أخرجوا الطفل الذي بداخلكم حتى لا تسقط أسنانكم..
هناك.. لا تزال مساحات بداخلي يصعد منها النور صافيا وهاجا شفافا يدفعني لأن أشاكس.. أشاغب.. أطرح أسئلة لا ألقي لها ـ في كثير من الأحيان ـ بالا يعتبرها البعض غباوة.. وآخرون تخريفا.. وآخرون " بسالة " ..لكن حقيقة هذا التصرف عفوية وبراءة وطفولة.. لأن الطفل الذي بداخلي لا زال يشاكس ويشاغب..
أسأله فيهرب مبتسما.. في عينيه براءة ماكرة.. أجالسه أمام شاشة التلفزيون نتتبع في تلذذ صخب الرسوم المتحركة ونحن نمص رحيق حلوى نُصدر صوتا غريبا مُضحكا..
أنا و ''العالية" وجسد الغريبة ـ قصة : ياسين المرزوكي
هذا الصباح استيقظت على غير العادة، بألام قوية في الرأس مع دوخة شديدة مفزعة، كانت غرفة نومي مظلمة، وعندما رفعت يدا ثقيلة لأزيح الغطاء علي لمست شيئا-ماهذا ؟ سألت نفسي باستغراب- هل هذا جسد؟ تحسست الجسم الغريب قربي، بدءا من الرأس حاولت البحث عن ملامح وجه ما . اما الشعر فكان قصيرا مربوطا بغير هدى، نزلت يدي بوجل الى الرقبة هذه سلسلة يجتمع طرفاها بخرص صغير. فركت عيني لارى ولكن بدون جدوى، لم أرد أن أستمر في مغامرة التحسس هاته، لكنني كنت مضطرا، من الظهر العريض وصولا الى ... لا يعقل هل هذا جسد امرأة؟ وماذا تفعل امرأة في غرفة نومي؟ لم تدخل امرأة غرفة نومي منذ اتفقنا انا و"العالية" على ان نكون لبعضنا البعض ودائما، و ماذا سيحصل لو علمت ''العالية'' ان بغرفة نومي امرأة أخرى سواها؟ ستقتلني.. أنا اتذكر كلامها يوم قالت لي بهدوء ونحن نجتمع حول طاولة في مقهى داخل هذا "الفيلاج" الصغير.
الجريدي ـ قصة : نور الدين الغيلوفي
لوّح لي بيده ومضى في سبيله... غامت صورته خلف بلّور المترو الذي حملني وتركه... انتبهت بعد حين إلى أنّني قد أخطأت محطّتي... أربكني ما سمعت فغام بصري وتعطّلت مائزتي وأخذني الذهول بعيدا...
كان اللقاء وجيزا... حدث من تلك الأحداث النادرة التي تمضي وتترك خلفها فكرا حائرا وتساؤلا قائما... قصّة صادفتها لم تكتمل ككثير من الأحلام... مضت أيام فأسابيع وصورة الفتى لا تزال تلحّ عليّ كما لو كان ملازمي لا يفارقني... قصّة لا تريد أن يكتنفها النسيان...
لقيته مصادفة... في محطة من محطات المترو... كان وحيدا يبحث عن محاور يبثّه بعض همّه الذي أثقل كاهله سنيّ عمره... لفت انتباهي بلهجته الجريدية الأصيلة وبقدرته الخارقه... قدرته على اختراق محاوره والنفاذ إليه... فتى ضحوك ولكنك تكاد تبصر بعينك خلف الضحك أشياء... وأشياء... شخصية معدنها من البلّور... عينان خضراوان احتدّ نظرهما توسّطتا وجها لفحته شمس الجنوب القاهرة ولكنّها لم تذهب بألقه رغم الجراح العالقة والوجع المتّصل...
ولادة ـ قصة : مامون احمد مصطفى
الظلام يكلل كل شيء، لو مددت إصبعك أمام عينيك، فانك لن تراه، والجسد الملوح بالسياط والعصي والتعب منتصبا كشجرة حور عملاقة.
التعذيب طوال الساعات الماضية لم ينل منه شيئا، والوقوف الإجباري بسبب الربط الخلفي في ماسورة مثبتة بالحائط، الجلوس الإجباري على كرسي أطفال من الخشب مع التقييد التام لليدين والقدمين معا، اجبر الجسد ان يكون مقوسا تقوسا يشبه الانحناء بالرأس نحو القدمين، كل هذا لم يزحزح الرجل عن موقفه قيد أنملة.
عادت الذاكرة للعمل من جديد، هكذا يحصل دائما، حين لا تجد ما تفعله، فانك لا تستطيع ان تمنع عقلك من الانفلات على هواه ليعمل ما يشاء، ويصور ما يشاء. وفي عمله مع لحظات الهدوء القاتل، ولحظات التوقع القادمة من الظلام، تبدأ روعة العقل في الظهور لتطفو فوق كل الحدود والجدران، ترسم عبقرية فذة في صنع شيء ما للجسد المقهور والمغلول، هذا العقل هو الانتصار الأبدي على كل المعاقل العاتية، وسطوة القهر الطاغية. لا توقفه الجدران ولا تسيطر عليه القيود. هو حر داخل الزنزانة، وتحت السياط، حر برغم القيود الضارية التي تغل اليدين والقدمين في آن.
القنغاء ـ قصة : مريم كعبي
تنهدتُ بضيق بعد أن قضيتُ نهارا شاقا ومتعبا في تمثيل دور الأبله للأطفال، استدرتُ نحو النافذة الصغيرة المطلة على الحديقة الخلفية للبيت والجدار الإسمنتي الذي يحيط بها، تذكرتُ الغارة الكبرى والأقدام الهمجية التي وطئت بيوت أهلي بحثا عن الذهب الأسود والأصفر والرصاص الذي فَرَّقَ شمل أحبابي من على الأغصان كتساقط النبق الهشيش إثر حجارة صبي مشاغب يرمى الشجرة لان قامته الصغيرة لم تبلغ بعد حد الثمار الناضجة.
تذكرتُ أنين الأشجار حين لامست مناشيرهم الكهربائية وهم يفترسون الغابات ويفرشون الأرض بالفحم ويغلقون منافذ الهواء والغناء.
تذكرتُ السهول الخضراء التي تتحول إلى بحيرات جميلة في الشتاء نشرب منها الماء ونواصل رحلاتنا السعيدة في البر والسماء، تذكرتُ البراري الواسعة ومساحات أصواتنا الدافئة التي تتفسّح في أحضانها وأتساءل وحدي كيف وصلنا إلى هنا؟
***
المبصر قصة : رشيد بلفقيه
حلم الليلة الماضية حلما جميلا ، رأى فيه كل هوامش أفكاره تحتل البؤر و رأى كل ما كان يغمه قد صار على ما يرام ..... باختصار وجد أن حياته قد صارت مكانا مثيرا و جميلا و يصلح فعلا للعيش ،عندما استيقظ قرر أن يبقي نفسه داخل الحلم ، لذلك غادر السرير بعينين مغمضتين . وقف أمام المرآة ،غسل ذاكرته من كل ما فات و نسق ملامحه كما اشتهى ثم تناول فطوره بتأن و لأول مرة استساغ مذاق الخبز الجاف و الجرعات المتتالية من كأس الشاي المعتادة .
يوم من أيام المخيم ـ قصة : مأمون احمد مصطفى
أصبحنا وأصبح الملك لله، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما آماتنا واليه النشور، اللهم بارك لنا في هذا الصباح وقنا شره، الله واكبر، لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب يسر ولا تعسر.
صوت والدي الذي يصحو في كل يوم باكرا، يتناهى إلى مسامعي حين تبدأ خطاه بالتوجه نحو المطبخ، ليُحَضر إبريق شاي الصباح الذي لم يطلع بعد، ليجلس بعد ذلك مع أمي في قاع البيت يستدعيان ذكريات اختزلتها الذاكرة اختزالا عجيبا ومدهشا، ثم ينتقلان مرة واحدة للتسبيح والدعاء، ليعودا للحديث عن الدنيا ومتاعبها، فتسبيح ودعاء، وهكذا، حتى تبدأ سماعات المسجد بالخشخشة إيذانا ببدء الآذان، فيقومان نحو المغسلة لتبدأ دورة الوضوء مع الأدعية المرافقة له، ثم يتناهى لمسامعنا أصوات الجيران وهم يتحدثون، يضحكون، يوقظون أبناءهم للحاق بصلاة الجماعة.
تَـوْقُ الدُّنُـوّ ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
تتسارع الأشياء، تكتمل، تتوالج الظلمات مع انبثاقات النهار، تتوثب الرؤى لتنازع المعلوم مرورا لطيفا بين خفقات المجهول، تندفع الطاقة الكامنة من روح تشعر بتحدب اللحيظات القادمة، تتدلى أيام العمر أمام العينين، كعناقيد من وهج متفجر، ترسل بريقا يمتزج فيه الأصفر مع لون الغروب، تتلاقح الألوان وتتزواج، تندغم وتتوحد، يصبح الكون امتدادا رحبا في النفس المحملة بروائح الرحيل والمغادرة.
بداية الأشياء، نقطة من زمن متكون متصل ينحو نحو الصيرورة والديمومة، ومكان يمنح الزمن لحظات التكامل والاكتمال، الزمن والمكان توحد واندماج وانصهار، لا فكاك منه، يتداخل في مراحل التكون الأزلي، أنا ولدت في زمن معلوم، ومكان معلوم، فلا بقاء للزمن الذي دفعني رحم أمي فيه بدون المكان الذي استقبل لحظات قدومي، لتتداخل فيه أنفاسي مع مكونات الوجود بكل ما فيه من تنوع وخصوبة وتدفق، دماء الرحم التي سالت، وجع الطلقات المدوي في عمق الأثير والمكان، فرحة الميلاد، نشوة اقترابي من صدر أمي لألثم ثديها المترع بالحياة، كل المكونات تتلاصق، تندغم، تتلاقح لتشكل ما يسمى بالزمن.
نحو الخمسين أدنو، أشارف منتهى التكون، منتهى الاكتمال، نقطة النضج، "أبو حامد الغزالي" أشار للأربعين بفوات الأوان، باغت العقل مباغتة، باقتراب الدنو من الجحيم، أو النعيم، لماذا اختار الأربعين؟ ولماذا أودع الزمن المنقضي ملاحقات القادم؟ قديما قال الحكماء، بأن اقتراب التلاحم بين لحظات الزمن وبين الإدراك تمتد بتناسق مع الأربعين من العمر.