حيدر حيدر، أديب من فصيلة النسور.
ميزته ميزتان: حياته، وأدبه.
كلاهما كتابٌ يقرأ المرء في ضفتيه حياة رجل، وحياة أدب. حياة رجل أحبّ الصعب فتبعه، فكان مثالاً لكائن دمه رحيل وانتظار ومعنى، وروحه توقٌ للنائيات العواصي. وهجسه إدارة الظهر لنداءات الحياة الرخية. آخى الليل لقناعته أن الضوء خدين المساهرة، وعايش المنكوبين الحزانى الباحثين عن (إثياكاهم) فمشى في دوربهم الوعرة، وقاسمهم الغربة والمنفى والهجر لإيمانه الجوهري بعدالة قضيتهم، لم يكن شبيهاً بـ همنغواي أو لوركا، أو رامبو.. كان شبيهاً بـ حيدر حيدر تفرداً، وامتيازاً، وعزلة. رضي بالقليل من أجل المبادئ الكبيرة، وجار على نفسه ورغائبه وهو شاب في أول شروقه استجابةً لنفس جبارة رأت في ترف الحياة ورغدها زبداً أو دبقاً ليس إلا! وهو الذي عايش كبار أدباء سورية وهو منهم، فإن بحثت عن الريادة ستجده في مربعها الذهبي، وإن بحثت عن الأصالة ستجده أحد صانعيها، وإن دخلت مدونة الثقافة ستجده أحد شيوخها.. فُتحت أمامه أبوابٌ وساحات، وفُرغت لـه المطارحُ، والأمكنة الوسيعة المريحة، فنحاها.. لكي يذهب إلى الخنادق، والقواعد الفدائية.. ترك الموائد كي يقاسم الحزانى المنكوبين طعامهم في علب السردين والتون، والتي حالما تفرغ (كم كانت تفرغ سريعاً!).. تصير أكواباً للشاي الساخن الذي تعلوه طيوف الزيت، كما قاسمهم لباس (الفوتيك) الأخضر معنىً في الصيف والشتاء. رجل طوى حياته، كما طوى الفصول والمناسبات.. وعلقها على حلم استعادة الفلسطينيين لبلادهم، وتاريخهم، وحلمهم. لم يكن جيفارا، ولا سيمون بوليفار، وإنما كان حيدر حيدر الذي وهب سنين حياته الزاهية لنضال صعب ومرّ ستكتب حكايته مدونةُ التاريخ الصادقة.
أما حياة الأدب، فهي الحديقة السرية التي عاش فيها حيدر حيدر ليكتب لنا قصص البراري، والوعول، والرعويات الأولى، والعطش الأزلي للضوء، وأسطورة الأزمنة الموحشة، والرغائب التي تنادي بالفيضان أو الطوفان وقد فجعت باليباس العميم، وليروي لنا، كشاهد عصر، عن الكائنات الهجينة التي راحت تلتهم وتلتهم فلا ترتوي أو تشبع، كائنات استحواذية أشبه بقطع الإسفنج.. تأتيك ناشفة (فتغط) ثم تخرج ريانة، تفرغ ريها ليس لحمد، وإنما لكي تعود ناشفة مرة أخرى. أفزعته لزوجة الزيت الذي صار سيداً على حيواتنا، ومُوجوداً لحقبنا.. فهجا الزيت اكتشافاً، واستخراجاً، وبيعاً، وتبعات.
أديب .. كتابته ضوء، وقرنفل، وبهار. ورجل .. حياته حلمٌ شوته النار طويلاً كي يصير الطهرانية ذاتها.
لهذا.. كله كان حيدر حيدر كتاباً.. لحياته وأدبه، ولهذا نحاول أن نفتح هذا الكتاب لنقرأ فيه شيئاً من حياته الباسلة، وأدبه المضيء.
حيدر حيدر النشأة والطفولة ما الذي تحقق من أحلام تلك المرحلة؟
ولدت في بيئة ريفية شبه جاهلة، بعيدة عن المدينة في أواسط الثلاثينات.
في ذلك الزمن كان الريف السوري زراعياً، ورعوياً متخلفاً، ومهمشاً، ومنسياً. كانت البلاد خارجة من ليل الاستعمار الفرنسي، وكان على القوى الوطنية بأطيافها المتعددة إعادة ترميم وبناء البلاد سياسياً واقتصادياً وتربوياً.
في تلك المرحلة الحرجة انصبت جهود البناء والاهتمام بالمدن كمراكز أساسية على حساب الأرياف كأطراف هامشية، لم تنل نصيبها من العلم والمدارس والتنوير ووسائل المواصلات إلا بعد وقت متأخر.
وحدها القرى القريبة من المدن نالها نصيب من العلم والمدارس، ولحسن الحظ كانت القرية التي ولدت فيها قريبة من المدينة، تبرّع الأهالي فيها لافتتاح مدرسة ابتدائية ذات غرفة واحدة لجميع الصفوف.
حين تستعاد أطياف الطفولة والبدايات الأولى تنتابني حالة هي إلى الحلم أقرب منها إلى الواقع.
في ذلك الزمن الرعوي، الجاهل، البعيد بعد النجوم عن معالم الحضارة والمدنية، وبما يشبه المعجزة، شقّ ذلك الطفل الشقيّ والطّموح أول خطوة في الطريق الوعر والمضيء. طريق المعرفة والاستنارة.
ـ ما الذي أعطته قصة الإبحار مع القضية الفلسطينية كتجربة في النضال، وإبحار في المنفى، وما أثر ذلك في عملك الإبداعي؟
الانتماء إلى القضية الفلسطينية كان اختياراً نضالياً ومصيرياً بالدرجة الأولى.
وهذا الاختيار بدأ في دمشق في بيروت إبان الحرب الأهلية ثم أبحر مع الفلسطينيين إلى المنافي.
من يقرأ أعمالي الأدبية يدرك إلى أي مدى كان التأثير والانعكاس للمسيرة الفلسطينية فيما كتبت. هذه المسيرة التراجيدية بما هي ملحمة العرب في القرن العشرين، وما تزال إلى لحظتنا الراهنة.
ـ هل كان المنفى والهجرة قدراً عليك كما الفلسطينيين، ولماذا اخترت هذا المصير وهذه الهجرات بعيداً عن وطنك؟
حين أفكر بالهجرات والاغتراب على المستوى الشخصي، وأوازي حالتي بالحالة الفلسطينية في المنافي والشتات، وكيف التقينا معاً كأننا عاشقان على موعد، تواجهني فكرة القدر والمصير على نحو ما. وإذ أنتبه وأتأمل داخل نفسي، كإنسان أولاً وكعربي ثانياً، أدرك أنني منحاز لقضية الحرية والعدالة، ولحق الشعوب المضطهدة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
ولأن الشعب الفلسطيني مسلوب الأرض والوطن، وحريته ووجوده مهددان بقوة الاغتصاب العنصري الصهيوني، فمن الطبيعي والبديهي أن أرى نفسي في خندق هذا الشعب المكافح والمقاوم من أجل حريته وحقه في الوجود واسترداد أرضه التي طرد منها بقوّة السلاح.
ـ اختار حيدر حيدر تياراً جديداً في كتابه السرد الروائي والقصصي قريب من الشعرية، يسميه: "أسلوب على حافة الشعرية".
القارئ يراك شاعراً في سردك الروائي.
هل هذه الحال حالة إغواء أم أنها طريقة جديدة في الكتابة؟
الأديب هو أسلوبه. ومن خلال هذا الأسلوب يتمايز عن غيره. والأدب في النهاية هو اللغة والخيال والأسلوب والمعنى، وإذ تتأمل نفسك لتكون أديباً جديداً ومحدثاً لا بدَّ من أن تغادر الأساليب والأشكال واللغة القديمة التي تعلمتها في المدرسة والجامعة أو قرأتها في البيت.
أسلوب ولغة رواية الواقعية الاجتماعية تقوم على سرد الوقائع والأحداث والعلاقات الإنسانية بشكل مبسّط وسطحي وفوتوغرافي خارجي بعيداً عن التحليل الداخلي والاضطرابات النفسية والمعقدة والمرضية أحياناً. إنها لا تكشف عن الظلمات الداخلية للشخصية، كما لا تنير كل جهاتها وأبعادها وتناقضاتها: ضعفها وقوتها خوفها وجرأتها، نزاهتها وانحطاطها. هذه التكوينات المتعددة داخل الشخصية الواحدة.
لعلَّ اختياري للسرد والتحليل القريب من اللغة الشعرية يعود إلى اقتناعي بأن هذا الأسلوب اللغوي هو القادر على التعبير عن أعماق الشخصيات الواقعية ـ المتخيلة وإنارة ظلماتها.
هذا الأسلوب فيما يمكن تسميته بالسرد الرفيع والغنائي أحياناً أو الجمالي، ليس إنشاءً معزولاً ومقصى عن المعنى كما ينظر بعض نقاد الواقعية السطحيين في قراءتهم الأحادية.
لا توجد حالة إغواء أو إغراء في أسلوب ولغة كتابتي، ورواياتي أو قصصي ليست دائماً سهلة، ولعلها تحتاج إلى قراءة ثانية وتأمل وتأنّ، جرّاء تماهي اللغة هي المعنى والتحامهما بشكل عضوي.
ـ دخولك إلى المناطق المحرّمة والتابوات هل هو توجّه قصدي أم خلخلة للبنى الاجتماعية السائدة؟ وما الذي بقي في أعماقك من الضجة التي أحدثتها وليمة لأعشاب البحر ـ طبعة القاهرة؟
السؤال يطرح: ما هي وظيفة الأدب بشكل أو بآخر؟
واحد من وظائف الأدب الأساسية هي: النقد، نقد البنية الاجتماعية والفردية بما هي بنية فاسدة أو مرضية أو ظلامية أو متخلفة.
حين تخلخل وتكفك هذه البنية فأنت ترنو إلى البديل الأفضل، إلى المستقبل الأجمل دون أن ترسم المعالم أو تفضّل هيكلية ذلك المستقبل، لأن هذه المهمة هي للسياسة وليست للأديب.
ما بقي من العاصفة التي هبّت على روايتي "وليمة لأعشاب البحر" هو قوّة الأدب وفعاليته الاجتماعية في مواجهة التيارات الأصولية والظلامية، هذه التيارات المعادية للحرية والثقافة المعاصرة، والتي لا تنفي الآخر المختلف وحسب بل تستبيح دمه، استناداً إلى تأويلات خائطة وعمياء لا صلة لها بالدين أو الإسلام.
ـ متى بدأ هاجسك الأدبي؟ هل كانت هناك مؤثِّرات ودوافع جعلتك تسير في الطريق الوعر؟ وباختصار كيف بدأت الكتابة؟
الهاجس الأدبي يتحرك وينمو في داخلك من خلال القراءة والتأمل الذاتي ورغبتك المستبطنة في الحوار مع نفسك والعالم.
تخوض التجربة وجلاً ومضطرباً في البداية. تسأل: من أنا في خضمّ هذا الفضاء الأدبي العربي والعالمي؟ وهل أستطيع أن أكون قطرة في هذا المحيط؟
بالنسبة لي حين بدأت الكتابة كهاوٍ وتجريبي وذاتي كنت أتسلّى وأفرّغ هواجسي على الورق. بدأت بالخواطر والتأملات والانطباعات كتمرينات ذاتية وموضوعية.
بعدها غامرت ونشرت أول قصة وأنا ما أزال في مرحلة الدراسة.
فيما بعد، مع توالي نشر القصص في مجلة الآداب اللبنانية ونشر كتاب "حكايا النورس المهاجر" أدركت أنني وقعت في ورطة الأدب. لقد سلكت طريقاً وعراً ما كنت متأكداً من سلامته، ولا من قدرتي على المتابعة والنجاة. ولأنجو وأتخطى الوعورة والسقوط جهدت ما وسعني لتثقيف نفسي بالقراءات والحوارات والتأمل الداخلي القلق، والرغبة الجامحة في تكوين عالمي على نحو مميّز ومغامر ومختلف في عالم الكتابة. أن أكون شيئاً آخر لا يشبه الآخرين ولا يكون نسخة عنهم
ـ ما هو برأيك الهدف من الكتابة: الشهرة، التسلية، التنوير، وهل للكتابة فعل مقاوم؟
الهدف من الكتابة أولاً وأخيراً هو التنوير والوعي من خلال نقد العالم الذي ننتمي إليه وفي الآن نفسه الارتقاء بالروح الإنسانية إلى الأنقى والأجمل، والانحياز المطلق للحرية والعدالة، وأهمية الفرد ـ الإنسان في مجتمعات مستبدة تلغي أو تهمّش الكائن البشري.
ـ قمت بعملية اختراق في الكتابة، بحيث بدت كتابتك مختلفة عن غيرها، كما شكلت منعطفاً أخذ سجالاً كبيراً بين الشكل والموضوع، حتى أن بعضهم يقول عنك بأنك تكتب شعراً على حساب المضمون. ماذا تقول؟
من يقول أن الأسلوب المضاء بفضاء شعري جمالي يأتي على حساب المضمون ـ المعنى، لا يعرف القراءة.
لقد كتب نيتشه الفلسفة بلغة شعرية عالية المستوى، وهو من أهمّ الفلاسفة في العالم، وإذا تذكرنا الأسلوب واللغة المشعة لدى اليوناني نيكوس كازانتزاكي أو ألبير كامي أو د. هـ لورانس على سبيل المثال، لمن قرأ هؤلاء جيداً، يدرك أن هؤلاء لم يكتبوا شعراً مفصولاً عن معناه وجوهره عبر أدبهم الروائي.
الثنائية القديمة في الذهن العربي منذ الجاهلية حتى اليوم، بين النثري والشعري، ما تزال مهيمنة.
إن الثابت والمتحول، والاستعارة من أدونيس، تبدو الغلبة فيها للثابت على حساب المتحوّل في سياق حياتنا العربية والمعرفية منها على وجه الخصوص، لكأن ثقافتنا محتلة بعبودية ماضيها، وأي تجديد أو اختراق أو ابتكار في الأسلوب ليس في الأدب وحسب، بل في الحياة، يُعتبر خروجاً ومروقاً، وكأننا مازلنا في عصر الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي وأسلوبهما في الكتابة واللغة.
إن التداخل والتواشج بين الشعر والنثر
(في القرآن سور وآيات شعرية عالية المستوى) صار سمة العصور الحديثة المتطورة، والأجناس الأدبية في العالم متداخلة بين الشعر والنثر، فكافكا الروائي المعروف في العالم بغموضه وكابوسيته وأسلوبه السردي المرّكب والمجازي، والعادي أحياناً، يسمونه الشاعر كافكا، وهي أعلى وأرقى قيمة تطلق على الأديب.
ـ في كتابتك نلمح السواد وأنت تدخل إلى الظلمات وتغور في أعماق شخصياتك. أنت تقول كلمتك بصراحة حادّة كحدّ السيف وبلا مواربة، تكشف عن الأمل والصديد. هل ترى بصيص أمل في نهاية الطريق؟
في بلاد العرب حيث الشموس غاربة، والوجود الإنساني والاجتماعي على حافة الهاوية، جراء السلطة السياسية الغبيّة والحمقاء والمستبدة، وسيطرة الأصولية الظلامية القامعة والعمياء، والفقر الثقافي والمعرفي نحن مقذوفون في غياهب الظلمات والعجز والهزيمة واستلاب الحرية، والخروج من التاريخ.
لكي تكون أديباً أو كاتباً حقيقياً، غير مزيّف ولست مأجوراً أو انتهازياً، عليك أن ترى هذه الظلمات بعين القسوة والفضيحة بعين القسوة والفضيحة والخروج من القبيلة التائهة في الصحراء.
القبيلة الممزقة والمتناحرة والتي تقودنا إلى الهاوية.
ـ أنت كاتب عربي سوري لكن تجربتك شملت الوطن العربي من العراق إلى فلسطين فالجزائر، ورغم تنوّع المشاهد فقد كان السواد يصبغ مساحة الرؤية في تلك المشاهدة، فماذا تقول؟
سرّ الدهشة أو الانبهار في أيِّ عمل أدبي يكمن في قدرته وطاقته الكامنة للذهاب نحو الأقصى في قول الحقيقة عارية، والذهاب عميقاً في ظلمات جراحنا ومآسينا، وغروب الأمل في اللحظة الراهنة.
أظن أن كتابتي الأدبية قصة أو رواية تذهب في هذا الاتجاه السلبي والسوداوي، لكنها تقول بشكل سرّي ومجازي إن هذه الظلمات ليست قدراً أو مصيراً نهائياً أبدياً المواجهة والمقاومة والتصدّي للأسود والمنحطّ والشرّ، حتى الموت أو الهزيمة، هو من سمات شخصياتي الأدبية، وهذا الصراع بين الخارج والداخل، بين الأنا ـ الفرد ـ الجماعة، وبين العدو بما هو سلطة قمع وتوحّش وإذلال، هو ما يشير إلى الأمل أو الضوء.
ما الذي يحدث الآن في فلسطين والعراق والجزائر غير المذابح والمجازر ومشاهد الموت؟ لمَ لا تكتب إلا بالحبر الأسود عن هذه التراجيديا العربية، والانهيار الذي يعيد إلى الذاكرة زمن الحروب الصليبية في فلسطين الآن، والعراق المجتاح الآن.
كما تستعاد حقبة ملوك الطوائف والحروب الأهلية في الجزائر الآن.
هل هناك من مشهد مأساوي أشدّ مرارة وعجزاً وتدميراً للروح والإنسان، وتفكيكاً لقبائل العرب، سوى ما حدث في اجتياح المغول والتتار، وسقوط الإمبراطورية التي ما كانت تغيب الشمس عنها.
هل كان النقد مواكباً للحركة الروائية عامة؟ وهل نالت أعمالك الأدبية ما تستحق من الدراسة من وجهة نظرك؟
النقد فقير وجاهل في بلادنا فهو إما نقد يلخص العمل الأدبي أو ينقله مع تعليقات ساذجة وذاتية، وهذا نقد انطباعي تبسيطي لا يدخل إلى أعماق العمل ليحلله ويبنيه من جديد، ويضيء ما هو ملتبس ومجازي فيه، وإما نقد صحافي سريع معرّف بالعمل وشارح لبعض مدلولاته الواضحة من خلال قراءة سريعة وسطحية، تستند أحياناً إلى كلمة الغلاف الأخير.
بمعنى آخر لا يوجد نقاد متخصصون يتعلم منهم الأديب من خلال السجالات المعرفية العميقة، وإذا ما وجدت سجالات حول الناقد والأديب فهي تأخذ طابعاً ذاتياً فيه من المهاترات والتجريح والمزاج الذاتي، أكثر مما فيه من توازن موضوعي واستنارة معرفية وثقافية.
في ظل هذا المناخ البائس والفقير والذاتوي من البديهي ألا تنال أعمالي الأدبية حقها الموضوعي من الدراسة والنقد الجادّ، وتحديداً في سوريا. في حين نالت اهتماماً نقدياً وجوهرياً في البلدان العربية كمصر والمغرب والعراق وتونس ولبنان والجزائر
ـ احتلت المرأة مساحة واسعة من أعمالك الأدبية. كيف تنظر إلى المرأة في مجتمعنا العربي عبر كتاباتك، وكيف تناولها أدبنا العربي من وجهة نظرك؟
أعتقد أنني منحاز للمرأة في بلادنا ومجتمعنا العربي جرّاء الاضطهاد التاريخي والذكوري الذي قاست منه على مرّ عصورنا منذ الجاهلية حتى اليوم. يسمّيها الرجل الشرقي بالضلع القاصر كونها ولدت كحوّاء من ضلع آدم، مشيراً إلى فوقية الرجل ووضاعة أو جزئية المرأة، وهذا تبخيس وجهالة وتهميش لأهمية المرأة ودورها الاجتماعي الخلاق في المجتمع. المرأة هي الأم والحبيبة والأخت والزوجة والصديقة، وككائن إنساني هي نصف المجتمع، وحصر وظيفتها ودورها في إطار البيت والأسرة هو نوع من البدائية والتقسيم الديني والأخلاقي المتخلف والرجعي.
بدائية الأسلاف وقيم الشرف المتوارثة من عصور الانحطاط والجهالة والاستبداد الذكوري، وعصور الإماء والجواري المنقرضة.
العصور الحديثة والتطور الثقافي والاجتماعي، والحركات النسوية للمطالبة بحقوق المرأة، وظهور الأحزاب السياسية التقدمية، بدأت تدرك قيمة المرأة وتعيد لها دورها في المجتمع خارج البيت، وخارج السيطرة الذكورية.
هذا التغيّر في رؤية المرأة، ونزولها إلى العمل جنباً إلى جنب مع الرجل، أحدث انقلاباً مفهومياً في كثير من البلدان العربية. وهذا الانقلاب المفهومي والوجودي انعكس في الأدب العربي إيجابياً، وتحديداً في الأدب الطليعي والحداثي الذي يرى في المرأة، خارج مفهوم الجنس، قيمة إنسانية منتجة وخلاقة في مجال العمل ونهضة المجتمع.
الحرية ـ المقاومة ـ الديمقراطية ـ أين أدبنا العربي منها، وهل كانت هاجساً لحيدر حيدر في كتاباته؟
الهاجس المركزي في ما كتبته كافة هو: الحرية. ومن ثم المقاومة لا بالمعنى السياسي ـ التحرري الوطني والقومي وحسب. إنما المواجهة الصدامية مع المؤسسات والمفاهيم والسلوكيات القامعة والجاهلة والمتخلفة والمستبدة في مجتمعاتنا العربية.
في الأدب العربي الحديث والطليعي نلمح بقوة هذه الحالة في المواجهة ورفض الظاهرات السلبية المعيقة للتقدم والتنوير والانتقال من العصور القديمة إلى العصور الحديثة. ولقد دفع المثقفون العرب ثمناً باهظاً للحرية والمواجهة والتنوير العقلي والمعرفي، وصل إلى حدود القتل والتكفير والحرم والنفي.
هل ترى فعلاً إيجابياً لكتاباتك؟
بالتأكيد هناك فعل إيجابي عبر ما كتبت، وتحديداً في مجال التنوير والمواجهة الحادّة للسلبي والأسود والمظلم في حياتنا.
حين تذهب عميقاً باتجاه المحرّم وتقاربه فأنت تفضح وتعرّي، لكنك تسير على حدّ السكين وحافة الهاوية.
هذه المواجهة الخطرة تنعكس على القارئ محدثة صدمة نوعية، صدمة موقظة وارتجاجية داخل أعماق البحيرة الراكدة. فقول المسكوت عنه والمغطى تاريخياً والتابو ـ المحرّم ينير الظلمات، ويزيح الستار الكاذب والمزيف، معلناً الحقيقة عارية.
ـ رغم ما تقوله عن الأسلوبية المقاربة للفضاء الشعري، يوجد الكثير من الشعر في كتاباتك. لماذا لا تكتب الشعر لتكون شاعراً. هل تفكر بذلك؟
لن أفصّل أكثر حول الملامح أو الإيقاعات الشعرية في قصصي ورواياتي، لأنني أجبت على هذا الاتهام الجميل. أنا أكتب الشعر منذ زمن طويل ـ قصيدة النثر ـ وأحتفظ بالقصائد في دفاتري، ولعلني الآن أو فيما بعد أفكر بنشر كتاب شعري بعد تأمل وتردد طويلين استجابة لنداء داخلي خجول وملحّ في آن.
ـ أنت مطلع على الآداب العربية والعالمية. ما هو تقييمك لموقع الأدب العربي الحالي، وما هو موقعه بين تلك الآداب؟ وهل يواكب الأدب العربي حركة التطور والانتكاس العربي؟
هذا السؤال يوجّه إلى النقاد وخاصة المختصين بالأدب المقارن، لتكون الإجابة دقيقة وموضوعية. ومع ذلك سأدلي برأي موجز وعام حول السؤال.
أولاً: المقارنة لموقع الأدب العربي مع الأدب العالمي، ليست لصالح الأدب العربي نظراً للسبق الحضاري والتقدم العلمي وتحقيق الحرية الفردية، وخصوصاً في أوروبا وأميركا.
ثانياً: إذا ماثلنا أو قارنا بين الأدب العربي وآداب العالم الثالث ـ أمريكا اللاتينية ـ أفريقيا ـ أسيا، من الممكن أن نلمح تقدماً ملحوظاً للأدب العربي في مجال الشعر تحديداً أكثر منه في القصة والرواية، ذلك لأن لأميركا اللاتينية قصب السبق في المشهد الروائي.
وبعيداً عن هذه المقارنة الاحتمالية بين الآداب العالمية والعربية، لابد من أن نعترف بأن الأدب العربي: شعراً وقصة ورواية ومسرحاً، حقق في مدى أكثر من نصف قرن مشهداً ثقافياً متميزاً، واكب حركة العصر، والتطور البطيء للمجتمع العربي، بل دفع هذا الأدب المجتمع نحو المزيد من التطور والتقدم والحرية والاستنارة.
ـ هل تفكر بكتابة سيرة روائية أو سيرة ذاتية عن تجربتك الإبداعية؟
حول كتابة سيرة ذاتية ما زلت متردداً ولم أحسم هذا الأمر بعد، رغم توافر عناصر مسجلة ومدوّنة حول اليوميات في أزمنة متفاوتة.
ـ ماذا تقول للكتاب الناشئين والشباب؟
اقرؤوا كثيراً واكتبوا قليلاً، تثقفوا لا في الأدب وحسب، بل في العلوم الاجتماعية والفنون: التاريخ، الفلسفة، علم النفس، التراث العربي، الأساطير، الشعر، علم الاجتماع، احتياز لغة أجنبية، هذه الأسلحة المعنوية، والذخيرة الثقافية، هي زاد الرحلة في صحراء الكتابة والتي في النهاية توصلكم إلى الواحة والينابيع.
لهذا.. كله كان حيدر حيدر كتاباً.. لحياته وأدبه، ولهذا نحاول أن نفتح هذا الكتاب لنقرأ فيه شيئاً من حياته الباسلة، وأدبه المضيء.
حيدر حيدر النشأة والطفولة ما الذي تحقق من أحلام تلك المرحلة؟
ولدت في بيئة ريفية شبه جاهلة، بعيدة عن المدينة في أواسط الثلاثينات.
في ذلك الزمن كان الريف السوري زراعياً، ورعوياً متخلفاً، ومهمشاً، ومنسياً. كانت البلاد خارجة من ليل الاستعمار الفرنسي، وكان على القوى الوطنية بأطيافها المتعددة إعادة ترميم وبناء البلاد سياسياً واقتصادياً وتربوياً.
في تلك المرحلة الحرجة انصبت جهود البناء والاهتمام بالمدن كمراكز أساسية على حساب الأرياف كأطراف هامشية، لم تنل نصيبها من العلم والمدارس والتنوير ووسائل المواصلات إلا بعد وقت متأخر.
وحدها القرى القريبة من المدن نالها نصيب من العلم والمدارس، ولحسن الحظ كانت القرية التي ولدت فيها قريبة من المدينة، تبرّع الأهالي فيها لافتتاح مدرسة ابتدائية ذات غرفة واحدة لجميع الصفوف.
حين تستعاد أطياف الطفولة والبدايات الأولى تنتابني حالة هي إلى الحلم أقرب منها إلى الواقع.
في ذلك الزمن الرعوي، الجاهل، البعيد بعد النجوم عن معالم الحضارة والمدنية، وبما يشبه المعجزة، شقّ ذلك الطفل الشقيّ والطّموح أول خطوة في الطريق الوعر والمضيء. طريق المعرفة والاستنارة.
ـ ما الذي أعطته قصة الإبحار مع القضية الفلسطينية كتجربة في النضال، وإبحار في المنفى، وما أثر ذلك في عملك الإبداعي؟
الانتماء إلى القضية الفلسطينية كان اختياراً نضالياً ومصيرياً بالدرجة الأولى.
وهذا الاختيار بدأ في دمشق في بيروت إبان الحرب الأهلية ثم أبحر مع الفلسطينيين إلى المنافي.
من يقرأ أعمالي الأدبية يدرك إلى أي مدى كان التأثير والانعكاس للمسيرة الفلسطينية فيما كتبت. هذه المسيرة التراجيدية بما هي ملحمة العرب في القرن العشرين، وما تزال إلى لحظتنا الراهنة.
ـ هل كان المنفى والهجرة قدراً عليك كما الفلسطينيين، ولماذا اخترت هذا المصير وهذه الهجرات بعيداً عن وطنك؟
حين أفكر بالهجرات والاغتراب على المستوى الشخصي، وأوازي حالتي بالحالة الفلسطينية في المنافي والشتات، وكيف التقينا معاً كأننا عاشقان على موعد، تواجهني فكرة القدر والمصير على نحو ما. وإذ أنتبه وأتأمل داخل نفسي، كإنسان أولاً وكعربي ثانياً، أدرك أنني منحاز لقضية الحرية والعدالة، ولحق الشعوب المضطهدة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
ولأن الشعب الفلسطيني مسلوب الأرض والوطن، وحريته ووجوده مهددان بقوة الاغتصاب العنصري الصهيوني، فمن الطبيعي والبديهي أن أرى نفسي في خندق هذا الشعب المكافح والمقاوم من أجل حريته وحقه في الوجود واسترداد أرضه التي طرد منها بقوّة السلاح.
ـ اختار حيدر حيدر تياراً جديداً في كتابه السرد الروائي والقصصي قريب من الشعرية، يسميه: "أسلوب على حافة الشعرية".
القارئ يراك شاعراً في سردك الروائي.
هل هذه الحال حالة إغواء أم أنها طريقة جديدة في الكتابة؟
الأديب هو أسلوبه. ومن خلال هذا الأسلوب يتمايز عن غيره. والأدب في النهاية هو اللغة والخيال والأسلوب والمعنى، وإذ تتأمل نفسك لتكون أديباً جديداً ومحدثاً لا بدَّ من أن تغادر الأساليب والأشكال واللغة القديمة التي تعلمتها في المدرسة والجامعة أو قرأتها في البيت.
أسلوب ولغة رواية الواقعية الاجتماعية تقوم على سرد الوقائع والأحداث والعلاقات الإنسانية بشكل مبسّط وسطحي وفوتوغرافي خارجي بعيداً عن التحليل الداخلي والاضطرابات النفسية والمعقدة والمرضية أحياناً. إنها لا تكشف عن الظلمات الداخلية للشخصية، كما لا تنير كل جهاتها وأبعادها وتناقضاتها: ضعفها وقوتها خوفها وجرأتها، نزاهتها وانحطاطها. هذه التكوينات المتعددة داخل الشخصية الواحدة.
لعلَّ اختياري للسرد والتحليل القريب من اللغة الشعرية يعود إلى اقتناعي بأن هذا الأسلوب اللغوي هو القادر على التعبير عن أعماق الشخصيات الواقعية ـ المتخيلة وإنارة ظلماتها.
هذا الأسلوب فيما يمكن تسميته بالسرد الرفيع والغنائي أحياناً أو الجمالي، ليس إنشاءً معزولاً ومقصى عن المعنى كما ينظر بعض نقاد الواقعية السطحيين في قراءتهم الأحادية.
لا توجد حالة إغواء أو إغراء في أسلوب ولغة كتابتي، ورواياتي أو قصصي ليست دائماً سهلة، ولعلها تحتاج إلى قراءة ثانية وتأمل وتأنّ، جرّاء تماهي اللغة هي المعنى والتحامهما بشكل عضوي.
ـ دخولك إلى المناطق المحرّمة والتابوات هل هو توجّه قصدي أم خلخلة للبنى الاجتماعية السائدة؟ وما الذي بقي في أعماقك من الضجة التي أحدثتها وليمة لأعشاب البحر ـ طبعة القاهرة؟
السؤال يطرح: ما هي وظيفة الأدب بشكل أو بآخر؟
واحد من وظائف الأدب الأساسية هي: النقد، نقد البنية الاجتماعية والفردية بما هي بنية فاسدة أو مرضية أو ظلامية أو متخلفة.
حين تخلخل وتكفك هذه البنية فأنت ترنو إلى البديل الأفضل، إلى المستقبل الأجمل دون أن ترسم المعالم أو تفضّل هيكلية ذلك المستقبل، لأن هذه المهمة هي للسياسة وليست للأديب.
ما بقي من العاصفة التي هبّت على روايتي "وليمة لأعشاب البحر" هو قوّة الأدب وفعاليته الاجتماعية في مواجهة التيارات الأصولية والظلامية، هذه التيارات المعادية للحرية والثقافة المعاصرة، والتي لا تنفي الآخر المختلف وحسب بل تستبيح دمه، استناداً إلى تأويلات خائطة وعمياء لا صلة لها بالدين أو الإسلام.
ـ متى بدأ هاجسك الأدبي؟ هل كانت هناك مؤثِّرات ودوافع جعلتك تسير في الطريق الوعر؟ وباختصار كيف بدأت الكتابة؟
الهاجس الأدبي يتحرك وينمو في داخلك من خلال القراءة والتأمل الذاتي ورغبتك المستبطنة في الحوار مع نفسك والعالم.
تخوض التجربة وجلاً ومضطرباً في البداية. تسأل: من أنا في خضمّ هذا الفضاء الأدبي العربي والعالمي؟ وهل أستطيع أن أكون قطرة في هذا المحيط؟
بالنسبة لي حين بدأت الكتابة كهاوٍ وتجريبي وذاتي كنت أتسلّى وأفرّغ هواجسي على الورق. بدأت بالخواطر والتأملات والانطباعات كتمرينات ذاتية وموضوعية.
بعدها غامرت ونشرت أول قصة وأنا ما أزال في مرحلة الدراسة.
فيما بعد، مع توالي نشر القصص في مجلة الآداب اللبنانية ونشر كتاب "حكايا النورس المهاجر" أدركت أنني وقعت في ورطة الأدب. لقد سلكت طريقاً وعراً ما كنت متأكداً من سلامته، ولا من قدرتي على المتابعة والنجاة. ولأنجو وأتخطى الوعورة والسقوط جهدت ما وسعني لتثقيف نفسي بالقراءات والحوارات والتأمل الداخلي القلق، والرغبة الجامحة في تكوين عالمي على نحو مميّز ومغامر ومختلف في عالم الكتابة. أن أكون شيئاً آخر لا يشبه الآخرين ولا يكون نسخة عنهم
ـ ما هو برأيك الهدف من الكتابة: الشهرة، التسلية، التنوير، وهل للكتابة فعل مقاوم؟
الهدف من الكتابة أولاً وأخيراً هو التنوير والوعي من خلال نقد العالم الذي ننتمي إليه وفي الآن نفسه الارتقاء بالروح الإنسانية إلى الأنقى والأجمل، والانحياز المطلق للحرية والعدالة، وأهمية الفرد ـ الإنسان في مجتمعات مستبدة تلغي أو تهمّش الكائن البشري.
ـ قمت بعملية اختراق في الكتابة، بحيث بدت كتابتك مختلفة عن غيرها، كما شكلت منعطفاً أخذ سجالاً كبيراً بين الشكل والموضوع، حتى أن بعضهم يقول عنك بأنك تكتب شعراً على حساب المضمون. ماذا تقول؟
من يقول أن الأسلوب المضاء بفضاء شعري جمالي يأتي على حساب المضمون ـ المعنى، لا يعرف القراءة.
لقد كتب نيتشه الفلسفة بلغة شعرية عالية المستوى، وهو من أهمّ الفلاسفة في العالم، وإذا تذكرنا الأسلوب واللغة المشعة لدى اليوناني نيكوس كازانتزاكي أو ألبير كامي أو د. هـ لورانس على سبيل المثال، لمن قرأ هؤلاء جيداً، يدرك أن هؤلاء لم يكتبوا شعراً مفصولاً عن معناه وجوهره عبر أدبهم الروائي.
الثنائية القديمة في الذهن العربي منذ الجاهلية حتى اليوم، بين النثري والشعري، ما تزال مهيمنة.
إن الثابت والمتحول، والاستعارة من أدونيس، تبدو الغلبة فيها للثابت على حساب المتحوّل في سياق حياتنا العربية والمعرفية منها على وجه الخصوص، لكأن ثقافتنا محتلة بعبودية ماضيها، وأي تجديد أو اختراق أو ابتكار في الأسلوب ليس في الأدب وحسب، بل في الحياة، يُعتبر خروجاً ومروقاً، وكأننا مازلنا في عصر الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي وأسلوبهما في الكتابة واللغة.
إن التداخل والتواشج بين الشعر والنثر
(في القرآن سور وآيات شعرية عالية المستوى) صار سمة العصور الحديثة المتطورة، والأجناس الأدبية في العالم متداخلة بين الشعر والنثر، فكافكا الروائي المعروف في العالم بغموضه وكابوسيته وأسلوبه السردي المرّكب والمجازي، والعادي أحياناً، يسمونه الشاعر كافكا، وهي أعلى وأرقى قيمة تطلق على الأديب.
ـ في كتابتك نلمح السواد وأنت تدخل إلى الظلمات وتغور في أعماق شخصياتك. أنت تقول كلمتك بصراحة حادّة كحدّ السيف وبلا مواربة، تكشف عن الأمل والصديد. هل ترى بصيص أمل في نهاية الطريق؟
في بلاد العرب حيث الشموس غاربة، والوجود الإنساني والاجتماعي على حافة الهاوية، جراء السلطة السياسية الغبيّة والحمقاء والمستبدة، وسيطرة الأصولية الظلامية القامعة والعمياء، والفقر الثقافي والمعرفي نحن مقذوفون في غياهب الظلمات والعجز والهزيمة واستلاب الحرية، والخروج من التاريخ.
لكي تكون أديباً أو كاتباً حقيقياً، غير مزيّف ولست مأجوراً أو انتهازياً، عليك أن ترى هذه الظلمات بعين القسوة والفضيحة بعين القسوة والفضيحة والخروج من القبيلة التائهة في الصحراء.
القبيلة الممزقة والمتناحرة والتي تقودنا إلى الهاوية.
ـ أنت كاتب عربي سوري لكن تجربتك شملت الوطن العربي من العراق إلى فلسطين فالجزائر، ورغم تنوّع المشاهد فقد كان السواد يصبغ مساحة الرؤية في تلك المشاهدة، فماذا تقول؟
سرّ الدهشة أو الانبهار في أيِّ عمل أدبي يكمن في قدرته وطاقته الكامنة للذهاب نحو الأقصى في قول الحقيقة عارية، والذهاب عميقاً في ظلمات جراحنا ومآسينا، وغروب الأمل في اللحظة الراهنة.
أظن أن كتابتي الأدبية قصة أو رواية تذهب في هذا الاتجاه السلبي والسوداوي، لكنها تقول بشكل سرّي ومجازي إن هذه الظلمات ليست قدراً أو مصيراً نهائياً أبدياً المواجهة والمقاومة والتصدّي للأسود والمنحطّ والشرّ، حتى الموت أو الهزيمة، هو من سمات شخصياتي الأدبية، وهذا الصراع بين الخارج والداخل، بين الأنا ـ الفرد ـ الجماعة، وبين العدو بما هو سلطة قمع وتوحّش وإذلال، هو ما يشير إلى الأمل أو الضوء.
ما الذي يحدث الآن في فلسطين والعراق والجزائر غير المذابح والمجازر ومشاهد الموت؟ لمَ لا تكتب إلا بالحبر الأسود عن هذه التراجيديا العربية، والانهيار الذي يعيد إلى الذاكرة زمن الحروب الصليبية في فلسطين الآن، والعراق المجتاح الآن.
كما تستعاد حقبة ملوك الطوائف والحروب الأهلية في الجزائر الآن.
هل هناك من مشهد مأساوي أشدّ مرارة وعجزاً وتدميراً للروح والإنسان، وتفكيكاً لقبائل العرب، سوى ما حدث في اجتياح المغول والتتار، وسقوط الإمبراطورية التي ما كانت تغيب الشمس عنها.
هل كان النقد مواكباً للحركة الروائية عامة؟ وهل نالت أعمالك الأدبية ما تستحق من الدراسة من وجهة نظرك؟
النقد فقير وجاهل في بلادنا فهو إما نقد يلخص العمل الأدبي أو ينقله مع تعليقات ساذجة وذاتية، وهذا نقد انطباعي تبسيطي لا يدخل إلى أعماق العمل ليحلله ويبنيه من جديد، ويضيء ما هو ملتبس ومجازي فيه، وإما نقد صحافي سريع معرّف بالعمل وشارح لبعض مدلولاته الواضحة من خلال قراءة سريعة وسطحية، تستند أحياناً إلى كلمة الغلاف الأخير.
بمعنى آخر لا يوجد نقاد متخصصون يتعلم منهم الأديب من خلال السجالات المعرفية العميقة، وإذا ما وجدت سجالات حول الناقد والأديب فهي تأخذ طابعاً ذاتياً فيه من المهاترات والتجريح والمزاج الذاتي، أكثر مما فيه من توازن موضوعي واستنارة معرفية وثقافية.
في ظل هذا المناخ البائس والفقير والذاتوي من البديهي ألا تنال أعمالي الأدبية حقها الموضوعي من الدراسة والنقد الجادّ، وتحديداً في سوريا. في حين نالت اهتماماً نقدياً وجوهرياً في البلدان العربية كمصر والمغرب والعراق وتونس ولبنان والجزائر
ـ احتلت المرأة مساحة واسعة من أعمالك الأدبية. كيف تنظر إلى المرأة في مجتمعنا العربي عبر كتاباتك، وكيف تناولها أدبنا العربي من وجهة نظرك؟
أعتقد أنني منحاز للمرأة في بلادنا ومجتمعنا العربي جرّاء الاضطهاد التاريخي والذكوري الذي قاست منه على مرّ عصورنا منذ الجاهلية حتى اليوم. يسمّيها الرجل الشرقي بالضلع القاصر كونها ولدت كحوّاء من ضلع آدم، مشيراً إلى فوقية الرجل ووضاعة أو جزئية المرأة، وهذا تبخيس وجهالة وتهميش لأهمية المرأة ودورها الاجتماعي الخلاق في المجتمع. المرأة هي الأم والحبيبة والأخت والزوجة والصديقة، وككائن إنساني هي نصف المجتمع، وحصر وظيفتها ودورها في إطار البيت والأسرة هو نوع من البدائية والتقسيم الديني والأخلاقي المتخلف والرجعي.
بدائية الأسلاف وقيم الشرف المتوارثة من عصور الانحطاط والجهالة والاستبداد الذكوري، وعصور الإماء والجواري المنقرضة.
العصور الحديثة والتطور الثقافي والاجتماعي، والحركات النسوية للمطالبة بحقوق المرأة، وظهور الأحزاب السياسية التقدمية، بدأت تدرك قيمة المرأة وتعيد لها دورها في المجتمع خارج البيت، وخارج السيطرة الذكورية.
هذا التغيّر في رؤية المرأة، ونزولها إلى العمل جنباً إلى جنب مع الرجل، أحدث انقلاباً مفهومياً في كثير من البلدان العربية. وهذا الانقلاب المفهومي والوجودي انعكس في الأدب العربي إيجابياً، وتحديداً في الأدب الطليعي والحداثي الذي يرى في المرأة، خارج مفهوم الجنس، قيمة إنسانية منتجة وخلاقة في مجال العمل ونهضة المجتمع.
الحرية ـ المقاومة ـ الديمقراطية ـ أين أدبنا العربي منها، وهل كانت هاجساً لحيدر حيدر في كتاباته؟
الهاجس المركزي في ما كتبته كافة هو: الحرية. ومن ثم المقاومة لا بالمعنى السياسي ـ التحرري الوطني والقومي وحسب. إنما المواجهة الصدامية مع المؤسسات والمفاهيم والسلوكيات القامعة والجاهلة والمتخلفة والمستبدة في مجتمعاتنا العربية.
في الأدب العربي الحديث والطليعي نلمح بقوة هذه الحالة في المواجهة ورفض الظاهرات السلبية المعيقة للتقدم والتنوير والانتقال من العصور القديمة إلى العصور الحديثة. ولقد دفع المثقفون العرب ثمناً باهظاً للحرية والمواجهة والتنوير العقلي والمعرفي، وصل إلى حدود القتل والتكفير والحرم والنفي.
هل ترى فعلاً إيجابياً لكتاباتك؟
بالتأكيد هناك فعل إيجابي عبر ما كتبت، وتحديداً في مجال التنوير والمواجهة الحادّة للسلبي والأسود والمظلم في حياتنا.
حين تذهب عميقاً باتجاه المحرّم وتقاربه فأنت تفضح وتعرّي، لكنك تسير على حدّ السكين وحافة الهاوية.
هذه المواجهة الخطرة تنعكس على القارئ محدثة صدمة نوعية، صدمة موقظة وارتجاجية داخل أعماق البحيرة الراكدة. فقول المسكوت عنه والمغطى تاريخياً والتابو ـ المحرّم ينير الظلمات، ويزيح الستار الكاذب والمزيف، معلناً الحقيقة عارية.
ـ رغم ما تقوله عن الأسلوبية المقاربة للفضاء الشعري، يوجد الكثير من الشعر في كتاباتك. لماذا لا تكتب الشعر لتكون شاعراً. هل تفكر بذلك؟
لن أفصّل أكثر حول الملامح أو الإيقاعات الشعرية في قصصي ورواياتي، لأنني أجبت على هذا الاتهام الجميل. أنا أكتب الشعر منذ زمن طويل ـ قصيدة النثر ـ وأحتفظ بالقصائد في دفاتري، ولعلني الآن أو فيما بعد أفكر بنشر كتاب شعري بعد تأمل وتردد طويلين استجابة لنداء داخلي خجول وملحّ في آن.
ـ أنت مطلع على الآداب العربية والعالمية. ما هو تقييمك لموقع الأدب العربي الحالي، وما هو موقعه بين تلك الآداب؟ وهل يواكب الأدب العربي حركة التطور والانتكاس العربي؟
هذا السؤال يوجّه إلى النقاد وخاصة المختصين بالأدب المقارن، لتكون الإجابة دقيقة وموضوعية. ومع ذلك سأدلي برأي موجز وعام حول السؤال.
أولاً: المقارنة لموقع الأدب العربي مع الأدب العالمي، ليست لصالح الأدب العربي نظراً للسبق الحضاري والتقدم العلمي وتحقيق الحرية الفردية، وخصوصاً في أوروبا وأميركا.
ثانياً: إذا ماثلنا أو قارنا بين الأدب العربي وآداب العالم الثالث ـ أمريكا اللاتينية ـ أفريقيا ـ أسيا، من الممكن أن نلمح تقدماً ملحوظاً للأدب العربي في مجال الشعر تحديداً أكثر منه في القصة والرواية، ذلك لأن لأميركا اللاتينية قصب السبق في المشهد الروائي.
وبعيداً عن هذه المقارنة الاحتمالية بين الآداب العالمية والعربية، لابد من أن نعترف بأن الأدب العربي: شعراً وقصة ورواية ومسرحاً، حقق في مدى أكثر من نصف قرن مشهداً ثقافياً متميزاً، واكب حركة العصر، والتطور البطيء للمجتمع العربي، بل دفع هذا الأدب المجتمع نحو المزيد من التطور والتقدم والحرية والاستنارة.
ـ هل تفكر بكتابة سيرة روائية أو سيرة ذاتية عن تجربتك الإبداعية؟
حول كتابة سيرة ذاتية ما زلت متردداً ولم أحسم هذا الأمر بعد، رغم توافر عناصر مسجلة ومدوّنة حول اليوميات في أزمنة متفاوتة.
ـ ماذا تقول للكتاب الناشئين والشباب؟
اقرؤوا كثيراً واكتبوا قليلاً، تثقفوا لا في الأدب وحسب، بل في العلوم الاجتماعية والفنون: التاريخ، الفلسفة، علم النفس، التراث العربي، الأساطير، الشعر، علم الاجتماع، احتياز لغة أجنبية، هذه الأسلحة المعنوية، والذخيرة الثقافية، هي زاد الرحلة في صحراء الكتابة والتي في النهاية توصلكم إلى الواحة والينابيع.