أنفاسكثيرةٌ هي الروايات التي أمرُّ بها عرضاً, كما تمرُّ الريح الجنوبية في أغنيةِ الشاعر الإنجليزي شلي, وأكثرُ منها الدواوين الشعرية, المتأرجحةِ في مدىً من التلاشي والانسياحِ المتوَّهم, من دون أن أجنيَ منها قطرة رحيقْ.
كثيرةٌ هي الروايات التي لا تستحقُ منَّا أن نضيعَ ساعةً واحدةً في الوقوفِ على لا جدواها وعدمِّيتها,وقليلةٌ الروايات العصيةُ المخاتلة للذات.
ولكنني أجدُ دائماً الصنف الثاني منها وأفرحُ بهِ أيمَّا فرحٍ, محتفياً بفرادتهِ وعمقِ مغزاه وفلسفتهِ المؤَّسسةِ على أفكارنا وبداهتنا الإنسانيةِ .
 لذلكَ أعلنُ أنهُ إذا ما إستمرَّ ضغطُ غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الكولومبي وماريو فارغاس يوسا الروائي البيروفي على مخيَّلتي فسأستقيلُ من الحلمِ يوماً, ومن البحثِ عن الشعر ومنابعِ الجمال والمثاليةِ واستدعائها .  
دائماً أحسُّ بأنَّ هناكَ ذاكرةً إيروسيَّة ملوَّنةً بألوانِ الطيفِ تولدُ فيَّ, في مكانٍ ما من وجداني, وتضغطُ عليَّ بيدٍ حريريةٍ خفيفةِ الندى, تمسُّ روحي وتزوَّجُ الجمالَ للحريَّةِ والثورة للعدالةِ الإنسانيةِ المطلقةْ .
في هذا الوقتِ بالذاتِ لا تستهويني إلاَّ الحدَّة المفرطة في اكتشاف معنى الحياةِ وسرِّ جمالها وسعادتها, ولا أصلُ إلى الضالةِ النشودة من دونِ أن أركبَ على حصانِ هذين الكاتبينِ المُجنَّح .
كتابتهما لا ينقصها شيءٌ من لذعِ بهار أمريكا اللاتينية, لا تسبحُ إلاَّ في فضاءٍ من سحرِ الوقوفِ على أعلى قممِ النفسِ الشعوريةِ, ولا ترفرفُ إلاَّ بأجنحةٍ من نورٍ نسائيٍّ وتساؤلٍ وتفاؤلْ.
في حضرتهما لا تستطيعُ التفلَّتَ من تحرِّشِ الحقيقةِ بكَ, لا تستطيعُ إلاَّ أن تصرخَ معهما كالذئبِ في براري الشتاءْ .
هنالكَ إلمامٌ عبقريٌّ بخبرةٍ فرديةٍ قلمَّا نجدها في أعمقِ الرواياتِ الحديثةِ , وأكثرها احتفاءً بطبيعةِ المشاعرْ,هنالكَ حديقةٌ للحواسِ يانعةٌ .
ماركيز ويوسا جناحانِ أزرقانِ يحلِّقانِ في سماءِ الروايةِ اللاتينيةِ الإسبانيةِ ويرفعانها عالياً عالياً حتى الشمس, كثيراً ما أثقلا دمي بالنوارس.  
في لحظاتٍ بلورِّيةٍ ثمينةٍ تقدسُّ مشاعركَ وترفعها كالقربانِ الأخيرْ, هما لا يدعاكَ تتنصلُّ من مهنةِ الحُبِّ الملازمةِ لأعضائكَ, ومن رائحةِ المرأة الموعودةْ, التي استقالتْ منكَ منذ زمنٍ بعيدٍ في فضاءِ نصٍ مفتوحٍ على التجلِّياتْ .

أنفاسوجوه ووجوه:
ثمّة وجوه تمرّ مروراً عابراً بنا، ولكنّها تقيم في ذاكرتنا لا تبرحها، وتلتصق بأحداق عيوننا لا تفارقها، حتّى إنّنا نراها في كلِّ التفاتة وعند كلِّ طرفة عين. وثمَّة وجوه تعاشرنا مدّة طويلة من الزمن ثم تغادرنا، فلا نكاد نذكرها بعد ذلك أبداً، ولا تخطر على بالنا مرّة أُخرى، وكأنَّها لم تكُن من قبل. ونبقى حائرين لا نعرف السبب.
ثمَّة وجوه تطالعنا في صباح يوم من الأيام، فتبعث الفرحة في نفوسنا، كما تبعث النارُ الدفء في أجسادنا في يومٍ شتائيٍّ عاصفٍ، وتبقى بذرة الفرح نامية مزهرة حيّة طوال النهار، تمنح ساعاتنا اللون والحركة والبهجة. وثمَّة وجوه ما إن يقع بصرنا عليها حتّى نشعر بالضيق والنكد يجتاحان أعماقنا، مثلما يخيم الظلامُ على حارةٍ انقطع عنها الكهرباء، واختفت منها القناديل والفوانيس.
ثمّة وجه يصادفك في طريقك، فتقرأ في ملامحه الطيبةَ ممزوجةً بمحبّة الآخرين ومحبَّة جميع الكائنات والموجودات، فتشعر بأنَّ الخير مازال موجوداً يمشي على رجلين بين الناس. فتنتعش روحك بنسيم الأمل وترتوي بندى التفاؤل. وثمَّة وجه يطير منه اللؤم وينتشر مثل انتشار إشعاع ذريٍّ فتّاك، أو ينتقل مثل انتقال فيروس معدٍ، يصيبك بالتشاؤم والضيق طول اليوم.
    ثمّة وجه تسحرك فيه العينان، تطلُّ منهما على دخيلة صاحبه وأخلاقه وصفاته بل حتّى أسراره وخباياه، كما لو كانتا نافذتَين مشرعتَين على دار الجيران المؤثثة بذوق وجمال وألوان متناسقة أو كما لو كانتا ينبوعي مياه صافية تروي الظماً وتطفئ النيران. وثمّة وجه لا تفصح منه العينان ولا الشفتان ولا أيّ جارحة فيه عن معنى من المعاني الإنسانيّة، كما لو كان جداراً مطلياً بالقار الأسود.
    لقد لاحظ الفلاسفة والأدباء وعلماء النفس ذلك، وسجل بعضهم تلك الظاهرة. أذكر أنَّ الأديب المصري الراحل يحيى حقي قد خصَّص كتابه " ناس في الظل" (1) لتلك الظاهرة. يقول يحيى حقي في النصّ الأوَّل من هذا الكتاب:
    " لماذا كان وجهه هو وحده الذي تعلق به نظرتي الشاردة من بين آلاف الوجوه التي تمرُّ بي عرضاً في الطريق؟ لو سألتني أن أصفها لك لما استطعتُ، لأنّي لا أذكرها ـ برغم التباين، تتشابه هي في أنها نكرات وسط عجينة باهتة. كان وجهه هو محدَّداً بإطار خفي يفصله عن الزحام والتماثل، حتى لو كان على الرصيف المقابل فلا بُدَّ أن يقفز بصري ويصطاده خطفاً، فلم أره إلا وهو مسرع في سيره، يكاد يجري." (2)
    لقد سجل بعض أولئك المفكرين هذه الظاهرة دون أن يقدِّم تعليلاً لها، على حين راح بعضهم الآخر يبحث عن سببٍ معقولٍ أو تفسيرٍ مقبولٍ. فمثلاً ردّها قسمٌ منهم إلى خاصَّةٍ يختصُّ بها ملمح أو أكثر من ملامح ذلك الوجه الذي سَرَّك أو أَسَرَك. فيحيى حقي يجيب على سؤاله السابق بقوله:

أنفاسالسرد الذي يحمل قيمة الشعر دون زخرفة لغوية أو إيقاعية واضحة هو التقنية الأهم ومفتاح الحالة الإنسانية التي يخلفها بداخلك الديوان الذي يجعل من القارئ/منا شركاء فى الديوان الذي يتحدث عن حالاتنا العادية وإنهزاماتنا البسيطة ظاهريا الكارثية داخليا ومعنويا التي تستطيع أن تقبض عليها في ديوان حارس الفنار العجوز الصادر عن الدار في القاهرة كديوان خامس للشاعر عزمي عبد الوهاب  حيث صدر له من قبل..  النوافذ لا اثر لها عن صندوق التنمية الثقافية في مصر.. والأسماء لاتليق بالأماكن عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة..وبأكاذيب سوداء كثيرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة ...و بعد ذلك خروج الملاك مباشرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات في القاهرة.
إننا نقرأ حكايات/قصائد عزمي عبد الوهاب التي يعلن فيها عن فقده لأشياء كثيرة   سواء كانت هذه الأشياء حسية أو معنوية  أو حتى فكرية وأيديولوجيه  كما يتجلى ذلك في قصيدة  (شيوعيون.. كنا ) الديوان ص 27 .....
على الرغم إن الديوان يحمل صفة  قصيدة نثر  بسماتها المعروفة ويعبر عن ذات الشاعر إلا أن هذه الذات تتقاطع شعريا مع ذواتنا جميعا مما يجعل الديوان يتحول في مواضع  كثيرة  إلى صوت جمعي وهذا  ليس بقصدية الشاعر الذي يعبر عما يحدث داخل الذات ثم علاقتها بالعالم المحيط ومن هنا كان تقاطع وتماس ذاته الفردية مع ذواتنا مما يدخل الديوان قصرا إلى الالتفاف الجماعي حول صوت الشاعر  ويتجلى هذا في قصيدة (القتلة) التي يهديها إلى أطفال قانا رغم أنف قصيدة النثر –الديوان ص 127 ..ساعد في ذلك اللغة العربية الفصحة البسيطة ظاهريا العميقة فنيا وشعريا حتى  إن هذه اللغة لا تجد مفرا من استخدام بعض الألفاظ العامية المصرية التي لا بديل عنها في بنيان القصيدة  .. كما كان الشاعر بعيدا تماما عن وسائل الإبهار اللغوي والزخرفة الشعرية تمام أو إحضار مفردات معجمية تعطى للقصائد بعض القداسة حتى انك من فرط متعة هذه اللغة تشعر انك لا تقرأ ديوان بل تستمع إلى صوت شاعر يجلس بجوارك وزاد هذا الأمر وضوحا الإيقاع السريع للجمل والاختزال الشديد في التعبير
ان الديوان يحدث حالة دائمة من الحوار المفتوح مع الذات داخليا ومع كل المحيط خارجيا حتى ان الفعل قال يأتى فى الديوان على هيئات لغوية متعددة فى حالات المضارع والماضى وفى شكل ذكري وانثوي كما يصنع الديوان فضاء شعريا له خصوصية الشاعر يحتوى هذا الفضاء ..الاصدقاء القتلة..الشرطى الفقير.. كوبري قصر النيل..الاوبرا..الهناجر..فلاح عجوز..ساعى البريد..زاهية التى تعبر عن الفلاحة الجميلة فى الذاكرة الشعبية ....رؤساء العمل وعلاقته بهم التى هى شديدة السوء  التى يعبر عنها بشاعرية شديدة الثراء  كما تحضر القاهرة بكل اماكنها وشوارعها  فى الديوان وهذا الملمح يعبر عن التمازج الكامل مع المكان بعد مرور  اكثر من عشرسنوات من انتقال عزمى من قريته التابعة لمحافظة للدقهلية وحياته واستقراره فى القاهرة .

أنفاسيكاد يكون الاقتراب من عالم محمد السرغيني الشعري مغامرة غير محسوبة العواقب، ذلك أن الدخول إلى محراب تجربته الشعرية يحتاج إلى التسلح بمعرفة دقيقة وشاملة، وإدراك واع لغير قليل من المعارف والعلوم. ذلك أن صرح عالمه الشعري متماسك البناء، ومتنوع الأصول، وغني بحمولات معرفية، وثري بالرموز والدلالات. ولعل مرد ذلك إلى أن الشاعر متعدد الاهتمامات، ومختلف المشارب باعتباره: شاعرا إنسانا، وباحثا أكاديميا، وناقدا متمرسا، ومفكرا متأملا، ولغويا فذا، ومتصوفا سابحا في ملكوت الحلاج وابن عربي وجلال الرومي وابن سبعين… فكل هذا هو محمد السرغيني الذي يصدق عليه القول:
"خذني كما أنا في متخيلك، فليس فيه إلا إياي".
إلا أن ما يشفع لي محاولتي هذه للاقتراب من تجربته الشعرية والحديث عنها علاقتي به التي توطدت خلال أربعة عقود من الزمن، كان لي فيها: الأستاذ الموجه، والمشرف الناصح، والمبدع الكاشف.
وخلال كل هذه المدة، كنت حريصا فيها على الاقتراب من محراب تجربة الرجل العلمية والإبداعية، أتتبع مظاهر تشكلها، واقتفي منحنيات تبلورها وتطورها منذ أن اقتنع الرجل المبدع بنشر أعماله الإبداعية.
إن أهم ما يؤطر تجربة محمد السرغيني الشعرية، هي هذه العلاقة العضوية بـين:
             الشعر ← التجربة← الأنا.
وقد فصل الحديث عن هذه العلاقات والوشائج، موضحا تصوره لهذه الأقانيم الثلاثة في دراسة منشورة له بمجلة "الوحدة"، حيث يقول:
"الشعر إبداع، والإبداع تجربة، والتجربة "أنا" -1-
إن الإبداع الشعري من منظور محمد السرغيني، لا يمكن أن ينبثق إلا من تجربة المبدع، ولهذه التجربة علاقة حتمية بتوحد "الأنا الصغرى" بـ "الأنا الكبرى" واندماجهما في النسق الكوني. فالأنا الصغرى سطحية، وسلطتها فجة، في حين أن الأنا الكبرى عميقة. وتخومها رحبة. ف "الأنا الأولى مجازية لأنها حربائية مرة وببغاوية أخرى، أما الأنا الثانية فهي نبوءة في حالة تستغرق كل الأحوال،.. والسلطة في الأولى للذوق بالمعنى الصوفي، وفي الثانية للعقل بالمعنى الفلسفي"-2-.

أنفاسالتراث الشعبي العربي عند ألفريد فرج هو المادة الخام الأساسية التي بنى عليها معظم نتاجه المسرحي، ومحطاته الكبرى كانت عند حكايات ألف ليلة وليلة، ومنها استمد عددا من أعماله المسرحية الهامة. والسؤال هل يمكن أن يكون المسرح تعليميا، وأن يكون هدفه الأوحد تغيير العالم؟ ليس السؤال مطروحا على فناني المسرح وحدهم بطبيعة الحال، لكن المسرح هو الفن الأكثر قدرة على صياغة الأسئلة وطرحها، وتقديم إجابات لها، كل حسب موقعه، وحسب ما يتوفر له من معطيات، وهو كذلك فن جماعي مركب، لا بد له من جماعة متآلفة من فنانين، وفنيين حتى يكتسب حياته فوق الخشبة، والحديث عن مسرح "ألفريد فرج" له جوانب متعددة، وقبل الشروع فيها لا بد من الحديث عن الواقع الذي نشأ له هذا المسرح.
لقد كانت ثورة تموز عام 1952، التي حاولت أن تعيد صياغة أسس الواقع المصري سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، مناخا ممتازا لظهور مسرح ناهض في كل مكان تنوعت أشكاله، وأهدافه، فانقسم الإنتاج المسرحي المصري في تلك الفترة أقساما ثلاثة:
القسم الأول: قدم المسرحية الاجتماعية النقدية، وأعلامها نعمان عاشور، سعد الدين وهبة، لطفي الخولي وألفريد فرج، حيث تحولت المسرحية على أيدي هؤلاء إلى كوميديا انتقادية ذات مضمون سياسي واضح.
القسم الثاني: قدم المسرحية التراثية التي تفيد من مأثورات الشعب في الصيغة والمضمون المسرحيين، وأهم كتابها: ألفريد فرج، نجيب سرور، شوقي عبد الحكيم، محمود دياب.
أما القسم الثالث: فقد قدم مسرحيات سياسية إما معاصرة أو من تاريخ الأمة العربية، فكان عبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وألفريد فرج أهم أعلامه.
وهنا نلاحظ أن المسرحي ألفريد فرج تناول في كتاباته المسرحية الأقسام الثلاثة للمسرحية، ولا عجب في ذلك فهو ابن الصعيد المصري، نزحت عائلته إلى الإسكندرية، فدرس الأدب الإنجليزي في جامعتها، وحمله طموحه إلى القاهرة، ليختلط بمثقفيها، حيث عمل حينها بالنقد والصحافة، فانشغل بالشعر والمسرح، ودأب على الدرس بأناة وهدوء التراجيديات الهامة في عصورها المختلفة، كما وجد نبعا متدفقا في ألف ليلة وليلة، والسير والملاحم، لذلك لا يمكن النظر إلى مسرح ألفريد فرج بمعزل عن حركة التقدم في مصر، بدءا بثورة تموز وما أحدثته من متغيرات على الصعيدين المحلي والعالمي على السواء.

أنفاسبين تاريخ صدور بواكير دواوين محمد الطوبي، وصدور ديوانه: "غواية الأكاسيا"(1) ثلاثة عقود من الزمن تنقل فيها بين الهموم الذاتية، والهموم الوطنية بحكم تفتق وعي الذات المبدعة على ما كان يشغلها حينما كانت الآفاق مشرعة على المستقبل الحامل لبشارات الأضواء التي بدأ يخفت وميضها مع مرور الزمن، لتسلم الشاعر إلى نوع من الارتداد إلى هواجس الذات المهزومة التي تتجاذبها رغبات يومية بسيطة.
غير أن هموم هذه الذات المنهارة بحكم قساوة الواقع المر وفظاعته، لم تتخلص نهائيا من الأحلام التي كانت تؤرقه حين كان- مع رفاق له- يؤمنون بحتمية تحققها.
ومن ثم جاء ديوانه: "غواية الأكاسيا" نسيجا متساوقا مع هذه الأحلام.
وهي على بساطتها أحلام ثلاث.
1- أحلام الوطن المنزوع الهوية، الوطن المسروق.
2- أحلام الذات العاشقة لأطياف الأجساد المغسولة من صدإ النفاق والرياء الذي ملأ الدنيا.
3- أحلام التشرد والانصياع لغواية مملكة النبيذ.
والخيط الرابط بين هذه الأحلام الثلاثة التي تؤثث قصائد الديوان؛ هي الانخطاف تجاه سلطة العشق والغواية". فالحب في تصور الطوبي لازال ممكنا ولم تنطفئ ذؤاباته في الروح بعد. وهذا الإيمان بالعشق هو ما يدفع الشاعر إلى مقاومة الحزن واليأس.
" أنا أحببتكم
الحب لا يزال ممكنا
لم تنطفئ ذؤاباته في الروح بعد.
لكن فليكن انه لن يؤرقكم أكثر،
كم لا أريد أن أحزنكم بأشيائي"(2).
ويشكل هذا الإيمان بالعشق التيمة الكبرى المهيمنة على جل قصائد هذا الديوان كما سيتضح لاحقا.
1- أحلام الوطن المنزوع الهوية، الوطن المسروق:

أنفاسلم أكن أحسب أنني على موعدٍ باذخٍ مع كل هذا النقاءْ , وهذه الأصالة التعبيرية التي ذكرتني بالشعراء العذريين العرب أو بأقرانهم الأبطال العشّاق في القرون الوسيطة , ولكن .... أن تجد شاعراً حقيقياً بكلِّ ما تنطوي عليه الكلمة من مغزى ودلالة , ومتواضعاً ونبيلاً كطيران الفراشِ الأنيق إلى سدَّةِ الحلمِ , في هذا الوقت بالذات , فهذه نادرةٌ قلمَّا يجودُ الزمن البخيلُ بمثلها .
حتى أنني عندما أهداني الشاعر ديوانيهِ الأخيرين الصادرين عن مؤسسة الأسوار بطبعةٍ أنيقةٍ مخمليَّةِ الطراز, وهما " تضيقُ الخيمةُ يتسِّعُ القلب" و" الكتابان :ويبدأ بالأوَّل وينتهي بالثاني" تيَّقنتُ أنني أقفُ على كلمةِ الشاعر وبيت قصيدهِ , ولم أتفاجأ أبدا من حجم الطاقة النورانية والزخم الشعوري المنفلت منهما .
الديوانان عبارةً عن سجلَّين للندى, والأزهار, والتراب المعشوق, والضبابِ الطفوليِّ الناعسِ في ظلال أشجارِ اللوزِ والزيتونِ والسنديانِ , وعن سمفونيَّة عشقٍ لا تحاول المآلفة بين فوضى حواسها ومشاعرها , بينَ الحسيِّ والمجرَّد .
لم أكدْ ألمسهما حتى انبثقت من أصابعي الأنهارْ , وخفَّت في القلبِ المذبوحِ بسيفِ اشتهاءٍ شتاءٍ بعيدٍ , كلُّ العصافير المُلوَّنة بألوان الفرح الخفيِّ والغناء, والنجوم الخريفيَّة المبتلَّة بدموع كيلوباترا وليلى وجولييت والزا وفاطمة ومي .
كيفَ لا وأنا على موعدٍ مع كُلِّ هذا الإحتفاء بالجمال والأنثى والحبقِ النسائيّْ؟
كيفَ لا ...... وأنا على موعدٍ مع مملكة النقاء الأبجديّْ؟
ما أن بدأتُ بالقراء المتأنيَّة التي ينبغي أن يُقرأ بها شعرٌ في مثل هكذا حجم , حتى انزاحت الحُجب والستائر عن ذاكرتي المثقلة بعشبِ الصحراء, وعن الديوانين, وتأكدَّ رهاني من جديدٍ على صاحبهما, رهاني الذي بدأتهُ منذُ سنين عديدة وأخذَ ينمو رويداً رويداً حتى اكتملَ اليومَ بدراً مبينَ النورِ والهالةِ في سماءِ شعرنا العربي الفلسطيني , وأظنُّ أن الناقدة والشاعرة الأمريكيَّة "إميلي ديكنسون كانت محقَّةً عندما قالت أنَّ أجمل الشعر في نظرها ذلكَ الذي تقرأهُ فتحسُّ أنَّ قمة رأسكَ قد أُنتزعتْ من مكانها , أظنها لم تكن تعني الاَّ شعراً كشعر حسين مهنا , ذلكَ أنَّ شعر حسين مهنا ينتزعُ قمة رأسك وقلبكَ وأحاسيسكَ معاً وفي لحظةٍ ضوئيةٍ واحدة, أو هو كالمغناطيس الهائل الذي يجذبكَ الى ذاتك الجميلة الأخرى, أو أشبه بغناءِ الأمازونيات في الأوديسة, ذلك الذي لا يختلفُ كثيراً عن النغمةِ الشجيِّة المتدافعة بحرارة من أقصى قلبِ شاعرنا وكأنها بركانٌ احتبسَ طويلاً , وها هو يتكأُ اليومَ على قريحةٍ سيَّالةٍ تجددُّ أشياءها باستمرار وبهجة . وتشحذُ ذاكرتها الايروسية وذائقتها الرفيعة المتجددَّة بالبلوَّر النسائيِّ الناصع الرهافة والحساسيَّة والصوتْ .

أنفاس1-  مدخل :الإبداع يصنع المعجزات
يتطلب الإبداع  من النفس المعاناة والمكابدة والتأمل ، لتقديم صورة مركبة ومؤلفة تأليفا ،يميز مبدعا عن آخر ،وللمبدع دور في النصوص من حيث كيانه النفسي والاجتماعي والثقافي ،لذا فهو  لا يكتب من فراغ ،دون حافز قوي يترجم عبر اللغة ما يخالج الذات ،بل من  حمولة ثقافية متراكمة  ،فتصبح لديه طقوس وأدوات ينفرد بها عن غيره ..إن الإبداع هو استحضار لحظات التأمل والانفعال والشعور ،حيث تترتب المعاني في نفسه على نحو متسق ، ومنسجم ، فيتشكل  شفويا في اللغة وفي الصورة الجمالية ،قبل أن يخرج إلى النور لغويا في شكله النهائي ..وهذا هو السر في اختلاف قيمة النصوص الإبداعية ، على الرغم من تقاطع بعضها في توظيف ألفاظ موحدة ..ومن هذا المنطلق ،سأتناول مجموعة المبدع علي أفيلال القصصية ،المعنونة ب"أفعى في صدري "انطلاقا من الجانب النفسي ،أي التجربة التي عاشها الشاعر في كل نص من نصوصه ،والجانب اللغوي والفني والتركيبي والصياغي ،لإبراز إلى أي حد ،استطاع هذا المبدع، شق طريقه في عالم السرد القصصي ،وهو معروف عليه شخصية روائية محضة...
2-  علي أفيلال ظاهرة ثقافية
عرفت شخصية علي أفيلال خلال المعرض الدولي لسنة 2008،وكنت أجهله تماما كما أجهل إبداعه ..وقَدّمَ إلي نفسَه بصفته حلاقا ،غاص في ترعة الأمية حتى سن 24 من عمره ،لم يعرف فيها المدرسة ولا حتى الكتاب ...وحين نبشْت الترب ،طلعت جواهره تضرب بأشعتها النظر ..ظاهرة إبداعية صرفة فرضَتْ نفسها بقوة في المشهد الثقافي ، أثمرت كنوزا متنوعة لألاءة ،لكن ، تغمرها تلال الإهمال ..ولاأدري بعد، ماسِرّ إهمال  أديب من العيارالثقيل ؟،و الذي قارب أل 20 إصدارا مابين روايات ،ومجاميع قصصية ،تضيق المساحة لاستعراضها هنا ، وسأقتصر على بعضها :
بوح العواصف :رواية
وشم على جدار القلب :رواية
اعترافات امرأة :رواية