أنفاسصمت إلى الأبد الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط، الطائر الريفي الشريد، بعدما سئم التسكع تحت نور المصابيح ومل التنقل بين الأرصفة وحقائبه مليئة بالجراح والهزائم، فمضى وهو يحمل تاريخه كالحطاب، وشفتاه في قاع الزجاجة.
وبرحيله فقد الشعر العربي أحد أهم شعرائه الطليعيين الذين ملأوا المنابر الثقافية ـ ولمدة طويلة ـ بحضورهم القوي عبر مواقف جريئة حارقة، وقائمة على الرفض والنقد الصريح، لأنه كان مهووسا بجوهر الوجود ومعناه. ومن ثم راح يستعيد البحث الرامبوي عن ذلك الاحتجاج الاجتماعي ـ الوجودي ـ، ويصرخ بأعلى صوته معلنا عبث العالم، داعيا إلى تغييره.
لقد اختمرت تجربة محمد الماغوط الشعرية في ظل ثنائية الصراع بين العرب والصهيونية على الصعيد الخارجي، وبين قوى التخلف والتقدم داخليا، وتشكل هذه الثنائية خلفية أساسية لرؤية الشاعر للعالم. إذ انخرط في حركة المجتمع يندد بالهزيمة وبالواقع الاجتماعي الذي أنجبها، ويحاسب المسؤولين الحقيقيين عنها.
وتتسع رؤية محمد الماغوط المنددة بالهزيمة في كل ما كتب من شعر، وهي أكثر احتفالات بالمحتوى السياسي وافتضاح السلطة العربية عقب هزيمة حزيران 1967 المريعة.
وتكمن أهمية محمد الماغوط في كونه استطاع أن يعطي للغته الشعرية حرية جنونية، إذ اتخذ تعبيره الشعري نبرة عنيفة في محتواه الدلالي، وفي شكله اللغوي والأسلوبي في آن معا، وهذا ما تجسد في نكهة العري التي مارسها الماغوط في معجمه الشعري عبر توظيف لغة الانتهاك، وتعمد البذاءة اللغوية المتحررة من أسار اللغة النمطية المقدسة "اللغة التراثية الفصيحة" ليحط في عالم الناس ويلتحم بمشاكلهم وتناقضاتهم جريا على مقولة" اندريه برتون: André Breton" حين يتعلق الأمر بالتمرد، ينبغي ألا يحتاج أحد منا إلى أسلاف" بيانات السريالية ص 80.
والمتتبع لأعمال محمد الماغوط الشعرية، يلاحظ أن البذاءة اللغوية اتخذت عنده حجما أوسع من شعراء جيله، لأنها مرتبطة عنده بالتمرد على المواضعات الاجتماعية المكبلة للحرية. ففي ديوانه: "حزن في ضوء القمر" قصيدة بنفس العنوان يقول فيها:
" وأنا أتسكع تحت نور المصابيح.
أنتقل كالعواهر من شارع لشارع...
أشتهي جريمة واسعة

أنفاسمرّ، يوم 21 أيار (مايو) الجاري، ربع قرن علي رحيل الشاعر المصري الكبير أمل دنقل (1940ـ 1983)، وكان ثمة دلالة بالغة الخصوصية، عندي شخصياً، أن تكون أوّل مادّة أقرأها في استذكار الراحل مقالة منصفة كتبها الشاعر المصري رفعت سلام، صاحب وردة الفوضي الجميلة وأحد أبرز أصوات السبعينيين، وبين أفضلهم ثقافة وأكثرهم امتلاكاً للعدّة النقدية التنظيرية والتطبيقية التي تحتاجها القصيدة الجديدة.
ذلك لأنّ جمهرة من الشعراء السبعينيين، أعضاء جماعتَيْ إضاءة 77 و أصوات ، وكان سلام في عدادهم إلي جانب حلمي سالم ومحمد سليمان وأحمد طه وعبد المنعم رمضان، لم يخفوا نزاعهم التامّ مع دنقل، بل ذهبوا في هذا النزاع أبعد مما ينبغي، وبلغوا مستوي حاداً لم يكن يبرّره أيّ اعتبار واضح أو وجيه. جماعة أصوات ، مثلاً، جرّدت دنقل من الشعرية، هكذا ببساطة، وأطلقت عليه صفة شاعر لكلّ العصور ، بالمعني القدحي طبعاً؛ ورأت أنه نموذج للشاعر الذي تصنعه السلطة لكي يتكسّب بالشعر، ويتحوّل بالهجاء والمديح من الرفض إلي القبول!
أحمد طه، مضي شوطاً دراماتيكياً حين اتهم دنقل بالإرتداد عن الخصوصية المصرية في الشعر ، لصالح العمومية العربية ، وذلك في الحوار الذي أداره إدوار الخراط مع عدد من الشعراء السبعينيين (فصلية الكرمل ، العدد الخاص بالأدب المصري، 14، 1984). قال طه: أعتقد أنّ شعر السبعينيات يمثّل عودة إلي أصالة الشعر المصري (...) وشعر السبعينيات كان عودة للقصيدة المصرية كما بدأها الرواد من مدرسة أبولو، ثمْ محمود حسن اسماعيل، ثمّ محمد عفيفي مطر، وأبرز ما فيها أنّها تمثّل الخصوصية المصرية في الشعر، لا العمومية العربية، التي كان يمثلها بشكل واضح شاعر كأمل دنقل أو أحمد عبد المعطي حجازي .
تصريحات كهذه كانت جزءاً من الكلام الكبير ، المفتعل والمتسرّع والأجوف، الذي سيمتلك حلمي سالم شجاعة الاعتراف باستخدامه في تلك الحقبة. ولعلّ معظم سخط السبعينيين ذاك لم يكن نابعاً من انشقاقهم عن قصيدته أو مناهضة خياراته ومواقفه، الجمالية والسياسية والفكرية، فهذا لم يتضح في نصوصهم، أو أنهم لم يفلحوا في إعادة إنتاج الإنشقاق ضمن صياغات بديلة. ولعلّ أكبر الدوافع، الخافية غير المعلَنة مع ذلك، كانت انتقادات دنقل اللاذعة لحال التناقض التي عاش في إسارها معظم أولئك الشعراء: بين إدعاء الإنتماء إلي الحداثة، وممارسة نقيضها في الحياة كما في النصوص.

أنفاسمن منَّا نحنُ المنتظرون ما لا يأتي , البسطاءُ في صياغة أحلامنا , المحكومونَ بالعدم وشقاءِ الدمِ الأزرقِ " حبر مواجعنا والنجوم" , يملكُ نفسهُ اللاهثة خلف سرابِ الأهواءِ الفضيِّ , كما يملكُ عفويَّة أحلامهِ وبساطتها المؤجلَّة , ولا يترَّصدُ الفُرَصَ  المُبتذلة واللحظاتِ الحرجة والمواقف الرخيصة ليرمي ظهورَ أصدقائهِ الساذجين اللاهينَ بسهامِ عبثهِ غيرِ البريء ؟؟
من منَّا لا يُروِّجُ لأضغاثِ أوهامهِ وهشاشةِ أمانيهِ المُهشَّمةِ كالبلوّر على صخرِ الحياة , المبعثرة على سطحِ كوكبٍ ضائعٍ في مجرَّتهِ ؟
من لا ينافقُ في أصغرِ جزئيَّاتِ علاقتهِ مع الأشياءِ والآخرين ؟؟

حبَّذا لو فعلنا كلَّ هذا ولكن بقدرٍ معلوم ٍ ...حبَّذا .
"كُلنَّا في الهواءِ سواء" هذا ما نكتشفهُ في النهاية ونعترفُ بهِ , هذه الحقيقة تطبقُ علينا كلعنةٍ محتومةٍ , كظلامٍ قاسٍ.
إنَّ ما أغراني بكتابةِ هذا الكلامِ الجريحِ يراودني منذ زمنٍ حتى رنَّ هاتفي ذاتَ مساءٍ
وطُلبَ إليَّ أن أكتب تحيةً تقييميّة للصديقِ الكاتب سهيل كيوان بمناسبة تكريمهِ من مدرسةٍ في قرية كفر قرع , حينها أغراني سريعاً جمالُ ترَّفعهِ عمَّا إنحطَّ إليهِ الكثيرُ من الآخرينْ , من أخلاقيَّات صدئتْ في الشمس العربية , فمنهم من يطعنُ من الخلف , ومنهم من ترميني نرجسيَّتهُ بتلكَ التهمةِ أو بذاكَ الإفتراءْ أو ربمَّا بنصالِ الحقدِ المزمن , ومنهم من يتعامى ويصمُّ أذنيهِ عن صراخِ ضميرهِ في زمنٍ لا يقيمُ وزناً لقيم ولا لمُثلِ , تزدادُ فيهِ حاجتنا إلى درعٍ من الذهبِ الُمقوَّى ليلفُّنا كالجناحِ الدفيءِ ويحمينا من سطوةِ بردِ الآخرينْ .

الكتابة عن أديبٍ بحجم سهيل كيوان مُربكة قليلاً أو ربمَّا كثيراً , ممَّا وضعني في موقفٍ حرجٍ من نفسي وترددّتُ حينها لإتسَّاعِ معنى الكاتب سهيل كيوان وضيق عبارتي , فروائيٌّ مثلهُ متعددُّ الأساليبِ والطرقِ التعبيرية وفسيح المجالاتِ يحتاجُ أدبهُ الى دراسةٍ وبحثٍ علميين دقيقين أمينين ومن أكادميين متخصِّصين ليُوَّفى بعضاً من حقهِ , لا إلى كلامٍ قليلٍ عابرٍ , لإيماني بقيمة كاتب مكافح وعصاميِّ تركَ بصمتهُ على أدبنا المحليِّ , وبأنَّ خيرَ من يقيمُّ سهيل كيوان أدبهُ نفسهُ , رواياتهُ , مقالاتهُ , حسُّهُ النقدي ,سخريتهُ المرَّة ,عصاميَّتهُ الفذة , وطعمُ قصصهِ المراوغة والمراوحة بينَ الأدب الإجتماعي أو السياسي الملتزم والمفارقة الساخرة المنتقاة بعناية فائقةٍ كحجر الزاوية , وفوقها تلتئمُ مداميكُ البراعة الفنيَّةِ واللغويَّةِ .

أنفاسأقيمت في مسرح الميدان الموجود في مدينة حيفا قبل مدةٍ وجيزة إحتفالية بتدشين نشر رواية الشاعر والروائي الفلسطيني المعروف والمقيم في عمَّان إبراهيم نصر الله " زمن الخيول البيضاء " والتي قامت بتبنيّها واحتضانها مكتبة كل شيء في حيفا وهي من كبريات دور النشر هنا في  الداخل الفلسطيني , ولكن حلقةً ضائعةً لا زلتُ أبحثُ عنها في تبلوِّر هذه العلاقة المفاجئة بين دور النشر عندنا والأدباءِ المقيمين خارج الوطن , لا أريد أن أقول الأغيار أو الأجانب حتى لا أُتهَّم بالتطرَّف الثقافي أو بالعنصريَّة , مع أنَّ الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله من لحم هذا الوطن مقتطعٌ ,وليس من باب التقليل من قيمة شاعر وكاتب بحجم إبراهيم نصر الله بالتجائه القسريِّ إلينا بعدما كانت كبرى دور النشر في عالمنا العربي" المؤسسة العربية للدراسات والنشر" تحتضنهُ كابنها وتتبنَّى كتبه . فأنني أعترف بأنه من أنشط الكتاب والشعراء الفلسطينيين في الوقت الراهن ويمتاز برأيي بغنى ثقافي وحضور أدبي آسر وشاعرية إنسانية رقيقة  ومسحة غنائية صافية الجرس وعميقة الحسِّ , قرأت ربمّا كلَّ دواوينه الشعرية الأمر الذي لم أفعله حتى هذه اللحظة مع رواياته اللاتي يبدو لي أنها من الأهمية الأدبية والتاريخية بمكان .
ولا زلت أذكرُ ديوانيه " مرايا الملائكة " وحجرة الناي" وما تركاه في ذهني من عبق وتحت لساني من طعم طيِّب  فأقفُ مذهولاً أمام عبقرية شعرية تستحقُ الإلتفات والمتابعة ولا أريد أن أرّددْ ما قاله كبار النقاد العرب عن شاعر مثل إبراهيم نصر الله ومنهم عبد العزيز المقالح واحسان عباس وغيرهم كثرٌ . ولكني أريد فقط وضع بضعة نقاط على حروف مبعثرة . وأريد أن أسأل نفسي هذا السؤال الحائر,من ينشرُ لنا نحنُ الجيلُ الشابْ ؟ ألهذا الحدِّ الرخيص وصلت قيمة الكاتب أو الشاعر عندنا؟
إلى مشارف كلام ٍ جارحٍ كهذا " عزيزي أنشر لوحدك وعلى نفقتكَ ولا علاقة لنا بك" حتى أنه بات وقد أضاع بوصلة روحه وأصبح حاله أو كونهُ كاتبا على حدِّ تعبير الروائي الكولومبي الفذ غارسيا ماركيز مأساة كبرى لا تعدلها مأساة في العصر الحديث . بعد تخلِّي دور النشر عنه وبعد حصاره من جهاته الستِّ على يدِ الشلّلية  "الأدبية" البغيضة التي تتشدقُّ بدفاعها عن الأدب والثقافة  حيناً وتارة تتنافحُ بمساعدة الشعراء الجدد وتقديم يد العون المعنويِّ والماديِّ لهم . وهم في وهمهم يشطُّونَ ويعمهون . فأنهم لا يجيدون الاَّ وطئ هام الجيل الذي يصغرهم , وتعمية وتدليسَ بل إنكارَ إنجازِ غيرهم خصوصاً اذا كان أفضلَ ممَّا قدَّموا هم .

أنفاسإن مفتاح الدخول إلى عالم عبد الكريم الناعم الشعري: يكمن في قدرته الهائلة على التحليق باللغة في آفاق رحبة، تؤثثها مفاتن الطبيعة النضرة التي تمثل الوجه المادي للأرض المشتهاة بغية التوحد بها، والتماهي مع كل مظهر من مظاهرها. وعن أهمية هذا السفر المحلق مع اللغة يقول الشاعر: "الذين لا يسافرون مع اللغة وفيها يخسرون تذوق الوصل في ليالي الربيع المقمرة المليئة بالعشب والنضارة، ويضيق بهم الأفق، بحيث يسجنون العالم والأحاسيس في قفص من الكلام العادي المكرر" -1-
فالسفر مع اللغة وبها يعادل إذن عند الشاعر تذوق الوصل، وهذا التذوق مرتبط بما تحمله أمكنة السفر من دلالات ورموز.
ومن ثم يتجلى الدور الذي تضطلع به الطبيعة في عالم عبد الكريم الناعم الشعري، إنه ابن الطبيعة البار الذي افترش العشب ليكتب على "جذوع الشجر القاسي"، ويحدث الرياح والتراب والمدى، ويحلم بجناح الريح ليحلق عاليا فوق البحار والأودية والأشجار، ويتطلع إلى صبر التراب، ورسوخ النخيل الأسمر في البلاد المفضوضة، ويستصيغ السمع لحكايات الماء الطويلة وهو المترع بالفقر والأحزان في البلد النازف، إنه المسكون بذاكرة الخليج الدائري وبالجراح التي تفترش المدن الأثيمة في زمن الحصار. إنه "النهر الفراتي" المسافر في عذابات القفار ينتظر الأفق الذي لا يأتي فتحاصره "البذاءات الضريرة".
هكذا يتورط الشاعر في قافية الحروف، وينذر عمره لبقية العشق، يركض من الألف إلى الياء ليعتنق ركوب اللغة، ويسافر معها عله يطفئ "جمر التوجع" على حال الوطن المسروق في خضم الزمن الأغبر الرديئ.
هذا هو منطلق العمل الشعري كما آمن به عبد الكريم الناعم:
"هزيما صوفيا، وفعلا ثوريا، ولحنا غجريا حزينا"، كما أنه: "جنون في وطن النخاسة". وعن منظوره للشعر هذا يقول:
"علق الجراح قصيدتي،
والشعر مبدأه الجنون". -2-
" لأنك في القفر يجيء الشعر
هزيما صوفيا،
ثوريا،
لحنا غجريا" -3-

أنفاستعتبر المجموعة القصصية " ذكريات من منفى سحيق " باكورة أعمال القاص المغـربي صخر المهيف ، وهو من مواليد 1971 بتازة ، بدأ النشر مبكـرا منذ سنة 1995 بالعديد من الأسبوعيات و الجرائد و المواقع و المجلات العربية و الوطنية ، يعمل أستاذ التعليم الابتدائي و فاعل جمعوي و منشط بالمطعم الثقافي الأندلسي بأصيلة . يهتم بمجالات أدبية متنوعة : المقالة ، المسرح ، الشعر و القصة و الرواية .
و المجموعة صدرت عن دار الوطن للصحافة و النشر سنة 2007 ، يتصدر الصفحة الأولى من غلاف المجموعة لوحة تشكيلية للفنان محمد واكريم أما الصفحة الرابعة من الكتاب فتتضمن ورقة تعريف بالكاتب .
تضم المجموعة القصصية ثمانية نصوص ، كما يشكل عنوان أحـدها عتبة للمجموعة ككل .
وسوف نحاول يناولها بالقراءة والتحليل في محاولة  للبحث عن أهم الأفكار التي روجتها وذلك بتعقب مختلف الخيوط التي تمكننا من الإجابة عن "سؤال الكتابة " عند القاص صخر المهيف .
وقد توزعت النصوص بين الواقعية والإجتماعية  والسير ذاتية...
يقول القاص على لسان سارده في  نص " عودة من منفى سحيق" عبارة عن سيرة ذاتية و قد عبر عنه بقوله " لم يكن مقيتا أن أكتب جزءا من تاريخ ذاكرتي المحترقة على الرغم من المعانات التي تكبدتها في سبيل شنق ذاكرتي و هي تبوح ببعض التفاصيل المملة عن مجرى حياتي السابقة " صفحة 22 .  
و هذا النص كتب بمرارة و حرقة و بانتقاد كبير للواقع الاجتماعي المزري الذي عاشه كرجل تعليم في بداية مشواره المهني . و إن كان النص يقدم لنا صورة مصغرة لشخصين أو مجموعة أشخاص فقد فتح أعيننا على واقع بانورامي حول أوضاع رجال و نساء التعليم بصفة عامة مبرزا معانات جيل بأكمله في مناطق نائية جدا لا تتوفر فيها الشروط الأدنى للحياة ، وغم هذا العائق حاول السارد التكيف مع الوسط الجديد يقول  " تأقلمت بسرعة مع أجواء المنفى القاسية ، فصنعت عالما خاصا بي ، كان عالما جميلا " صفحة 24 .و لم يكن فقط جميلا بل كان من نوع خاص و صعب الاقتحام على الغير يقول : " لم أسمح لأحد بولوجه لأنه كان عالما مغلقا... مستعصيا على الاقتحام "ص 24.

أنفاستقديم:
  تروم  هذه الدراسة الوقوف على ومع نص/ رواية "غريبة الحسين" لأحمد التوفيق، وهو من المبدعين المخضرمين؛ الذين يشتغلون في أكثر من حقل معرفي. لقد خطط الروائي لنفسه مسارا مغايرا عن سابقيه ممن اشتغلوا على الرواية؛ ذلك أن أغلب النصوص الروائية المغربية، نصوص سير ذاتية. من تمت اتجه الروائي ، ومن موقعه كمؤرخ، إلى التاريخ كمكون روائي. هذا مع الإشارة إلى وجود محاولات روائية مغربية تعاملت مع التاريخ كمكون. نورد  على سبيل الذكر نصي "عبد الكريم غلاب": "دفنا الماضي" و" المعلم علي" وروايتي "بنسالم حميش": " مجنون الحكم" و " العلامة"...غير أن تعامل "أحمد التوفيق" يبقى ذا نكهة خاصة، عملت مجموعة عوامل على بلورتها وتجليها في نصوصه الروائية، هي:
    - كون الرواية ، كجنس أدبي، أكثر الأجناس انفتاحا على مختلف الأجناس الأخرى وعلى كل المجالات والميادين، ومن تم يمكن استحضار كل المرجعيات وتوسيعها ومحاجاتها وربما دحضها؛
    -  كون التاريخ حاضر في كل الميادين ، علمية كانت أم أدبية؛
    -  كون الرواية فسحة فكرية.
تعتبر رواية " غريبة الحسين" العمل الرابع للأستاذ "أحمد التوفيق" بعد كلٍّ من رواية:  "السيل"، "جارات أبي موسى" و "شجيرة حناء وقمر".وهذه الأعمال مجملة يمكن إدراجها، في خانة الأعمال المُكَمِّلَة لما  لم تصل إليه يد "أحمد التوفيق" المؤرخ ولم تُسْعِفْه فيه حصافة المحقق الحاذق؛ إذ لا يخفى ما حضي به  الأستاذ التوفيق من مكانة علمية في مجالي البحث التاريخي و التحقيق. الأمر الذي يسمح بالقول إن كاتبا من هذا العيار لا يَكَلُّ من البحث عن الوسيلة التي تعطيه حظوظا أفر في  التعبير عن رأيه خارج إطار انشغالا ته الأكاديمية. مع الإشارة إلى أن هذا القول  لا يقلل من  قيمة ما قدمه الباحث من دراسات وبحوت وتحقيقات ، إذ يكفيه فخرا دراسته المتميزة  المعنونة بـ "المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (إينولتان) 1850 – 1912"،وتحقيقه لكتابي: "التشوف إلى رجال التصوف، ابن الزيات التادلي"، و"مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال". إن التراكم الذي حققه " أحمد التوفيق" في مجال الكتابة الروائية، وفي ظرف وجيز يعطي الانطباع أن الرجل ذو باع طويل في حلبة الكتابة مما خول له القدرة على الإمساك بوسائل الصياغة الفنية وتمكنه من الأخذ بناصية فنون القول، فاشتغاله بالتاريخ صقل فيه الجانب الإبداعي؛ الشيء الذي جعله  يقيم مسافة بين التاريخي والروائي، فـ "أحمد التوفيق" يعلم أن التسجيل التاريخي ليس من مهام الروائي. قد يمتلك التسجيل التاريخي مقومات النص، ويتوفر أحيانا على التشويق والإيقاع، لكنه يظل تأريخا. أما العمل الروائي، فيقوم على سبر غور الوقائع مع الانتقاء. فإذا كانت مادة التاريخ عنصرا خارجيا فإن  المادة الروائية  تبقى عنصرا ذاتيا  تنبع من ذات الروائي ، وفي الآن ذاته  تعكس الخارج في تلابيب النص. وإذا كان "التاريخ وكتابة الرواية كلاهما فن قائم بذاته، إلا أن مهمة الروائي أشق". وما تواري "أحمد التوفيق" خلف الكتابة التاريخية إلا مجرد تَحَيُّنٍ للوقت المناسب حتى يخرج على الناس بهذه التحف المغربية الأصيلة، التي نصادفها من خلال الوصف، الحوار أو من خلال عملية انتقاء المناظر والمشاهد الروائية..

أذكرُ ذاتَ صباحٍ ربيعيِّ غائمٍ وماطرِ في مطالعِ أيَّار بعيدٍ قبل عشر سنوات كيف سافرت إلى مدينةِ الناصرةِ لشراءِ بضعة دواوين للشاعر السوري الكبير والمُختلفِ عليهِ نزار قبّاني , كان حينها قد رحلَ قبل أيامٍ معدودات , وكنتُ في شوقٍ لأقفَ على ماهيَّةِ وسرِّ هذا الشاعر المثير للجدل والإهتمام والإعجاب , خصوصاً وأنني لم أقرأه تلك القراءة الكافية العميقة الاَّ في نطاقٍ محدود كانت تتيحه مكتبة المدرسةِ أو منهاج التعليم أو الجرائد التي وصلت الى يدي آنذاك .
انتقيتُ أكثر من أهمَّ عشرة دواوين لنزار من بينها ديوانه الأوّل " قالت لي السمراء" الى جانب " الرسم بالكلمات" و"هل تسمعين صراخَ أحزاني " و"قصيدة بلقيس" وغيرها , وحاولت الغوص في شعريَّة واحدٍ من ألمعِ وأغزر وأمهر وأصفى الأصوات في قيثارة الشعر العربي لا في عصره الحديث بل في عصورهِ جميعها .
لا أظنُّ أن رحيل الشاعر كان محفزَّا لي لقراءتهِ وإستكشاف لمعان إبداعهِ الخفيَّ كالمحارِ والظاهرِ كالشمسِ في عليائها . بل الإختلاف عليه من طرف النقاد وكثرة الهمز واللمز فيه ولم يوارى جثمانه الغضُّ الثرى بعد .