أنفاسيتفق علماء السرد (Narratology) على أن اغلب قراء القصة القصيرة يشهدون بأن القص الجميل يمكن أن يصل إلى أعلى مراتب الفنون، وخاصة عندما يقبض موضوعها على هم إنساني كبير. فالقاص المجيد يطول بقلمه ما تطوله الفنون الأخرى، تقنية وإخراجا حيث يقود قصته شكلا ومضمونا لما تصل إليه تقنيات التكنولوجيا في السينما الحديثة، ويستطيع ان يحملها موسيقى هائلة، ويوقعها في نفس قارئه، وتظل تلازمه حتى وان انتهت القراءة فالنص الجميل سوف يبقى في الذهن يطارد قارئه، يمسك به لأجل أن يعود إليه مستدرجا اللذة إلى كمّها الأخير.. (فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ، فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل الأغلاط عليم، والقوي المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستمل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر- الجاحظ)، فإذ تتشكل كل مرة بمنظور جديد، وتعطي ذاتها كل مرة معاصرة لأحداث قد تنبأ النص بها، فالذهن يقارن اليوم وغداً، ويستشرف دائماً من خلال الإبداع، المهارة، والاستباق.. وقد اثبت المبدع (حسن كريم عاتي) في كتابه الصادر عن دار الشؤون الثقافية (2007م)، الموسوم بـ(عزف منفرد) بان فن القصة يستطيع ان ينافس الفنون الأخرى،  شكلا ومضمونا إن توافر على مادة شيقة قد تكامل فيها كل ما يؤشر لصالح الكتابة المبدعة، حيث جاءت القصص (ألاثني عشر) بلغة متينة ارتقت إلى التعدد في المعنى، لتقرأ أكثر من مرة بتمحيص بحثا عن الاكتشاف الممتع لما فيها من جهد أنساني رفيع يبشر بتأشير جليل على خريطة الإبداع العراقي المتمكن، فتبلورت في جملة جماليات مقتدرة أجادها القاص المتمكن من سرد استنبط الأسس التي قامت بعقلانية من خلال نظم واضحة التعبير حكمت نتاجه وتلقيه.. في قص يأخذ القارئ ليركب بحرا عظيم اللجّة متلاطم الأمواج، ما بين موت محدق، وحياة حرّة كريمة..قصة مواجهه ذئب جسور وأنثاه الشرسة.. بتحدّ هائل الوقع أتقن القاص تصويره بموضوعية حاسمة دقيقة التفصيل… فـ(القصة الأولى- ليل الذئاب) بدأت فيها أنثى الذئب بالعواء التواصل لأجل ذكرها المقتول في غارة على قطيع تعودا النهش فيه كل ليلة حدّ الفناء.. ذئبان قويا الشكيمة، هما اللذان شكلا خطرا بليغا على الإنسان، وكلبه، وقطيعه.. بعد أن تعودا على إهانة ملكيته، وهدر كرامته، صار الصراع حتميا لن ينتهي إلا بالفصل القائم بالسلاح المواجه بكل مشروعيه، وعقلانية.. مصرا فيها الإنسان على احتراف قدره العظيم في الغلبة الدائمة على ظهر هذه البسيطة.. حيث يحفر حفرة دفاع أعدت بعد تفكير ملي.. لذلك الشأن وبقي بداخلها في ليل طويل ماطر، متشبثاً بالبندقية حبل خلاصه الذي لا يريم، إذ يصيب مقتلا في إلتماع العينين المتوقدة بالفتك.. بعد صبر، وخبرة الأربعين الرصينة.

أنفاسيعتبر الوشم تقليدا طقوسيا عريقا وموغلا في الثقافة الأمازيغية، وغالبا ما يرتبط بالنظام القيمي أو الثقافي لدى المجتمع الأمازيغي الذي مارسه، أو بتقاليده ومعتقداته وديانته، فالإنسان الأمازيغي كان يعيش في عالم من الرموز والعلامات والقوانين التي يقصد بها التأكيد على انتمائه إلى هويته الأمازيغية، فهو إذن أسلوب ذو مضمون ثقافي أو ديني أو إجتماعي له علاقة وثيقة بالتفكير الأسطوري أو الفلكلوري كما يمكن أن يكون ذا مضمون جنسي ـ كما سنرى ـ خاصة عند المرأة الأمازيغية التي تتزين بالوشم في غياب المساحيق الملونة قصد التميز عن الرجل (1) ، ولقد ظل الوشم عبر العصور برموزه وأشكاله وخطوطه من بين أهم وسائل الزينة وتجلياتها القارة والدائمة على أجزاء معينة من جسد المرأة خاصة الوجه واليدين والرجلين(2). ويكتسي الوشم في ظاهره وباطنه دلالات عديدة وعميقة، فهو يأخذ من جسم الانسان فضاء للتدوين والكتابة ولوحة للرسم والخط (3). تقول الشاعرة الأمازيغية في هذا الصدد:

أسيذي عزيزي إينو, راجايي أذكنفيغ
ثيريت إينو ثهرش, ذ تيكاز إيذين ؤريغ (4)


ان الشاعرة هنا، مقبلة على الزواج، ترجو وتلتمس من أسرة عمها حيث يوجد العريس، أن ينتظروا ويتريثوا قليلا حتى تبرأ وتلتئم الجروح التي خلفها وخز الوشم في عنقها. يأخذ البيت الشعري هنا تيمات متعددة يبرز فيها الجسد فضاءا للابداع والكتابة، وجعله لوحة تنطق بالجمال والحسن الذي تؤثثه وتزينه الرموز الملونة المختلفة الألوان والأشكال والدلالات على جسد مقبل على الزواج.
إن المرأة الواشم مبدعة تكتب لتضع لذة النص ـ أو الرمز ـ المكتوب بيد المتلقي ذكرا أو أنثى لاكتشاف نهايات الجسد الأنثوي الاشتهائية، ينتقل عبرها الجسم من نظام الأيقونة إلى الجسم اللاهوتي (5).
ومن المعروف في منطقة الريف خاصة والمغرب عامة أن الوشم من أدوات الزينة الضرورية لأية فتاة ناضجة، وفي هذا نجد جورج كرانفال يقول: “الوشم في هذه البلاد عند النساء اعلان عن مرحلة النضج والاستعداد لاستقبال الرجل والاناطة بوظيفة الزواج” (6) ، بحيث يصبح الوشم بالنسبة للمرأة الأمازيغية…بوابة عبور لسن الرشد ومعه بوادر الزواج وهو في هذه الحالة يكتسي بعدا استطيقيا ويصبح مظهرا جماليا تود من خلاله المرأة الشابة ابراز مفاتنها، واعلان نضج انوثتها، فيصبح الوشم خطابا وعلامة سميولوجية تستهدف الآخر- المشاهد(7)، يقول الشاعر في هذا المعنى:

أنفاسالسكين لا القلم هو ما يكتب به محمد الماغوط أعماله، سواء كانت تلك قصائد أو مقالات أو مسرحيات، وهو يعمل القلم في ذلك الجزء الذي يبدو سليما من الجسد وينكأ الجراح المنتشرة فيه حتى لا تكون هناك راحة واسترخاء، وحتى لا تكون هناك طمأنينة إلى أن الجسد سليم معافى، فالجسد ليس سليما، بل مريض مثخن بالجراح من الرأس حتى أخمص القدم، والتغافل عن هذه الحقيقة يعني مزيدا من الجراح ومزيدا من الخراب.
السكين التي يكتب بها الماغوط هي سكين السخرية الجارحة القاتمة القاتلة المقطعة للأوصال، والجسد هو جسد المواطن العربي - بالمعنى الحرفي للكلمة - الذي أنهكته سياط الجلادين قبل أن ينهكه بؤس الحياة نفسها، والذي عانى من خيانات الأصدقاء أكثر مما عانى من طعنات الخصوم وهزمته الزنازين والأقبية قبل أن يهزمه الأعداء فتحول من "إنسان" يبحث عن مستقبل مشرق في وطنه الحر السعيد إلى "حطام إنسان" يبحث في حاويات القمامة عما يسد به رمقه.
وهذا البؤس وتلك القتامة ليست وليدة أخطاء هنا أوهناك، كما أنها ليست أخطاء في تطبيق نظريات التقدم السياسي والعدالة الاجتماعية حدثت في هذا البلد أو ذاك، بل هي وليدة خلل في المجتمعات العربية تراكم عبر تاريخ دموي مليء بالقمع والاضطهاد وتجريد الإنسان من آدميته، يتساوى في ذلك الحاضر مع التاريخ الحديث والقديم، والأمجاد التي يكثر الحديث عنها، هي مجرد قصائد تلقى وأناشيد ترتل وأغاني تؤدى، وهي في واقع الأمر نقيض الواقع والتاريخ معا، وما يزيد الأمر قتامة أن الذين يحاولون أن يغيروا هذا الواقع عادة ما يكونون حالمين أو انتهازيين، وإن نجحوا في إحراز نصر ما فإن هذا النصر محكوم بالوقوع في أيدي مجموعة من اللصوص وسارقي النصر والثورات والفرح.
في مسرحيات الماغوط يجد المتفرج نفسه وجها لوجه أمام التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وهي عديدة فهناك التناقضات بين طبقات المجتمع وفئاته؛ تناقضات الحاكم والمحكوم، الضحية والجلاد الثري والمسحوق المثقف والجاهل المناضل والانتهازي الثائر وسارق الثورة، وهناك تناقضات المجتمع مع قيمه؛ تناقضات بين الإنشاء الذي يملأ حياتنا عن واقعنا الزاهي وحياتنا الرضية ومجتمعنا المتكافل، وبين واقعنا الحقيقي الذي ينتشر فيه الفقر والجهل والظلم والاضطهاد ويسود التآمر وتكثر الوشايات والدسائس. تناقضات بين الإنشاء الفارغ الذي يتحدث عن المواطن باعتباره القيمة العليا في المجتمع وبين الحقيقة المرة التي ترى في المواطن عبئا ثقيلا يجب التخلص منه بالسجن (ضيعة تشرين)، أو بإقصائه خارج البلاد في غربة أكثر إذلالا من البقاء على أرض الوطن (غربة).

أنفاس"أبو سلمى".. هو عبد الكريم سعيد علي المنصور الكرمي. وإذا كانت كنية "الكرمي" تنسبه إلى بلدته الفلسطينية طولكرم التي أنجبته ذات يوم صيفي من عام 1909، فإن مدينة حيفا كانت حبه الأثير. فهو محاميها الشهير، وشاعرها الوفي. وتقتضي الأمانة الموضوعية أن نشير إلى أنه اختار لحيفا ضرّة عربية هي دمشق. فقد درس فيها المرحلة الثانوية. ثم لجأ من حيفا إليها بعد نكبة 1948، وعلى كثرة أسفاره في الدنيا شاعراً ومعرّفاً بالقضية الفلسطينية، فإنه لم يغير عنوانه الدمشقي، حتى بعد أن أغمض عينيه إلى الأبد في الحادي عشر من الشهر العاشر للعام 1980 في العاصمة الأمريكية، بين يديّ ولده الوحيد، الدكتور سعيد الكرمي، الذي حرص على نقله، بناءً على وصيته، إلى دمشق، حيث شهدت العاصمة السورية، في وداعه، واحداً من أكبر مواكب التشييع في تاريخها، وبدت مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك وكأنها ساحة يوم القيامة. وكان أبو سلمى من أسرة علم وأدب. فأبوه الشيخ سعيد من العلماء الأجلاء واللغويين الثقات وكان عضواً مؤسساً في المجمع العلمي العربي. أما أخوه أحمد شاكر الكرمي فكان من الصحفيين العرب الرواد ومن وجوه الوطنية والقومية حتى أن دمشق أطلقت إسمه على أحد شوارعها. وبرز أخوه حسن الكرمي "أبو زياد" كراوية علاّمة، وحقق شهرة مدوية من خلال برنامج "قول على قول" الذي كان يعدّه ويقدمه بصوته من إذاعة لندن. ارتبط أبو سلمى برفيقة عمره، المناضلة رقية حقي في عام 1935وقد تم الزواج في مدينتها عكا. ولم ينجبا "سلمى" ولكنه كان ينادى بأبي سلمى، لأسباب شعرية، منذ أن كان يدرس في معهد عنبر أيام المرحلة الثانوية في دمشق. وقد شكل أبو سلمى مع إبراهيم طوقان وجلال زريق ثلاثياً ظريفاً في الحياة والشعر. ولا يزال الرواة يتناقلون شفوياً قصائدهم الماجنة المازحة بألفاظها المكشوفة، وكثيراً ما لا يميز الرواة، في هذا المجال، بين ما كتبه إبراهيم وما كتبه أبو سلمى.
قد يسأل متسائل..لماذا أبو سلمى الآن؟.. يَرِدُ هذا السؤال، حسب وضع السائل، إما بحثاً عن مدخل للكلام، وإما جهلاً بطبيعة الشعر. لأن أبا سلمى حاضر فينا، أو لأنه الوفاء، أو لأن الانتفاضة تعيد إنتاج أيام أبي سلمى في النضال.. وتأتي هذه الأجوبة، حسب وضع المجيب، إما لأنه لابد من جواب، وإما تماهياً للمغني مع الأغنية، وإما جهلاً بطبيعة الشعر.
 فالشعر، في جوهره، لا يتوسل مناسبة للحضور، حتى لو نجمت بعض القصائد عن بعض المناسبات. ولا يقبل الشعر وساطة بين مبدعه وقرائه بدعوى أهمية المبدع في الذاكرة التاريخية. فتلك الأهمية من شؤون التاريخ أو الأخلاق. وليس معنى ذلك إسقاط المغزى النبيل، أو الرسالة، أو الفكرة المركزية التي نذر لها المبدع جهده دماً وحبراً. ولكنه انتصار لشعرية الشعر، وإصغاء للنبض العميق المبرأ من الزوائد، والمرشح للبقاء..

أنفاس " قراءة   في أضمومة ( اشتهاء)1 لمحمّد الهلالي "
منذ الإطلالة  الأولى على الأضمومة الشّعرية يتجلّى صوت الشّاعر الهلالي ممتزجا مع انشغالاته الثقافية المتعدّدة تارة في المجال الحقوقي وتارة في مجال الفكر والفلسفة وتارة أخرى في مجال الترجمة. إنّه صوت شعري آخر يعلن عن تحوّلات القصيدة الجديدة في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين ضمن مظلّة الحداثة التي تتسع دائما لتغطية
التّجارب الجديدة القادمة من عوالم الشّعراء الشّباب الذين يأبون إلاّ أن يواكبوا التحوّل عبر تشخيص الهاجس في حالته الفطرية الشفافة قبل أن تدخله المساحيق ومعاول الترميم والتوجيه.
المجموعة تقوم أساسا على حوارية الحسّ الشعري الذي يخاطب الوجدان الذاتي تارة والوجدان الجمعي طورا والوجدان الصّوفي طورا آخر.
 ولعلّ ذلك ما يستثيره ملفوظ العنوان لأول وهلة. فلفظة الاشتهاء تعلن مدلولها مباشرة ، وتربطه بمحدّدات مكانية ثلاثة هي : القرب والبعد والتيه. واللوحة الشعرية التي ترافق النصّ على مستوى غلافه تدعم أوجه الفرضية النصية القائمة على أساس التوق والرغبة في الامتلاك لعوالم تجاور الذات أو تجافيها بأبعاد مختلفة التقدير. فهي تبرز الذات الإنسانية في إهاب من اللين واللدنة ، ثمّ في حال من الافتتان بالبحث والتنقيب عن الحقيقة الثاوية خلف الواقع الذي تشطبه مكنسات الزمن الفسيح، بينما تحلّق فوقه أطيار ورقية لاتبدو لها أبعاد ولا أطراف.
هكذا يتّجه ا لخطاب الشّعري في هذه المجموعة  إلى تجزئة الذّات وتفكيكها إلى أجزاء موزّعة على زوايا مختلفة تنمّ  عن علائق وثيقة  تربطها بوجودها الخاصّ . ولعلّ في هذه الإشارة ما يدلّ على المنزع الوجودي المهيمن على الرؤيا الشعرية لهذا العمل. إذ يفرق الوجوديون بين الوجود في ذاته ، وهوالوجود الموضوعي المنفصل ،  والوجود لذاته ، وجود الأشياء في صلتها بالذات المدركة التي تحدد أبعادها بمقتضى  خصوصية الإحساس ونوعية الرّؤية..  
1.زاوية الوجدان الرّومانسي:  وهي تحيط بتيمة ( القرب) الذي يختفي حول لوحات تعبيرية تحفل بالإهاب الرّمزي الشّفاف،الذي قد يفيض على إشراقات الملمح الصّوفي بين الحين والآخر. حيث تبدو المرأة/ الأنثى التي يحيط بها هذا الإهاب،  في سماتها وأوصافها الأنثوية،  بعيدة عن كونها مجرّد أنثى طبيعية لأن لها أكثر من وجه وملمح. فهي تارة تعكس معنى النضوج:  ( قصيدة فردوس العين)
فاقتطفت من جنتك عنقودا
وعدت للجحيم

أنفاس قال محي الدين ابن عربي: (كلُّ معرفة لا تتنّوع لا يعوّلْ عليها).
غالباً ما تكون الثقافة في حالة هشة بعد زوال إي نظام شمولي، لان النظام الشمولي قد عمق مفاهيمه ورسخها إلى حدّ بعيد في مساحة ليست بالهينة في أي بلد يفرض فيه، ولكن ذلك الأمر سرعان ما يضمحل ويصبح البلد أكثر ازدهارا في الحرية أولا ومن ثم ببقية المفردات. وذلك الصراع يبقى في حالة ديمومة وتواصل دليلا على إن الأمور سوف تسفر لاستقرار حالة طبيعية مرت بها اغلب مجتمعات كوكبنا الأرضي، والثقافة عبر أية قناة إعلامية كانت مطبوعة دورية كانت أو غير، حكومية كانت أو غير، فإنها تقبل التلاقح الثقافي، وتؤمن بالتعددية الثقافية، تكون أول القنوات الإعلامية نجاحا، وغالبا ما تكون قد استحوذت على اكبر جمهور، وأفضل نخبة، وصارت الأوسع انتشارا، ترتكز اولا على شرط بان يكون محررها مثقفاً، فتكون مطبوعته مهمة ومتنوعة بقدر ما يسمح به، سعة افقه، لكونه منتخباً جيداً لجديد الأفكار، ومتنوراً، يقرأ ما يصله بشفافية وحسّ عالّي، يعرف بأنه كقارئ يريد جديدا، كما يعرف بان قراءه اليوم فيهم من يقرا ما لم يقرأه المحرر، وغالبا ما يدرك المحرر بانه قد انزاحت من جدلية الأفكار اغلب منظومات الثقافة الشمولية، إذ صار بمقدور القارئ البحث عن من يضيف إليه، ولم يعد لديه المتسع من الوقت ليقرأ شيء يهدر به وقته، فالعصر الحديث صار متعدد النوافذ، وصار النوافذ الأخرى منتبهة وحازمة بشان الإمساك جيدا بفرصتها، وكسب ثقة المتلقي، ولم يعد المحرر، اليوم يفترض بان كل ما يكتبه يرضي فيه السواد الأعظم من جمهوره، فيكون دائما المبادر الأول في الجرأة، وفي تحسس القضايا المصيرية. فـ(إعادة ما قاله الآخرون يحتاج تعليماً؛ وتحديه، يحتاج عقولاً - ماري بيتيبون بول)، وغالبا ما تكون الحرية (لا تعني الحصول على ما يرغبه المرء، وإنما تعني عزم المرء على أن يريد من خلال ذاته- سارتر).. ففي كل الأزمان والأماكن، وعلى مدى التاريخ ثمة احتدام واضح بين الثقافي والسياسي، على الرغم من إنهما يجوبان في أفق واحد، والأول يريد أن يقنع بفكرته جمهوره دون إجبار والثاني يفرض فكرته دون أن يهمه جمهوره، وغالبا ما تحتاج الفكرة الجيدة إلى إيصال بشكل جيد، ولا يحتاج المثقف عادة إلى فرضها كما يحتاج السياسي إلى فرضها، لأنه يطلب لها مجالا حيويا لأجل أن تحيا فكرته، فالفكرة تحتاج إلى حرية، يصعب على السياسي تحقيقها. فما قاله رينيه ديكارت (1650-1596) بشكل لا يمكننا تغيره (أنا أفكر إذن أنا موجود)، كان يشمل بان الفكرة نتاج عقل ووليدة وجود، فلا يمكن أن توجد فكرة خالدة ما لم تولد من فكرة مدونة استند عليها العقل وتطورت، حيث أفكار الإنسان وحدها التي صارت المدونة هي التي تتواصل بالعطاء وتنير للإنسانية الكيفية للاستدلال إلى الفكرة الحية، والفكرة وليدة الفكرة.

أنفاس العولمة صناعة الغرب هذا معروف، لم نشارك فيها، نحن العرب قدر جديد يهبط علينا، نتلقفه هنا، نرفضه هناك، نتماهى به، نستغرق في ظواهره ومظاهره، نقابله بخضوع، نحتج، نصرخ، نستسلم، وبرغم ذلك يبقى أن العولمة صناعة الآخرين. أو فلنقل انها، هذه المرة، هي صناعة الآخرين وتحديدا، كما يقال (حتى الآن) ويشاع، انها صناعة امريكية او على الأقل صناعة سيطر عليها النظام الامريكي واستغلها، وغزا بها العالم، بقيمه، واقتصاده، ومصالحه، وثقافته، ومطامعه ومطامحه. وهكذا علينا، ولأننا لم نساهم في هذا الحدث الكبير، أن نعتبره قدراً، من الصعب مواجهته، وفي أفضل الأحوال «ظاهرة» أمبريالية جدية علينا (أو يمكننا) إلحاق الهزيمة بها، لكن كيف؟ وأين، وبم؟ إذ كيف يمكن لمن اعتزل المشاركة في صنع التاريخ الحديث أو أي تاريخ، ان تتوفر لديه شروط المقاومة. مقاومة ما يفد، او ما يهبط، أو ما يفرض. لا سيما عندما يصير هذا «القدر» جزءاً من معيشنا، وتفكيرنا، وتفاصيلنا، ومأكلنا ومشربنا، وملبسنا، وأدوات رفاهيتنا، وترفيهنا، وجزءاً من «ثقافتنا» اليومية، وغير اليومية سواء وعينا ذلك أم بقي في غياهب اللاوعي... ربما لا شيء. وربما الكثير. وربما القليل، وربما الوهم أيضا، فلغة العجز متعددة. لكنها تبقى لغة العجز، لكن هل يمكننا ، (وفي حال رفضنا العولمة كما هي اليوم) أن نخفف من سطوتها! ومن آثارها، ومن جموحها، واين؟ في تفكيرنا؟ في مواقفنا السياسية؟ في معتقداتنا، في الصورة التي تريد العولمة أن تبرز فيها تواريخنا، ومعتقداتنا، وثقافتنا، ومآلاتنا!
  I
وإذا كنا عاجزين عن المواجهة «الشاملة» فهل يمكن اعتماد المواجهة الجزئية؟ أو الجانبية؟ أو الاستنسابية؟ بمعنى آخر إذا كنا عاجزين عن منافسة «الغرب» (وهنا امريكا) في ثورتها التكنولوجية والميدياتيكية والمعلوماتية والعلمية، فهل يمكن ان نختار جانباً «حميما» او عمومياً، لنواجه به وعبره ومنه هذه القدرية الجديدة؟
وهنا بالذات تبرز الثقافة، العربية وغير العربية، الحضارية (بما تشمل من ديني وموروث وعائدات ومكتسبات)، والثقافية بما تشمل من إبداعات، وانتاجات متينة، وكتب، وفكر وإيديولوجيا وسياسة... ورواية وشعر ومسرح.
لكن أي ثقافة يمكن ان تفلت من مرمى العولمة، او من طاحونتها؟
بات معلوماً ان العولمة عولمات. ليس هناك عولمة واحدة، او سمة معولمة واحدة، ومن خلال ذلك لا تجري أمور العولمات كلها في مسار واحد، ولا في نسق واحد، ولا في تاريخ واحد، وان صبت كلها في مصب واحد عند المنتج الأكبر لهذه العولمة، فهناك العولمة الاقتصادية (ولن نطيل الكلام عليها)، وهناك العولمة الجيوسياسية المرتبطة بالنمو الديموغرافي وبازدياد الهجرات العالمية.

أنفاس (الحاءات الثلاث) مشروع نقدي طموح
يعتبر مشروع ( الحاءات الثلاث ) القصصي والأدبي، على الإطلاق، أهم مشروع نقدي حداثي تشهده القصة المغربية المعاصرة، يقف خلفه شخص مثابر يسهم بشكل لافت ومثمر في مختلف قضايا الثقافة والأدب المغربي خاصة، والعربي عامة، وهو الأستاذ محمد سعيد الريحاني ، الذي راهن بقوة على أن يثبت مدى خصوصية القصة المغربية وتميزها وفرادتها، فسعى حثيثا إلى تحقيق ذلك المنال، عن طريق طرح هذا المشروع الأنطولوجي، الذي يؤرخ للقصة المغربية المعاصرة، قلبا وقالبا، دلاليا وجماليا، معنى ومبنى… وهو مشروع أطلق عليه (الحاءات الثلاث)، مختارات من القصة المغربية الجديدة، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء، كل واحد منها خاص بموضوعة ما من الموضوعات الحاضرة بكثافة في القصة المغربية، وهي موضوعات: الحلم والحب والحرية، ثم إن تلك الأجزاء الثلاثة عبارة عن أنطولوجيات تتضمن مختارات قصصية لمجموعة من القصاصين والكتاب المغاربة، مع ثبت جانب من سيرتهم الذاتية والعلمية، مما يجعل منها مشروعا نقديا تصنيفيا، يحاول الأستاذ الريحاني نسجه بدقة تامة، ووعي عميق، سواء أعلى مستوى اختيار النصوص، التي تتميز بالتنوع من حيث المضامين والأساليب والتجارب، أم على مستوى المنهجية المتبعة في تشكيل هذا المشروع، إعلاميا حيث يعمل الأستاذ الريحاني كل ما في وسعه من أجل نشر وتعميم مشروعه الأنطولوجي، أو معالجةً حيث يعرف دوما بالمتن القصصي المختار، إما من خلال مقالاته التقديمية أو حواراته الكثيرة والمتنوعة أو غير ذلك، أو ترجمةً حيث قام بترجمة الكثير من قصص أنطولوجيا الحاءات الثلاثة إلى اللغة الإنجليزية، وينوي أن يصدرها كذلك في نسخة ورقية إنجليزية.
هكذا فإن الغرض الأساس من مشروع أنطولوجيا القصة المغربية الذي أطلقه الأستاذ محمد سعيد الريحاني، ليس هو فقط التعريف بطبيعة القصة المغربية المعاصرة وبحفنة من كتابها، وإنما أكثر من ذلك، وهو التأسيس لمدرسة مغربية قادمة، يقول الأستاذ الريحاني في مقاله التقديمي للجزء الثاني من هذه الأنطولوجيا، وهو أنطولوجيا الحب: ” “الحاءات الثلاث” مشروع إبداعي وتنظيري يهدف إلى التعريف بالقصة المغربية القصيرة عبر ترجمتها للغة الإنجليزية ثم نشرها ورقيا باللغتين العربية والإنجليزية، كما يتقصد التأسيس لمدرسة مغربية قادمة للقصة القصيرة من خلال المشترك المضاميني والجمالي المجمع بين النصوص الخمسين للكاتبات والكتاب الخمسين المشاركين في المشروع الأنطولوجي والموزعين على ثلاثة أجزاء: “أنطولوجيا الحلم المغربي” و”أنطولوجيا الحب” وأنطولوجيا الحرية”.” ص3.
وسوف أحاول من خلال هذا المقال، مقاربة الجزء الثاني من الحاءات الثلاثة، الذي هو أنطولوجيا الحب، وذلك بتناول أهم الأبعاد التي يتخذها متن هذه الأنطولوجيا، الذي يتركب من واحد وعشرين قصة قصيرة، لواحد وعشرين قاصا مغربيا، وهؤلاء القصاصون ينحدرون من مختلف الأجناس والتجارب والاشتغالات.