إنّ ما حدث في قطاع غزة إبان انتفاضة طوفان الأقصى هو حرب إبادة جماعية خاضها الكيان الصهيوني على أبناء غزة العزل. وقد مثّلت انتفاضة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر منعرجا حاسما في مسار الصراع العربي – الإسرائيلي. وقد أحدثت انتفاضة طوفان الأقصى تغيّرات سياسية عميقة في الوطن العربي.

و أدّت انتفاضة طوفان الأقصى إلى عودة القضية الفلسطينية بإعتبارها قضيّة عادلة إلى المنابر الأمميّة والإقليمية من جديد. وتعاطفت معظم الدول العربية والأجنبية مع الشعب الفلسطيني بعد الاعتداء الصهيوني الهمجي على أبناء قطاع غزة، فقد خاض الجيش الصهيوني حرب إبادة جماعية بهدف القضاء على الهوية الفلسطينية. ومن الدول التي أدانت حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني دول المغرب العربي وفي مقدمتها تونس التي ظلّت معقل مساندة للقضية الفلسطينية منذ ذكرى النكبة سنة 1948 "قيام الكيان الصهيوني"

سنسلط الضوء في هذه الدراسة على ردود فعل الحراك الاجتماعي المغاربي تجاه حرب الإبادة الجماعية على غزة. كما سيتم رصد الآليات التي اعتمدتها المنظمات المغاربية لإدانة حرب الإبادة الجماعية.

الكلمات المفاتيح: الإبادة الجماعية، غزة، حراك، مغاربي، إجتماعي.  

تقديم

تعدّ انتفاضة طوفان الأقصى التي اندلعت يوم السابع من أكتوبر2023 بمثابة عملية عسكريّة نفذتها المقاومة الفلسطينية في غزة على الإحتلال الصهيوني. وشملت هذه الانتفاضة هجوما بريا وبحريا وجويا للمقاومين إلى بعض المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلّة عبر السيّاج الحدودي الفاصل بين قطاع غزة وبعض مدن الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وتعدّ عملية إنتفاصة طوفان الأقصى من أكبر الانتفاضات التي عرفها التاريخ الفلسطيني المعاصر ضد الاحتلال الصهيوني. ويرى المحللون السياسيون والعسكريون أن هذه الانتفاضة مثلت حدثا إستراتيجيا في الصراع العربي الصهيوني.

كسرت انتفاضة طوفان الأقصى أسطورة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر"، حيث تمكن عدد صغير من المقاومين الفلسطينيين في غزة من الدخول إلى المستوطنات الصهيونية وأسر حوالي 300 صهيوني.

وعلى الصعيد الدولي أدّت هذه الانتفاضة إلى إبراز صلابة المقاومة الفلسطينية على الساحتين العربية والدولية.

وضمن السياق ذاته عادت القضية الفلسطينية العادلة إلى المنابر الأممية حيث اعترفت عديد الدول لأول مرّة بالدولة الفلسطينية.

وكردة فعل على انتفاضة طوفان الأقصى بادر جيش الآحتلال الصهيوني إلى شنّ حرب على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر2023. فشنت الطائرات الصهيونية مساء السابع من أكتوبر هجوميا جويا على غزة ثم قامت في اليوم الموالي بإكتساح بري لقطاع غزة.

وارتكب الإحتلال الصهيوني بعد انتفاضة طوفان الأقصى جرائم فظيعة تعجز الألسن على وصفها تمثلت في قتل آلاف الأطفال والشيوخ والنساء، إضافة إلى تدمير المنشآت الحيوية مثل المستشفيات والمدارس وغيرها. وكانت الاعتداءات الصهيونية في حق الفلسطينيين همجية إلى أبعد الحدود. ووصفت حرب الصهاينة على قطاع غزة بحرب الإبادة الجماعية التي أدانتها أغلب المجتمعات والدولية وخاصة المجتمعات المغاربية التي استكنرت حرب الإبادة الجماعية على غزة.

هل كانت المواقف الشعبية في منطقة المغرب العربي متطابقة مع المواقف الرسمية للأنظمة السياسية؟

وكيف أدان المجتمع المدني المغاربي هذه الإبادة؟

أصبحت الكثير من الدراسات في السنوات الأخيرة تحلل موضوع "الهويات الأوروبية"، أو تستخدم مفهوم "الهويات" في دراسة الاتحاد الأوروبي. وهذا أمر لا يمكن قوله عن المراحل السابقة في دراسات الاتحاد الأوروبي. حتى وإن تناوله بعض الرواد المؤسسين لدراسات الاتحاد الأوروبي في أعمالهم. على سبيل المثال، عرّف عالم السياسة الأمريكي المتخصص بالعلاقات الدولية "إرنست هاس" Ernst Haas التكامل الأوروبي بأنه عملية تنطوي على "تحول الولاءات" من قِبَل "الجهات الفاعلة السياسية في العديد من البيئات الوطنية المتميزة" إلى "مركز سياسي جديد.

في حين أدرج آخرين "الشعور بالمجتمع" في مفهوم للتكامل. إن الاهتمام الأكاديمي المتزايد بدراسة الهويات في أوروبا يستجيب لما تسميه بعض الباحثين "الدوافع الخارجية" و"الداخلية". إن الاهتمام الأكاديمي بالموضوع هو استجابة للتغيرات "على الأرض"، أو المحركات الخارجية. لقد كان سياق ما بعد الحرب الباردة، وما بعد ماستريخت، وحتى ما بعد "الحرب على الإرهاب" سياقاً حيث أصبح التكامل الأوروبي وأنواع معينة من الجدل حول الهوية أكثر إثارة للجدال. وقد أثار هذا تساؤلات حول العلاقة بين الهوية، من ناحية، وشرعية مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وآفاق الديمقراطية ذات المغزى خارج الدولة ومستقبل الاتحاد الأوروبي ذاته من ناحية أخرى. وعلاوة على ذلك، أدى التوسع الكبير والمستمر للاتحاد الأوروبي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واحتمال عضوية تركيا، والصراع المتزايد حول التعايش بين التقاليد المسيحية والإسلامية والعلمانية في المجتمعات الأوروبية، إلى زيادة التنوع الثقافي في الاتحاد الأوروبي وأهمية المناقشات حول الهوية. ومع ذلك، فإن الاهتمام الأكاديمي بالهويات الأوروبية يعكس أيضاً تطور المناقشات النظرية حول الاتحاد الأوروبي، أو المحركات الداخلية. ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن الاهتمام المتزايد بقضايا الهوية مع بداية ما تم وصفه بالمرحلة الثانية "تحليل الحكم" والمرحلة الثالثة "بناء الاتحاد الأوروبي" من بناء النظرية، والتي تركز المزيد من الاهتمام على قضايا السياسة والسياق الاجتماعي للتكامل الأوروبي.

«إنّ الانسجام هو المطلب الأوّل عند الفيلسوف وهو، مع ذلك، جدّ قليل. والمدارس اليونانيّة القديمة تقدّم عنه أمثلةً أكثر ممّا نجد في عصرنا التّوفيقي، الّذي تُبْتَدع فيه توليفاتٌ سطحيّة وغير نزيهة بين تناقضات أساسيّة، لأنّها تتمتّع بالقبول لدى جمهور يقنع بمعرفة القليل عن كلّ شيء، دون أن يعرف في العمق أيّ شيء..»[1]   

«إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل «العلمي» لـ«عقل» تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها: الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كنا قد وضعنا كلمة «العلمي» بين مزدوجتين، فذلك إقرارا منّا منذ البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون علميا بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها في البحوث الرياضية أو الفيزيائية. إن الموضوع هنا هو شيء منا، أو نحن شيء منه، فنحن أبينا أم رضينا مندمجون فيه. وكل أملنا هو أن نتمكن، في هذا البحث، من الصدور عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج المشيء للفكر المعطل للعقل»[2]

فاتحة:

   أشرتُ في الهامش 30 من المقال الأوّل[3]، الّذي ناقشتُ فيه اعتراض العمري في كتابه "البلاغة العربية" على محمد عابد الجابري، إلى أنّ هذا المعترض حاول في مقاله اللّاحق «الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية» المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي «محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة» إعادة الجابري إلى "النّظام البياني"، ووعدت بالوقوف عنده. وفي هذا المقال، وفي ما سيليه، سأركّز على مناقشة ما سطّره عن الجابري ابتداءً من الصفحة 104 تحت عنوان: " ثانيا: الجابري من الفلسفة إلى البلاغة"! وقد فضلتُ ألا أتعرّض لما قبل ذلك مما قاله تحت عنوان "أولا: الفلسفة والبلاغة"، ترفّعا عن مناقشة إسفافه في حضرة مفكّر فيلسوف. والنزّاهة تقتضي أن أحمل ما قصد إليه، مما تركتُ مناقشته هنا من كلامه المُمَهّد، على أحسن الوجوه الممكنة. وأبتدئ في هذا المقال بالوقوف عند ما سمّاه بـ "البلاغة في نسق «العقل البياني»، وذلك لارتباط مضمونه بما سبق أن أثاره في كتابه "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"، وأقف عند ادّعاء عجيب جديد يتمثّل في كون الجابري تحوّل عن عقلانية ديكارت وبداهته إلى البلاغة، وعند ما اعتبره نقطة التحوّل؛ على أن أخصّص لما سمّاه بـ "البلاغة التطبيقية" مقالا ثانيّا؛ وأجعل المقال الثّالث تركيبا للاستنتاجات، ومناقشة لها في ضوء الـ "رّؤيةٍ" الّتي يقول إنّه ينطلق منها، والـ "منهج" الذي يدّعي أنّه يصطنعه.

   المقال الأوّل الآتي يدور حول محورين، الأوّل هو اعتراض العمري على الجابري وما رصده لهذا الاعتراض من براهين، والثّاني ادعاؤه " تحول الجابري من الفلسفة إلى البلاغة". وأوضّح، في هذه الفاتحة، أنّ "الاعتراض" و "الادّعاء" وما يستندان عليه، كل ذلك ورد في المقال، موضوعَ المُدارَسَة، منتشرا مختلطا؛ لذا، فإنّ مناقشتَه تقتضي، بالإضافة إلى تلخيصه، ترتيبه وتخليصه من هذيان عظيم. وسأبتدئ من الاعتراض، وأُثَنّي بالوقوف عند دعاوى التّنبّه التّدريجي للجابري وتحوّله، في النّهاية، من الفلسفة إلى البلاغة عند نضجه واكتمال أدواته!

تهزّ أوروبا أزمات دورية في علاقتها بمهاجريها العرب، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضية إلى أخرى. وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المستوطنة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عملية لها. إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثقافي وسط ملايين العرب المقيمين والمستوطنين في دول القارة، والبالغ عددهم زهاء العشرين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التعويل على ذلك الجانب الرمزي أو الاستثمار فيه. فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثقافي، في ما له صلة بالثقافة العربية، وهو ما انعكس ضبابية، وأحكاما مسبقة، وخوفا، وريبة، ونفورا، بين المكوَّنات الاجتماعية "الدخيلة" و"الأصيلة".

والسؤال كيف الخروج من أسْرِ التوتر الدوريّ في علاقة عرب أوروبا مع واقعهم الغربي؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي عرب أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارة، أكانوا ممن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممن هم في طور الاندماج. إذ ثمة مراجعات وتساؤلات حول هوية العرب الأوروبيين، ولا نقول العرب في أوروبا لأن الغلبة ستؤول للشقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعية. فالوعي الديناميكي بمفهوم العروبة، وحده القادر على مراعاة الغيرية، وطمأنة الآخر، وبثّ الثقة لديه. وهو الرهان الفاعل والحاسم، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة. ولِيُحاصَر ذلك التنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين. فليست أوروبا وحدها أمام هذا الاختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب "الدخيل" وهضمه، بل الجموع العربية أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.

التاريخ ليس مجرد تتابع لأحداث متفرقة أو حوادث متوالية، بل هو نسيج معقد تشكله قوى عميقة وتحركات فكرية واجتماعية تصنع مصير الشعوب والحضارات. ولطالما كان فهم المحركات الكبرى للتاريخ الشغل الشاغل للفلاسفة والمفكرين، الذين سعوا لتفسير كيف ولماذا تتغير الأمم، ولماذا تزدهر الحضارات وتنحدر، وما القوى الكامنة التي تقود هذا المسار اللامتناهي من التبدّل والتحول.

لقد شهدت الفلسفة الغربية إسهامات متنوعة، حيث يُعد هيجل من أبرز الفلاسفة الذين قدّموا تفسيراً للتاريخ من منظور مثالي، عبر مفهومه الشهير "الجدل" أو الديالكتيك الهيجلي، والذي ينظر للتاريخ على أنه صيرورة من الأفكار المتصارعة والمتكاملة. فبالنسبة لهيجل، يقود الصراع بين الأطروحة ونقيضها إلى "تركيب" أعلى، مما يحفّز التقدم نحو حرية الروح وتطور الفكر الإنساني. وفي هذا السياق، يشير هيجل إلى أن التاريخ هو مسيرة نحو تحقيق الحرية المطلقة والعقلانية، إذ يرى أن الدولة تجسد "الروح المطلقة" التي تتجلى في الواقع المحسوس، ممهدة الطريق لفهم دور القيم والأفكار في تشكيل التاريخ.

لكن على الجانب الآخر، جاء كارل ماركس ليقدم تفسيراً مادياً لظواهر التاريخ، متجاوزاً المثالية الهيجلية إلى ما سماه بـ المادية التاريخية. فقد رأى ماركس أن التاريخ محكوم بالبنى الاقتصادية وأنماط الإنتاج، وأن الصراع الطبقي بين الطبقات المسيطرة والمهمشة هو القوة المحركة الأساسية للتغيير. وفقاً لماركس، تنتقل المجتمعات عبر مراحل تاريخية (مثل العبودية والإقطاع والرأسمالية)، حيث يُنتج كل نظام شروط زواله. إن الثورة والصراع الاجتماعي، في نظر ماركس، هما المحركان الأصيلان للتاريخ، حيث ينتهي الصراع الطبقي عند تحرر البروليتاريا وتأسيس المجتمع الشيوعي.

   تعتبر الذاكرة الثقافية شرطا أساسيا من شروط قيام الحضارة، ومن أسس نشوء وتبلور الجماعات البشرية عبر التاريخ. بحيث يمكن القول عموما بأنه لا حضارة ولا هوية حضارية بدون ذاكرة ثقافية.
 سأحاول في هذه الورقة أن أقف عند بعض جوانب الارتباط بين السينما المغربية والذاكرة الثقافية الوطنية. بأي شكل تصوغ السينما بوصفها واحدة من أهم الفنون الحديثة، كيف تصوغ علاقاتها بهذه الذاكرة الثقافية الشاملة؟ و كيف يؤسس الفن السابع، ضمن سياق خاص هو هنا السياق المغربي، تصورات ثقافية شاملة تجدد البناءات العريقة للذاكرة المغربية؟  

    1 - الذاكرة الثقافية .. محاولة للتعريف:

      يعتبر الباحث و الأستاذ الجامعي الألماني يان أسمان (1938 – 4202) الذي كان عالم حفريات متخصصا في التراث المصري القديم أهم من تصدى لهذا المفهوم بالشرح و التحليل حيث خصص له مؤلفا مستقلا بعنوان " (2)

       يميز أسمان بين أربعة أنواع من الذاكرة هي على العموم الذاكرة المحاكاتية وذاكرة الأشياء والذاكرة التواصلية، وبعد أن يعرف كل واحدة من هذه الذاكرات، يخلص إلى أن الذاكرة الثقافية تتميز بشكل خاص بكونها ترتبط أساسا بالمعنى. يقصد بذلك أنها تتجاوز المستوى النفعي المباشر للذاكرات الثلاث السابقة لترقى إلى مستوى أكبر يرتبط ببناء وترسيخ المعنى. هكذا عندما تأخذ الأفعال و السلوكات المحاكاتية وضعية " طقوس" rites أي عندما تكتسب معنى يتجاوز وظيفتها النفعية في الحياة اليومية، فإننا نخرج حينئذ من الميدان المرتبط بالفعل (أو العمل) و ندخل في ميدان آخر أرحب هو ميدان الذاكرة الثقافية. وذلك لأن الطقوس هي عبارة عن نمط لنقل ولتخليد المعنى الثقافي. و نفس الشيء بالنسبة للأشياء عندما لا تكتفي بأن تظل مجرد أشياء نافعة، فهي تشحن بالمعنى: رموز، أيقونات، تمثلات من قبيل شواهد القبور، قبور، أضرحة، أوثان، إلخ... هي جميعها تتجاوز أفق ذاكرة الأشياء، من خلال جعل المؤشر الزمني و الهوياتي المستتر، جعله ظاهرا و واضحا للعيان". والأمثلة على ذلك كثيرة بدءا من الميزان الذي يرمز للعدالة، والمنجل الذي يرمز لطبقة الفلاحين، والحمامة التي ترمز للسلام وكذلك الصفيحة والخاتم.. هذا مع العلم أن لكل حضارة رموزها الخاصة بها التي تشكل عمقها و ثوابتها الثقافية العميقة. (3)     

       انطلاقا من هذه المقارنات و التمايزات يتضح إذن بشكل جلي أن الذاكرة الثقافية حسب أسمان تستقر على نقاط ثابتة في الماضي. و حتى في ذلك، لا يمكن الحفاظ على الماضي على هذا النحو، ولكنه مجمد في اشكال رمزية تعلق بها الذاكرة. من ذلك يعطي أسمان على سبيل المثال قصص الأنبياء، و قصص الخروج، و عبور الصحراء، و الاستقرار في الأرض الموعودة، و المنفى، و هي هذه الأشكال الذاكرية التي يتم إحياؤها احتفاليا خلال الأعياد، والتي تضيء هذا الوضع أو ذاك في الوقت الحاضر. و يعتبر أن " الأساطير هي أيضًا أشكال و نماذج من صلب الذاكرة: هنا يصبح التمييز بين الأسطورة والتاريخ تمييزا عفا عليه الزمن. بالنسبة للذاكرة الثقافية، ليس التاريخ الواقعي هو المهم، ولكن التاريخ كما نتذكره. ويمكن القول أيضًا إن الذاكرة الثقافية تحول التاريخ الواقعي إلى موضوع للتذكر، وبهذه الوسيلة، تحوله إلى أسطورة. الأسطورة هي قصة تأسيسية، قصة يُطلب منها أن تضيء الحاضر في ضوء أصوله. (...) في الذاكرة، يصبح التاريخ أسطورة. فهو لا يصبح غير واقعي ؛ بل على العكس من ذلك، عندئذ فقط تصبح حقيقة، أي أنها تأخذ قوة معيارية وتكوينية دائمة ". (4)

يَنبت مثقّف المهجر بمثابة الفسيلة البريّة الباحثة عن حضور في تربة غير تربتها، وفي مناخ لم تألف النّماء فيه. ولذلك غالبا ما يفرض الواقع المغاير على المثقف المهاجر العيش على الأطراف، في هامش الواقع الجديد، بعيدا عن المركز وضوابط المؤسسة. فيقنع بالحفاظ على وجوده المادي مؤجلا أحلامه ومطامحه إلى أجل غير معلوم. وقد تَطول رحلة البحث عن الاندماج أو تقصر، وقد لا تأتي أبدا، فكثير ممّن تحدّثهم النفس بالهجرة لا يدرون عواقب ما تخبّئه الأيام. فليس المهاجر غير القانوني وحده من يُفْرط في الأحلام، بل يشاركه المثقف والدارس على حد سواء. فاللافت أنّ إغواء الهجرة يطمس الوعي ويهوّن من تقدير العواقب. لمستُ هذا لدى العديد من الزملاء الجامعيين وغير الجامعيين، العاملين في حقل الثقافة، ممن يتحفّزون للهجرة وكأنّ العملية نزهة عابرة.

ففي المهجر كثير من المثقفين السائبين، أكرهتهم أوضاع العيش الجديد على تغيير المسار، والتفريط في ما كان يشغل بالهم قبل الرحيل. لأنّ معركة تسوية أذون الإقامة، وترتيب الوضع القانوني، والعثور على شغل كريم، هي معركة ضارية ومتجددة، قد تستنزف المهاجر وتأتي على آخر ما تبقى لديه من طاقة وعزيمة. ومن الهيّن أن يتحول المثقف العائم إلى رصيد إضافي في عالم المهمّشين في الغرب، فيغدو شغله الشاغل اللقمة التي يسدّ بها رمقه والمأوى الذي يأوي إليه في الملاجئ الاجتماعية التي يلجأ إليها المهمَّشون حين تتقطّع بهم السُّبل. إذ يتصور كثيرون أن الهجرة منتهى الإنجاز، والحال أنّ المُهاجر كلّما قطع شوطا في المصاعب داهمته أخرى. وكثيرا ما يرتطم الحالمون بواقع غير متصوَّر يسلب منهم ما تبقى من روابط بعالم الثقافة والمثقفين، وقد زاد "كوفيد" الطين بلّة بما خلّفه من برود في العلاقات وجمود في الاتصالات وركود في عمل الإدارات.

فالملاحظ أنّ جلّ المثقفين الحالمين بالهجرة يأتون إلى الغرب محمّلين برؤى طهرية عن عالم البحث والإبداع والكتّاب والدراسات، تخلو من الواقعية وفيها الكثير من السذاجة أحيانا. على أساس أنّ ذلك الوسط يخلو من مساوئ الاستغلال والانتهازية والميز والتدافع المحموم، ويسود فيه تقدير المواهب والترحيب بالقدرات، بفعل رواج عديد الأساطير عن الغرب الحاضن والشرق الطارد. ويكفي أن يكون المرء جامعيا أو شاعرا أو كاتبا ليلقى الترحاب والتبجيل. لذلك يمنّي المثقف الحالم نفسه باندماج سريع في أوساط المثقفين الغربيين العاملين في مجالات الصحافة والتدريس والدوائر الثقافية والحقول الفنية وما شابهها. والواقع أنّ المتحكِمين بتلك القطاعات ما إن يتفطّن الواحد منهم إلى هشاشة الوافد الجديد وحاجته وعوزه حتى يتحول في عينيه إلى غنيمة. يُقرَّب بالقدر الذي يظيفه من تحسين لمشاريعهم الكتابية والبحثية والأكاديمية، وفي هذه النقطة تبدأ رحلة أخرى للمثقف المهاجر مع الابتزاز، تكون أحيانا قهرية ومفروضة. وقلّة من تنجو من هذا الوضع المزري، لأنّ الاستغلال الثقافي أسوأ على المثقف من الاستغلال المادي، يكابد فيه أبشع أنواع السخرة. ومن الغربيين المقاوِلين في حقل الثقافة، ولا سيما المستثمرين في ثقافة الشرق، من تُنتِج لهم الترجمات والدراسات والأبحاث، وقد يرفعونك إلى مقام رئاسة التحرير أو يدرجونك ضمن الهيئات الاستشارية في مراكز الأبحاث والدوريات. حتى ليَحسب الغافل أن إسهامه الثقافي يقوم على الاحترام والتقدير لشخصه، بوصفه شريكا في المنجَز. يتنبّه مع تراكم التجارب وتعدد الوقائع إلى فضاعة الاستغلال ودناءة الخُلق في حقل كان يحسبه مبرَّءا من المساوئ. وفي حقيقة الأمر ما المثقف الشرقي الهشّ سوى جسر للمرور عليه، وواجهة للعرض لا غير. وإن حدّثك القائمون على تلك المؤسسات طويلا عن قناعاتهم اليسارية الكونية، وأن الأحرار جميعا، في الشرق أم في الغرب، جبهة واحدة ضدّ الرأسمالية المتوحشة وضدّ تسليع المعرفة.

قال رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" Benjamin Netanyahu في خطاب ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أيام من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة "هذا صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب". وقام بتكرار هذا الكلام في الخطاب الهزلي الذي ألقاه في الكونغرس الأمريكي في الرابع والعشرين من يوليو/تموز 2024. وكان نتنياهو قد أعرب عن هذه الفكرة مراراً وتكراراً، قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ــ وهي فكرة مفادها أن إسرائيل معقل للحضارة الغربية في منطقة غير حضارية ومتخلفة وبدائية.

إن ذكره لكلمة "الغابة" يذكرنا بتعبير إسرائيلي شائع، منسوب إلى رئيس الوزراء السابق "إيهود باراك" Ehud Barak قبل ثلاثة عقود من الزمن، مفاده أن إسرائيل "فيلا في الغابة". والغابة في هذه الحالة هي العالم العربي، والفلسطينيون فيه هم «غير الآدميون» بامتياز.

لكن الفكرة تعود إلى إلى المفكرين الصهاينة الأوائل. أراد "تيودور هرتزل" Theodor Herzl الأب النمساوي المجري للصهيونية الحديثة، إنشاء دولة يمكن لليهود فيها أن يكونوا في مأمن من معاداة السامية العنيفة التي واجهوها منذ فترة طويلة في أوروبا. لقد رسم رؤية لدولة يهودية في فلسطين من شأنها أن تمنح الحقوق المدنية للعرب الذين بقوا هناك (في مذكراته، طرح فكرة نقل البعض خارج الحدود). وقال إنه من خلال جلب الحضارة الغربية إلى المنطقة، سيعود اليهود بالنفع على العرب المحليين اقتصاديا وثقافيا - وأن الدولة اليهودية "ستشكل جزءا من جدار الدفاع ضد آسيا" وهي سنكون بمثابة موقع أمامي للحضارة ضد الهمجية.

تُعتبر أيديولوجية "البؤرة الاستيطانية للحضارة" هذه مفتاحاً لفهم كيف بررت إسرائيل تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم أمام الإسرائيليين والعالم، حيث استقر اليهود الذين لجأوا إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين. عندما تأسست إسرائيل عام 1948، تم طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني أو أجبروا على الفرار من منازلهم فيما يعرف الآن بالدولة اليهودية.

لكن منذ الأيام الأولى للدولة، كانت هناك فئة لم تقتنع بالتبرير: هم اليهود الذين لهم جذور في العالم العربي والإسلامي. يُطلق على هؤلاء اليهود اسم "المزراحيم" Mizrahi في إسرائيل، وهم اليوم أكبر مجموعة عرقية في البلاد. لقد هاجر معظمهم إلى إسرائيل بعد عام 1948، وخلال معظم تاريخ إسرائيل، كانوا ضحايا لنفس النوع من الأيديولوجية المعادية للعرب التي تُمارس ضد الفلسطينيين.