كتاب من تأليف المفكر النهضوي المصري سلامة موسى (1887 – 1958)، صدر هذا المؤلف خلال القرن الماضي، لتعيد مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة نشره في طبعة عصرية. وفيما يهم موضوع الكتاب، يتناول الأخير أحد أهم اكتشافات علم النفس الحديث، ونريد بذلك العقل الباطن لما له من مفعول كبير في سلوك الإنسان ونشاطه الذهني:
ما المقصود بالعقل الباطن؟
يعرف المؤلف العقل الباطن بكونه "العقل الذي يعمل على غير وعي منا. فهذا العقل يعمل كأنه مستقل عنا، وهو يقرر ميولنا وأمزجتنا". ويعتقد سيغموند فرويد (1856 – 1939) الذي دشن البحث في هذا المجال أن الغريزة الجنسية هي أهم محددات العقل الباطن، أما ألفرد أدلر (1870 – 1937) فيقلل من تأثير الغريزة الجنسية، ويركز على دوافع أخرى مثل الرغبة في امتلاك القوة والسلطة. وصولا إلى كارل يونغ (1875 – 1961) الذي ألف بين الرأيين (فرويد وأدلر) وأكد على أن "اللبيد (يُقصد به الرغبات والعواطف المكبوتة في العقل الباطن) هو تلك الغريزة الجنسية قد امتزجت بالنزوع إلى الرقي". فالإنسان بطبعه ميال إلى الرقي والتطور، إذ كثيرا ما ننساق لخواطر لذيذة كأن نحلم بأننا أصبحنا أغنياء أو قادة.
وعليه، فإن العقل الباطن هو "عقل الثقافة القديمة" وما تحيل إليه من غرائز بدائية (حب الشهوة واللذة والانتقام والعنف)، أما العقل الواعي فهو "عقل الثقافة الحديثة"، عقل الحضارة والعلم والمعرفة. بيد أن نوازع العقل الباطن ليست كلها شريرة، لأن الإنسان القديم لم يكن شريرا على نحو مطلق، كما أن العقل الباطن والعقل الواعي كثيرا ما يتعاونان لتحقيق مصلحة الإنسان، كالعالم الذي يتوصل إلى اختراع أو كشف علمي بواسطة الحلم.
الكبت
إن الرغبة أيا تكن طبيعتها (طعام، جنس... إلخ) إذا ما كُبتت من لدن العقل الواعي فذلك لا يعني زوالها، بل هي تندس في العقل الباطن وتتحين الفرصة لتخرج من مخبئها، فالعقل الباطن في هذه الحالة ينفس عن رغباتنا المكبوتة بواسطة الخواطر (أحلام اليقظة) والأحلام. وإذا ما بلغت الرغبة المكبوتة حدا بعيدا من الجموح قد تؤدي إلى الإصابة بالأمراض العصابية كما يعتقد فرويد فيما يخص الغريزة الجنسية، لكن الرغبة المكبوتة قد تفضي إلى سبيل إيجابي وهو التسامي بحيث "نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا، فأرغب الناس في وصف الجمال ولذات العشق هو المحروم من الحب (كالشاعر)". وتأسيسا على ذلك "إذا كانت العواطف المكبوتة تُحدث الجنون أحيانا فإنها أحيانا أخرى تُحدث النبوغ".
الأحلام والخواطر
إن مهمة النوم من منظور علم النفس الحديث تكمن في إراحة العقل الواعي الذي سرعان ما يتعب لأنه أحدث وأقل رسوخا من العقل الباطن. والحلم الذي يتخلل النوم هو وسيلة لإشباع رغبة كبتها العقل الواعي وقت اليقظة كالجائع الذي يحلم بأنه يأكل طعاما لذيذا، لكن لا تنسج كل الأحلام على المنوال عينه، إذ قد تعكس صراعا يعيشه الشخص بين السعي لإشباع الرغبة من جهة، والامتناع عن تحقيقها، وذلك في حالة النوم الخفيف حين ينشط العقل الواعي الذي يكبت العواطف جزئيا.
أما الخواطر أو أحلام اليقظة فيمكن اعتبارها أداة لتفسير الأحلام مثلما يرى فرويد ورفرز، ما دام أنهما معا (الخواطر والأحلام) ينحدران من أصل واحد، ألا وهو العقل الباطن. وتعد الخواطر أقل جموحا من الأحلام على نحو يجعلها لا تتجاوز حدا معينا من الإسراف، لأن العقل الواعي لا يكون نائما بالمطلق وهو لذلك يلجمها.
هل من سبيل إلى ترويض العقل الباطن؟
يذهب سلامة موسى إلى أنه في وسعنا ترويض العقل الباطن وتسخيره لصالحنا عن طريق الإيحاء بخواطر إيجابية كمن يتخيل النجاح فينجح، أو الشفاء فيشفى من المرض، ذلك أن العقل الباطن يؤثر في الجسم كما تقر بذلك الأبحاث الحديثة. ولذلك فإن طريقة إقناع العقل الباطن ليست "المنطق" بل "الإيحاء"، فالعقل الباطن لا يدرك المعاني المجردة للكلمات (الموت، الشهامة... إلخ) إذا لم تقترن برموز ملموسة كما في الأحلام.
وبالإضافة إلى الإيحاء الذي يحضر بكثافة في التنويم المغناطيسي، نجد أيضا أسلوب التحليل النفسي الذي يعتمد على سؤال الطبيب وجواب المريض الذي يفصح عن الخواطر التي تنتابه حول كابوس مزعج تعرض له مثلا، وذلك بغية الوقوف على أصل ومصدر ذلك الكابوس أو العلة النفسية على وجه العموم (حادثة قديمة وقعت أثناء الطفولة، مشاغل راهنة)، ومن ثم فالتحليل أنجع من التنويم لأنه ينفذ إلى أصل العلة.
مرض الهستيريا
تصنف الهستيريا إلى نوعين: نوع يصيب النساء والرجال معا، وهو الذي ينتج عن الإصابة بالرعب والذعر، فيؤدي إلى عوارض مثل الخرس أو جمود أحد أعضاء الجسم، وهذا النوع عادة ما يصيب النساء ولا سيما في أوقات السلم لأنهن أكثر تعرضا للخطر (الولادة، الاعتداء... إلخ)، فيما ينتشر في وسط الرجال خلال أوقات الحرب. أما النوع الثاني فهو يصيب النساء حصرا لصلته بحياتهن الجنسية، لأن الفتاة تجد مشقة كبيرة في كبت غريزتها الجنسية على نحو يفوق ما يجده الشاب من عنت باعتبار القيود الاجتماعية المفروضة عليها، فلا تجد سبيلا للتنفيس عنها: "لذلك فإن عقلها الباطن يطغى أحيانا على عقلها الواعي ويُحدث لها في يقظتها تلك الحركات أو التشنجات"، والهستيريا مرض نفسي في الجوهر ولا تخفى علاقته بالعقل الباطن.
أصل الأخلاق والعقائد
إن العقل الباطن لا ينس حوادث الطفولة وما يلقاه الطفل والصبي من العقائد، لذا تلعب الطفولة دورا أساسيا في تحديد أخلاق المرء المستقبلية ومنهجه في الحياة. ولما كان الطفل في سنواته الأولى لا يملك القدرة على التمييز وينزع إلى المحاكاة والتقليد، فإن أنجع طريق لتربيته هو الإيحاء وإعطاء القدوة له بنهج السلوك الحسن، أما الأوامر والنواهي فهي لا تولد إلا الكبت الذي لا يدوم مفعوله طويلا: "والأخلاق والأذواق تحدث من العقائد، وهذه العقائد تتسرب إلى العقل الباطن أيام الطفولة الأولى، ولذلك فإن مكان التربية الحقيقي هو البيت لا المدرسة، فشأن المدرسة أن تعلم، أي تغرس في العقل الواعي مجموعة من المعارف لا العقائد".