
هدف واحد :
مما لا شك فيه أن البحث عن الجمال من أهداف كل من أهل الفكر والبلغاء أي علماء البلاغة ، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن فلاسفة اليونان القدماء ومفكريهم قد عنوا بالجمال عناية فائقة ، في نفس الوقت الذي اهتموا بمعرفته اهتماماً عظيماً تجلى فيما كتبوه ووصل إلينا .
لقد كان الجمال بجانب الخير والحق من أهم ما يشغل فلاسفة ومفكري اليونان ، وإنهم وصلوا إلى درجة عالية من الدرس والبحث في هذا المجال المهم من مجالات الفكر الإنساني التي ثبت لهم فيها السبق والتقدم ، وكان التفوق فيه ميزة من ميزاتهم ، ومنحة منحها الله سبحانه وتعالى إياهم ، كما منح غيرهم من الأمم ميزات أو مواهب أخرى .
ولا ضرر ولا ضرار في ذلك فهذه سنة اله عز وجل في خلقه ، فهو له في خلقه شئون ، وقد جعل في العرب البلاغة والفصاحة ، وفي أهل الصين الفنون الجميلة ، كما كان من فضله وعدله أن قسم نعمه التي لا تعد ولا تحصى على خلقه . (1)
وفي هذا السياق يقول أستاذنا / مصطفى صادق الرافعي (رحمه الله) في كتابه (تاريخ آداب العرب ) : وكانت البلاغة من أشهر ما عرف به العرب في العلوم والفنون حتى صارت من أرقى مدنياتهم ، وأوسع معارفهم ، فالحكمة الإلهية التي جعلت من قديم مدنية الفنون في أيدي الصينين ، ومدنية العلوم في رؤوس اليونانيين هي التي خصصت مدنية اللغات في ألسنة العرب . (2)
لقد تفوق اليونان في هذا المجال من مجالات الفكر ، وهذا أمر معروف ومفهوم ولا مرية فيه عند كل منصف ، ومن المحال أن يقلل ذلك من شأن أية أمة أخرى ، لأن الله جل علاه كما قسم الأرزاق على عباده قسم المواهب أيضاً ، وهو العليم بعباده ، فلا جدال في هذه المسألة .
والله جل شأنه هو موزع النعم بين الناس جميعاً ، واختص بفضله الأمة العربية فجعلهم أبلغ الناس بياناً ، وأفصحهم لساناً كما وهب أهل اليونان الفكر المنتظم ، فاليونان كانوا أصحاب فكر قديم يتسم بالوعي والدقة ، وقد أخذت الحضارة العربية الإسلامية منه الكثير الذي يتفق مع قيمنا وثوابتنا ، بعد أن قام علماء الإسلام ومفكروه بعمليات النقد والفحص والدرس والتمحيص ثم الإضافة ، فالحضارات أخذ وعطاء ، الحضارات تكامل وتعارف ، الحضارات عطاء إنساني من أجل صالح الإنسانية ، عطاء لا يعرف الصدام أو الصراع ، أو انتصار حضارة على أخرى ، فكل الحضارات سواء في حق الوجود والعطاء .