في البدء ، لا بد من الاعتراف بأن النصوص التي تحرّضني على اقتراف خطيئة الكتابة الأخرى قليلة ونادرة.. ولعل كسلي في كتابة ما يسمى بــ (القراءات العاشقة)، والاكتفاء بالتلصص على نصوص الآخرين من بعيد، يعزى إلى عدوى خمول النقد.
محاسن الحمصي كاتبة أردنية تؤسس- بصمت، وبلا ضوضاء- مملكتها السردية الخاصة. خبرت كتابة المقال السياسي والأدب الساخر والخواطر، ومؤخرا اتجهت إلى مملكة السرد الغاوية..
قصة :" ويطول الدوار...!" تكشف زيفَ واقع بائسٍ، مازالت تعاني فيه المرأة من معاملتها كجارية مما ملكت الأيمان.. دون أن تسقط كاتبتنا في فخ توظيف كلمات تدغدغ مشاعر رخيصة لدى القارئ!!
سرد يفضح سلوك الرجل الشرقي، وتوقه إلى احتواء بقية الأجساد، وفي المقابل يطالب قرينته بالإخلاص...
على لسان البطلة كتبت المبدعة محاسن الحمصي :
" ملف جديد ، أراه لأول مرة، تعبث يدي به عن غير قصد ، يغلي التوتر في أعصابي ، ويتسلل إلى صدري الخوف .. إنه ( حدس ) المرأة !
صور ..
صور ..
صور نساء ماضِيهِ ، وبأوضاع حديثة .. السمراء والشقراء ، الجميلة والقبيحة ، النحيلة والبدينة ، جمعها في ملف وأخفاها عن عيني؟؟
لم تمض أسابيع على آخر نزوة ..!!
- تخبرني أنك دفعت ثمن ساعة مع ( ....) تلامس اللحم الحرام لتثبت وفاءَك ؟
- لا أخفي عنكِ حقيقة ، أجل حاولت .. وعدت إلى عشنا الهاديء أكثر حبا واقتناعا أنك الأطهر ،الأنقى ، والأجمل" ...
لكن الساردة لا تكتفي بالسلبية والصمت الانهزامي خوفا على عشّها، وحتى لا تـُشهرْ في وجهها البطاقة الحمراء،بلغة حكام كرة القدم.. بل تدافع عن حقها المشروع في الحب والوفاء أيضا:
وهاهو اليوم يجمع عشيقاته في ملف ..!
يدخل بعد تعب نهار، أتماسك، أستقبله بابتسامة مرسومة ، أضمه إلى صدري ، أقبل كفيه، وبركان الغضب يفور في دمي، يكاد يأخذ كل قوة استمديتها بالدعاء ، أترك الكلام له.. يحكي.. ويحكي.. يثرثر.. يضحك.. أتابع حركات أصابعه ، يديه ..
يتوقف برهة ، مشدوها: ( فتحتَ ملفا جديدا ؟).
يداري ارتباكه:
- أجل فتحته بالأمس ، أين المشكلة ..؟
- والصور ..؟
- يا الله !كم أنت حساسة وغيورة! هي صور من ماضٍ فات .. مات .. انتهى ..
- لكن الصور حديثة، لمَ أضفتها ؟ هل عدت إلى الحنين ؟
لا... لم أحــنّ.. لكني أمارسُ هواية البصق الجنسي على هولاء العاهرات.. وأحمد الله على كنز ثمين يجالسني ، يحبني ، يخاف عليّ ، يحفظ اسمي ، ويتسع قلبه لجنوني ونزواتي.. وأنتِ؟ أليس لك أصحاب في كل مكان، تتلقين اتصالاتهم عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني ، وأسمح لك ؟..
- الفرق أنهم أصحاب لم أشاركهم نبضا ، حبا أو حياة. أنت سمحت لي بالصداقات لأنك تدرك أني لا أملك ماضيا (مسموما ) وتعرفهم جميعا.. لم أخفِ عنك علاقاتٍ أخوية ، عاطفية ، زمالة ، قدمتُ بثوب ناصع ليس فيه ثقوبا.. وأنت تتابعــني بعيون مخابراتك وعملائك وعسسك، كيفما استدرت ..!
- أغلقي الموضوع ، وتعالي لأحبك أكثر .. وأنسى."!..
لكن هذا الوئام سرعان ما يتلاشى، ويتبخر في الهواء:
" مساء السبت الأخير..!
ليلة نهرب فيها ، نختبيء في كهف اكتشفناه على ضفاف نهر الحب، نوقد نار الكلمة ، ننقش على الصخر وجه الأمل ، نركب بساط العنفوان ، نلاحق النجوم ونعبر التخوم ، ننام تحت ظل القمر ..
صحوت على يد خشنة تجذبني ، تسكب على رأسي دلو ماء ، تلقيني ، يتبعها صوت صارخ :(ابعتدي عني ) ..أكرهك ، دمرت حياتي مذ ارتبطت بك.. كلكن (عاهرات قذرات) تركضن وراء (...) ومعسول الكلام .. دعيني أيتها (الزانية ) المخادعة ، الكاذبة ...
- حبيبي ، مابك ؟ ماهذه الاتهامات الجائرة ؟..
يدفعني و يغلق من دوني الباب .
أقف في الشرفة. صقيع برد الشتاء يخترق عظامي والهواء يلسع وجهي ، موسيقى الحزن تصدح في أذني ، فتصطك أسناني وأبكي . أي ذنب ارتكبت؟ أين أخطأت ؟ ماذا فعلت ؟ (خيانة ) ؟؟ وأنا التي تعيش في محراب الصدق والوفاء ، أفديه بروحي إن قال: آآآآآآه !!
ليس مخمورا ولا يتعاطى حبوبا ، لكنها ( هلوسة ) لا يحتملها حتى المريض والمختل ..!
كم شارعا عبرت ومنعطفا طويت ، كم ساعة مشيت ، كم دمعة ذرفت تحت المطر ، وكم من الوقت استغرقني طريق العودة..؟
كقطة مشردة أنفض الماء ، ألعق فروي ، أتسلل نحو دفء خيمتي ، بيتي العتيق ..! " .
الجميل في نصوص القاصة محاسن الحمصي أنها لا تكتفي بالوصف الخارجي البارد والسرد السلبي الرتيب، بل تجعل قارئها يشارك وجدانيا بطلاتها الحزانى أتراحهن، ويلامس جراح أعماقهــن.. و اللافت للنظر أن تجربتها الأدبية تكاد تتماهى - شكلا ومضمونا - ونصوص كاتبتين سوريتين، هما: ماجدولين الرفاعي ولبنى ياسين..
هذه هي رسالة المبدعـــ (ة) التي تـتوق إلى بناء مجتمع مثالي، فالمرأة هي كل المجتمع وليست نصفه فقط ، و كل بطلاتها تكابدن القهر النفسي جرّاء هذه الخيانات المتكررة من الزوج/ الحبيب...
في قصتها: "رسالة من امرأة" ، تتألم الساردة و تفكر في الخيانة لرد اعتبارها ، لأن حبيبها لم يقاوم رسالة إعجاب، فتهيم على وجهها في الشارع، وكاد يــُقضى عليها في حادثة سير، وتعود للتطهر والاغتسال بالماء والدموع... لمجرد أنها فكرت في الانتقام.. لأنوثتها الجريحة، وأعزّ ما تملك المرأة كرامتها /شرفها... وفي هذا النص تتردد - أكثر من مرة- كلمة الماء و مشتقاتها: أمطار،دموع... وهي إشارة واضحة إلى حاجتها الملّحة إلى التطهر/ النقاء.
على لسان بطلة (رسالة من امرأة) تكتب محاسن الحمصي :
" لا.. لا.. لن أبكي على كتف رجل يمسح دمعي مقابل حفلة (زنا) وتدنيس جسدي المقدس غير القابل للبيع ولا (...) لتجارب فئرانية أو ينحدر إلى مستنقع الطين ."
لكن قلبها الكبير لا يملك غير الصفح عن أخطاء الرجل:
" أحدق: هذا الوجه المتألق من أين جاء .. تلك البسمة الرقيقة متى عادت .. الطفل الذي يقفز فوق سريري , رفوفي, كتبي , يبعثر أشيائي .. ينبش دولابي, يبعثر أشلائي من تحت أيّ شرفة تسلل .. تسلق.. واستراح ...!؟
ذلك القلب الحنون.. يستقبلني بلمسة رجاء , وصوت يمزق السكون , يعلن التوبة ويهمس: "أحبك أنت.. تعالي ..تعالي .. نغسل الذنوب".
أمدّ يدي .. أحضــــــن (الهواء ) وأطير ..!! ".
هذا في أولى قصصها القصيرة (رسالة من امرأة)، وفي النص الذي بين أيدينا- موضوع هذه الورقة- تختار الساردة حريتها:"الطلاق"،أبغض الحلال عند الله.. رغم بشاعة هذه الكلمة في مجتمع شرقي ، ينظر إلى المطلقة كــ (وصمة عار)،و يجعلها مشجبًا يعلق عليه كل عقد وأخطاء مجتع شرقي ذكوري نفعي وصولي ظالم...
بضمير المتكلم دائما تكتب قصصها، والذي يتيح فرصة أكبرللبوح،والغوص في الأعماق وسبر أغوار النفس الكسيرة:
" تدخل أختي الكبرى تحمل أوراقا بيضاء ، تبتسم بحنو مفتعل ..
- الأميرة استيقظت بعد خمسة أيام .. حمدا لله على سلامة العودة من رحلة الموت ..
تضع الأوراق ، تسحب أمي بغمزة ، أبقى وحدي .. وأتصفحها، أغوص بين السطور:
اعتذار بشتى لغات العالم ، أحلام ، آمال ، مستقبل مشرق ، أموت إن ابتعدتِ ، أنتحر إن غبتِ ، أحبك حتى آخر رمق ..!
أكتب نعم في الورقة الثانية ، أشتري كرامتي ، أوقع على حريتي ، أوافق دون قيد أو شرط على كافة البنود المرفقة في قسيمة ( الطلاق ) .. يرتعش جسدي ، أتقيأ أيام عام ، أحضن اكتئابي ، ويطول الدوار ...!".
و أخيرًا وليس آخرًا.. نتمنى أن تطلق الأستاذة محاسن الحمصي سراح نصوصها الجميلة في أقرب فرصة و(بلا كفالة!)، تحررها من أسرها و نراها بين دفتي كتاب، لأن مثل هذه القصص الشجية صارت ملكـًا لقرائها وقارئاتها.
نتمنى ألا (يطول) انتظارنا كهذا (الدوار).
ولنا عودة لقراءة نصوصها المتسلسلة: " قصص في حجم الكف" قريباً.