  من زوايا مختلفة، جوانب ومسائل أدخلها الباحثون في مرحلة ما بعد السّكاكي في التّخصص الّذي لقّبه بعضُ المتأخّرين بالبلاغة، لذا، فإنّ الجرجاني حتّى وإنْ كان هو "المؤسّس الحقيقي للبلاغة" بالنّسبة للعمري، فإنّه مع ذلك هو الّذي اختزلها- ولا تستغرب!- لأنّه لم يجعلها عامّة بجمع كل ما كان منتشرا قبله!. نعم تجمّعت عنده كلّ الرّوافد، ولكنّه قلّل من قيمة الموازنات!! طيّب، ماذا لو جعلتَ "بلاغة" الجرجاني تتوسّع لتشمل "فصاحة" ابن سنان وغير ابن سنان أكانت البلاغة ستصير عامّة تماثل ريطوريقا أرسطو التي كانت نصب عين جيرار جنيت وغيره ممّن اقتفوا أثره وتحدّثوا عن البلاغة العامة والبلاغة المختزلة من الغربيّين؟ وعلى فرض أنّها ماثلتها أو فاقتها من حيث "المساحة" أكانت تسدّ مسدّ هذا النّموذج الكلّي الّذي يطمح إليه المختصّون زمننا هذا دون أن يقدر أحد على ادّعاء أنّه بناه على الوجه الّذي ينشد؟ وهل هناك إمكانية أصلا لإنشاء ذلك النّموذج الكلّي؟ وماذا لو كان ما يتحدّث عنه العمري بهذه الطّريقة الّتي تجمع الإسقاط والتّخبّط والوثوقيّة لا يوجد إلا في وهمه؟ كلّ ذلك لا يعني شيئا لصاحب "المحاضرة والمناظرة"؛ والمنطلق عنده متهافت: البلاغة العربية كانت عامّة قبل أن تتأسّس، وقد اختزلها المؤسِّس.  ما هو علم البلاغة الّذي اختزله الجرجاني؟ الجرجاني اختزل علم البلاغة الّذي لم يكن! أو كانت ظواهره ومباحثه تتبلور تدريجيّا في النّحو والتّفسير وعلم أصول الدّين وأصول الفقه والنّقد الأدبي والإعجاز!

تعرف تايسون الأيديولوجية الاستعمارية، أو الخطاب الاستعماري، على أنه اصطدام بين ثقافتين، ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر.  وترى أن ثقافة المستعمر تتميز بالفوقية، الهيمنة، التنوير والسيطرة؛ وتنظر إلى ثقافة الآخر كثقافة خاضعة ومنبوذة ومكروهة، فتصفها بالدونية، الخضوع والاستسلام، الجهل والضعف.

 فالثقافة المهيمنة هي المعقدة وغالبا ما تمتلك الإرث الثقافي العالمي، من وجهة نظر المستعمِر. أما عن المستعمرات، فهم يعرفون كوحوش مسلوبين من إنسانيتهم، بحاجة إلى مساعدة المستعمِر ليخلصهم من عاداتهم السيئة والمشينة. فالمعايير الأنجلو-أوروبية فقط هي الصحيحة، وكل ما تبقى من الحضارات، هو إما اتباع النهج العالمي الذي فرضه المستعمر، أو البقاء على هامش الحياة. بهذا، غالبا ما تمحى ثقافة الدول المستعمرة سابقا حتى بعد زوال الاستعمار، مما يؤدي إلى تزعزع القرار وفقدان الاتصال بالماضي والإرث الثقافي لهذه الحضارات المقهورة (419). وهنا تنشأ النزعة بين "الذات المتحضرة" و"الآخر المتخلف والمتوحش". هنا يجب أن نتطرق إلى مصطلح مهم وهو ال "E.U.R.O.C.E.N.T.R.I.S.M" الذي يقتضي تفوق المقاييس الأوروبية على سائر الثقافات. واحدة من مفرزات ال "eurocentrism"، والتي طبقت في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، هو ال"O.R.I.E.N.T.A.L.I.S.M" أو ما يسمى الاستشراق، مصطلح وطده إدوارد سعيد، حيث ينسب الغرب الصفات الحسنة إلى نفسه ويرمي بالسيئات على الآخر(420). إذا أنا "متحضر" فأنت حتما "متخلف".

 وكما ذكرت تايسون، رعايا الاستعمار تعلموا منذ الطفولة أن الأخلاقيات الصحيحة تتمثل بالمستعمر؛ بهذا، فهو ينال السلطة العليا، ويجعل المستعمر يفقد الثقة بنفسه ويؤمن بدونيته (421). يعاني المستعمر من ضياع وتشتت الذات، فهو يشعر بالغربة حتى في وطنه، لأنه، ببساطة، ضائع بين حضارة تشعره بالدونية وأخرى أيضا تشعره بالقهر والدونية.

يورد الناقد أوكافورفي قراءته في رواية ((أشياء تتداعى)) للكاتب الإفريقي تشنوا أتشيبي: ((تدور أحداث ((أشياء تتداعى)) في إغبولاند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا في طور الاستعمار. وليس فقط مدينة إيغبولاند وكذلك الأراضي الإفريقية الأخرى المخصصة لها في مؤتمر برلين 1884-1885)) (67 – 68).  ولفهم تصرفات "أوكونكوو"(الشخصية الرئيسية)، علينا أولا فهم كوزمولوجيا مدينة إيغبولاند وعاداتها وتقاليدها، حتى نعرف كيفية تفاعل "أوكونكوو" مع البيئة المحيطة وكيف تؤثر بدورها فيه. على عكس ما ينص عليه الخطاب الاستعماري، فإن مجتمع الإيغبو قائم على ((المساواة)) وضد أي شيء يقترب من ((القوى الاستبدادية))، ويوجد مثل شعبي يدل على هذا: ((الإيغبو ليس لديهم ملوك)) (أوكافور، 68). فهم ليسوا مجتمعات بربرية، قائمة على القتل والسلب، بل لديهم ديمقراطية. مثل أي مجتمع آخر، لديهم آلهة وكهنة، والأهم من هذا كله، هو أنه يجب على البشر السير وفق القواعد والقوانين، ويجب على الفرد، إذا قام باختراق الأطر والمحرمات الاجتماعية، أن يكفر عن ذنوبه  )أوكافور، 69).

"والنّظر العدلُ المُنزِّل للأشياء منازلَها، والمُوَفّيها حقوقَها، موجِبٌ ألّا يُشاحّ في التّغيير والأسامي أصلًا ولا بِوَجهٍ من الوجوه مع قيام المعاني وتصوّر جوهريّاتِها وطبائعِها، فقِدْماً جرت العادة في الصّناعة النّظرية: الوصيّةُ للناظر وتحذيرُه أن يلهجَ بالألفاظ ويقفَ تصورَه عليها ويجعلَها نفسَ الأمرِ المنظور فيه.."[1].

فاتحة:

   قبلَ مناقشة ما كتبه محمد العمري عن "مفتاح العلوم" في كتابه "المحاضرة والمناظرة"، أدعو القارئ إلى وقفة وجيزة عند ما قاله عنه في كتابه" البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها " لعلّ ذلك يُقرّبنا من الأساس الّذي بنى عليه أحكامه في كتاب "المحاضرة" الّذي خصّصه، كما لا يخفى، لمناجزة زميله في التّخصّص. ومعلومٌ أنّ العمري يعلن في كتاب "البلاغة العربية.." أنّه ينطلق، من بين شعارات أخرى، من همّ شمولي نسقيّ[2]. ونحن وإنْ كنّا لا نقصد إلى تتبّع مدى وفائه لهذا المنطلق، فإنّ الواجب يفرض أن ننظر في ضوئه لما قاله عن المفتاح. وسنلتزم في ما سنناقشه من ذلك بالاحتكام إلى ما يرتبط بمنطلقاته التّصوّريّة وبمبادئه ومقاصده نفسها؛ وسنعمل على تحرير المفتاح من قبضة الأحكام غير المبرّرة علميّا، بمنهج يقوم على الاختلاف ولا يسعى إلى حشر المفتاح وغيره في تصوّر ضيّق بمنطق التّوحيد القسري الّذي يضاد العلم ويصادمه. وليس بخافٍ، على مَنْ لهُ فضل تمييز، أن التّصوّرات الضّيّقة  إنّما تنتج، في الغالب، عن قبليّات تَفْلت من حيّز الرّؤية والنّظر.

1 . تغيير انتماء الكتاب:

   وَأوّل ما يَجْبَه به العمري القارئ في المبحث الأوّل من الفصل الرّابع من القسم الثّاني هذا العنوان: "من علم الأدب إلى البلاغة". وهو عنوان يُعْلِن بوضوح ما ستدور عليه الفقرات المسطّرة تحته ممّا يمكن أنْ نختصره في كون المفتاح انطلق من البحث عن علم للأدب وانتهى إلى أنّ ذلك العلم هو البلاغة. وفي هذه الدّعوى المغسولة من الحقّ تنصّل مما قرّره هو نفسه في مكان آخر:  ففي سياق الدّفاع عن انتماء "منهاج" حازم إلى البلاغة يقول العمري إنّ  «صاحبه أصر على الاسم، وعرف البلاغة تعريفا يعطيها القيمة التي يريدها لعمله: العلم الكلي؛ أي أنها ليست بلاغة جزئية مما هو معروف، فلا يحق لغيره أن يغير انتماء الكتاب[3]«. أمّا في ما يتعلّق به هو، فإنّه لا يكتفي بتغيير انتماء المفتاح فحسب، بل إنّه يتصرّف في مقدّمته وفي بنيته ويعتبر العنوان نفسه أوّل شاهد على أنّ صاحبه لم يقصد، في البداية، إلى التّأليف في البلاغة؛ ويبتدع قصّة تكوُّن المفتاح، مشدّدا على ما يزعم أنّه تردّد وعدم احتراز وانتباه متأخّر إلى أنّ العلم الّذي كان يبحث عنه إنّما هو البلاغة بعينها. ونحن لا نقول إنّ العمري بدّل انتماء المفتاح لأنّ صاحبه ألّفه في "علم الأدب" وأصرّ على ذلك وأنّ العمري اعتبر "علم الأدب" مساويا للبلاغة -وهو ما يفهم من بعض السيّاقات كما سنظهره في حينه- فلا مشاحّة في الأسماء؛ بل نقوله لأنّ العمري يدّعي أنّ السّكاكي قام برحلة بحث عن علمٍ للأدب، فجاس خلال علوم كثيرة ولم يصل إلى أرض البلاغة إلّا في النّهاية! وهذا قولٌ لا صلةَ له ببنية كتاب المفتاح وبمقاصد صاحبه وبسيّاق تأليفه.

إضاءة :
كان هنا الى وقت قريب، يؤنس وحشتنا برهافة حسه الفكاهي، وسخريته اللاذعة أحيانا. وهو حين يحدثك، يجذبك بطرافة ما كان يرويه من ذكرياته المعتقة، هو الذي بارك الله في عمره الزمني، وباعد بينه وبين ثلة من أصفيائه ورفقائه الذين طواهم الزمن وعبروا الى الضفة الأخرى.
وبمجرد ما يستهويه الحديث عنهم تراه يستل من جيبه علبة ذاك المسحوق الأخضر الذي يسويه على طول إبهامه مستنشقا ما يحبل به من رائحة تزكم أنوفنا نحن المتحلقين حوله، متلهفين سماع أحاديثه ومستملحاته ورواياته العابقة بالأمثال والدروس والسير للذين ساروا بأرجلهم الحافية على الطرق المسنونة، يكتشفون أسرار الخلق وغياهب المشيئة.
نسيت دمي عندهم بوح شعري لعصارة نفس تواقة للانغماس في الهموم القومية الذبيحة، الممزوجة بالأوجاع الذاتية الناشدة لمن تحررها مما يطوقها من أحزان ومكابدة في الزمن العربي العاقر الموشوم بالخيبات والأزمات والهزائم. وفيما يلي قراءة لما تحبل به القصائد المبثوثة في هذا الديوان.
1- الهم القومي الذابح :
يبدو الشاعر مهووسا بزرع بذور الانتساب الى الهوية العربية. هو الذي ينتمي الى الرعيل الأول ممن خاض غمار استنبات البراعم التي ستتفتق في تربة مغرب ما بعد الاستقلال بحكم انتمائه إلى الأسرة التربوية. وهو بانغماسه المتواصل هذا في أداء وظيفته، لم يتسنى له أن يعكف على ما كانت تمور به نفسه الإبداعية من قصائد كان يحلو له أن يبوح بها لمن تحلق حوله من أصدقائه ورفاقه المقربين، وينشرها لعامة القراء. أما ديوانه هذا، فكان سيعرف نفس المصير لولا تكفل اتحاد كتاب العرب بطبعه في عمان لما كان الشاعر منغمسا في أداء دوره في هذا الاتحاد، وذلك بالمساهمة في أنشطته ومشاركته في اللقاءات والندوات الفكرية والأدبية بحكم عضويته التي كانت مستمرة كأحد ممثلي اتحاد كتاب المغرب بفرع العاصمة الاسماعيلية، مدينة : مكناس.
وقد جثم الهم القومي على كيان الشاعر لزمن ليس باليسير. وقد احتلت القضية الفلسطينية مركز هذا الاهتمام كمعادل لهذا الهم القومي الذي قض مضجع الشاعر. يقول في قصيدته: " تعاويذ" :

الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط بالبُنيةِ الأخلاقية الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة ، ولُغَةُ العملِ الأدبي تَرتبط بِنَبْضِ الواقعِ اليَوْمِي ، والمشاعرُ الإنسانية نابعةٌ مِن تفاصيل الحياة ظاهريًّا وباطنيًّا ، والتَّعَمُّقُ في الطاقةِ الرمزية اللغوية إنَّما هو _ في الحقيقة _ تَعَمُّقٌ في مَكنوناتِ النَّفْسِ البشرية ، لأنَّ اللغةَ والإنسانَ هُمَا الحاملان للأدبِ والفَنِّ والفِكْرِ والمَعرفةِ ، ورُوحُ اللغةِ ورُوحُ الإنسانِ هُمَا القاعدتان اللتان تَقُوم عليهما العمليةُ الإبداعيةُ نَصًّا ومَعْنى .
والأدبُ هُوَ الابنُ الشَّرْعِيُّ للأخلاقِ ، واللغةُ هي الوريثةُ الشرعيةُ للحُلْمِ الإنساني . وإذا حَصَلَ صِرَاعٌ بَين الأدبِ والأخلاقِ ، فإنَّ الإبداعَ سَيُصبحُ شَبَحًا باهتًا بِلا سُلطةٍ ولا هُوِيَّة ، وإذا حَدَثَ صِدَامٌ بَيْن الفَنِّ والشُّعُورِ فَإنَّ اللغة سَتُصبحُ صَدى مَبحوحًا لا صَوْتًا هادرًا .
ولا يَخفَى أنَّ الشِّعْرَ هُوَ الفَنُّ الأكثرُ التصاقًا باللغةِ ، لأنَّه قائمٌ على التَّكثيفِ والنَّقَاءِ والصَّفَاءِ والصُّوَرِ الجَمَالِيَّةِ المُدْهِشَةِ ، والشُّعُورِ الإنساني النَّبيل ، وإعادةِ تَشكيلِ الأشياءِ العاديَّة لِتُصبح مُبْهِرَةً ، وتَكثيرِ زَوايا الرُّؤية لتفاصيل الحياة لِتُصبح عوالم سِحْرِيَّة مِن الأحلامِ المُحَلِّقَةِ والذكرياتِ المُلَوَّنَةِ . وإذا خَسِرَ الشاعرُ لُغَتَه خَسِرَ هُوِيَّتَه ، وإذا فَقَدَ الشاعرُ شُعُورَه فَقَدَ إنسانيته .
ومِن أسوأ التناقضات بَين الحَالةِ الإبداعيَّةِ والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ ، التناقضُ الصارخُ في حياة الشاعر الأمريكي عِزرا باوند( 1885_1972)الذي يُعْتَبَر أحد أهَمِّ شخصيات حركة شِعْر الحداثة في الأدب العالمي في النِّصْفِ الأوَّلِ مِن القَرْنِ العِشرين، حتى إنَّ الشاعر الإنجليزي مِن أصلِ أمريكي تي إس إليوت أهدى إلَيه قصيدته " الأرض الخراب" ( أشهر قصيدة في القرن العِشرين ) باعتباره مُعَلِّمًا له ، وأبًا للحداثة الشِّعْرية الغربية، حيث قال : (( إلى عِزرا باوند الصانع الأمهر )) .

إنَّ النقد الثقافي لا يَعْني تحليلَ الأنساقِ الثقافيةِ الكامنةِ في النُّصُوصِ الأدبية فَحَسْب ، بَلْ يَعْني أيضًا تَفكيكَ الأفكارِ الفلسفية الراسخة في الصُّوَرِ الإبداعية الفَنِّية ، وإعادتها إلى أشكالها الأوَّلِيَّة في الواقعِ اليَوْمِي ، وإرجاعها إلى جُذورها الاجتماعية في الأحداث الحياتية . والثقافةُ لَيْسَتْ تَجميعًا للكَلِمَاتِ وتَنميقًا للعِبَاراتِ وتَزويقًا للدَّلالاتِ ، وإنَّما هي تَجسيدٌ للوَعْي الاجتماعي بَين مَا هُوَ كائن وَمَا يَنبغي أن يَكُون.وكُلُّ حالةٍ إبداعيةٍ تُمَثِّل اندماجًا بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ، مِمَّا يُسَاهِم في كَشْفِ جَوهرِ التاريخ شخصيًّا وجَمَاعِيًّا ، وإظهارِ تَحَوُّلاتِ الفِعْل الاجتماعي تاريخيًّا وحَضاريًّا ، وإبرازِ امتداداتِ سُلطةِ العملِ الأدبي أُفقيًّا وعَمُوديًّا .
والنقدُ الثقافي لَيْسَ مُوضةً عابرةً ، ولَمْ يَجِئْ مِن العَدَمِ ، ولا يَتَحَرَّك في الفراغ ، بَلْ هُوَ تَجربةٌ إنسانية مُتكاملة لها جُذور اجتماعية عميقة ، ومَصْدَرٌ أساسي للمَعرفةِ المُسْتَتِرَةِ في تفاصيل المُجتمع ، وإعادةُ إنتاج للعلاقات الاجتماعية كأدواتٍ لُغَوية لتفسيرِ المفاهيم المُسيطرة على الواقع اليَوْمِي ، وإعادةُ تَشكيل للتَّرَاتُبِيَّةِ الهَرَمِيَّة كَآلِيَّاتٍ ثقافية لتأويلِ الخِطَاب المُهيمِن على الأحداث الحياتية .
وإذا كانَ المُجتمع يَستمد سُلطته الاعتبارية مِن مَصادرِ المعرفة ، فَإنَّ النقد الثقافي يَستمد طاقته الرمزيةَ مِن جُذوره الاجتماعية . وإذا اندمجت السُّلطةُ الاعتباريةُ معَ الطاقةِ الرَّمزية ، فإنَّ مَرجعية اللغةِ سَوْفَ تَتَكَرَّس في الإبداعِ الأدبي وَالوَعْيِ الاجتماعي معًا ، ويُصبح جَسَدُ اللغةِ بَحْثًا دائمًا عَن المَعْنَى ، وتَجسيدًا مُستمرًّا للأنساقِ الثقافية القادرةِ على الجَمْعِ بَيْن المَركزي والهامشيِّ.

قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى' تنبض بعمق المشاعر الإنسانية، معبرةً عن رحلة الشاعر الداخلية وكفاحه مع الاغتراب والبحث عن الذات. في طياتها، تكشف القصيدة عن تجارب شخصية مليئة بالأحاسيس المعقدة التي تلامس جوهر الوجود الإنساني، معكسةً تساؤلات الشاعر حول الهوية والانتماء. الشاعر، في هذه القصيدة، لا يعيش الغربة في معناها المادي فحسب، بل يخوض غمار الاغتراب الوجودي، متأملاً ومتجولاً بين الأمكنة والأفكار بحثاً عن معنى أعمق للحياة ومكانته فيها. حتى وسط الزحام، يشعر بوحدة مؤثرة تدفعه للتفكير بعمق حول ماهية الذات والهوية الشخصية. يستخدم الشعر كأداة لاستكشاف أغوار نفسه، محاولاً فهم وتفسير أسئلته الوجودية من خلال قوة الكلمات والإيقاعات. وبهذه الرحلة، يتقاسم الشاعر معنا شعوره بالاغتراب، ليس فقط كمنفى جغرافي، بل كحالة ذاتية تتجسد في تجربته الشخصية. القصيدة تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الوجود، الحب، الموت والفقد، داعية القارئ للتأمل في هذه المواضيع الجوهرية. استخدام الرموز والصور البيانية يضفي على النص غنى وتعقيداً، مانحاً القارئ فرصة لاستكشاف وتأويل العديد من الطبقات المعنوية. النهود في القصيدة تعدو أكثر من مجرد رمز للحياة والخصوبة؛ إنها تمثل الشوق للعيش والأمان. وبالمثل، ترمز الكتب إلى البحث عن المعرفة والحقيقة، معبرةً عن رغبة الشاعر في تعميق فهمه للعالم من حوله. في جوهرها، تعد هذه القصيدة دعوة للقراء للانخراط في رحلة تأملية حول معنى الحياة والوجود الإنساني، مشاركةً إياهم في استكشاف الأسئلة التي تراود النفس البشرية وتمس جوهرها.

في قلب قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى'، تنبض شوارع الحياة بكل تقلباتها وتعرجاتها، راسمة خارطة لرحلة الشاعر الشخصية في محاولة لفهم ذاته والعالم من حوله. هذه الشوارع ليست مجرد ممرات مادية، بل هي مسارات روحية تقود الشاعر في استكشافه الدائم لمعنى الوجود وهدفه في هذه الحياة. عبر الأبيات، ينسج الشاعر حكاية استكشافه للذات والعالم، مستخدمًا الرموز البليغة من نهود تمثل الحياة والكتب التي تعبر عن البحث عن المعرفة، إلى الشوارع التي تجسد رحلته المعقدة والمليئة بالتحديات. هذه الرموز تعكس صراع الشاعر الداخلي بين رغبته في الاستقرار وشغفه بالتجوال والاكتشاف، مقدمةً للقارئ تجربة غنية تثري الروح وتحرك العقل. في قلب القصيدة، يبرز الاحتجاج والتمرد كموضوعات رئيسية، حيث يعكسان التزام الشاعر بالتعبير عن رفضه للوضع الاجتماعي والسياسي الحالي. يتضح هذا الالتزام في دفاعه عن الطبقات المهمشة وتضامنه مع قضاياهم، مستنكرًا الفوارق الطبقية الصارخة التي تشق المجتمع. الشاعر لا يكتفي بمجرد عرض اعتراضاته، بل يدعو إلى الوعي والتفكير النقدي حول العدالة والمساواة، موجهًا انتقاداته للأنظمة التي تعزز الفجوات وتدعم الاستغلال. من خلال قصيدته، يرسم الشاعر مسارًا للتغيير، مؤكدًا على دور الشعر كوسيلة للتعبير عن الرفض والمقاومة، ومشددًا على أهمية النضال من أجل مستقبل أفضل. في النهاية، تتجاوز القصيدة مجرد كونها عملاً أدبيًا لتصبح منبرًا للشاعر يعبر فيه عن رؤيته وأحلامه لعالم يسوده العدل والإنصاف، مقدمةً لنا جميعًا تأملات عميقة حول الإنسانية وتحدياتها.

رواية "صياد الغروب" هي رواية للكاتبة أم الزين بن شيخة المسكيني، وهي صادرة عن دار الأمينة للنشر والتوزيع، وتحتوي على 227 صفحة مقسمة على 33 لوحة، حيث تبدأ الرواية بترتيلة الوداع قبل أن يشرع السرد في إفراز إمكاناته، وممكناته السحرية، والشعرية، والغرائبية. ومن ثمة تنطلق الكتابة في التحرّر من سلطة الحكي والتخريف ليتم بذلك تفجير المعاني والدلالات، في غابة من السرد المكثف، الممزوج بالفلسفة، والشعر، والأدب. فالرواية هنا هي مادة متعددة الأصوات، كثيرة المناخات والعوالم، وهي عجينة سردية ولفت فيها الكاتبة كل إمكاناتها السحرية والشعرية، مقرة من خلال ذلك أن كل فرد بإمكانه كتابة سرديته وسيرته وقصته وأن أهميته تنبع من تلك القصص التي تشكل جسده.

لم يكن السرد في رواية "صياد الغروب" مجرد تقنية ذات وظيفة إخبارية وقصصية، فهو لا يأتي فقط لإخبارنا بالحكاية والقصة بقدر ما دفعته الكاتبة أم الزين بن شيخة إلى تجاوز الممكن فيه من أجل الإطلالة على مدرات الرعب، التي لا يوجد فيها غير العوالم والمناخات المتعددة وهي تتحرك بين مسطحات متنوعة اختلط فيها الفلسفي بالشعري والخيالي بالواقعي. تنزل علينا رواية "صياد الغروب" بوصفها مشروعا أدبيا يميز جسده ذاك التحول المستمر في طريقة سرد الخطاب، ففي كل مرة تباغتنا الكاتبة لتطل علينا من مكان وفضاء وموقع ما، فهي تترحل بنا بين الأمكنة والأفضية متتبعة شخصياتها وحكاياتهم، فتأخذنا تارة إلى رواية "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" وذلك باستحضارها لشخصية "كوشمار" و"خازوق" قبل أن تعود بنا لجسد رواية "صياد الغروب".

تتجول بنا أم الزين بن شيخة في جو من الفنتازيا الحرّة التي يكون فيها الخيال هو تعبير بشكل ما عن الواقع، فنحن لسنا في عوالم واقعية بشخصياتها وأمكنتها وأحداثها، بقدر ما نحن إزاء مناخات ميتافيزيقية لا ترتبط بالواقع إلا عبر حكايات الشخصيات في الرواية، فالأشباح "هناك" لها قصتها "هنا" وقرينة ذلك وجود شخصية "فرح" بوصفها شبحا يلتقي شخصية أيوب كل يوم عند الشاطئ عندما يهم بالتقاط صور الغروب. معنى ذلك أن الكاتبة أرادت من خلال رواية "صياد الغروب" أن تخبرنا أنه بإمكاننا أن نتخيل ما لا يمكن تخيله، وما لا يمكن تجسيده أو كتابته، وأن الخيال هو سلاحنا الأوحد ضد قسوة الواقع ومأساته. فالرواية هي لحظة من لحظات انعتاق الخيال إلي حدوده القصوى. فالسرد يبدأ من حيث يبدأ الخيال في مباشرة تشكيل الصور، فالرواية تستدعي كل الأشياء الخارقة والماورائية من أجل تحريك لعبة السرد.

في البدء كــان هنــاكَ المعنى، لكنّـــه، وبسببِ طغيانِ الأيدلون[1]، طفق يَغور في سرابِ اللحظةِ الراكضةِ صوبَ حَتفها. فكيفَ السبيلُ لاستعادته من قبضةِ هذا السّرابِ الشبحيّ؟   

لا تبتغي هذه الورقة أن تكون امتداحًا أو تقريظًا لـنصوص سرديّـــة قَضى الكاتبُ "محمد سَعيد أولاد الصغير" زمنًا طويلاً في تحبيرها. لا تبتغي، أيضًا، تقـــري ظـروف اختمارها وسياقات تخــلُّقها. ولا تبتغي، بعدَ هذا وذاك، ردَّ هذه النّصوص إلى النواةِ الدلاليّة الأولــى[2] وأنماط التّسريد التي خضعت لها؛ فنحن لا نريدُ أنْ نكونَ كالبوذيّ الذي يرى مَظاهر الوجودِ كلّها في فولةٍ صغيرةٍ [3]. كلّ ما تتغياهُ، إذًا، هو الإشارةُ، بتكثيفٍ دالٍ، إلى بعضِ الـمَداخلِ القرائية التي قد تكونُ مَساربَ صوبَ احتمالاتٍ دلالــيّةٍ ممكنةٍ.

إنّ النّص السّرديّ، استتباعًا، لا ينطوي على معنى ناجزٍ، كامنٍ، ومنتهٍ، بل إنه نصٌ مشرعٌ على مفاجآت صاعقةٍ إنْ هو وَجَدَ قارئًا خليقًا بـقراءته. إنّ لا وعيّ النّص أكبرُ من وعي الكاتب وسُلطته. فكلُّ العوالـم الــمُمكنة[4] التي يخلقها السّرد تُبنَى من خلال اللّغة وبواسطتها. واللّغة –كما يوكّد ذلك السميائيون والهرمسيون- حوضٌ رمزيّ زلقٌ وزئبقيٌّ، وفضاءٌ منذورٌ للاعوجاج والالتواءِ والتشتّت. يستدعي هذا اللاوعيّ، المعبّر عن نفسه اعوجاجًا والتواءً وتشتّتًا، قراءةً صغريّةً تفصيليّةً بالمفهوم البارثيّ للكلمةِ؛ أي قراءة تتتبّع سُبُلَ انصراف المعنى ومسالكَ تَدْلالِهِ: تقفّي سيرورات هروبِ المعنى من حدّ إلى حدّ ومن علامةٍ إلى أخرى في حركةٍ دائبةٍ، مترابطةٍ، ومستمرةٍ...

تَضَعُنَا المجموعةُ "حافية القدر" حُيال عوالــمَ رمزيةٍ تحتفي بالهامشِ والمنسيِّ ومَا اعتادتِ العينُ الإنسانيّةُ المعاصرةُ- التي فقدت رَهافة الـنّظر وعُمقه بفعلِ هيمنة وسائط التواصل الجماهيريّ وقنوات التلويث البصريّ- رؤيته مألوفًا وعاديًا وبسيطًا.

يمكن، بهذا المعنى، القول إنّ هذه الــمجموعة القصصية تعتمدُ السردَ وسيلةً لــتدثير مناطقَ إنسانيّة، أضحت، بفعل العوامل المذكورة أعلاه، عَاريةً، مُنتهكةً، ومُهملةً. يتراءى رهانُ التدثير السّرديّ، انطلاقًا من مُنظورنا القرائيّ، في جعلَ الغيابِ منطلقًا رئيسًا لبناءِ المعنى، ونسُوق صورَ هذا الغيابِ، ترتيبًا وتفصيلاً وتـــأوُّلاً، في ما يلي:

آخر الأنشطة الثقافية والعلمية

  • تنظيم ندوة في موضوع: جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية
    تنظيم ندوة في موضوع: جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية نظم مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء، بتنسيق مع فرقة البحث في الإبداع النسائي، كلية الآداب بتطوان، صبيحة يوم الخميس 30 نونبر2023، في رحاب كلية الآداب بنمسيك، ندوة في موضوع "جماليات السرد النسائي في الرواية المصرية"، بحضور ثلة من الباحثين والباحثات من مختبرات ومجموعات بحث تنتسب لكليات وجامعات مغربية مختلفة. كما جرى نقلها مباشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بمساهمة الدكتورة جيهان الدمرداش من مصر. انطلقت الجلسة الافتتاحية، التي تولت رئاستها الأستاذة مريم ودي، بكلمة للسيدة سميرة الركيبي، نائبة العميد المكلفة بالشؤون الأكاديمية، رحبت فيها بالحضور ونوهت بموضوع الندوة والآفالق التي يفتحها أمام الباحثين والباحثات، ثم تلتها كلمة الأستاذ شعيب حليفي، رئيس مختبر السرديات، الذي أكد أن المختبر، وخلال مسيرته التي بلغت الثلاثين سنة بحلول عام 2023، قد…