آخر مقالات علمي الاجتماع والنفس
المزيد
علما الاجتماع و النفس
التقاطع مفهوم اكتسب اهتماماً كبيراً في علم الاجتماع، وخاصة عند معالجة القضايا المتعلقة بعدم المساواة والعدالة الاجتماعية. التقاطعية هي إطار تحليلي اجتماعي لفهم كيف تؤدي الهويات الاجتماعية والسياسية للمجموعات والأفراد إلى مجموعات فريدة من التمييز والامتياز. تشمل أمثلة هذه العوامل الجنس، والطبقة، والعرق، والإثنية، والجنسانية، والدين، والإعاقة، والطول، والمظهر الجسدي، والعمر، والوزن. قد تكون هذه الهويات الاجتماعية المتقاطعة والمتداخلة تمكينية وقمعية في نفس الوقت.
نشأ التقاطع كرد فعل على كل من النسوية البيضاء وحركة التحرير السوداء التي يهيمن عليها الذكور آنذاك، مستشهدة بـ "القمع المتشابك" للعنصرية والتمييز على أساس الجنس والمعيارية الجنسية. إنها توسع نطاق الموجتين الأولى والثانية من النسوية، والتي ركزت إلى حد كبير على تجارب النساء البيض والطبقة المتوسطة، لتشمل التجارب المختلفة للنساء الملونات، والنساء الفقيرات، والنساء المهاجرات، وغير ذلك من المجموعات، وتهدف إلى فصل نفسها عن النسوية البيضاء من خلال الاعتراف باختلاف تجارب النساء وهوياتهن.
صاغت الأكاديمية الحقوقية الأمريكية "كيمبرلي كرينشو" Kimberlé Crenshaw مصطلح التقاطعية في عام 1989 وهي تصف كيف تؤثر أنظمة القوة المتشابكة على أولئك الأكثر تهميشاً في المجتمع. يستخدم الناشطون والأكاديميون هذا الإطار لتعزيز المساواة الاجتماعية والسياسية. تعارض التقاطعية الأنظمة التحليلية التي تعالج كل محور من محاور القمع بمعزل عن الآخر. في هذا الإطار، على سبيل المثال، لا يمكن تفسير التمييز ضد النساء السود على أنه مزيج بسيط من كراهية النساء والعنصرية، بل كشيء أكثر تعقيداً. والتقاطعية تصف الطرق التي تتقاطع بها الفئات الاجتماعية المختلفة - مثل العرق والجنس والطبقة والجنسانية - لخلق تجارب فريدة من التمييز أو الامتياز. وبدلاً من النظر إلى هذه الفئات بمعزل عن بعضها البعض، يسلط التقاطع الضوء على كيفية تفاعل أبعاد متعددة للهوية لتشكيل حياة الأفراد والمجموعات. يساعدنا هذا النهج على فهم كيف يمكن لأنظمة القمع - مثل العنصرية والتمييز على أساس الجنس والطبقية - أن تتداخل وتعزز بعضها البعض.
لقد أثرت التقاطعية بشكل كبير على النسوية الحديثة ودراسات النوع الاجتماعي. يقترح أنصارها أنها يعزز نهجاً أكثر دقة وتعقيداً لمعالجة القوة والقمع، بدلاً من تقديم إجابات مبسطة. يقترح منتقدوه أن المفهوم واسع جداً أو معقد، ويميل إلى تقليص الأفراد إلى عوامل ديموغرافية محددة، ويُستخدم كأداة أيديولوجية، ويصعب تطبيقه في سياقات البحث.
هل لديك وظيفة تعتقد سرا أنها لا معنى لها؟ إذا كان الأمر كذلك، فلديك ما يسميه عالم الأنثروبولوجيا والناشط اللاسلطوي الأمريكي "ديفيد غريبر" David Graeber "وظيفة هراء". قام غريبر، وهو أستاذ في كلية لندن للاقتصاد وزعيم حركة احتلال وول ستريت المبكرة، بتأليف كتاب بعنوان: وظائف الهراء: نظرية" Bullshit Jobs: A Theory.
يفترض غريبر وجود وظائف لا معنى لها ويحلل ضررها المجتمعي. ويؤكد أن أكثر من نصف العمل المجتمعي لا معنى له ويصبح مدمراً نفسياً عندما يقترن بأخلاقيات العمل التي تربط العمل بقيمة الذات. فهو يزعم أن هناك الملايين من الناس في مختلف أنحاء العالم ــ الموظفون الكتابيون، والإداريون، والاستشاريون، والمسوقون عبر الهاتف، ومحامو الشركات، وموظفو الخدمات، وكثيرون غيرهم ــ الذين يكدحون في وظائف لا معنى لها وغير ضرورية، وهم يعرفون ذلك. ويجادل بأن ربط العمل بالمعاناة الفاضلة هو أمر حديث في تاريخ البشرية، ويقترح النقابات والدخل الأساسي الشامل كحل محتمل.
يقول غريبر: لم يكن من الضروري أن يكون الأمر على هذا النحو. لقد تقدمت التكنولوجيا إلى حد أن معظم الوظائف الصعبة التي تتطلب عمالة كثيفة يمكن أن تؤديها الآلات. ولكن بدلاً من تحرير أنفسنا من أربعين ساعة عمل أسبوعية خانقة، اخترعنا عالماً كاملاً من المهن غير المجدية وغير المرضية مهنياً والفارغة روحياً.
يعد الكتاب امتداداً لمقال شهير نشره غريبر في عام 2013، والذي تُرجم لاحقًا إلى 12 لغة وأصبح فرضيته الأساسية موضوع استطلاع أجرته شركة YouGov. طلب غريبر مئات الشهادات من العمال الذين يعملون في وظائف لا معنى لها وقام بمراجعة قضية مقالته في شكل كتاب نُشر بواسطة "سايمون وشوستر" Simon & Schuster في مايو 2018.
الوظائف التافهة
كيف يحدد غريبر "الوظيفة الهراء"؟ إنها في الأساس وظيفة خالية من الهدف والمعنى. إنها مختلفة عن "الوظيفة القذرة"، وهي وظيفة يمكن أن تكون مهينة وشاقة وذات تعويض ضعيف، ولكنها تلعب في الواقع دورًا مفيداً في المجتمع. بل يمكن أن تكون الوظيفة التافهة مرموقة ومريحة وذات أجر جيد، ولكن إذا اختفت غداً، فلن يفشل العالم في ملاحظة ذلك فحسب، بل قد يصبح مكاناً أفضل بالفعل. الوظائف التافهة "تأخذ" أكثر مما "تعطي" للمجتمع.
قام غريبر بتحسين تعريفه من خلال تقديم تصنيفه المضحك للوظائف الهراء. هناك "أتباع"، يُعرفون أيضاً باسم "الخدم الإقطاعيون"، الذين يتم تعيينهم خصيصاً من قبل المديرين لجعلهم يبدون أكثر أهمية. "الحمقى" هم تلك القوة العدوانية المستأجرة التي توجد بشكل متكرر في فرق التسويق عبر الهاتف ووكالات العلاقات العامة، والتي يتم توظيفها فقط لإقناع الناس للقيام بشيء يتعارض مع منطقهم السليم. "التناقص التدريجي للقنوات" وهم موظفون يتم تعيينهم فقط لإصلاح مشكلة لا ينبغي أن تكون موجودة. "مؤشرات الصندوق"، التي لا نحتاج إلى مقدمة لها، و"سادة المهام"، الذين تتمثل وظيفتهم الوحيدة في إنشاء أنظمة بيئية جديدة كاملة للهراء (يمكن وصف الأخير أيضاً باسم "مولدات الهراء"). وهناك مجموعات مختلفة مما سبق، والتي يصفها غريبر بأنها "وظائف هراء معقدة ومتعددة الأشكال".
يتساءل عالم النفس والناقد الاجتماعي النيوزيلندي "جون شوماكر" John Schumaker الذي أمضى ربع قرن يعيش ويعمل في بلدان مختلفة، مثل زامبيا، وجنوب إفريقيا، وتايلاند، وبريطانيا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، عما إذا كان مجتمع المستهلك سطحياً للغاية بحيث لا يستطيع التعامل مع الأزمات المتفاقمة التي تواجه كوكب الأرض.
يبدو أنه لم تظهر نتائج التلقين الثقافي بعد في هذه المرحلة، ولكن هناك اتجاه واضح ــ التفاهة تتقدم، تليها عن كثب السطحية والتشتت الذهني. يبدو الغرور رائعاً في حين يأتي العمق في المؤخرة. والضآلة تتقدم بقوة، جنباً إلى جنب مع السلبية واللامبالاة. فقد الفضول الاهتمام، وتعرضت الحكمة للخدش، وكان لابد من وضع الفكر النقدي جانباً. والأنا تنطلق في جنون. وتستمر فترة الانتباه في التقلص، ولا أحد يراهن على البقاء.
لم يكن من المفترض أن يكون الأمر على هذا النحو. فقبل نصف قرن من الزمان، كان المفكرون الإنسانيون يبشرون بصحوة عظيمة من شأنها أن تبشر بعصر ذهبي من الحياة المستنيرة. كان أشخاص مثل عالم النفس والفيلسوف الألماني "إريك فروم" Erich Fromm ، وعلماء النفس الأمريكيين "كارل روجرز" Carl Rogers، و"أبراهام ماسلو" Abraham Maslow ، و"رولو ماي" Rollo May، والعالم النمساوي "فيكتور فرانكل" Viktor Frankl يضعون الأساس لنظام اجتماعي جديد يتميز بوعي متزايد، وعمق الغرض، والصقل الأخلاقي. كانت هذه الرؤية المغرية نقيضاً لمجتمعنا من النرجسيين الضيقي الأفق والماديين المنوِّمين. لم يكن الغباء قدرنا. لم يكن الفناء الكوكبي هو الخطة. بحلول القرن الحادي والعشرين، كان من المفترض أن نكون "شعب الغد" النادر، الذي يسكن عالماً حكيماً وصحياً.
اليوم، لم يكن الطلب على التفاهات أعلى من أي وقت مضى ولم يكن تسامحنا مع الجدية أقل من أي وقت مضى.
" يعتقد جوفمان أن كل واحد منا يلعب أدواراً متعددة في الحياة اليومية، كل دور له سيناريو خاص وأسلوب في الأداء، ونحن نبدل هذه الأدوار بناءً على المواقف التي نواجهها ."
" الحياة الاجتماعية تشبه المسرح. الناس هم الممثلون، ونحن نمثل أدوارنا أمام جمهور يتوقع منا أداءً معيناً ."
" إن فهمنا للذات هو بناء اجتماعي، نصنعه من خلال التفاعل مع الآخرين ومن خلال الأدوار التي نؤديها في المجتمع ." في كل مرة نتفاعل فيها مع الآخرين، نحن نقدم صورة عن أنفسنا، ونسعى لجعل هذه الصورة مقبولة وملائمة للسياق الاجتماعي ."
" في نهاية المطاف، الأداء الذي نقدمه ليس فقط لتحسين صورتنا أمام الآخرين، ولكن أيضاً لتعزيز شعورنا بالهوية والذات ."
إرفنج جوفمان ( تقديم الذات في الحياة اليومية عام 1956)
هذه الاقتباسات تعبر عن مفهوم " العرض الذاتي " الذي طورّه جوفمان، حيث يرى أن الأفراد في الحياة اليومية يقدمون أنفسهم كما لو كانوا على خشبة المسرح، يلعبون أدواراً تتناسب مع التوقعات الاجتماعية والثقافية المحيطة بهم.
" إن الحياة الاجتماعية مماثلة للحياة المسرحية تضم فرقاً منظمة لدعم التصور الذاتي فمثلما يعمل الفريق المسرحي على التعاون لتحقيق إقناع الجمهور الذي يشاهد العرض المسرحي الذي يقدمه الفريق. ففي كل مواقف الحياة الاجتماعية، ومنظماتها، تستطيع أن تنظر إلى الأعضاء المشاركين في هذه المواقف بأنهم يشبهون الفريق، ويهدفون إلى تحقيق أهداف مماثلة لأهدافه ففريق العاملين في مستشفى - مثلاً - يحاولون إقناع المرضى بأنهم قادرين على خدمتهم طبياً. وأن احتمالات الشفاء عالية في هذا المستشفى وهذا ينطق على مناحي أدوار والعلاقات الاجتماعية " (الكاتب).
يرى إرفنج جوفمان Erving Goffman (1922-1982)([1]) الكثير من القواسم المشتركة بين العروض المسرحية وبين " الأدوار" التي نؤديها جميعاً في أفعالنا وتفاعلاتنا اليومية. يُنظر إلى التفاعل كشيء هش للغاية، وما يحافظ عليه هو الأداءات الاجتماعية والأداءات الضعيفة أو الخلل الوظيفي يُنظر إليها باعتبارها تهديداً كبيراً للتفاعل الاجتماعي، تماماً مثلما تكون تهديداً للعروض المسرحية.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد لدى جوفمان في تشبيهاته بين المسرح والتفاعل الاجتماعي. ففي كل تفاعل اجتماعي، هناك منطقة أمامية، تقابلها خشبة المسرح في العرض المسرحي. والممثلون على المسرح وفي الحياة الاجتماعية يُنظر إليهم باعتبارهم مهتمين بالمظاهر، وارتداء الأزياء واستخدام معدات التمثيل. علاوة على ذلك، هناك منطقة خلفية، مكان يمكن للممثلين أن يلجؤوا إليه لإعداد أنفسهم للأداء. وفي عالم المسرح، تكون منطقة الكواليس التي يتخلص فيها الممثل من الأدوار التي يلعبها، ويكون على طبيعته.
عبّر رايت ميلز من خلال كتاباته عن التزامه الأخلاقي والحرية الأكاديمية بهدف تحقيق إنسان الإنسان المهدورة، فكان دائم الحرص على إبراز قيم الصدق والتأمل والحرية، لذا سعى إلى أن تتجسد هذه القيم على أرض الواقع الاجتماعي وواقع الفكر الحي الخلاق. لأن الالتزام بهذه القيم هو وحده القادر على تحويل الأفراد المنعزلين إلى أشخاص يشكلون جمهور حقيقي.
قدم ميلز دليلاً على راديكاليته في هذا الجانب، حين عرض موقفه من دور الباحث في العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وعلم الاجتماع بصفة خاصة. من خلال نقده للدور الكلاسيكي الذي يقوم به عالم الاجتماع، ومن ثم الثورة على أهداف البحث والتنظير في العلم، حيث يكشف ذلك عن ضرب من ضروب النقد السوسيولوجي. وفي جانب آخر تصور ميلز دوراً جديداً لعالم الاجتماع في المجتمع الحديث الذي يسعى من خلاله إلى نقد الواقع، وكشف ما يتحكم في بنائه من قوى، وما يرتبط به من مشكلات ونواقص، حيث يمثل ذلك أسلوباً من أساليب النقد الاجتماعي. وهنا نتساءل ما هو الدور المنوط بالعالم المتخصص بالعلوم الاجتماعية؟ لا شك أن دور العالم يختلف باختلاف الإطار الاجتماعي والتاريخي المحيط به، وباختلاف طبيعة الضغوط التي يفرضها هذا الإطار المحيط. فالعقل البشري يمكن أن يوجه لخدمة أغراض متعددة، ويمكن أن يقوم بأدوار متعددة ذات طبيعة وأهداف مختلفة، لذا نجد أن ميلز قد حصر دور الباحث في العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وفي علم الاجتماع بصفة خاصة، في ثلاثة أدوار رئيسية مختلفة الأغراض والأهداف.
- الأول: يستطيع الباحث في علم الاجتماع أن يصبح فيلسوفاً للحاكم، فمنذ أوغست كونت وحتى كارل مانهايم يستطيع المرء أن يجد محاولات مستميتة لتنظيم دور العقل. وعندما ينخرط هذا الباحث المنظر في الأمور السياسية، أو يوجه نظرياته لخدمتها، يصبح فيلسوف للحاكم، وتصبح جودة الممارسة السياسية مرتبطة إلى حد كبير بكفاءة المفكرين المدافعين عنها.
- الثاني: يستطيع الباحث في علم الاجتماع أن يصبح مستشاراً للحاكم في الدولة، وفي هذه الحالة تصبح العلوم الاجتماعية أداة رشيدة في يد الدولة لممارسة الضبط والرقابة على الأفراد، وبذلك يفقد الباحث الحياد الأخلاقي، ويوجه بحوثه من أجل تحديد الأدوات الإدارية وأساليب السيطرة أو التحريك الخفي للجماهير.
- الثالث: يستطيع الباحث في علم الاجتماع أن يصبح مستقلاً عن الحاكم وعن الدولة، وأن يختار الأبحاث التي يعمل فيها بنفسه، وكذلك المشكلات التي يتناولها بالدراسة، وأن يخضع القوة والجماهير للدراسة في ذات الوقت. كل ذلك في إطار من الالتزام .
من أجل عالم بلا أسرار حققت السلطة الرابعة ثورة فعلية، بكشفها عن أسرار وجرائم ذوي الياقات البيض، من سياسيين ومسؤولين حكوميين ورجال أعمال، ظلت انحرافاتهم وتجاوزاتهم غائبة عن أدبيات علم الاجتماع، بسبب ندرة المعلومات أو صعوبة الحصول عليها.
يعود الفضل بالأساس لثورة المعلومات التي لا تجامل مطابخ الأسرار الملوثة، ليتمكن الناس من رؤية الحقيقة كما هي لا كما تقررها الأنظمة. وهذا الكم المفجع من الفضائح التي تنكشف بوتيرة غير مسبوقة، يعزز الحاجة إلى إرساء حقل جديد في علم الاجتماع، يدرس الخروقات والتجاوزات التي تشوش على استقرار المجتمع وقواعده الضبطية.
كان عالم الاجتماع الأمريكي وليام سون William Son أول من دعا إلى العناية بهذا الحقل المعرفي، وضرورة تدخل الباحث الاجتماعي لتحليل وتأويل ردود الأفعال إزاء الفضائح، ورصد الآليات التي تعمل على توحيد الأحكام القيمية بشأنها. إلا أن هذا التقصي والبحث ينبغي أن يتم ضمن المتعارف عليه بشأن مسؤولية الباحث العلمي، وتجرده أثناء دراسة المعضلات الاجتماعية، لأن الهدف ليس هو التشهير وإنما تحرير المجتمع من العاهات والتقرحات التي تعيق استشرافه للمستقبل.
تنشأ الفضيحة حين يفشل المرء في التفاوض مع المعتقدات الاجتماعية الراسخة، والتزام المبادئ التي يفرضها المجتمع. وهي في عمقها جزء من طبيعة البشر" التلصصية" التي تتطلع لإطلاق الأحكام على الغير؛ لكنها في الوقت ذاته تحفز ميكانيزمات المجتمع على استئصال الفاسدين، لإضرارهم بالمؤسسات، وزعزعة الثقة بالقوانين والآداب العامة.
” سعى ميلز من خلال مفهومه عن الخيال السوسيولوجي إلى ضرورة إيجاد رؤية تصورية جديدة لعلم الاجتماع، وهي رؤية لا تستند إلى إبراز التعارض بين فكرة الصراع أو التوافق، أو بين التغير والاستقرار، بل إن قوامها دراسة الإنسان في إطار التاريخ، أو كما يقول ميلز دراسة التفاعل بين التاريخ الشخصي والتاريخ الإنساني، وهذا يعني من جانبه عوداً إلى علم الاجتماع التاريخي الذي أغفلته الوظيفية. ذلك أن علم الاجتماع في تصور ميلز ينبغي أن يكون تاريخياً حتى يستطيع أن يدرك المشكلات الاجتماعية الحاسمة التي تواجه البشرية وذلك لأن طبيعة الظواهر الاجتماعية تستلزم قيام تصور لهذه الظواهر يحوي أبعادها التاريخية “.
التاريخ هو دراسة الماضي وأثره على الحاضر والمستقبل، ويمكننا تعريفه بأنه جملة من الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، وتصدق على الفرد والمجتمع. كما تصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية. وقد عد هيجل التاريخ جزءاً من الفلسفة، لأنه ليس مجرد دراسة وصفية، بل هو أقرب إلى التحليل وبيان الأسباب. " وعلى كل حال فإن التاريخ وببساطة شديدة هو العلم الذي يهتم بدراسة التطور الذي لحق بالمجتمعات الإنسانية منذ الماضي البعيد ".
تأتي أهميته لعلم الاجتماع في أن البحوث الاجتماعية هي بحوث تاريخية لأن علماء الاجتماع يسجلون الحوادث والظواهر التي يشاهدونها خلال احتكاكهم ببيئة ونظم المجتمع. ويستعمل اصطلاح علم الاجتماع التاريخي في دراسة الحقائق والحوادث الاجتماعية التي مضى على وقوعها فترة تزيد على الخمسين عاماً.
إن الصلة بين التاريخ وعلم الاجتماع هي صلة قوية وثيقة، ومع هذا فإن هناك من يقول بأن التاريخ يختلف عن علم الاجتماع بكونه يدرس الحوادث التاريخية الماضية التي لا يمكن تكرارها أو وقوعها ثانيةً بأية صورة من الصور، بينما يدرس علم الاجتماع حقائق ثابتة ونظريات نسبية تتعلق بالزمن الماضي والحاضر والمستقبل أضف إلى ذلك أن التاريخ يهتم بإيجاد وشرح وتعليل حقيقة أو حادثة أو شخصية تاريخية معينة، أما الاجتماع يدرس مجموعة عوامل وحقائق دراسة تفصيلية عامة تساعده على استنتاج الأحكام والقوانين التي تفسر الظواهر والعلاقات الاجتماعية تفسيراً كاملاً وعقلانياً.
بذلك فإن كلمة التاريخ تدل على مجرى الحوادث وما تصنعه الشعوب. وفي هذا الصدد يقول العلامة ابن خلدون (التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضي من أمم في أخلاقهم). ويميز بين التاريخ وعلم الاجتماع بأن التاريخ ينزع للبحث عن الحالات الفردية الفريدة للسلوك الإنساني، أما علم الاجتماع فينزع إلى البحث عن التتابعات الانتظامية في السلوك البشري. لكن علم الاجتماع لا يستطيع أن يستغني عن التاريخ والعكس صحيح، لأن التاريخ حافل بالوقائع التي صنعها الإنسان الذي هو محور وهدف دراسة علم الاجتماع. ومعظم الاستنباطات والأفكار الاجتماعية تم استنباطها من التاريخ.
كتاب ألفه المفكر الأمريكي إريك هوفر (1898- 1983)، خرجت طبعته الأصلية إلى النور في العام 1951، في حين صدرت نسخته المترجمة إلى العربية سنة 2010 عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وقد ترجمه إلى العربية عبد الرحمن القصيبي.
يعد هذا الكتاب بحق أهم عمل بحثي عن الحركات الاجتماعية، وتحديدا التنظيمات الشمولية كالنازية والبلشفية بحيث صدر المؤلف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن نتائج الدراسة يمكن تعميمها لتغطي سائر الحركات الاجتماعية القديمة والمعاصرة نظرا إلى ما تنطوي عليه من سمات مشتركة من حيث طبيعة أتباعها وعوامل جاذبيتها وسيرورة نشاطها.
أولا: المحبطون
تستمد الحركات الجماهيرية قوتها من رغبة المحبطين في التغيير الجذري حتى إذا كان فشلهم ناتجا عن عوامل ذاتية مرتبطة بعيب في شخصيتهم ولا صلة لها بالواقع الخارجي، وبذلك فهي تتغذى على نزعات الإحباط واليأس والشعور بفقدان المعنى: "إن الإيمان بقضية مقدسة – هو - إلى درجة كبيرة – محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا".
ثانيا: الفقراء
إن أولئك الذين اعتادوا حياتهم البائسة لا ينضمون في الغالب إلى الحركات الجماهيرية، إذ ينظرون إلى فقرهم المدقع على أنه مصيرهم المحتوم الذي لا يتزعزع، ولا يملكون طموحات وأمان عظيمة، فمجرد الحصول على وجبة دسمة يعد إنجازا كبيرا بالنسبة لهم. وفي هذا الصدد يورد الكاتب: "يبلغ التذمر أعلى درجاته حين يكون البؤس محتملا، أي حين تتحسن الأوضاع على نحو يسمح بالاعتقاد بإمكان تحسنها أكثر فأكثر". فقد لاحظ دي توكيفيل أن العشرين سنة التي سبقت قيام الثورة الفرنسية شهدت زيادة غير مسبوقة في مستويات الرخاء المادي.
” إن الوعي اللغوي النقدي ينظر إلى اللغات باعتبارها ظاهرة ديناميكية وليست بناءً ثابتاً من المعايير الراسخة ويتعامل مع ذخيرة اللغة باعتبارها ممارسات اجتماعية. وفي مجال التعليم، تهدف الأنشطة المصممة والمنفذة في الفصول الدراسية إلى تطوير الوعي اللغوي من خلال المناقشة والتحليل والتأمل باستخدام أمثلة وذخيرة لغوية مختلفة للغاية، على النحو الذي يتيح إجراء مناقشة هادفة ونقدية “.
يذهب نورمان فيركلف في كتابه اللغة والسلطة الصادر عام 2001 إلى أن السبب الرئيسي لاختياره التركيز على هذه القضية هو اتصالها بالأحوال الراهنة، ونظراً للتغييرات الكبرى في السياسات والممارسات التعليمية التي يجري تنفيذها أو يعتزم تنفيذها، ونظراً بصفة أخص إلى التقرير الذي قدمته (لجنة كينجمان)، ومداولات (لجنة كوكس) عن تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس (والإحالة في ذلك كله بسبب عدم إحراز أي تقدم كبير منذ ذلك الوقت في السياسة الرسمية من حيث الوعي النقدي باللغة).
يطرح المقال التساؤل الرئيسي التالي: كيف يمكن للدراسة النقدية للغة أن تُسهم في تحرير الخاضعين للهيمنة والقهر في مجتمعنا؟ وبعد مناقشة عامة وموجزة لإمكانية مساهمة الدراسة النقدية للغة في التحرر الاجتماعي، سنركز في هذا السياق على مجال تنمية هذه الإمكانية فيه، وهو تدريس اللغة في المدارس. والحجة المركزية في هذا السياق تذهب إلى أن: الوعي النقدي باللغة، المبني على الدراسة النقدية للغة، يجب أن يكون من الأهداف المهمة لتعليم اللغة، من خلال السعي الدؤوب إلى تقديم بعض الاقتراحات حول أساليب تنميته.
ويمكننا تعريف الوعي النقدي باللغة بأنه " فهم مظاهر الاجتماعية والسياسية والاعتقادية للغة والتغير اللغوي والخطاب. ويختص بدراسة سبب تهميش الفرد لتكلمه بطريقة معينة، خاصةً إذا اعتبرت مؤشراً على عنصره أو عرقيته أو دينه أو مركزه الاجتماعي ". أي يشير الوعي النقدي باللغة إلى فهم الجوانب الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية للغة والتنوع اللغوي والخطاب. وهو يعمل كتطبيق تربوي لتحليل الخطاب اللغوي بالاعتماد على المنهج النقدي، حيث ينظر إلى اللغة باعتبارها ممارسة اجتماعية. كما يسعى إلى تنمية الوعي النقدي باللغة كجزء من تعليم الطلبة للغة من خلال ترسيخ مهارات تحليل مضامينها التي يستخدمونها هم وغيرهم. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الوعي النقدي باللغة هو تنمية مهارات إعادة إنتاج أو تعزيز أو تحدي سمات اللغة مثل: الكلمات والقواعد واختيارات الخطاب لإيديولوجيات معينة وصراعات من أجل السلطة والهيمنة.
إن أحد الأهداف الأساسية لهذا المقال هو رفع الوعي بأساليب إسهام اللغة في تمكين بعض الناس من الهيمنة على البعض الآخر، لأن الوعي يمثل الخطوة الأولى على طريق التحرير. وكون الوعي باللغة عنصراً مهماً من عناصر تلك " الخطوة الأولى "، نتيجة مترتبة على أساليب عمل الهيمنة في المجتمع الحديث، فالهيمنة تعمل، كما دأبت على تأكيد ذلك، بطرائق تزداد شدتها، من خلال " الرضا " لا " القسر "، ومن خلال الإيديولوجيا، ومن خلال اللغة، ولكن ازدياد الشدة المطرد لا يعني الاقتصار عليها، فلا يجوز اختزال أسلوب الهيمنة في توليد الرضا، واستعمال أوعية الإيديولوجيا واللغة، مثلما لا يجوز اختزال التحرر في " إماطة اللثام "، والتغيير وممارسات الخطاب. بل إننا، حتى ونحن نركز على اللغة والخطاب، علينا أن نذكر أنفسنا بأن التحرر الاجتماعي يدور في المقام الأول حول مسائل عملية محسوسة، مثل البطالة، والإسكان، وإمكان الالتحاق بالتعليم، وتوزيع الثروة، وتخليص النظام الاقتصادي من المصلحة الشخصية والربح ونزواتهما.
تقديم:
ارتأينا أن نستهل هذه المقالة حول العلاقة بين السيكولوجي والفلسفي في السينما المغربية ببعض الملاحظات الأولية نعتبرها ضرورية حتى نتقدم بخطى ثابتة على أرض محفوفة بالصعوبات و المنزلقات.
- الملاحظة الأولى: أن الرهان الخاص بالعلوم الإنسانية على العموم، و بعلم النفس تحديدا ليس في هذا المقام رهانا سينمائيا خالصا، و ليس مجرد ترف فكري، إنما هو رهان ثقافي و اجتماعي شامل، لأننا ننطلق من قناعة راسخة و هي أنه لا وجود لحداثة حقيقية في غياب علوم إنسانية متطورة، يعتبر علم النفس علما أساسيا من بينها.
- الملاحظة الثانية: أننا عندما نتحدث عن السيكولوجيا أو علم النفس، فنحن نأخذه في كامل علاقاته وتفاعله مع سائر العلوم الإنسانية الأخرى، و على رأسها السوسيولوجيا و الأنثروبولوجيا، و ليس بمعزل عنها. كما أننا نأخذ بعين الاعتبار مجمل التطورات الحاصلة في الحقل السيكولوجي العالمي، الذي عرفت أبحاثه تطورات هائلة خاصة في العقود الأخيرة بفعل التطور الحاصل في مجال التكنولوجيات الجديدة للإعلام و الاتصال.
3- الملاحظة الثالثة: أشير في هذه الملاحظة الثالثة إلى أن التحليل النفسي، الذي هو مبحث أساسي من مباحث السيكولوجيا، قد ظهر إلى الوجود بشكل متزامن مع ظهور الفن السابع. ففي نفس السنة، 1895 ، التي عرض فيها لأول مرة فيلم للأخوين لوميير بالمقهى الكبير بباريس، نشر فرويد مؤلفه " دراسات في الهستيريا " و هو كتاب مشترك مع الطبيب النفسي جوزيف بروير. لكن المفارقة أن فرويد رفض كل الاقتراحات التي وجهت له للتعامل مع السينما، و خاصة اقتراح غولدوين بإنجاز أشرطة سينمائية مستوحاة من قصص الحب الكبرى في التاريخ. و كذلك اقتراحا آخر من الشركة الألمانية UFA لإنجاز شريط سينمائي حول مفاهيم التحليل النفسي، و حول آلياته و طبيعة اشتغاله، لكن رد فرويد في الحالتين كان هو الرفض. أُورِد هذا الموقف في بداية هذه المقالة لأنبه إلى ضرورة الحذر الشديد و التحوط المنهجي بخصوص هذه العلاقة الملتبسة، تفاديا للسقوط في الابتذال الذي تخوف منه فرويد، و الذي كثيرا ما سقطت فيه المؤسسة الهوليودية في تعاملها مع هذا البعد السيكولوجي. (2)
بعد هذه المداخل التوضيحية، أسجل أيضا بداية أن البعد السيكولوجي، ظل حاضرا بقوة في السينما المغربية منذ بدايات تأسيسها كسينما ذات عمق ثقافي و اجتماعي خاصة مع أفلام "وشمة" لحميد بناني، و " قفطان الحب لمنقط بالهوى" لمومن سميحي، و " عرائس من قصب" للجيلالي فرحاتي على سبيل المثال. ذلك أن البعد السيكولوجي للشخصيات هو الذي يمنح هذه الأفلام قوتها و عمقها، و كلما كان الشريط السينمائي واعيا بهذا البعد النفسي، و متمثلا له بالدقة اللازمة كلما ساهم ذلك في إنتاج أو بناء كون سينمائي منسجم و متكامل.
استهلال
ينبني هذا العمل-قدر الاستطاعة بطبيعة الحال-على ملاحظة تتبعية لِمجموعة من الأعمال المنشورة في حقل علم النفس الاجتماعي في المغرب. فقد أسعف تعاطينا، من غير شك، مع هذا الكم المعرفي، الجدير حقا بالاهتمام، على تحصيل ملاحظتين اثنتين مُؤَدَّاهُما:
1-فتور المواكبة المطلوبة، الرامية، على الأقل، إلى التعريف بالانهمامات العلمية لرواد السيكولوجيا الاجتماعية في الجامعة.
2-برود مَنْزَع القراءة، وتراخي الدًّافعية المُتَطَلِّعة إلى تحليل، وتفكيك أسس وحيثيات الخطاب السيكوسوسيولوجي في أفق نقده فتقييمه بالتساؤل المُهَدِّم للمعرفة المُطمئنة؛ والاستفهام المُكَسِّر للنماذج الرَّكيكة. أَلاَ يُعْتَبَرالنقد الوجيه عَصَبَ المعرفة، ومِهْمَازَها الخَلاَّق للمعاني المُرَجَّحَة، والصانعُ للدَّلاَلاَت المُحتملة؟
فيما أحسب، هذا هو المَسَاق الذي يُؤطرهاته الدراسة التي نَتَوسَّلُ بها الإطلالة على الإنتاج الفكري للمفكر وعالم النفس الاجتماعي الدكتورالمصطفى حدية سَعْياً إلى تقليب تَشَكُّلاَتِ خِطَابِه؛ وغايةً في الوقوف على المَسْأَليَات الأساسية، والطُّرُوحات الكبرى المبثوتة طَيَّ أبحاثه الغزيرة.
أولا: تقاطع الموضوعات والأفْهُومات في الاجتماع النفسي العربي:
بحضوره الوازن في الساحة الثقافية المغربية والعربية على السواء، استطاع الأستاذ المصطفى حدية أن ينحت اسمه ضمن كبار السيكولوجيين العرب. فقد تمكن بفعل اجتهاده ومثابرته من تأسيس مشروع مدرسة قائمة الذات في حقل الاجتماع النفسي بالمغرب تتقاطع، في جزء كبير منها، مع أعمال أكاديميين عرب من عيار حليم بركات، هشام شرابي ومصطفى حجازي على سبيل المثال لا الحصر.
بحرقة لاضديد لها، طَرَقَ هؤلاء المفكرون الجذريون، بين ثنايا أبحاثهم، التي انصبت على المجتمعات العربية، مشكلات التخلف بأورامه المزمنة، وقضايا التنشئة الاجتماعية، والحرية، والهدر بكل أشكاله وألوانه المختلفة...فضلا عن جدلية الثقافة والهوية في عصرمدهش، سِمَتُهُ التَّبَدُّلُ والانقلاب؛ وخِصِّيصَتُه الاحتمال واللاَّيَقِين بفعل نهاية الجغرافيا وهيمنة الأمبريالية الثقافية.2.. فبالاستناد إلى مرجعية متينة تمتح من معين علم النفس، وتنهل من المنهج النقدي الاجتماعي-التحليلي، والإبداع السردي على السواء عمد الدكتور حليم بركات(1933-2023)إلى تفكيك بنيات المجتمع العربي، وخلخلة الطبيعة السلطوية للدولة 3 ليخلص إلى القول بوجود هوة تفصل الإنسان العربي عن مؤسسات مجتمعه وسمها حليم بركات بالاغتراب 4 الذي يرده إلى:
- - التجزئة والتفتت الاجتماعي
- - هيمنة الدولة على المجتمع(=الاغتراب السياسي وأزمة المجتمع المدني) 5
- - تسلط الأنظمة الهرمية القسرية التي يجسدها النظام البطريركي، وهيمنة المؤسسات الدينية، وغلبة التربية المعتمدة على الذاكرة والاستظهار.
- - الاستغلال الطبقي ومايستتبعه من ظلم، وقهر وحرمان، واتساع الفجوات بين المعدمين والأغنياء.
- - التبعية، والهيمنة الخارجية على معظم الثروات والمقدرات العربية
- - سطوة المقدس، وصلابة التقاليد، وثباتية الطقوس التي تعمل على تزمين الصراع بين القديم/التراث والجديد/الحداثة.6
إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان ، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة ، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَكَائن حَي وحُر ، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه ، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه . وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة ، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا ، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي .
واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدب ، باعتباره الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان ، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه ، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ ، باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي ، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة ، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ .
وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ _ تأثُّرًا وتأثيرًا _ ، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده ، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة .
ومِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ ، رِوايةُ " لوليتا " ( 1955 ) ، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899 _ 1977 )، وقد تَمَّ تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962 ، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك ( 1928 _ 1999 ) الذي يَعتبره الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .
كتاب من تأليف المفكر النهضوي المصري سلامة موسى (1887 – 1958)، صدر هذا المؤلف خلال القرن الماضي، لتعيد مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة نشره في طبعة عصرية. وفيما يهم موضوع الكتاب، يتناول الأخير أحد أهم اكتشافات علم النفس الحديث، ونريد بذلك العقل الباطن لما له من مفعول كبير في سلوك الإنسان ونشاطه الذهني:
ما المقصود بالعقل الباطن؟
يعرف المؤلف العقل الباطن بكونه "العقل الذي يعمل على غير وعي منا. فهذا العقل يعمل كأنه مستقل عنا، وهو يقرر ميولنا وأمزجتنا". ويعتقد سيغموند فرويد (1856 – 1939) الذي دشن البحث في هذا المجال أن الغريزة الجنسية هي أهم محددات العقل الباطن، أما ألفرد أدلر (1870 – 1937) فيقلل من تأثير الغريزة الجنسية، ويركز على دوافع أخرى مثل الرغبة في امتلاك القوة والسلطة. وصولا إلى كارل يونغ (1875 – 1961) الذي ألف بين الرأيين (فرويد وأدلر) وأكد على أن "اللبيد (يُقصد به الرغبات والعواطف المكبوتة في العقل الباطن) هو تلك الغريزة الجنسية قد امتزجت بالنزوع إلى الرقي". فالإنسان بطبعه ميال إلى الرقي والتطور، إذ كثيرا ما ننساق لخواطر لذيذة كأن نحلم بأننا أصبحنا أغنياء أو قادة.
وعليه، فإن العقل الباطن هو "عقل الثقافة القديمة" وما تحيل إليه من غرائز بدائية (حب الشهوة واللذة والانتقام والعنف)، أما العقل الواعي فهو "عقل الثقافة الحديثة"، عقل الحضارة والعلم والمعرفة. بيد أن نوازع العقل الباطن ليست كلها شريرة، لأن الإنسان القديم لم يكن شريرا على نحو مطلق، كما أن العقل الباطن والعقل الواعي كثيرا ما يتعاونان لتحقيق مصلحة الإنسان، كالعالم الذي يتوصل إلى اختراع أو كشف علمي بواسطة الحلم.
الكبت
إن الرغبة أيا تكن طبيعتها (طعام، جنس... إلخ) إذا ما كُبتت من لدن العقل الواعي فذلك لا يعني زوالها، بل هي تندس في العقل الباطن وتتحين الفرصة لتخرج من مخبئها، فالعقل الباطن في هذه الحالة ينفس عن رغباتنا المكبوتة بواسطة الخواطر (أحلام اليقظة) والأحلام. وإذا ما بلغت الرغبة المكبوتة حدا بعيدا من الجموح قد تؤدي إلى الإصابة بالأمراض العصابية كما يعتقد فرويد فيما يخص الغريزة الجنسية، لكن الرغبة المكبوتة قد تفضي إلى سبيل إيجابي وهو التسامي بحيث "نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا، فأرغب الناس في وصف الجمال ولذات العشق هو المحروم من الحب (كالشاعر)". وتأسيسا على ذلك "إذا كانت العواطف المكبوتة تُحدث الجنون أحيانا فإنها أحيانا أخرى تُحدث النبوغ".
ضمن سياق تحليلنفسي امتد من عام 1919 إلى حوالي عام 1930، ظل فرويد يرى في وليام رايخ (1897-1957) طالبا متميزا، واعدا، ويحميه من هجمات المحللين الآخرين. عندما أعطاه رايش كتابه الأول "وظيفة هزة الجماع " (1970)، صرخ فرويد: "هذا عمل عظيم"! الذي يفيد به هذا التعجب هو أن فرويد درس الجنسانية (النشاط الجنسي)، ولكن لم يسبق له أن درس هزة الجماع، حيث بدت له ظاهرة ثانوية تختتم النشاط الجنسي، أي ظاهرة إفرازات، لن يكون لها في حد ذاتها سوى تأثير فسيولوجي ونفسي ضئيل أو منعدم.
تسمح لنا دهشة فرويد هذه بفهم أين وكيف يتموقع رايخ إزاء عمله: استكشاف ما لم يصل إليه المؤسس. لأنه إذا كان فرويد هو بالفعل المخترع الثوري للجنسانية الطفولية، مستكشف آلياتها وتأثيراتها النفسية المرضية، لم يقترب حقا من التتمة، ما نسميه الجنس التناسلي، الذي يتم إحلاله منذ سن البلوغ، والذي اهتم به رايخ.
من جانب آخر، إذا تحرر فرويد تدريجيا من الأسس العصبية الحيوية للأداء النفسي وكذلك من القواعد الجسدية، فسوف يعود رايخ إليها لتعميقها، لا سيما من خلال رد الاعتبار للجسد وعلم وظائف الأعضاء وإحلاله (الجسد) مكانا مهما في العلاج التحليلنفسي: الجسد له لغته الخاصة، ولكنه أيضا ذاكرة، وبالتالي فهو محاور مهم.
علاوة على ذلك، إذا كان فرويد قد أشار إلى آثار الحضارة على النشاط الجنسي البشري من خلال التنازلات التي تفرضها (فرويد، 1969)، ومساهمته بالتالي في تكوين "الباثولوجيات" (علم الأمراض)، فإن رايخ سيذهب بتفكيره أبعد من ذلك، خاصة مع فكرة الطاعون العاطفي* (emotional plague).
مقدمة
كان إريك فروم (1900-1980) محللًا نفسيًا ألمانيًا أمريكيًا ، مرتبطًا بمدرسة فرانكفورت ، والذي أكد على الدور الذي تلعبه الثقافة في تنمية الشخصية. دعا إلى التحليل النفسي كأداة لعلاج المشاكل الثقافية وبالتالي الحد من الأمراض العقلية. يعتقد فروم أن الشخصية في البشر تطورت كطريقة للناس لتلبية احتياجاتهم. على عكس فرويد، لم يؤمن أن الشخصية ثابتة، فقد حدد فروم خمس احتياجات إنسانية أساسية: الترابط، التجذر، التعالي، الإحساس بالهوية، وإطار التوجه. إن غياب هذه ، وفقًا لفروم ، من شأنه أن يسبب مشاكل عقلية واجتماعية مثل الاغتراب. تصور فروم نسخًا مثالية للمجتمع والدين تؤكد على الحرية وتلبية احتياجات الإنسان. وبذلك، أصبح أحد مؤسسي الاشتراكية الإنسانية. لقد أكد على المحددات الثقافية للشخصية. بحث في أعماله في المشاكل العاطفية في المجتمعات الحرة ودعا إلى التحليل النفسي كعلاج للأمراض الثقافية وكأداة للمساعدة في تطوير مجتمع غير عصابي. من المعلوم أن فروم وُلِد في فرانكفورت، وتلقى تعليمه في هايدلبرغ وميونيخ قبل أن يؤسس عيادة خاصة للعلاج النفسي في عام 1925. بدأ فروم كتلميذ لسيغموند فرويد ، جامعاً نظرياته النفسية مع المبدأ الاجتماعي لكارل ماركس. استخدم طريقة فريدة للتحليل النفسي تتضمن مواجهة المريض بصفته معالجًا له وكشخص آخر متعاطف، مشددًا على عدم وجود سمة أو عامل في المريض غير موجود لدى أي شخص آخر في ألمانيا، انتقل فروم إلى شيكاغو في عام 1933 لإلقاء محاضرة في معهد التحليل النفسي. قام بالتدريس في العديد من الجامعات الأمريكية ووسع وجهات نظره لتشمل مبادئ زن البوذية. في عام 1957 ، شارك في تأسيس اللجنة الوطنية للسياسة النووية السليمة. كتب فروم أيضًا عددًا من الكتب والمقالات للأكاديميين وعامة الناس على حدٍ سواء. اكتسب فروم شعبية لأول مرة مع عامة الناس من خلال كتابه "الهروب من الحرية" ، والذي شرح خوف الإنسان اللاواعي من الحرية وجاذبية الأنظمة السياسية الاستبدادية. شكل هذا الكتاب إلى حد كبير الفكر الفكري في أمريكا في ذلك الوقت ، وتسبب في تصنيف فروم على أنه فرويد جديد ، جنبًا إلى جنب مع كارين هورني وهاري ستاك سوليفان. على الرغم من اختلاف هذه الأرقام الثلاثة ، وفقًا لفروم ، فإن كل واحد منهم يشترك في التركيز على العوامل الاجتماعية والثقافية والموقف النقدي لنظرية فرويد حول أولوية الغريزة الجنسية. في عام 1951، أصبح فروم أستاذًا في جامعة المكسيك الوطنية، حيث أسس المعهد المكسيكي للمحلل النفسي وسافر بانتظام إلى الولايات المتحدة قبل أن يستقر في سويسرا عام 1971 وطور فروم العديد من الموضوعات الرئيسية، وطور أفكاره وصقلها بشكل تدريجي. هذه الفئات هي شخصية اجتماعية، والتي تربط نظرية التحليل النفسي للدافع الديناميكي بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية. الموضوع الثاني هو مراجعة فروم للتحليل النفسي لفرويد ، لا سيما تأكيده على العدوانية والتدمير.المحور الثالث: نقده للمجتمع الصناعي ، ورابعه: تحليله للدين وعلاقته بالتنمية البشرية. من بني نظرياته عن الشخصية الاجتماعية على مفهوم فرويد أن سمات الشخصية ديناميكية. كان يعتقد أن هيكل الشخصية يشرح الإجراءات والأفكار: ما الذي يحفز الناس وما يجده مرضيًا أو محبطًا. فكيف انتقل بالإنسان من استلاب التملك الخاص إلى تحرر الكينونة المشتركة؟
يتحدد مرمى هاته الدراسة في النظر في مفهومين مركزيين طفقا في السنوات الأخيرة، يشكلان مدار اهتمام عالم الاجتماع العربي الدكتور عبد الصمد الديالمي. نقصد بذلك "الانفجار الجنسي"، و"الانتقال الجنسي" وهما المفهومان اللذان أبدعهما أثناء انهماكه بتحليل معضلة تخلف مجتمعنا؛ وتفكيك السلوكات الجنسية في علاقتها بالمعايير الدينية والمنظومة الأبوية بكل لواحقها القانونية.
في البدء كان " رايش ":
ينتمي د.عبد الصمد الديالمي إلى الجيل الثاني من علماء الاجتماع المغاربة. فمنذ التحاقه أستاذا للسوسيولوجيا بجامعة فاس سنة 1977 عمد إلى رسم الخطوط العامة لمشروعه السوسيولوجي المتمحور حول الجنسانية، والجندرية والنسوية. وبوصف هاته المسأليات مرتهنة بالنص الديني والاجتهاد الفقهي فإنها تدعو الباحث للاشتباك علميا، ولامراء في ذلك، مع ثقافة الفقيه المتمذهب، ومع الإسلامانية، وخلفياتها الإيديولوجية الصريحة والمضمرة حيال الحداثة، والديموقراطية، والعلمنة والحريات الفردية والعامة..
بتفان منقطع النظير سينكب الدكتور عبد الصمد الديالمي على مشروعه هذا منتظما في إنجازه عاملا على تطويره منذ لحظة اكتشافه كتاب " الثورة الجنسية " للمحلل النفساني النمساوي فلهلم رايش؛ الكتاب الذي سيشكل بالفعل نقطة تحول حاسمة، ليس فقط في حياة عبد الصمد الديالمي الشخصية التي وسمها، منذ البداية، تمرد لافت على الأساليب التقليدية في التنشئة الاجتماعية، وانتفاض واع على الأبوية 1 ؛ وإنما انقلاب جذري في حياته العلمية برمتها ستحمله على بناء الأسئلة الحارقة، والمحاور الكبرى فالمفاهيم المركزية التي سينتظم حولها منجزه السوسيولوجي لما ينيف عن أربعين سنة. يكتب عبد الصمد الديالمي في هذا الصدد: " في 1973، قرأت " الثورة الجنسية " ل"رايش" وأنا أستاذ بالثانوي. في الواقع لا أدري لماذا قرأته (...) إنه الكتاب الذي جعلني أعمق تمردي على المجتمع وعلى القيم السائدة (...) إنه الكتاب الذي جعلني أكتشف أن الزواج والأسرة يعوقان الرضى الجنسي، وأنهما يشكلان سجنا للمرأة... إنه الكتاب الذي جعلني أقتنع أن لاثورة دون ثورة جنسية..."2
يَتَحَرَّكُ عمل الأستاذ " سعد ابن الجنوي " المَوْسُوم ب " التحليل النفسي للحياة العادية " داخل مجال النظرية الفرويدية في لَبُوسِهَا الأورثوذوكسي المرتكز؛ فيما يرتهن بتقنياته، من ناحية على الملاحظات النَّبيهَة خلال إجراء المقابلات الإكلينيكية مع المرضى، ثم على القراءة الفاحصة والدقيقة لكل المعطيات المتَحَصِّلَة منها من ناحية ثانية، غاية في فهم تَشَكُّل العُصَابَات؛ كَمَا العديد من الاضطرابات النفسية الكابِحَة لحرية الفرد، والمعيقة لانطلاقه في تجربة الحياة بشكل طبيعي وسليم.
تأسيسا على هذا عَمَد " سعد ابن الجنوي " إلى بناء تَسَاؤُلِه المركزي: " مَا خَبَايا إِصْرَار الناس على الإجابة بهاته العبارة : " الأَمْرُ عَادٍ " مَتَى ٱسْتُجْوِبُوا حول مَعِيشِهِم اليَوْمِي؟ "
فَلَئِنْ كانت فَحْوَى أجوبة المفحوصين تبدو لأول وهلة جَلِيَّةً وشَفَّافة، فإنها لا تُصَرِّح، مع ذلك، بخبايا الذَّوَات؛ وهو ما يقتضي سَبْرَ أَغْوَارِ هذا ال " عَادِي " بوضعه أمام مِبْضَعِ المُحَلِّلِ النفسي الرَّامِي إلى تَشْرِيحِ بَوَاطِن النفس، وتَقْلِيب طبقاتها العميقة.
في الحاجة إلى التحليل النفسي:
لا مِراء في أن عالم اليوم هو عالم التقلبات العنيفة والمتسارعة بلا منازع. فالملاحَظ أن هاته التحولات التي تعد استجابة لِطُوفَان العولمة الكاسح، المُتَمَخِّض عن سقوط جدار برلين؛ وانهيار المنظومة الشرقية ، ومستتبعات كل ذلك على جغرافيات بعينها من العالم أضْحَت تطرح اليوم، وأكثر من أي وقت ولَّى ، أسئلة لاَهِبَة حول المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والهويات الثقافية، والتاريخ، والتراث، والشغل، بالإضافة إلی قضايا التربية والتكوين، والأزمات الاقتصادية، ومآل النزاعات المسلحة المندلعة هنا وهناك، وانعكاساتها الوخيمة على كينونة الإنسان ومصيره..
لقد غدا الصراع، والقوة، والتطاحن، والتنافس على كافة المستويات والصعد من أجل الحصول على حصة الأسد من خيرات، وموارد، ومقدرات الأرض في عالم بات يدبر اقتصاد الندرة بكل الوسائل والطرق.. فلِتَطَالَ تدَاعيات كل هذا الصحة العقلية، والسَّلاَمَة النفسية للأفراد والجماعات وهو ما تُجليه الاهتزازات والرجَّات السيكولوجية التي رَصَدتها الأبحاث الميدانية لدی شرائح عُمرية عريضة نحو الاكتئاب، والرُّهاب، والكبت، والقلق، والوساوس، والتطرف، ووصولا إلى الإحساس بالذَّنب والشعور بالاضطهاد... أَفلَمْ يُسْهِمِ الانتقال التاريخي من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع البشري / الحضارة برأي " سيغموند فرويد "، في إعطاب دوافع الإنسان من خلال كبح غرائزه وقمعها؟ ( فرويد:1971. ص: 74-75)
" إننا نحب ونكره، ونخاف ونشجع، ونشمئز ونقبل، ونفعل ونترك، عواطف كَمُنَت فينا منذ الطفولة، ولا ندري بها، إلا بعد التحليل الشاق " سيغموند فرويد
مقدمة:
تسجل صدمة الولادة المشهد الاغترابي الأول للإنسان، وفي هذه اللحظة التي يتدفق فيها نور الحياة يجد الطفل نفسه في عالمٍ مدهش يضج بالغربة والاغتراب، وهنا تبدأ اللحظة الصدامية الأولى بين الإنسان والوجود بانتقال الطفل من وطن الأنس المطلق إلى عالم يفيض بالمجهول ويغص بالآلام ([i]). فالولادة هي الرحلة من وطن الحنان المطلق إلى عالم يضج بالألم ويرتجف بالأحزان، ومن كون يغدق بالعطاء إلى كون المواجهة والتحدي؛ وفي هذه النقلة الأولى يتجسد معنى الاغتراب الوجودي للإنسان في لحظة ميلاده الأولى. وتلك هي الحقيقة التي يؤكدها رانك Rank في مختلف دراساته وأبحاثه حيث يعلن بأن صدمة الولادة هي الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الفرد في المستويين البيولوجي والسيكولوجي، لأن الولادة هي الانفصال الأول للكائن الإنساني (الجنين) عن الأم.
في مرحلة الطفولة المبكرة تكمن أسرار الوجود الإنساني، أسرار القوة وأسرار الضعف، فالشخصية الإنسانية تشكيل طفولي تحددت سماتها وملامحها في المحطات الأولى من مرحلة الطفولة المبكرة. والطفولة الإنسانية ليست فراغا بل وجودا حيويا متدفقا، وهي ليست نسيانا، بل فيضا أصيلا يتدفق في الذاكرة الوجودية. فالعلبة الأسود للوجود الإنساني مشحونة بتاريخ الطفولة، وفي كل منعطف من هذا التاريخ ترتسم ملامح الشخصية الإنسانية وتتحدد معالم وجودها. وليس غريبا أبدا أن تكون الطفولة مستودعا لطاقات النمو، وذخيرة لأسرار الحياة الإنسانية، وبذورا لسمات الشخصية للإنسان. وهذا يعني أن أسرار التصدع وعوامل التكامل مسجلة في العلب السوداء للطفولة الإنسانية ([ii]).
فالمعاناة الوجودية لصدمة الولادة، التي تضع الكائن الإنساني وللوهلة الأولى في لحظة اتصاله الأول بالعالم الخارجي، تأخذ مداها وتتعاظم أهميتها في غضون السنوات الثلاثة الأولى من عمر الكائن الإنساني، وتشكل المرحلة الحاسمة التي تلعب دورا كبيرا في رسم الملامح الأولى لشخصية الكائن الإنساني لاحقا، وتلك حقيقة تكاد تحظى بإجماع العاملين في مجال علم النفس والتربية ([iii]).