خبر لا يهم أحداً:
" بعد غياب طويل عن عالم الرواية يعود الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة إلى هوايته الأولى، برواية تصدرها دار العين بعنوان: "سُوناتا لـِتـِشْْرين"، كتب عكاشة في مقدمتها : " ... لم أستطع أبدًا نسيان الحب الأول وظللت متشبثا بالأرض التي شهدت فجر موهبتى.. وحرصت على بقاء انتمائي الأول لأصولي الروائية والقصصية... حيث يمارس الكاتب فيها حريته الكاملة ويتسع أمام فضائها غير المحدود.. وآليت على نفسي أن أكتب رواية أو مجموعة قصصية وأقدمها للناس كل عام.. وجاءت "سوناتا لتشرين" لتكون رواية هذا العام.. أقدمها وأنا ارتجف انفعالاً وخجلاً متسائلًا: هل يغفر لي قرائي غياباتي وندرة إنتاجى؟ أم تراهم يلتمسون لي شيئاً من العذر؟ أم سيؤجلون الحكم على ما بعد تذوق الثمرة؟".
وقد صدرت للكاتب ضمن روايات الهلال "جنة مجنون" في أبريل (نيسان) 2007"، كان هذا نص خبر أرسلته إلى بعض الجرائد التي أواظب على النشر فيها، لكن تبين لي لاحقا أنه خبر غير صالح للنشر، ولا يهم أحداً، ولو أن راقصة من الدرجة العاشرة تزحلقت وهي تخرج من الحمام.. لوجدت الخبر منشورًا في أقل من ثانية، في كل الجرائد والمواقع الصفراء والبيضاء والحمراء.. ناهيك عن اهتمام النقاد بروايات تكاد تكون مستنسخة، جلّها تتمحور حول الغرائز السفلى والعقد النفسية المترسبة في أعماق كتابها وقرائها، وعلائقهم المتوترة مع أعضائهم الحميمية..!!
حلم الفجر:
تبدأ رواية "جنة مجنون" بتوصل السارد - مجهول الاسم - بسلة زهور ورسالة قصيرة من صديق الطفولة "عاطف درويش".. " كيف يمكن للإنسان أن ينسى الطفل الأول؟ ذلك الذي عذبه وأرقه وأشقاه؟"، وقد كان صديقه قد حرم - مثله- من حنان الأمومة وفجع برحيل الأم في سنواته الأولى، وربما هنا يكتب أسامة أنور عكاشة عن ذلك الطفل يتيم الأم الذي كان.. فكان وصفه صادقا لمعانته النفسية، و نظرات الآخرين إلى هذا الطفل الذي " لا يأنس للأغراب ولا يستسلم لملاطفات الأقارب".
في حجرة المخزن المخصص للأشياء المستغنى عنها، والتي ستصير عالمه الخاص ، سيجد أشياء أبعـِدت عن الأنظار حتى لا تثير ذكريات ولا تجدد أحزانا،وألعابا قديمة وكتبا ومجلات..
عاطف رحلت أمه بعد طلاقها،وعاش مع جدته.. وصارت حجرة المخزن عالما موازيا " تتكون مفرداته من الأحلام ومن تمنيات لا يحققها الواقع "(ص8)، ويبدآن في تشخيص وارتجال أية شخصية علقت بالخيال.. كنوع من التعويض عن الإحساس بالنقص، أو ما يعرف بالإعلاء والتصعيد .
وليس من التعسف أن نقحم بعض المفردات الفرويدية، لأن "جنة مجنون" رواية سرد نفسي بامتياز، رواية سرد البوح والاعتراف، لكن لغتها تجنح إلى الشعر، وتحس أن في أعماق الأستاذ أسامة أنور عكاشة شاعرا مجهضا، وهذا ما يسميه النقاد بـ "شعرنة السرد"، كما يتجلى بوضوح حين وصف الكاتب اختفاء عاطف المفاجئ بسبب موت جدته، وانتقاله إلى بورسعيد ليكفله أبوه: " انقطع ذلك الخيط الحريري الذي جمع بين اليتيمين وانفصمت عرى صداقة صنعتها الأحزان المتساندة في بكور الفجر".
وبعد ثلاثين عاما...
ستبدأ رحلة أخرى، ورغم أني اطلعت على الرواية في صيف السنة الماضية، وجدتني أعيد قراءتها بنفس دهشة القراءة البكر، ويخيل إلى قارئها أن كل فصل (قصة قصيرة) مستقلة بذاتها، لكن الفصول/ القصص مترابطة،و تـُقرأ دفعة واحدة ... وهنا تتجلى براعة أسامة أنور عكاشة - مثلما في أعماله الدرامية- الذي يعرف كيف يشدّ المتتبع لأعماله من تلابيبه حتى آخر رمق.
وادي القمر الأخضر:
تلقى الراوي مكالمة هاتفية من عاطف معتذرًًا عن تقاعسه عن عدم السؤال، وصمم على إرسال سيارة لاصطحابه.. وفوجئ بأنها أشبه بسيارات أفلام سينما هوليود.. رفض في البداية، لكنه أذعن لعله يجد إجابات عن الأسئلة التي تحيره، ومعرفة سب إصرار عاطف درويش على دعوته.. وفي الطريق،تساءل عن سر تسمية المزرعة بوادي القمر الأخضر، وعلاقتها برواية "الأفق الضائع" لجيمس هيلتون.
رجل خلف الأسوار:
غرقا في تفاصيل غداء فاخر، وتساءل بينه وبين نفسه- ولأن الرواية نفسية يغلب عليها الحوار الداخلي والخواطر- عن أسباب هذا الثراء المفاجئ وعلاقته بتجارة أبيه، لكن بسؤاله نكأ جرح الطفل الذي لم يعرف غير الجدة أما ولا أبا.. و الأب عامله بفظاظة (بغض النظر عن نفور الطفل منه )، لأنه لم يستطع أن ينجب من بعده، ورغم إثبات التحاليل الطبية أن عاطف من صلبه بقي يعامله بقسوة.. وخلق بينهما حاجز نفسي، و كنوع من التعويض عن رجولته الضائعة شيّد امبراطوريته بكل الأساليب، وبقي عاطف بعيدا عن أعمامه المنفردين بالسلطة وتدبير الأمور، ولأنه الوريث الذي سيحرمهم من التركة، استندوا إلى شك الأب القديم وطعنوا في النسب، لكنهم خسروا القضية، وحين حاول أن يطهر الثروة، اعتقدوا أنه يبعثرها ويتصرف بحمق، لجأوا إلى الحجر عليه والزج به في مستشفى الأمراض العقلية.
غسق الذئاب:
أدرك محامي عاطف درويش أن موكله ليست به "جنة أو حتى طائف من جنوح" وآمن بحتمية الانتصار الأخير، رغم مشقة الرحلة، ونصحه بالصبر والتشبث بالإيمان، واعترف عاطف بأن المحامي هو " الصانع الحقيقي لأيامه الحالية"، الحلم بجنة درويش في قلب الصحراء الذي ولد بين جدران المصحة العقلية هروبا من واقعها المقيت المدمر للأعصاب.. وفي المصحة سيتعرف على أستاذ الأدب والنقد الدكتور محمد المعتصم عبدالله.
زيارة ليلية:
ارتجفت نبرات صوت عاطف وهو يتحدث عن ذات العيون البنفسجية.. نجاة، الشقيقة الصغرى لرفيق الليل والمحنة والعنبر، الذي تم الزج به في العنبر ظلما وعدوانا... ومات منتحرا بملاءة السرير.
النهار الغائم:
في هذا الفصل يكتب عكاشة عن التخاطر وتواصل الراوي وعاطف درويش في اليقظة والنوم.. كل تلك الوجوه وتفاصيل الأحداث تزوره في نومه الذي أحسه كأنه نام نوم عاطف، فاحتلت كوابيس عاطف وأحلامه عقله الباطن، وبقي مشغول البال بم حلم عاطف ليلتها ؟
سؤال بلا جواب، لأنه فوجئ بسفره إلى الإسكندرية(هذه المدينة الحاضرة - الغائبة التي يهيم بها أسامة أنور عكاشة عشقاً)، فأحس بالغضب، الإهانة، ورحل... وفي أعماقه يتساءل عن وجود أية علاقة بين رداءة أحوال الطقس وتعكر أمزجة البشر..
وتجمد في مكانه حين عرف من السائق بعد مغادرته أن عاطفاً لم يسافر إلى الإسكندرية، وأنها كذبة من أكاذيب كبير الخدم الثرثار.
المرايا المكسورة:
أحس بالأرق في فراشه رغم ألفته، فكر في اختفاء عاطف المفاجئ، وتناقض كلام السائق و الخادم الذي أسلمه لخواطر مسهدة.. ونام يومين متتابعين، حاول أن يوهم نفسه بأنه لا يتذكر تاريخ ذهابه إلى المزرعة، لكن لوائح الاتصال وتواريخها مسجلة على الهاتف.. واقتنع انه استسلم لما يشبه الغيبوبة، ولم يحس بالجوع ولا بالعطش ولا انتبه لرنين الهاتف.. عثر على رقم غريب اتصل به عشرات المرات، جرب الاتصال به، فكان رقم نجاة...
اتصلت به بصفتها زوجة عاطف وتريد مقابلته لأمر مستعجل.. وفي الملتقى، أقبلت عليه برفقة رجل عرف منها أنه شقيقها محمد المعتصم، فأخرسته المفاجأة..
وأبلغته أنها تعرف حكايا عاطف، وأنه في كل مرة يغيّر لون عينيها، وأخبره الدكتور محمد أنه كان في المصحة العقلية مشرفا على عنبر الحالات الخاصة، الحالات الموصى عليها.. و أن قضية عاطف درويش لم يحسمها سوى عمه الذي اختلف مع أشقائه، فهدم المعبد على رؤوس الجميع.
وهنا تتناسل أسئلة شتى في دواخلنا على رأسها : لماذا اخترع عاطف درويش قصة اضطهاد الدكتور محمد وانتحاره؟
بيت الخان:
سأل الراوي نجاة لم تقيم بعيدا عن عاطف وهي زوجته؟ فأجابته لأنها تحبه.. ودعته للبحث عن إجابات لأسئلته، فثارت ثائرته، واعتبر نفسه قد وقع ضحية مجموعة تمارس نوعا من ألاعيب الفراغ، ورد عليه الدكتور محمد
بأن نجاة طلبت مقابلته وجاء معها بتوجيه من عاطف، الذي يلعب كما قدر (الراوي)، ويشركهما - أحيانا- في ألعابه، لكنهما لا ينفذان إلا إذا أحسا أن ما يهدف إليه لن يمس أحدا بضرر..وعرف منه أنه يعاني من نمط نادر لم يتم تصنيفه ضمن مجموعات العصاب أو الذهان...إذ لا يشكو أعراض الأمراض، لكنه يصنع "نوبة الصرع" ويتحكم فيها وهو ما ينافي ما يعرف عن المرض، وكذلك تعلقه الهستيري بالتقمص.. من خلال ألعابه التي يفرض عليهما أن يلعباها معه، مثل شخصية عاطف درويش صاحب الجنة الرابضة في حضن الصحراء ، لكنه يتقمص شخصيات أخرى..
وأعطته نجاة ورقة كتب عليها: "خان الطواشية .. بيت درويش للفنون"، وفي ذلك المكان الآثري كان يجلس عاطف على السلم الرخامي في تقمصه الجديد.
ندوب الزمن:
استقبله عاطف بعناق حميمي حار استلم له، دعاه للتجول في بيته ذي المعمار الهندي - المغولي، ودعاه لاحتساء عصير فواكه من اختراعه.. وضايقه كلام عاطف أنه يسكن البيت منذ عهد الظاهر بيبرس، فتصنع البلاهة والحيرة، وقهقه عاطف، ورد عليه:
كدت أصدقك !
وغضب عاطف حين واجهه بأن "مسّا ألم به في المستشفى، وتخيل أنه عاش في البيت منذ عهد السلطان بيبرس"، واعترف عاطف بأنه أجريت له عملية جراحية لاستئصال ورم خبيث في المخ، وروى له حكايات وصل فيها خبله " إلى مفاصل مذهلة".. أنه عاش في زمان قديم ومكان آخر.. من حكاية البراهمة إلى التاجر الوافد من بر الشام الذي عاش في البيت الآثري الذي شهد نزاعا بين فرسان المماليك، وأحرقوا المكان وعذبوه..
الملاحظ في هذا الفصل أن عكاشة استخدم كلمات من التحليل النفسي، يبدو فيها بعض اللبس للقارئ الذي تعود على الحكاية المحفوظية، عكس نجيب محفوظ وروايته "السراب".
اليقين:
بدأ الراوي يفكر في أن النائم هو تاجر الحرير.. ونام في غرفة نوم متصلة بالحديقة والنافورة، استغرقته تفاصيلها، وسأل الخادم ذي الثياب الشرقية هندية الطابع لا سيما القبعة.. عن عاطف فكان جوابه أن أخباره لا يعرفها إلا السكرتارية، واستغرب لهذا البرتوكول المغلف بعبق التاريخ والأجواء الرومانسية، وخدم بأزياء خاصة بالليل وأخرى بالنهار..
تعرف إلى هالة رئيسة السكرتارية الخاصة بعاطف بك صاحب مؤسسة درويش لرعاية الفنون، بيت الطواشية.. وتجول بورشة تدرب الصبية والشباب على الصناعات الحرفية اليدوية بالغة الدقة ( وهذه الفكرة سبق أن تطرق إليها الكاتب في روايته التلفزيونية أرابيسك)، ووصلته دعوة من أحد الخدم للغداء مع عاطف، فتساءل بأي وجه سيقابله هذه المرة...
لكنه وجد مفاجأة مطابقة لما حدث في مزرعة درويش.
غفوة السندباد:
لقد اختفى عاطف مرة أخرى، وأحس بالمهانة، وطلب ورقة ليكتب رسالة لمضيفه.. وطلبت منه هالة أن يترك رسالة شفوية..
تعرف على الأصلع ذي الشعر المتهدل على كتفيه والشارب التتري الذي يغطي جانبي فمه.. مصور تشكيلي طاف عدة بلدان أوربية مصطحبا لوحاته... وعرف من أهالي البيت أنه يدخل حياة أصدقائه بالطريقة ذاتها...
وفوق سطح البيت الذي لا يجاوره غير مسجد السلطان حسن، جلس والرسام مع "شاهبور" وهو يعد شايا إيراني النكهة.. هذا الأذربيجاني الذي بلغ عقده الثامن، لكن الناظر إليه يقسم أنه لم يتجاوز الأربعين... كباقي أهالي أذربيجان الإيرانية " كلهم معمرون مخادعون لا يفشي مظهرهم حقيقة أعمارهم"(ص87). وعرج حديثهم عن السياسة، حيث هرب شاهبور من مذابح الانقلاب، وتشرد في أوربا، ومن إسبانيا هرب إلى المغرب ليقوم برحلة المتصوفة المغاربة القدامى شرقا إلى مكة واستقر بمصر.. وضحك قائلا أنه شيوعي شيعي في بلد السنة، ومازحه الراوي ":أنت لا تكف عن ذكر أنك شيوعي!.. فهل بقي هناك شيوعي يا عم شهبور؟..". ختم العجوز نقاشهما جازما بموت الفلسفة وسقوط كل الإيديولوجيات وموت الإنسان:" لا تحدثني عن الأفكار.. سئمت الأفكار والمفكرين.. لقد أتيتما لتشربا الشاي لا لتصدعا رأسي.. وإذا أردتما البقاء فلنتحدث عن النساء والشعر والموسيقى..." (ص88).
وانطلق شيطان عربيد من داخله يصدح بلحن أوزبكي...
فكر الراوي في هالة والحضور الأنثوي اللافح،و سأل الرسام عن مقابلة عاطف، فرمقه بنظرة رثاء، طالبا منه انتظار "حلوله الجديد".
في بطن الحوت:
صار يشك في الشراب الذي يقدم له بأنه مسكر، وحدث نفسه أنه "هناك" وليس "هنا".. بين زمانين، وعليه أن يستسلم لسلطان غفوته، ولم يرَ غير الرسام والعجوز الإيراني، وغرق في غفوة ، وتراءت له جنة، ورأى فيما يرى النائم أنه في قلعة الموت..
صباحا، أيقظته هالة، وأعلمته بأنها ستأخذه إلى المطار ليسافران إليه، وغضب لتلاعبهم به، وأخبرها أن أهم ما في الموضوع نسوه وهو جواز سفره.. فأخرجت من حقيبتها جواز سفر بديل.. وصمم على عدم السفر، فكان جوابها بأن لا أحد يرغمه على السفر، لكن "عاطف يظن أنه لا بد أن يرى تحققه الأخير في الجنة التي حلما بها سوية في زمن الطفولة !".
شروخ المرآة:
اختتم أسامة انور عكاشة روايته بالفصل الثالث عشر، الطريف في الأمر أن الكثيرين يتشاءمون من الرقم 13 حتى أن الكاتب إحسان عبد القدوس كان كلما بلغ هذا الرقم، دعا أحد الحاضرين ليكتبه بدلا عنه..
في الطائرة يغفو السارد بعد احتساء جرعتين من الشراب الذي قدم إليه، ولم يستيقظ في مقعد الطائرة ولا في السيارة التي أقلته.. إلا في غرفة في " نزل فخر الدين الكبير" في ضيافة ضيعة عاطف بك درويش.. في ضيافة النسخة اللبنانية من صديق الطفولة، واختفت هالة وحلت محلها هيفاء.. وروى له باقتضاب حكاية يارا.. "الجنون كلمة يا صديقي.. كلمة لا أكثر.. تنطقها فتدمر عالمك بأكمله!".(ص104)، وعلم منه أن سبب مجيئه هو جنونه القديم بروايتين شغفا بهـما معا في بكورة الصبا: "نداء المجهول" لمحمود تيمور، و"غادة حامانا" لطاهر لاشين.. تبادلا حوارا صامتا.. تخاطرا عن البقاء، وغضب عاطف حين طلب منه أن يقتسما التحقق..
ووجد نفسه في طائرة تقله لوحده، وأتته المضيفة بأوراق ليوقع عليها.. وذهل برؤية اسم عاطف درويش تحت صورته.. كيف فعلها ؟ كيف طمس اسمه الحقيقي من ذاكرته وأوراقه الرسمية حتى صار رجلا بلا اسم ولا هوية ولا وطن ..؟
ثمة قراءة مفادها بأن عاطفا لم يكن سوى السارد، ربما لأن الكاتب لم يحدد اسم الراوي طوال فصول هذه الرواية المرآوية والتي رغم قصرها يصعب اختزال تفاصيلها الصغرى، وتلخيص أحداثها.. ولو تبنينا هذا الطرح، فسننسف الرواية بأكملها، ونحولها إلى مجرد حكاية من حكايات ما قبل النوم.. لا سيما وأن الإبداع الحقيقي ضد الرؤية/ القراءة الأحادية.
وتنتهي الرواية - ولازلنا متأكدين بسلامة قواه العقلية- بمشهد إصرار البطل على إثبات ذاته وإعلان الحقيقة وهو يضرب بآنية معدنية قضبان العنبر، ويصم آذانهم حتى يسمعوا .... نهاية عبقرية لا يكتبها كاتب إلا الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة... تذكرنا بنفس المصير المأساوي لبطل رائعته التلفزيونية (أبو العلا البشري) الذي آمن بفكرة الفروسية النبيلة في زمن التشيئ والاستلاب والاندحار الحضاري الشامل. والجدير بالذكر أن أسامة أنور عكاشة لا يستسيغ النهايات السعيدة المفبركة التي تستخف بعقول المتلقين قراء ومشاهدين...
على الهامش:
تحضرني -الآن- نهاية أحد المسلسلات المزبلجة (الزبل + الدبلجة).. فبعد ألف حلقة وحلقة انتهى المسلسل بمشهد البطلين عاريين على فراش النوم.. وقد نجحوا فعلا في خلق أجيال عربية مهجنة لا تعشق ولا تفكر إلا... بأعضائها التناسلية !!
عاطف رحلت أمه بعد طلاقها،وعاش مع جدته.. وصارت حجرة المخزن عالما موازيا " تتكون مفرداته من الأحلام ومن تمنيات لا يحققها الواقع "(ص8)، ويبدآن في تشخيص وارتجال أية شخصية علقت بالخيال.. كنوع من التعويض عن الإحساس بالنقص، أو ما يعرف بالإعلاء والتصعيد .
وليس من التعسف أن نقحم بعض المفردات الفرويدية، لأن "جنة مجنون" رواية سرد نفسي بامتياز، رواية سرد البوح والاعتراف، لكن لغتها تجنح إلى الشعر، وتحس أن في أعماق الأستاذ أسامة أنور عكاشة شاعرا مجهضا، وهذا ما يسميه النقاد بـ "شعرنة السرد"، كما يتجلى بوضوح حين وصف الكاتب اختفاء عاطف المفاجئ بسبب موت جدته، وانتقاله إلى بورسعيد ليكفله أبوه: " انقطع ذلك الخيط الحريري الذي جمع بين اليتيمين وانفصمت عرى صداقة صنعتها الأحزان المتساندة في بكور الفجر".
وبعد ثلاثين عاما...
ستبدأ رحلة أخرى، ورغم أني اطلعت على الرواية في صيف السنة الماضية، وجدتني أعيد قراءتها بنفس دهشة القراءة البكر، ويخيل إلى قارئها أن كل فصل (قصة قصيرة) مستقلة بذاتها، لكن الفصول/ القصص مترابطة،و تـُقرأ دفعة واحدة ... وهنا تتجلى براعة أسامة أنور عكاشة - مثلما في أعماله الدرامية- الذي يعرف كيف يشدّ المتتبع لأعماله من تلابيبه حتى آخر رمق.
وادي القمر الأخضر:
تلقى الراوي مكالمة هاتفية من عاطف معتذرًًا عن تقاعسه عن عدم السؤال، وصمم على إرسال سيارة لاصطحابه.. وفوجئ بأنها أشبه بسيارات أفلام سينما هوليود.. رفض في البداية، لكنه أذعن لعله يجد إجابات عن الأسئلة التي تحيره، ومعرفة سب إصرار عاطف درويش على دعوته.. وفي الطريق،تساءل عن سر تسمية المزرعة بوادي القمر الأخضر، وعلاقتها برواية "الأفق الضائع" لجيمس هيلتون.
رجل خلف الأسوار:
غرقا في تفاصيل غداء فاخر، وتساءل بينه وبين نفسه- ولأن الرواية نفسية يغلب عليها الحوار الداخلي والخواطر- عن أسباب هذا الثراء المفاجئ وعلاقته بتجارة أبيه، لكن بسؤاله نكأ جرح الطفل الذي لم يعرف غير الجدة أما ولا أبا.. و الأب عامله بفظاظة (بغض النظر عن نفور الطفل منه )، لأنه لم يستطع أن ينجب من بعده، ورغم إثبات التحاليل الطبية أن عاطف من صلبه بقي يعامله بقسوة.. وخلق بينهما حاجز نفسي، و كنوع من التعويض عن رجولته الضائعة شيّد امبراطوريته بكل الأساليب، وبقي عاطف بعيدا عن أعمامه المنفردين بالسلطة وتدبير الأمور، ولأنه الوريث الذي سيحرمهم من التركة، استندوا إلى شك الأب القديم وطعنوا في النسب، لكنهم خسروا القضية، وحين حاول أن يطهر الثروة، اعتقدوا أنه يبعثرها ويتصرف بحمق، لجأوا إلى الحجر عليه والزج به في مستشفى الأمراض العقلية.
غسق الذئاب:
أدرك محامي عاطف درويش أن موكله ليست به "جنة أو حتى طائف من جنوح" وآمن بحتمية الانتصار الأخير، رغم مشقة الرحلة، ونصحه بالصبر والتشبث بالإيمان، واعترف عاطف بأن المحامي هو " الصانع الحقيقي لأيامه الحالية"، الحلم بجنة درويش في قلب الصحراء الذي ولد بين جدران المصحة العقلية هروبا من واقعها المقيت المدمر للأعصاب.. وفي المصحة سيتعرف على أستاذ الأدب والنقد الدكتور محمد المعتصم عبدالله.
زيارة ليلية:
ارتجفت نبرات صوت عاطف وهو يتحدث عن ذات العيون البنفسجية.. نجاة، الشقيقة الصغرى لرفيق الليل والمحنة والعنبر، الذي تم الزج به في العنبر ظلما وعدوانا... ومات منتحرا بملاءة السرير.
النهار الغائم:
في هذا الفصل يكتب عكاشة عن التخاطر وتواصل الراوي وعاطف درويش في اليقظة والنوم.. كل تلك الوجوه وتفاصيل الأحداث تزوره في نومه الذي أحسه كأنه نام نوم عاطف، فاحتلت كوابيس عاطف وأحلامه عقله الباطن، وبقي مشغول البال بم حلم عاطف ليلتها ؟
سؤال بلا جواب، لأنه فوجئ بسفره إلى الإسكندرية(هذه المدينة الحاضرة - الغائبة التي يهيم بها أسامة أنور عكاشة عشقاً)، فأحس بالغضب، الإهانة، ورحل... وفي أعماقه يتساءل عن وجود أية علاقة بين رداءة أحوال الطقس وتعكر أمزجة البشر..
وتجمد في مكانه حين عرف من السائق بعد مغادرته أن عاطفاً لم يسافر إلى الإسكندرية، وأنها كذبة من أكاذيب كبير الخدم الثرثار.
المرايا المكسورة:
أحس بالأرق في فراشه رغم ألفته، فكر في اختفاء عاطف المفاجئ، وتناقض كلام السائق و الخادم الذي أسلمه لخواطر مسهدة.. ونام يومين متتابعين، حاول أن يوهم نفسه بأنه لا يتذكر تاريخ ذهابه إلى المزرعة، لكن لوائح الاتصال وتواريخها مسجلة على الهاتف.. واقتنع انه استسلم لما يشبه الغيبوبة، ولم يحس بالجوع ولا بالعطش ولا انتبه لرنين الهاتف.. عثر على رقم غريب اتصل به عشرات المرات، جرب الاتصال به، فكان رقم نجاة...
اتصلت به بصفتها زوجة عاطف وتريد مقابلته لأمر مستعجل.. وفي الملتقى، أقبلت عليه برفقة رجل عرف منها أنه شقيقها محمد المعتصم، فأخرسته المفاجأة..
وأبلغته أنها تعرف حكايا عاطف، وأنه في كل مرة يغيّر لون عينيها، وأخبره الدكتور محمد أنه كان في المصحة العقلية مشرفا على عنبر الحالات الخاصة، الحالات الموصى عليها.. و أن قضية عاطف درويش لم يحسمها سوى عمه الذي اختلف مع أشقائه، فهدم المعبد على رؤوس الجميع.
وهنا تتناسل أسئلة شتى في دواخلنا على رأسها : لماذا اخترع عاطف درويش قصة اضطهاد الدكتور محمد وانتحاره؟
بيت الخان:
سأل الراوي نجاة لم تقيم بعيدا عن عاطف وهي زوجته؟ فأجابته لأنها تحبه.. ودعته للبحث عن إجابات لأسئلته، فثارت ثائرته، واعتبر نفسه قد وقع ضحية مجموعة تمارس نوعا من ألاعيب الفراغ، ورد عليه الدكتور محمد
بأن نجاة طلبت مقابلته وجاء معها بتوجيه من عاطف، الذي يلعب كما قدر (الراوي)، ويشركهما - أحيانا- في ألعابه، لكنهما لا ينفذان إلا إذا أحسا أن ما يهدف إليه لن يمس أحدا بضرر..وعرف منه أنه يعاني من نمط نادر لم يتم تصنيفه ضمن مجموعات العصاب أو الذهان...إذ لا يشكو أعراض الأمراض، لكنه يصنع "نوبة الصرع" ويتحكم فيها وهو ما ينافي ما يعرف عن المرض، وكذلك تعلقه الهستيري بالتقمص.. من خلال ألعابه التي يفرض عليهما أن يلعباها معه، مثل شخصية عاطف درويش صاحب الجنة الرابضة في حضن الصحراء ، لكنه يتقمص شخصيات أخرى..
وأعطته نجاة ورقة كتب عليها: "خان الطواشية .. بيت درويش للفنون"، وفي ذلك المكان الآثري كان يجلس عاطف على السلم الرخامي في تقمصه الجديد.
ندوب الزمن:
استقبله عاطف بعناق حميمي حار استلم له، دعاه للتجول في بيته ذي المعمار الهندي - المغولي، ودعاه لاحتساء عصير فواكه من اختراعه.. وضايقه كلام عاطف أنه يسكن البيت منذ عهد الظاهر بيبرس، فتصنع البلاهة والحيرة، وقهقه عاطف، ورد عليه:
كدت أصدقك !
وغضب عاطف حين واجهه بأن "مسّا ألم به في المستشفى، وتخيل أنه عاش في البيت منذ عهد السلطان بيبرس"، واعترف عاطف بأنه أجريت له عملية جراحية لاستئصال ورم خبيث في المخ، وروى له حكايات وصل فيها خبله " إلى مفاصل مذهلة".. أنه عاش في زمان قديم ومكان آخر.. من حكاية البراهمة إلى التاجر الوافد من بر الشام الذي عاش في البيت الآثري الذي شهد نزاعا بين فرسان المماليك، وأحرقوا المكان وعذبوه..
الملاحظ في هذا الفصل أن عكاشة استخدم كلمات من التحليل النفسي، يبدو فيها بعض اللبس للقارئ الذي تعود على الحكاية المحفوظية، عكس نجيب محفوظ وروايته "السراب".
اليقين:
بدأ الراوي يفكر في أن النائم هو تاجر الحرير.. ونام في غرفة نوم متصلة بالحديقة والنافورة، استغرقته تفاصيلها، وسأل الخادم ذي الثياب الشرقية هندية الطابع لا سيما القبعة.. عن عاطف فكان جوابه أن أخباره لا يعرفها إلا السكرتارية، واستغرب لهذا البرتوكول المغلف بعبق التاريخ والأجواء الرومانسية، وخدم بأزياء خاصة بالليل وأخرى بالنهار..
تعرف إلى هالة رئيسة السكرتارية الخاصة بعاطف بك صاحب مؤسسة درويش لرعاية الفنون، بيت الطواشية.. وتجول بورشة تدرب الصبية والشباب على الصناعات الحرفية اليدوية بالغة الدقة ( وهذه الفكرة سبق أن تطرق إليها الكاتب في روايته التلفزيونية أرابيسك)، ووصلته دعوة من أحد الخدم للغداء مع عاطف، فتساءل بأي وجه سيقابله هذه المرة...
لكنه وجد مفاجأة مطابقة لما حدث في مزرعة درويش.
غفوة السندباد:
لقد اختفى عاطف مرة أخرى، وأحس بالمهانة، وطلب ورقة ليكتب رسالة لمضيفه.. وطلبت منه هالة أن يترك رسالة شفوية..
تعرف على الأصلع ذي الشعر المتهدل على كتفيه والشارب التتري الذي يغطي جانبي فمه.. مصور تشكيلي طاف عدة بلدان أوربية مصطحبا لوحاته... وعرف من أهالي البيت أنه يدخل حياة أصدقائه بالطريقة ذاتها...
وفوق سطح البيت الذي لا يجاوره غير مسجد السلطان حسن، جلس والرسام مع "شاهبور" وهو يعد شايا إيراني النكهة.. هذا الأذربيجاني الذي بلغ عقده الثامن، لكن الناظر إليه يقسم أنه لم يتجاوز الأربعين... كباقي أهالي أذربيجان الإيرانية " كلهم معمرون مخادعون لا يفشي مظهرهم حقيقة أعمارهم"(ص87). وعرج حديثهم عن السياسة، حيث هرب شاهبور من مذابح الانقلاب، وتشرد في أوربا، ومن إسبانيا هرب إلى المغرب ليقوم برحلة المتصوفة المغاربة القدامى شرقا إلى مكة واستقر بمصر.. وضحك قائلا أنه شيوعي شيعي في بلد السنة، ومازحه الراوي ":أنت لا تكف عن ذكر أنك شيوعي!.. فهل بقي هناك شيوعي يا عم شهبور؟..". ختم العجوز نقاشهما جازما بموت الفلسفة وسقوط كل الإيديولوجيات وموت الإنسان:" لا تحدثني عن الأفكار.. سئمت الأفكار والمفكرين.. لقد أتيتما لتشربا الشاي لا لتصدعا رأسي.. وإذا أردتما البقاء فلنتحدث عن النساء والشعر والموسيقى..." (ص88).
وانطلق شيطان عربيد من داخله يصدح بلحن أوزبكي...
فكر الراوي في هالة والحضور الأنثوي اللافح،و سأل الرسام عن مقابلة عاطف، فرمقه بنظرة رثاء، طالبا منه انتظار "حلوله الجديد".
في بطن الحوت:
صار يشك في الشراب الذي يقدم له بأنه مسكر، وحدث نفسه أنه "هناك" وليس "هنا".. بين زمانين، وعليه أن يستسلم لسلطان غفوته، ولم يرَ غير الرسام والعجوز الإيراني، وغرق في غفوة ، وتراءت له جنة، ورأى فيما يرى النائم أنه في قلعة الموت..
صباحا، أيقظته هالة، وأعلمته بأنها ستأخذه إلى المطار ليسافران إليه، وغضب لتلاعبهم به، وأخبرها أن أهم ما في الموضوع نسوه وهو جواز سفره.. فأخرجت من حقيبتها جواز سفر بديل.. وصمم على عدم السفر، فكان جوابها بأن لا أحد يرغمه على السفر، لكن "عاطف يظن أنه لا بد أن يرى تحققه الأخير في الجنة التي حلما بها سوية في زمن الطفولة !".
شروخ المرآة:
اختتم أسامة انور عكاشة روايته بالفصل الثالث عشر، الطريف في الأمر أن الكثيرين يتشاءمون من الرقم 13 حتى أن الكاتب إحسان عبد القدوس كان كلما بلغ هذا الرقم، دعا أحد الحاضرين ليكتبه بدلا عنه..
في الطائرة يغفو السارد بعد احتساء جرعتين من الشراب الذي قدم إليه، ولم يستيقظ في مقعد الطائرة ولا في السيارة التي أقلته.. إلا في غرفة في " نزل فخر الدين الكبير" في ضيافة ضيعة عاطف بك درويش.. في ضيافة النسخة اللبنانية من صديق الطفولة، واختفت هالة وحلت محلها هيفاء.. وروى له باقتضاب حكاية يارا.. "الجنون كلمة يا صديقي.. كلمة لا أكثر.. تنطقها فتدمر عالمك بأكمله!".(ص104)، وعلم منه أن سبب مجيئه هو جنونه القديم بروايتين شغفا بهـما معا في بكورة الصبا: "نداء المجهول" لمحمود تيمور، و"غادة حامانا" لطاهر لاشين.. تبادلا حوارا صامتا.. تخاطرا عن البقاء، وغضب عاطف حين طلب منه أن يقتسما التحقق..
ووجد نفسه في طائرة تقله لوحده، وأتته المضيفة بأوراق ليوقع عليها.. وذهل برؤية اسم عاطف درويش تحت صورته.. كيف فعلها ؟ كيف طمس اسمه الحقيقي من ذاكرته وأوراقه الرسمية حتى صار رجلا بلا اسم ولا هوية ولا وطن ..؟
ثمة قراءة مفادها بأن عاطفا لم يكن سوى السارد، ربما لأن الكاتب لم يحدد اسم الراوي طوال فصول هذه الرواية المرآوية والتي رغم قصرها يصعب اختزال تفاصيلها الصغرى، وتلخيص أحداثها.. ولو تبنينا هذا الطرح، فسننسف الرواية بأكملها، ونحولها إلى مجرد حكاية من حكايات ما قبل النوم.. لا سيما وأن الإبداع الحقيقي ضد الرؤية/ القراءة الأحادية.
وتنتهي الرواية - ولازلنا متأكدين بسلامة قواه العقلية- بمشهد إصرار البطل على إثبات ذاته وإعلان الحقيقة وهو يضرب بآنية معدنية قضبان العنبر، ويصم آذانهم حتى يسمعوا .... نهاية عبقرية لا يكتبها كاتب إلا الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة... تذكرنا بنفس المصير المأساوي لبطل رائعته التلفزيونية (أبو العلا البشري) الذي آمن بفكرة الفروسية النبيلة في زمن التشيئ والاستلاب والاندحار الحضاري الشامل. والجدير بالذكر أن أسامة أنور عكاشة لا يستسيغ النهايات السعيدة المفبركة التي تستخف بعقول المتلقين قراء ومشاهدين...
على الهامش:
تحضرني -الآن- نهاية أحد المسلسلات المزبلجة (الزبل + الدبلجة).. فبعد ألف حلقة وحلقة انتهى المسلسل بمشهد البطلين عاريين على فراش النوم.. وقد نجحوا فعلا في خلق أجيال عربية مهجنة لا تعشق ولا تفكر إلا... بأعضائها التناسلية !!