أنفاسالشعر ُفنُّ العربية الأول، وأكثر فنون القول هيمنة على التاريخ الأدبي عند العرب مقارنة بالخطابة والنثر والسرد ولعل هذا ما عناه ابن عباس في مقولته الشهيرة " الشعر ديوان العرب"  للدلالة على أهمية الشعرعند العرب وتمجيد ما أبدعه الإنسان من الشعر، خاصة أنه حافظ لتاريخ العرب وأيامها وعلومها المختلفة ويُعدُّ وثيقة يمكن الاعتماد عليها في التعرُّف على أحوال العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم دون إخراجه من دائرة الفن إلى دائرة أخرى. 
 
    هذه المقولة كررها الكثير من النقاد القدماء وأكدوا سلطتها حين قالوا "((كان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون)) ابن سلام طبقات فحول الشعراء . ((الشعر معدن علم العرب، وسفر حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيامها )) ابن قتيبة، عيون الأخبار. ((الشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها)) العسكري، كتاب الصناعتين. ((الشعر ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، وتعلمت اللغة)) ابن فارس الصاحب.

   يتميز الشعر العربي عبرعصوره المتلاحقة بعلاقة الإبداع الشعري بالموسيقى من خلال الايقاع الشعري وبتكونه من مجموعة ابيات, كل بيت منها يتألف من مقطعين يدعى أولهما الصدر وثانيهما العجز وهذا النوع من البناء عرف بالشعر العمودي .
 
    كان الشعر العمودي هو الأساس المعتمد للتفريق بين الشعر والنثر بحيث يخضع في كتابته لقواعد الخليل بن أحمد الفراهيدي وهذه القواعد تدعى علم العروض. ويعرف علم العروض  بأنه علم بمعرفة أوزان الشعر العربي، أو هو علم أوزان الشعر الموافق أشعار العرب . مما حدا بالبعض فيما بعد لنظم العلوم المختلفة المستجدة في قوالب عمود الشعر، كألفية بن مالك وغيرها، وذلك استغلالا لما تألفه الأذن العربية من الإيقاع المنتظم ، مما يجعل تلك المنظومات أسهل للحفظ  والاسترجاع من الذاكرة ، ولكنها بذلك ، ولذلك بالتحديد، خرجت من دائرة الشعر إلى دائرة النظم ، أي إنها افتقدت الفاعلية الجمالية التي تميز الشعر عبر أدواته المختلفة،  التي لم يكن عمود الشعر إلا مظهراً من مظاهر الشكل الفني غير جوهرية وبهذا فقدت روح الشعر مع أن المعلقات قصائد عمودية نظمت بأوزان الشعر العربي دون ان تفقد روح الشعر وجمالياته الإبداعية بأبعاده الفنية والفلسفية والتي تعد أشهر ما كتبه العرب في الشعر ، وقد قيل أنها سميت معلقات لأنها كانت تعلق في أطراف الكعبة لشهرتها وكتبت بماء الذهب وقيل أيضا أنها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة تعلق بالأذهان.

أنفاسالفن الروائي :
هل تعتبر الأشكال السردية الحكائية القديمة أنماطا روائية تراثية بمقياسنا العربي الأصيل، لا بمفاهيم الرواية الأوربية الحديثة ؟ هذا سؤال مؤجل ، إنما تجدر الإشارة إليه للتأكيد على أن السرد ليس غربي الجنسية بالضرورة، بل يمكن تلمس كثير من خصوصيات السرد المعاصر في خطابات الحكي العربي في العصر الوسيط خاصة ، سواء في الشرق أو في الغرب العربي.( كليلة ودمنة ، ألف ليلة وليلة، حي بن يقظان، ، ورسالة الغفران).
ولعل اختلال توازن العلاقة بين قوة وضعف، بين ريادة وتبعية ، على المستوى السياسي والاقتصادي والعلمي ، كانت وراء تنامي الإحساس بالانفصال عن التراث الأدبي والفني القديم ، بما يشكله من مصدر إبداعي و إشعاع ثقافي مرتبط بالهوية والذات ، ومعبر عن الرؤية للعالم والوجود، فحدثت القطيعة الإبداعية والانفصام على مستوى التخييل الحكائي والإبداع السردي.
إلا أن الرواية كفن أدبي ، ما زالت حتى في الغرب نفسه ، تثير خلافات حول تعريفها ، تطورت أكثر مع ظهور نظريات التجنيس الأدبي والتي وصل بعضها إلى إلغاء الحدود بين أشكال النثر الفني ، بل وبين النثري و الشعري أحيانا ، فعادت إلى الواجهة أبسط تعريفاتها ، والتي ظلت تعتبرها عملا أدبيا نثريا ، يستسيغ تقديم صورة دينامية للعلاقات الإنسانية المتشابكة داخل مجتمع ما ، في اتجاه تمثيل الواقع الحقيقي أو المتخيل ، عبر مرآة تفسر ذلك الواقع بقدر ما ترسم ملامح آفاقه ، بعد رصد مختلف مظاهره والنفاذ إلى الخفي من العوامل المتحكمة في وجوده ، بحثا عن الارتقاء بالصراع إلى مستوى التعبير عن حاجات وضرورات التواؤم والتناسب مع الذات والظروف ، من منظور المؤلف الروائي و رؤيته للعالم.
ثمة إجماع أولي على ربط البداية السردية باللغة العربية ، بأوائل القرن العشرين،  مع رواية" زينب" لمحمد حسين هيكل، ذلك أنها شكلت في بنيتها الفنية و المضمونية ، امتدادا للرواية التاريخية والرومانسية والواقعية ، كما قدمها الرواد من فلوبير و زولا و بلزاك و دويستفسكي.  قبل أن  تظهر أعمال قصصية وروائية، متأثرة بالرؤية الغربية للسرد ، ومنشغلة بتياراتها الفنية المرتبطة أساسا بتطور الوعي وتغير المجتمع الأوروبي أو الأمريكي، وما عرفه العالم من تحولات منذ الحرب العالمية الأولى .

أنفاسللعمل الشعري في رأي فايز خضور مدلول جدلي بين الحياة و الموت لأنه البديل الموضوعي للموت :
" الشعر بالنسبة لي ذو مدلول جدلي مرتكز على علاقة الحياة و الموت، و الموت بالحياة، و بصورة أدق بالنسبة لي البديل الموضوعي عن الموت انتحارا، و لذلك تراني مستمرا، و استمراري مستمد من عذابي في الحياة و الآخرين" 1.
هكذا يقدم فايز خضور نفسه كشاعر الموت الذي تنبثق منه الحياة كما ينبثق طائر الفينيق من رماده، و طائر الفينيق رمز تناوله الشاعر كثيرا في دواوينه الأولى، و وظفه توظيفا لخدمة فكرة محورية عنده : الموت و الحياة، الخصب و الجدب.
و قد قاده هذا الانشغال بالموت و الحياة على العبثية؛ و الإيمان بأن كل شيء باطل؛ و هذا ما يعلنه في قصيدة بعنوان : " ملحق لسفر الجامعة " :
تكبرين ؟ فاهمس في أذن الريح
يا امرأة -
باطل، باطل كل شيء
و قبض الرياح، كقبض النساء........!!"
و عبث فايز خضور عبث وجودي منبثق من ثنائية الموت و الحياة، و هو عنده قصدي كذلك، إذ أن الشاعر يعني عبثه و يعيه و يمارسه على ضوء العقل.
و العبثية كانت نتيجة مرارات الشاعر و خيباته المتلاحقة في تحقيق طموحاته،     و لقد عبرت هذه المرارة عن نفسها بقسوة و حرارة في ديوانه : " و يبدأ طقس المقابر ".
وفيما يتصل بالشعر وطبيعة علاقته بالجماهير، يوضح فايز خضور : " إن الجماهيرية كلمة ذات مفهوم مطاطي، و مدلولات كثيرة غائمة في معظم الأحيان و متباينة لدى معظم البلدان و الشعوب و العقائد و الأيديولوجيات فعندما قيل قديما :
 " الشعر ديوان العرب " كان هذا بديلا تقريبا لما نسميه الآن وزارة الأعلام و ملحقاتها، و وزارة الثقافة و تفريعاتها، و الآن ألا ترى معي أنه من الظلم أن نحمل الشعر هذه التبعة و نرهقه بهذا العبء ؟ فالشعر برأيي لم يخسر جمهوره الفعلي الكيفي،  و إن كان قد تقلص جمهوره الكمي هندما كان يشترك مع الخطابة في الإيصال، لأنك ترى الآن ما يسمى بجمهور المسرح و جمهور السينما ز الرياضة الخ... و هذه الجماهير كلها من تداخلها و تراكبها و بنسب متفاوتة تبقى لها استقلاليتها الذوقية من حيث إشباع ميولها اتجاه تلك الفنون، و في تضاعيف تلك الفنون و الميول لابد من حضور الصادق   و المحتال " 2.

أنفاسقبيل حلول السنة الميلادية الجديدة  بأسبوع واحد، رزئ الشعر العربي في رحيل هامة من هامات الشعراء الستينيين في سورية وهو لم يزل يطوي الحنايا حول سر الحلم، ويعد منزويا ما تجمع لديه من الجراح بعدما أتعبه الركض الذي لم يغنم منه سوى المعذرة، أليس هو من قال في قصيدة" الطاووس"
ركضت إليك كي ألهيك، كي لا تسألي الخيلا
لئلا تسمعي قول الذي شهد الوقيعة
أنني قد حضتها طفلا
وأن غنيمتي كانت بها ذلا
ومعذرة
أريدك أن تظلي الدهر جاهلة بما حلا
قفي... ولتقبلي ذلي
وفي أفيائه عيشي
لأني كنت طاووسا
وقد عريت من ريشي
لقد ترنح "طاووس الشعراء" بعدما عري من ريشة في عتمه من تغاضي العيون وهو يعاني من مضاعفات المرض اللعين، دون أن ييأس أو يصمت لأنه كان موقنا بأن فجائع عمره أكبر من أن يغلفها الصمت، فظل يسرق يومه وينابيع شعره تتدفق بعناد.
لقد ارتبط صوت ممدوح عدوان الشعري منذ أول ديوانه له، بقضايا الأمة العربية، بهزائمها وانتكاساتها، بآلامها ومواجعها. وقد كان لأثر هزيمة حزيران 1967، السبب المباشر في ظهور أول مجموعة شعرية له، وهي: "الظل الأخضر" ثم توالت بعدها دواوينه الشعرية، إلا أنها ارتبطت بسلسلة من القضايا القومية والوطنية والاجتماعية.
إن كينونة النص الشعري عند عدوان هنا تتحقق على وثر مشدود بين:
الإطار الذي ينطوي على الحقائق والروافد السابقة للنص.

أنفاسمنذ صدور الديوان الأخير للشاعر المبدع بنسالم الدمناتي إلى اليوم، لم أعثر فيما أتصفح من دراسات ومجلات وملاحق ثقافية لجرائدنا على ما يمكن أن ينصف هذا المبدع، أو يجلي الدور الطلائعي الذي نهض به من أجل إرساء معالم القصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة.
وهذا لعمري جحود من طرف نقادنا لا أجد له من مبرر سوى آفة النسيان التي ألمح إليها الدمناتي في ديوانه: "واحة النسيان".
نعم، أنا أحترم مواقف الشاعر وقناعاته حين يفضل أن يبقى بمنآى عن الأضواء، معتكفا في محراب إبداعه متمسكا بخجل الناسك سابحا في مملكة الجن – على حد تعبيره في قصيدة: "مأدبة الأفعال".
إلا أن فضيلة الاعتراف بمن صنعوا مجد القصيدة المغربية الحديثة دين يجب أن يرد إلى أصحابه – وإن جاء بعد فوات الأوان-.
من هذا المنطلق أرى أن تكريم صاحب مأدبة الأفعال والذهب الشفاف واللهيب الأحمر، الشاعر الموهوب الذي اكتوى بأوجاع آلام الحطيئة وأحزان كامب ديفيد، إنما هو امتنان ووفاء لمن ظل معتكفا في محراب مملكة الشعر يمتح من وادي عبقر طيلة خمسة عقود من الزمن ويزيد.
إن تكريم المتمسك بخجل الناسك؛ إنما هو دين كان على أعناق أجيال فتقت وعيها على أسرار الكتابة الشعرية حين كان بنسالم الدمناتي معلمها وأستاذها ومرشدها ومربيها بثانوية: "النهضة" في الحاضرة الإسماعيلية، قبل أن يرحل عنها ناشدا رحمة الله في أرضه الواسعة.
ولا بأس إن جاء هذا التكريم متأخرا بعدما بلغت شمسه عرض الحائط. وهذه مناسبة لنا جميعا أيها الإخوة الحاضرون كي نسأل الباري عز وجل أن ينعم عليه بموفور الصحة والعافية حتى يبقى لنا منارة نهتدي بها في خضم هذا الزمن الجاحد الكبير.
إن تكريمك اليوم أيها المفتون بفوانيس الفصحى- بمناسبة حلول اليوم العالمي للشعر- إنما هو تكريم لمن أعلن فروض الغربة والتشرد في ملكوت البهاء.
ألست القائل في قصيدة: "مذكرة من غربة الحلاج":
غريب
قصتي حمراء.. يكتبها المدى
ويتيه في ركبانها الشفق
...
غريب ما أعاني في الفؤاد أراه في

أنفاس 1- تقديم:
    لقد أخذ الحديث عن المكان في الشعر العربي أبعادا مختلفة، بحسب زوايا الرؤية التي عالجته من جهة، وبحسب الفهم الذي أنيط به من جهة ثانية،وبحسب المعارف الرافدة التي تؤثث الدراسة. وكل مقاربة للمكان من هذه المنازع إنما قدمت نتائجها الدقيقة التي أعطت للمكان ثقله الفني في البناء الشعري شكلا ومضمونا، حتى غدت مقولة المكان من الخطورة ما يجعلها موضوعة تتشعب إلى رؤى ذات طبيعة ميتافيزيقية، بعدما كانت تدرك فقط في الحدود الجغرافية والاجتماعية والنفسية. ذلك أن المكان في صلته بالذات المبدعة والمتلقية، يتخذ من الصفات المتشابكة ما يجعله من المقولات الأكثر تعقيدا على مستوى المعنى والمبنى. وأن فك هذه العلاقات يقتضي من الدرس التحليلي أن يسترفد سائر المعارف التي أنتجتها العلوم الإنسانية لفك ألغازه، حتى تفضي إلى الحقيقة التي من أجلها سيق المكان في الشعر موضوعا، أو إشارة، أو رمزا.
2-الموضوع، النداء والتلقي:
    فإذا كانت الدراسات الواقعية قد رأت في المكان " شيئا " يتحدد وجوده في إطار الواقع، بعين المواصفات الخارجية التي تمتلكها الأشياء، فإنه في الدرس النفساني يستحيل إلى " تمثيل" و " تصور " وكأن المسألة عند هؤلاء تفترق عن الشيء الغفل ذي المادة الصلبة، إلى لون من التصور الذي يحدث على مستوى النفس فقط، حين يجعلها تتمثل من خلال المكان جملة من الأحاسيس والمشاعر التي ربما أثارها المكان بمحمولاته التذكُّرية، التي لها صلة بالذات في لحظة من لحظاتها السالفة. والتمثيل يحيل المكان على عملية القلب التي ترتفع بالمكان من الوجود الفعلي إلى الوجود المتصور في أعماق الذات. فليس القصد من ورائه عرضه موضوعا جماليا، بل الغرض في اعتباره محولا يمكِّن الذات من التقاط المشاعر والأحاسيس، مما يفيض عن المكان، وهو يندرج ضمن البناء الفني عموما. فإذا آنسنا من الموقف الواقعي تطرفا في التعامل مع المكان، تطرفا يجعله شبيها بأي شيء آخر.فإن التطرف عينه نلحظه عند النفسانيين وهم يحاولون جعل المكان مجرد تمثيل، تُسلب منه خاصية الموضوع المستقل بذاته، ليكون أيقونا على إحساس ما يعتم في أعماق الذات.

أنفاسمنذ ظهرَ الديوان الأول للشاعر محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر" عام 1959، ثم ديوانه الثاني: "غرفة بملايين الجدران" 1960، و"الفرح ليس مهنتي" عام 1970، كان الماغوط قد رسخ بقوة أسلوباً شعرياً جديداً من حيث الشكل والمضمون.. لقد كتب الماغوط المسرحية، والزاوية الصحفية، وكتب للسينما وللتلفزيون كما كتب رواية "الأرجوحة" إلا أنه في كل كتاباته ظلّ الشاعر الذي لا يمكن النظر إليه إلا من جهة الشعر!..‏
لم يكن شعره أنيقاً ولا متأنّقاً، بل كان شعراً غاضباً، شرساً، معفّراً بالحزن والقساوة ومغمساً بماء الحياة الآسنة والعذبة، لقد صور الماغوط نفسه في شعره مرّة كطفل متشرد جريح أو كفأر مذعور، ومرّة كوحش قادم من بيداء موحشة أو من خرائب لا وجود فيها سوى للعواء ونداءات الضواري. شعر الماغوط مليء بالمفارقات والمتناقضات سواء على مستوى الصورة الشعرية، الذهنية أو السيكولوجية للشاعر. ولكن الصورة الآخاذة التي تستهويه دائماً هي صورة البدوي أو الهمجي غير المتحضر الذي يهزأ بالمتحضرين أو الفلاح الساذج البريء القادم إلى عالم المتمدنين بارتباك حيناً وبصلافة حيناً آخر... وبين هذا وذاك برزت صورة المتسكّع على الأرصفة والعابر أمام واجهات المحلات والمقاهي وكأنه وباء يهدد بلادة الأثرياء والميسورين، فكان هجائياً، متهكماً، نافراً:‏
"نزرع في الهجير ويأكلون في الظل‏
أسنانهم بيضاء كالأرز‏
وأسناننا موحشة كالغابات‏
صدورهم ناعمة كالحرير‏
وصدورنا غبراء كساحات الإعدام‏
ومع ذلك فنحن ملوك العالم..‏
بيوتهم مغمورة بأوراق الخريف‏
في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص‏
وفي جيوبنا عناوين الرعد والأنهار".‏

أنفاسما كادت سنوات العقد الثالث من القرن العشرين تستقر في تونس حتى  أصبحت النصوص الشعرية المنشورة وقـتذاك تشتمل على أصناف عديدة من الشعر العمودي ، إلى الشعر المتحرر من النمطية العروضية ، إلى الشعر المنثور  ذلك الذي اِقتبسه بعض الشعراء التونسيين من مدونة شعراء المهجر ومن الشعر الفرنسي خاصة و لكن ذلك لم يتجاوز المحاولات الفردية ومن حين إلى آخر فحسب ، ولقد كان أبو القاسم الشابي واعيا بتلك المسائل الشكلية في الشعر منذ البدايات الأولى له في النشر حيث أنه أرسل إلى صديقه محمد الحليوي في حاشية رسالته الثالثة قائلا خاصة :
( سألتني عن مجلة سعيد أبي بكر و هل أن الداعي إليها مادي أم فني و أنا لا أدري على التحقيق كيف أجيبك و بماذا أجيب إذ كل مبلغ العلم عندي هو أنه تولّى إدارتها الفنية أعني إدارة التحرير و أنه تسلم مني قطعة من الشعر المنثور عنوانها ـ الشاعر ـ تحت عنوان أكبر أود أن اكتب تحته مواضيع مختلفة إن ساعد الدهر و أشفق الله و هذا العنوان هو : صفحات من كتاب الوجود ـ و أعلم أنني رأيته يصحح ما طبع من المجلة و من بين ذلك قطعتي )
        فنص الشابي الذي أدرجه تحت الشعر المنثور اعتبره ( قطعة) و تلك كلمة تدل على القصيدة أيضا و معنى هذا أن الشابي كان مدركا تماما للجنس الأدبي الجديد الذي سيواصل الكتابة فيه بعدئذ على صفحات مجلة (العالم الأدبي) التي كان يديرها زين العابدين السنوسي و هو الآخر يعتبر مثل سعيد أبي بكر من دعاة التجديد الأدبي و الفكري في الثلث الأول من القرن العشرين ، بل هو المحرك الفعلي للأدب التونسي الحديث في بعض الأحيان..
       إن آثار الشابي في هذا النوع من الشعر لم تلق العناية بالجمع و الدرس مثلما تسنّى لبقية آثاره الأخرى أن تحظى به و  لعل السبب في ذلك راجع إلى اعتبار تلك القطع- حسب تسمية الشابي نفسه من الشعر المنثور- مجرد محاولات أولى سرعان ما تجاوزها إلى كتابة القصيد العمودي ثم هو نفسه لم يجمعها مع شعره في ديوانه أغاني الحياة فظلت مبثوثة في  مصادرها الأولى و قلّما أشار إليها الدارسون باِعتبار صعوبة الوصول إلى تلك النصوص من ناحية و باِعتبار أن ذلك النوع من الشعر الجديد ، على تعدد مصطلحاته ، قد واجهته تحفظات شديدة لدى كثير من النقاد عل مدى فترة طويلة فالسكوت على نصوصه تلك في هذا النوع من الشعر ليس دائما موضوعيا أو لأسباب بريئة !!
       في سنة 1984 و بمناسبة خمسينية الشابي صدرت الأعمال الكاملة للشابي و قد تضمنت في الجزء الثاني منها نصوص شعره المنثور التي أمكن الوصول إلى جمعها و لكن دون تحقيق و من دون أن توضع تحت عنوان الشعر المنثور.