صورة المدينة في المتن الشعري الستيني في سورية - د- امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس لقد اقترن الشعر الحديث بضياع الإنسان في عصر الآلة، ومن ثم سعى الشعراء الحداثيين إلى خلق حساسية جديدة، وتصور جديد للواقع الذي أصبحوا محكومين به. ومن هذا المنطلق دعوا إلى النقمة على العصر الذي يسير نحو تدمير كينونة الإنسان ووجوده، والتصدي لكل ما من شأنه أن يهدد طمأنينة النفس والوجدان. ولهذا طغى الحس النقدي الساخر من العالم، والدعوة إلى انتهاك أعراف الإذعان المألوفة.
وقد شكلت المدينة باعتبارها ثمرة التطور الذي قاد إليه النظام الرأسمالي بقيادة البورجوازية الوطنية في أوربا إلى ظهور حساسية جديدة لدى الشعراء الطليعيين الذين وجدوا أنفسهم سجناء فضاءاتها الواسعة، وغير طلقاء بين واجهاتها الخادعة؛ ولذلك راحوا يبحثون عن مظاهر الزيف فيها حتى وصلوا إلى تبني مواقف معادية لها باعتبارها سالبة للحرية المطلقة التي كان ينشدها الشاعر.
أما على المستوى العربي، فقد اتخذ موضوع المدينة في المتن الشعري لشعراء الحداثة اتجاهين اثنين:
الأول: كان أصحابه قد وقعوا تحت تأثير شعراء أوربا، وأعادوا نفس تصورهم لمدنهم، مع فارق جوهري لم يدخلوه في حسبانهم، وهو الفرق الشاسع بين المدينة كإنجاز حضاري صناعي تجاري مالي واجتماعي في أوربا، وبين وضع المدينة كحشد سكاني ممسوخ ليس إلا في الواقع العربي.
الثاني: كان أصحابه منساقين لإيديولوجيا رافضة لفضاء المدينة كسالب للحرية، وكعائق للانطلاق نحو قيم مدنية جديدة تقطع مع ثقافة الوصاية والإذعان التي لازال حراسها يطوقون شوارع المدينة ليحرموا أبناءها الهدوء والسكينة، والتمتع بالقيم الليبيرالية الجديدة. ومن ثم ألح الشعراء على أن المدينة العربية ما هي في حقيقة أمرها سوى فضاء للهموم والفواجع، للعذاب والغربة والتشرد، إنها الوجه الحقيقي لتصور السياسيين للوظيفة التي يجب أن تضطلع بها المدينة، وتتمثل في مسخ إنسانية الإنسان، وملاحقته وتدجينه.
ومن هنا اقترنت المدينة في المتن الشعري الستيني في سورية بالوطن.
إن علاقة شعراء الستينيات في سورية بالوطن تنبع من إيمانهم الراسخ بالأرض. والأرض في تصورهم ليست سهولا وتربة، ولا جبالا وأودية، بل هي ذاكرة الشعب، هي تاريخ دم وأمجاد.
وتقوم قراءة هذه الخلفية الوطنية في أشعارهم على مستويين اثنين:
1- قراءة أولى في الوطن: المشوه والمهزوم والمنزوع الهوية
2- قراءة ثانية في الوطن: الساكن في أعماق الشعراء، الوطن الحلم.
1- المستوى الأول:
إن قراءة هذا المستوى تجعلنا نتمثل الهم الوطني عند الشاعر الستيني، هذا الهم الذي يستمد مضمونه من الظروف السياسية التي عاشتها سورية إثر الاجتياح الإسرائيلي الذي كان من آثاره: احتلال الجولان والقنيطرة وأجزاء أخرى من الوطن. وهنا تصبح المدينة/ الوطن، المدينة/ الأم، والمدينة/ المرأة رمزا للأوضاع السياسية التي تعم الوطن كله.
ويمكن القول أن مصدر اهتمام الشعراء بالمدينة مرتبط بعوامل ثلاث:
الأول: عامل خارجي نظرا لتأثرهم بنماذج الشعر الغربي، وبقصيدة "الأرض الخراب" لاليوت: Eliot على الخصوص، وقد ظهر هذا التأثير منذ ديوان أحمد عبد المعطي حجازي: "مدينة بلا قلب" وديوان صلاح عبد الصبور: "الناس في بلادي".
الثاني: عامل داخلي مرتبط بالإطار الحضاري، وظروف حياتهم وتجاربهم التي مارسوها في حضن المدن التي ارتبطوا بها.
الثالث: انخراطهم في ممارسات أنشطتهم السياسية والثقافية داخل فضاءات المدينة بفعل الهموم الوطنية.
إلا أن الملاحظة التي تسترعي الانتباه في علاقة الشاعر الستيني في سورية بالمدينة، أنها كانت علاقة متأرجحة بين الرفض والقبول، لأن معظمهم نزح إلى المدينة من الريف الذي ظل حيا في ضمائرهم، ينازعهم الحنين إليها، ومن ثم اعتبروا المدينة مرفوضة اجتماعيا؛ لأنهم أحسوا فيها بالغربة والضياع، ولكنها مقبولة سياسيا، بسبب التمركز السياسي والثقافي فيها.
لكن بعد هزيمة 1967، هاجم الشاعر الريفي المدينة لأنها سقطت في أيدي الغزاة، واستبيحت حرمتها، ومن ثم راح الشعراء يشخصونها كامرأة فقدت مقومات وجودها بعدما مست في كرامتها، وانتهكت عورتها. ومن هنا أصبح الشاعر يقرن بين المدينة والمرأة.
أ- التشخيص النسوي للمدينة/المرأة:
يتضح من خلال استقرائنا لهذا التشخيص النسوي للمدينة في المتن الشعري الستيني أنه ينطوي على موقفين متباعدين إلى حد التناقض.
ففي الجانب الأول: تبدو المدينة طاهرة، عفيفة، خالصة، عذراء، لذلك فهي معشوقة ومبرأة من كل العيوب.
وفي الجانب الآخر: تظهر مزيفة، مشوهة وملفوظة، ومن ثم فهي معلونة وبؤرة للعار والخزي.
ومن خلال هذين الموقفين المتباعدين تنبثق المدينة التي تجسد بصفاتها معنى شاملا للوطن. وهي ترتبط في الجانب الأول بالعاطفة الوطنية والكفاح القومي. وترتبط في الجانب الثاني بالخيانة والجبن والذل والمسكنة.
ويطالعنا هذا التشخيص النسوي للمدينة مبرزا جانبها الأول عند علي كنعان في قصيدته": "اللؤلؤة وانهار الزبد" حيث يقول موجها خطابه إلى دمشق:
"أحبك واحة لم تكتشف
فردوس أزهار بلا ثمر".(1)
وهو إذ يعلن حبه لها، فإنه لا يتورع في إعلان خوفه مما ينتظرها حين يقول:
"دمشق تموت من ترف.. ولا تدري
فأبكيها بما اكتنزت من الأحزان أعماقي".(2)
ويقول فايز خضور في قصيدة: "من دفتر الطفولة":
قلت أجيء إليك
امجد بين يديك،
الجمر النسل
القتل
الرفض،
الوطن اليائس"(3)
هكذا تتلاشى حدود العلاقة بين المدينة والمرأة المعشوقة، ومن ثم فإن الشاعر يتحدث عن المدينة من داخلها، وانطلاقا من تجربة الحياة فيها، ليروي قصة عشقه لها وارتمائه في أحضانها. وليعبر كذلك عن مخاوفه لما ينتظرها.
أما وجه المدينة الثاني فيقول عنه علي كنعان:
"دمشق تعيش ليلتها
بغياغضة الجسد
وكل عروقها تنساح في بحر من الزبد
...
تموت دمشق في عذراء محرومة
خبانيسانها أو كاد
لم تضحك لطيف عابر قبلي لياليها
...
دمشق تموت في طفل بلا ماوى، بلا أم
ينام شتاءه، لا كالبراعم، في الزوايا دونما حلم".(4)
    لقد تبدل حال المدينة إذن لتصبح مسببة وفاقدة لكرامتها. ومن هنا فالشاعر لا يستطيع الإفلات من هذه الصور "القاتمة الكئيبة التي يرسمها لحبيبته (المدينة).
وعلى نفس هذه الوثيرة يذهب "فايز خضور" في تشخيصه النسوي للمدينة في ديوانه: "كتاب الانتظار"، حيث نجده حريصا على مقابلة ماضيها المزهر الوضاء- قبل هزيمة 1967- بحاضرها المرير المليء بالخيبة والانكسار.
" من تكونين يا امرأة، مركبا،
فكرة،
وطنا،
موسما،
أمة،
كنت يوما كبيرة؟
.. من ترى، من تكونين؟
شيخت،
وانشرخ الفرح المسرحي،
بعينيك..
آذيت رؤياي- يا حيف-
موشورة،
أصبحت في طريقي،
وجوه الدمى المستديرة..
قاتل موسم المشمش المر،
يا غيمة الزمن الغض
يسلم دمع الحنونات
لا تجهشي،
خبئي نسغك العذب،
في واحة القلب:
وعدا كذوبا،
لأطفالك اللاهثين،
من النورج الكهل،
حلوى الخلاص" (5)
لقد تغير إذن حال المدينة، وأصبحت معا دلا للشيخوخة والحزن بعد أن سرقوا منها مواسم فرحها. ثم ينتقل – بعدما ألبت المدينة/ الم حزنه الداخلي، إلى رسم ملامح المدينة/الوطن، مسترسلا في وصف ما تعانيه من قهر وحزن وبؤس:
"كيف تبكين؟
    يسلم دمعك، يا ام،
    خبيه، خبيه نهرا،
    جفافا،
    يباسا ضنينا،
    سرابا من الرمل،
    محض سراب،
    أنيس على خاطر القافلة.. !!
قادم، قادم زمن المقصلة..."(6)
ثم ينتقل بعد ذلك ليسخر من مدنه التي استبدلت ملاحمها، ليجسدها رموزا للخيانة حينما فتحت اذرعها للسواح والدخلاء وراحت تجهض في أقبية الغرب:
" تستهويني مدن تضحك
بعد حرب،
وتولم للسياح،
ضحايا الحرب...
مدن تحبل من أصلاب الشرق،
وتجهض
في أقبية الغرب:
مدن النقط،
الصوم،
النهب،
الرجم،
العذر،
البلح المر..
مدن تسقط حين يجيء الفجر"(7)
لقد استبيحت المدينة إذن، ومن ثم فهي مرادف للخزي والعار:
" ارقصي ثاكلا،
في السهول الحبالى،
اضحكي.
أجهض القحط زغب العصافير،
واستحصد القمح،
في ضيعة الأسر...
يا غيمة الطلق،
كيف ولدت بتموز فحما،
على الخبز،
جمرا لئيما؟ !"(8)
 هكذا إذن، يصطدم الشاعر بواقع المدينة المر، الشيء الذي يدفعه إلى إحساس عميق باليأس والضياع والقهر والعذاب الذي لا ينتهي:
" حبيبتي تبكي
تغمر جفنيها
سحابة من جمر
تقهرني بالهمس:
"ادمنت عشب الجنس،
يا روعة اللحظات،
أهكذا تمضين،
ريانة بالقهر؟ !(9)
هذه إذن هي حال المدينة كما يراها الشاعر، تغير حالها بعد أن تخلى عنها أهلها وتركوها تتوجع في نحيب الفجر كما هو حال "زحلة" في هذا المقطع الشعري:
" تغير رهج فتنتها
عرائشها جفت ناطورها الظامي.
وخلته على العتبات تفحيما، توجع في نحيب الفجر
موالا على الشرفات
فيجهش لانحسار الذوب، يا نهر العرائس، آه، يا زحلة !!

لماذا دون سفحك ألف سور سامق لم يفتتح للنور
            مقلة؟ !" (10)
ويتكرر تشخيص ممدوح عدوان النسوي لمدينة "القنيطرة" في ديوانه الثاني: "تلويحه الأيدي المتعبة"، ويمتاز تشخيصه لها بروح شعرية عالية، وقد خصص لهذا الديوان مقدمة نثرية مشحونة بحبه لها، ورفضه لأي حب آخر حيث يقول:
"أنا متعب وحزين، وأنت دائي المزمن. وجوه الناس اللامبالية تنكأ جراحي. لم اعد أدري ماذا أفعل بكل هذا الغضب والحزن... لو أنني أستطيع التصرف، لعلقتك في أجفانهم ولجعلتك أرقهم الذي لا يهدأ، إنني أرحل معك كل ليلة. مرة عدت إلى البيت في الفجر، كان أهلي ينتظرونني بقلق. رأوا اصفراري فسالوني بلهفة:
خير؟ ماذا حدث؟
قلت: سقطت القنيطرة.
كادوا يضحكون وهم يقولون لي:
هذا حدث منذ عامين"(11)
إن ارتباط ممدوح عدون ب "القنيطرة" قد أخذ عليه نفسه، فهي أرقه وداؤه المزمن، وهي ترحل معه حيث يرحل وقد حمل في صدره حبه لها كما يحمل الولد الصغير أعز ما لديه.
وتحتل التجربة العاطفية مكانا بارزا في رؤية ممدوح عدوان إلى المدينة، إذ تحتل حيزا كبيرا في ديوانه الثاني: "تلويحه الأيدي المتعبة"، وتأتي علاقته بها ضمن قصة حب يائسة لمشاعر عاطفية حادة تجتاح مجموعة من قصائده التي تمضي من خلال عنصر بشري يشار إليه ب "ضمير المخاطبة" مصورة مشاعر الخيبة والدمار والقهر والخوف والموت. حتى تستقر عند صورة المدينة (مركز التحول وعنصر الربط في القصيدة) فتعقد مقارنة بين خيالات الحلم وحقائق الواقع.
وفي قصيدة: "تلويحة الأيدي المتعبة" إحساس قاتل بضياع المدينة التي أصبحت معادلة للقهر والخوف والذل والوحدة، إنها تقف وحيدة والموت متربص بها بعد أن انصرف عنها أبناؤها، وهي تنظر إلى الشاعر وتلوح له، لكنه يتجاهل التلويح ويغمض الطرف عنها لأن المروءة والعزة والإباء خصال ماتت في نفسه:
" رأيتك تلعقين دماءك الحيرى
فكل شهودك انصرفوا
وماتوا في ملاجئهم... وما عرفوا
وما تركوا سوى الأشلاء
ووحدك كنت واقفة
...
تختلسين نحوي نظرة خجلى بلا مقل
ولم أعرف:
ترى كنت السراب لنا؟
ام انك قد حملت بريق ماء النهر
ففي عينيك كانوا توأمين
معكرين بحمرة من قهر
******
تيمتت الهلال فلم أجد أحدا بضوء جبينه الخاوي
وأنت هناك واجمة
كعذراء تودع حبها الذاوي
وكنت صديقتي
أطرقت خشية مقلتيك
وسرت منشغلا فما حييت
وكان النهر يفصلنا
وكان البدر شاهدة
وكنت القبر، كنت الميت".(12)
لقد هزمت المدينة إذن حين هزم فيها الإنسان، وهزيمته عميقة إذ يراها ترسف في أغلال العبودية والقهر والذل، وهو لا يقوى على فعل أي شيء سوى الخوف والإطراق والهروب:
" اتيناك
اتينا راكضين إليك، كنا متعبين
مغمسين بنزف ذكراك
فلحت
وكنت ناشرة قميصك،
    كي تثيري نخوة الفرسان
...
لم يحدق واحد منا بوجه رفيقه
كنا نخاف تكشف الأسرار في السحن
على عجل تحدثنا
واشعلنا لفائفنا... واطرقنا
وعدنا للحديث عن الطريق ونسوة المدن".(13)
كهذا يتحول الفارس العربي: رمز النخوة والإباء إلى إنسان حقير متخاذل وهارب لا يقوى على الدفاع عن عرضه- رغم ما تثيره فيه مدينته من نخوة وتلويحها له واستغاثتها به-، إنه يوظف في هذا المقطع الشعري مفهوم العرض والشرف عند الإنسان العربي، ويتلخص في كون المرأة عرض الرجل وشرفه، وعلى كاهله يقع واجب صون هذا العرض من غزو الغرباء، فرمز الشرف عند المرأة يتجسد في العفة والبكارة، وينتهي بدفع الرجال للدفاع عن هذا العرض حينما يكون مهددا، ودور المرأة في المعركة هو إثارة النخوة في الرجال، تماما كما كانت تفعل المرأة الجاهلية، وهذا ما عبر عنه شعراء هذه الحقبة والحقب التي تلتها، كحسان بن ثابت الأنصاري حينما قال في فتح مكة:
تظل جيادنا متمطرات(*) تلطمهن بالخمر النساء
ويوظف على الجندي مفهوم الإنسان الشرقي للعرض والشرف هذا في كثير من قصائده وهو يخاطب المدينة/المرأة، فيقابل المدينة المسبية المستباحة بالمرأة التي انتهك عرضها لتتحول إلى عاهر ذليلة، إذ يقول:
"لكن،
لماذا تغيرت؟
صرت الثريا،
وصارت مساحات روحك منهوبة،
وشفاه الرجال على كل ذرة رمل بجسمك موشومة، كل وجه تعشقته
تارك أثرا فوق صدرك..
أرنو لعينيك- إذا استحيل حنانا..-،
فالمح حشدا من الغجر الأولين- الذين استباحوا الصحارى وورد البساتين-"(14)
وفي نفس السياق يقول:
"يا... أيها الأرملة الماجنة استدعي عشيقا عاجزا آخر،
مكتوبا على قائمة الموتى اسمه..
عسى ينجبك الحلم أو اليأس !
- "فقد روعنا عمقك من ألف سنة.."-
رحمك اليابس لا يحمل إلا ثمرا ميتا واصلالا وريحا عفنة !!
وثدياك بلادر وعيناك زجاج."(15)
ثم ينتقل إلى إلقاء جام غضبه على هذه الأم العاقر بقوله:
"أيتها الفاتنة الشمطاء، يا آنية البلور، يا واجهة في متحف العالم
قد زخرفها بالأخضر المزرق عملاق الخرافات..
ويا أرملة فاجرة تلعب بالعشاق والباعة..
يا جارية نخاسها يعشقها..
ماذا تبقى لبنيك الصيد، عشاقك، من هذا الجمال الهش، هذي
الفتنة الجوفاء، من هذا الجلال الخشبي؟ !
ولماذا تتهادين أمام الأعين الولهى، تشيرين إلى الخصب الذي يبدو على جذعك..
ماذا سوف تعطين إلى التاريخ؟ !
مولودا خرافيا له قلب اله آدمي؟ !
... ابتدئي الآن مراسيم الولادة..."(16)
أما محمد الماغوط، فإن حبه لدمشق هو بمثابة قدر لا يستطيع الفكاك منه، ومصدر ألم وحزن لا يقوى على مداراته أو الإفلات منه، ولذلك فهو كثيرا ما يناجيها في قصائده كمعشوقة، واصفا حالها الذي لا يبعث على الارتياح؛ وقد خصص لها في ديوانه: "حزن في ضوء القمر" مقاطع شعرية تطفح بالمرارة والألم كما في قوله:
" أيتها العشيقة المتغضنة
ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر
انت لي
هذا الحنين لك يا حقوده ! "(17)
وبعد إعلان عشقه لها يصف وضعها؛ فهي مسبية ومستباحة وحزينة:
.." دمشق يا عربة السبايا الوردية
وأنا راقد في غرفتي
اكتب واحلم وارنو إلى الماره
من قلب السماء العالية
اسمع وجيب لحمك العاريه
.. تبدو حزينة كالوداع صفراء كالسل
ورياح البراري الموحشة
تنقل نواحنا
إلى الأزقة وباعة الخبز والجواسيس"(18)
إن ارتباط محمد الماغوط بمدينته "دمشق" هو بمثابة قدر يلاحقه ويحاصره في مجمل ما كتب من شعر، كما أنه يبعث في قصائده روائح ارتباط قدري لا مفر منه، وهذا ما يفسر شده ارتباطه بها:
" لا أستطيع الكتابة، ودمشق الشهية
تضطجع في دفتري كفخذين عاريين
يا صحراء الأغنية التي تجمع لهيب المدن
وفواح البواخر
لقد أقبل والليل طويلا كسفينة من الحبر
وأنا ارتطم في قاع المدينة
كأنني من وطن آخر"(19)
ثم لنلاحظ كيف يصف حالها، وكيف يقارن وضعها بين الأمس واليوم:
" استيقظي أيتها المدينة المنخفضه
فتيانك مرضى،
نساؤك يجهضن على الأرصفة
النهد نافر كالسكين
أعطني فمك، أيتها المتبرجة التي تلبس خوذه
بردى الذي ينساب كسهل من الزنبق البلوري
لم يعد يضحك كما كان
لم أعد اسمع بائع الصحف الشاب
ينادي عند مواقف الباصات" (20)
أما حنين ممدوح عدوان إلى دمشق، فهو يتوزع إلى كل جزء فيها؛ كل ما في دمشق قد غدا جزءا من كيانه، وتظل هي الأثيرة عنده بكل ما فيها:
"كنت أعرف هذي المدينة،
كانت شوارعها تتأبطني في ليالي الضجر
وتواعدني في الغياب
تكاتبني إذ يطول السفر
تشتكي لي، وتنقل بشرى
تذكرني بالزمان القديم
أتوهج شوقا
وحين أرى وجهها في اللقاء ابش
فتبسم
تربكني بابتسامتها الساحره
والشوارع كانت تلاعبني في استراحتها

فتغامزني، وتشير إلى حلوة عابرة
.. كنت أعرف هذي المدينة:
كانت دمشق."(21)
إلا أن دمشق هذه، هي المفجرة لعذابه الذي لا ينتهي، وارقه المتواصل وحزنه الذي لا محيد عنه، لأنها حوصرت واستبيحت وانهدمت واستنجدت، ولكن الشاعر عاجز لا يملك إلا أن يطلق زفراته واساه:
" ودمشق اتسعت حتى احتوت كل البكاء
ما الذي يفعله حين دمشق اتسعت؟
ضيقت من حول عينيه حصارا
... ما الذي يفعله حين دمشق اتسعت.. وانهدمت واستنجدت؟
.. ما الذي يفعله الآن إذا راودها الغزو
إذا اخجلها السبي
وعبر الخوف شاءت أن تداري الخزي
أن تطلب من يسمع منها نهدة القهر
وأوجاع النداء."(22)
إن دمشق هنا عارية، وهي إذ تتعرى تظهر على حقيقتها بؤرة لكل ألوان الخسف والذل والبؤس والقهر، ومظاهر هذا القهر كثيرة:
" تفرج معي
أهل هذي المدينة أهلي
وهم يتقنون الجنائز
حشد من الحزن والتعزيات
وحشد من الأحجيات..."(23)
هكذا تصبح دمشق نقطة ارتكاز لهموم ابعد من كيانها المادي.
لقد حظيت المدينة إذن بحيز كبير في المتن الشعري الستيني في سورية، وقد تعددت مواقف الشعراء منها لتبلغ بهم هذه المواقف إلى حد التناقض:
- ففي جانب؛ تظهر المدينة طاهرة عفيفة خالصة عذراء معشوقة ومبرأة من كل العيوب.
- وفي الجانب الآخر؛ تظهر مزيفة مشوهة ملفوظة وملعونة.
ومن خلال هذين الموقفين المتباعدين إلى حد التناقض؛ تنبعث المدينة/ الرمز التي تجسد بصفاتها معنى شاملا للوطن والحياة ذاتها.
وهي ترتبط في الجانب الأول: بالعاطفة الوطنية والكفاح القومي.
وترتبط في الجانب الثاني: بالخيانة والجبن والذل والمسكنة.
وبذلك تكون المدينة قد فرضت نفسها على الشعراء باعتبارها أرضا ووطنا وتاريخا، ومن ثم تعددت دلالاتها بتعدد زاوية النظر إليها:
فهي تارة: المرأة المعشوقة أو الأم الحنون البديلة لجفاء الواقع، تبث الدفء، وتنشر الحنان، وتعيد التوازن المفقود لأن الشاعر يعتبرها طرفا في حوار يبادلها همة وحزنه ويأسه وحبه وفرحه وكرهه وغضبه.
- وهي تارة أخرى: بؤرة للقبح والتشويه والفساد والاستكانة والضيم والإحباط. وهنا بالذات يقع الارتداد من المدينة (الموضوع) إلى الذات (الشاعر)، حيث تتفجر الرؤى السوداء واليأس والحزن، ويتفرع في مجريات القصائد.
وبذلك يكون الشاعر الستيني في سورية قد جعل من المدينة/ الوطن رمزا شعريا كاملا، ووعاءا تتزامن في داخله:
- قيم الماضي: وذلك بالدفاع عنها وعشقها والاعتداد بها.
- وقيم الحاضر: بإنكارها والتنكر لها معا.



ب- المدينة / الواقع/ الحياة:
وهنا تبرز المدينة باعتبارها الصورة المجسمة لواقع الحياة، ولحقيقة الوجود الإنساني، ولذلك فالشاعر لا يخاطب المدينة من خلال رموز وإشارات توسع من دائرة الدلالة- كما كان عليه الحال في القصائد السابقة- ولكن يخاطبها على نحو مباشر، وعندئذ يزول عنها التشخيص النسوي لتعبر عن وجه الحياة المقزم الذميم، وترتفع نبرة الهجاء المطرد للمدينة، والسخط العارم عليها، وهي نبرة لها أكثر من مصدر.
المصدر الأول: مشاعر الوحدة والغربة نظرا لتنكر المدينة له رغم ما مارسه من تجارب في أحضانها، وتظهر هذه المشاعر حادة قوية رغم ما تعج به المدينة من حياة وصخب.
وسأقتصر فيما يلي على إيراد بعض النماذج الشعرية للدلالة على هذا المصدر الأول.
يقول ممدوح عدوان في إحدى مقاطعة من قصيدة: "هاجرت من عروبتها":
" كنت أعرف هذي المدينة
صوت بكاء أعزيه
فرحة عمر أغني لديها
ديارا تكفكف مني اغترابي
وحضنا على صدرها اترعرع".(24)
وفي قصيدة له بعنوان: "لابد من التفاصيل" يقول:
" عشر سنين اضرب كالغارق في السيل اتخبط في الشارع
قدام الفيترينات
أتابع خفقات الأضواء
اتشاجر مع حراس الليل،
وانضم لصف سكارى الليل،
في كل مساء اتلاقي بالأصحاب،
وتنضم للحزن مسيرة
وعلى أرصفة المدن
.. كنا نتجول كالأغراب".(25)
ويقول في قصيدة: "اتلفت نحوك أبكي":
"غربتي كشفت وجهها
ولكي اتقرب منك
لكي اتلمس نبضك
أو اتقري ابتسامة عينيك
كابدت هذا العناء
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي
ودمعي عال
تعلمت كيف استوى الدمع بالدم".(26)
وهذا نموذج آخر من قصيدة له بعنوان: "ولا تحسبن"- إذ يقول:
" ولا تحسبن أنني عاشق
غربتي الريح، والأرض راكضة
كيف أوقف قلبي على امرأة رجفت
في البلاد التي تتأرجح نازفة
ثم التي تتخبط غارقة في دم الشهداء
أنا لست إلا غريبا
وغربته بدأت منذ أن صار للأبجدية معنى ومعنى.
وصار الشهيد الضحية
صار الرصاص علامات موت وبدء زفاف."(27)
هكذا أضحى الشاعر مغتربا في مدينته ومتخبطا في شوارعها وعلى أرصفتها، ومتكبدا مشاعر الحزن والعناء، باكيا بالدمع والدم، ومنضما لصف سكارى الليل.
وغربة الشاعر تغذيها أحوال المدينة التي انقلبت رأسا على عقب، فالشوارع فارغة، والمحطات توقفت فيها حركة المسافرين والحوانيت أصابها البوار، والإنسان فيها أصابه الوهن وأنهكه الجوع والخوف: يقول فايز خضور في قصيدة له بعنوان: "بثور على خارطة القلب":
فارغ شارع الدمع
كل الحقائب متروكة،
في المحطات،
اسيانة،
ضيعت في الزحام،
سواعد أصحابها الغافلين عن الوعد
كل الحوانيت ادمنها النهب
باعتها اعلنوا الهجر،
والعسس المنهكون،
تغاضوا عن السعي،
افعمهم شفق الجوع. والسامرون احتواهم،
سرير التململ،
ارقهم هاجس الخوف،
ما عاد ينعش أعصابهم فرح الليل."(28)
لقد فقد الإنسان في المدينة إذن قدرته على الحركة، فلم يعد يجسد صورة ذلك الفارس الذي حقق البطولات الغائبة والتي لم يعد لها وجود في واقعة المتردي:
" فارغ شارع الدمع
أصبح،
في كل منعطف باهت،
حجر من رخام،
لتمثال سيف صديئي
يراود ورده !!
ضوؤنا ادمن السهر
بعدما اتلف الفتيل،
فانسلينا مع الشرر:

فرسا، فاجع الصهيل
" شردتنا رؤى السفر..".(29)
لقد فقدت المدينة إذن ملامحها وهو ما جعل الشاعر يحس بغربته فيها، فالظلام والعتم والصمت المطبق، والنوم والهم القاتل هو ما يؤثث فضاءها ومن ثم فالإنسان فيها فاقد القدرة على فعل شيء، ولذلك ارتد إنسانها الكبير فيما مضى، إلى طفل صغير مهان وذليل.
يقول شوقي بغدادي قي قصيدة بعنوان: "الضجر في المدينة":
" كل الشبابيك مظلمة
كل البيوت
كل الكوى مسدودة معتمة
وسط السكوت
كل الزوايا
حكايا
...
وفي المدى سيارة تسير
ملهوفة مخطوفة الهدير
قد نامت الأشياء كلها
وعاد طفلا ذلك الكبير
إلا العصافير
ففي صوتها بشاشة الريف
ولهو الغدير." (30)
المصدر الثاني: مصادر خيبة الشاعر وإحباطه التي تنساب كالسيل في أشعاره، وهي نتيجة لتجربة الحياة في المدينة ولحقيقة وجوده الإنساني فيها. إنها تجربة الألم والعذاب التي لا تفارق الشاعر إلا لتسلمه لرثاء ذاته، والارتداء إلى عالم الطفولة. وفيما يلي بعض النماذج الشعرية المعبرة عن هذه التجربة.
يقول ممدوح عدوان في قصيدة بعنوان: "هذا هو الحب إذن" معبرا عن تجربة الألم هذه، ومصورا مشاعر التيه والضياع:
و"أنا في دمشق التي تهت فيها
وضيعت أمتعتي وغنائي
فقدت بضوضائها قدرتي أن أحب
وجراة طفل على الضحك". (31)
وفي قصيدة: "زمن الجنائز الجميلة" يقول الشاعر:
" وهذه الدروب تزوغ
دروب تدور
دروب مقطعة لا تؤدي
دروب التردي
دروب الحشود التي تتهادى على يأسها
تتنامى على بؤسها
كل درب يضيق سراطا
يسيح صحارى
وكل صباح توشح بالدمع أو بالسواد
وكل أغاريدنا للحداد".(32)
وتبدو مشاعر خيبته هذه وكأنها صورة لانقطاع العلاقة العاطفية بين الشاعر ومدينته- هذه العلاقة التي سبق أن وقفت عندها سابقا والتي تجسدت في تشخيصه النسوي لها- وانقطاع علاقته بها ما هو إلا نتيجة لفعالية المدينة التي أصبحت تدور "دورة معاكسة" لما كان ينتظره الشاعر منها، لقد استبيحت حرمتها، وانتهكت كرامتها، وتهاوت بذلك القصور التي بنيت من قبل على أساس وهمي، وانهارت الأحلام، وشاع الإحباط المكبل للحرية، والمفجر لنبرة الحزن والأسى التي ترتفع باطراد في قصائد عدوان:
" وعل جفنيك يدعوني نداء
أخرس النبرة سحري الدعاء
وجهي المطلي بالأتعاب دام
كلما حاولت أن أخطو إليك
صدني سور زجاج
... غير أني سأنادي
فلعلي أتخم الصوت دعاء
عل صوتا يقحم الأسوار يسري في الزجاج
يسحب الدهشة من وجهي إليك"(33).
لقد كان الكشف كاملا، فانقشع الوهم نهائيا، ولذلك لم يبق أمام الشاعر سوى رد فعل اخير، إنه الصراخ.
إلا أن رد الفعل هذا جاء سلبيا وقاسيا على الشاعر، الشيء الذي يفسر نزعة الألم والمرارة التي أضحت جذرا مشتركا لمجموعة كبيرة من قصائده الشعرية:
" وجهي المطلي بالأتعاب يهفو ليديك
عله يغفو لديك
متعب في صحبتي من ألف جيل
عائم كالريح من دنيا إلى دنيا وراء المستحيل
قطرة النوم، إذا جاءته يغفو
مثل لص هارب يسمع أصوات الكلاب
قبل أن يستيقظ يعدو
صار لا يغفو، ومثلي لا يفيق
ها هم مثلي في كل طريق... هارب من كل دار
قافز دوما ورائي من قطار... لقطار".(34)
لقد أصبح يحكم القصيدة معجم شعري يساعد على شيوع الإحساس بمشاعر الإحباط هاته، ولذلك تحملنا قصيدة عدوان إلى قلب الماضي الذي يصبح هو مجال التشكيل الشعري في القصيدة، رافدة الحاضر المؤلم بركيزة تساعد على توسيع مجال الرؤية وتوليد أبعاد دلالية جديدة.
لقد انشطر الموقف بين الماضي- رمز النخوة والاباء والفروسية- والحاضر- رمز الهزيمة النكراء والموت واليباس العربي-:
" من ترى القاك في دربي،
لماذا كلما حدقت في عمري، يبكي
في دمي طفل، وماض ودوار؟
...
آه لو يمتد هذا اليوم ساعات لتكفي ذلك الماضي بكاء
ذلك الماضي رأى عينيك في حلمي.. فثار
شدني بين يديه
ثم طار
ورياح الحزن أدنته إليك
جاء كي يغفو، كي ينحر جيلا دامعا بين يديك
غير أن الليل أقصاه مرار
ومرارا صده عنك جدار"(35)
إن هذا الهروب إلى الماضي يبدو غير يقيني لأنه نتيجة لمشاعر حادة من الحزن واليأس والألم، ولكنه يضع نقاء الماضي في مواجهة شوائب الحاضر، وبذلك تصطدم براءة الحلم بجهامة الواقع وانقشاع الوهم. وهذا ما يعبر عنه فايز خضور في قصيدة بعنوان: "اغنيات القاووش الثاني" حين يقول:
" أثداء عجاف النسغ، صوحها
حنين للريح والغربة.
تغير رهج فتنتها،
عرائشها جفت ناطورها الظامي،
وخلته على العتبات تفحيما، توجع في نحيب الفجر
        موالا على الشرفات...
فيجهش لانحسار الذوب، يا نهر العرائش، آه يا زحلة !!
لماذا دون سفحك ألف سور سامق لم يفتتح للنور
        مقله؟ !
.. سقطنا، يا شماتة صحبنا الأعداء.. !!
فضيع شوقنا دربه...
... لنا يا أرز، احباب تباريحا عفوا فيها
فديناك البقاء الحلو، هدبناك أعيننا، فسور غضبة الأنواء
ولا تحرم مجاعتنا، ولو حلمه !!
فجعنا من ولادتنا، بهجر الطيب والنعمه
فإن ضنيت ارجعنا، لك الشكران، ارجعنا:
        غبارا في مدى غيمه... !!"(36)
وننتقل الآن إلى القراءة الثانية للخلفية الوطنية عند جيل الستينيات، بعد أن انتهينا من قراءة المستوى الأول، والذي يتمحور- كما رأينا – حول الوطن المشوه والمهزوم والمنزوع الهوية.
2- المستوى الثاني: قراءة في الوطن الساكن في أعماق الشاعر: الوطن/الحلم:
مع تطور رؤية جيل الستينيات في سورية، ظلت المدينة/الوطن شاغلة حيزا كبيرا من اهتمامه، وتغيرت صورتها بتغير أسلوب النظر إليها، في حين، بقي معناها الرمزي قائما- كما فصلت الحديث عنه سابقا في المستوى الأول- دون تغير كبير.
وهكذا، وبفعل تبلور الوعي المتزايد بالمكان، ينتقل الشاعر الستيني من التشخيص النسوي للمدينة إلى التعبير المباشر عن البيئة المادية المعقدة والمتشابكة لها، هذه البيئة المرتبطة أساسا بواقع الوطن ككل، وهنا يقع الانتقال من المدينة/ المرأة/ الأم، إلى: المدينة/ الواقع/الوطن، لقد بدأ نوع من الالتقاء بين الشاعر والوطن- عبر المدينة-، وأخذ في استكشاف جوانب جديدة لملاحمها، ولذلك برزت مجموعة من الأسئلة أمام الشاعر، فراح يبحث عن مسؤولية وضعها: السياسي والاجتماعي والوطني؛ وإذا به يتبين أن المدينة/ الوطن ليست مسؤولة عن ذاتها، وأننا نحن المسؤولون، فكل سماتها هي من صنعنا، فنحن الذين شوهوا وجهها بفقداننا لجوهرنا، وفي هذا الموقف الجديد انتقال من النقيض إلى النقيض؛ أي من شجب المدينة كلية، إلى تبرئتها كلية.
وقراءة هذا المستوى الثاني ضرورية لفهم مواقف الشاعر من القضايا الوطنية، سواء تجسدت في واقع المدينة المعقد، أم تمثلت في أرجاء الوطن ككل.
يقول ممدوح عدوان في قصيدة: "وكيف يعشق القتيل":
" يمتلئ الشارع بالأعداء والرماة
يمتلئ الشارع بالمطاردين والجناة
يمتلئ الشارع إلا بالحياة
يمتلئ الشارع إلا بي" (37).
لقد بدأ الشاعر في البحث عن المسؤولين الحقيقيين عن وضع المدينة: السياسي والاجتماعي يقول عدوان أن في قصيدة: "الرماد الساطع":
"بالسر نختزل المدينة غرفة وزجاجة
بالسر نبدأ حبنا لهوا لنخترع البلاد
... بالسر نختزل المدينة
    نبدأ الحب الذي لم يلق سعرا في المزاد
    فأغلق الكتب الجديدة والقديمة والعقيمة
... هيهات
طاردني الطغاة لكي أنظف منك
طاردك الطغاة ليفرغوا مني الشوارع
نختلي
بالسر نختزل المدينة:
كل هذا الحب ليس سوى بكاء من صبابه
بالسر نخترع العزاء..."(38)
هكذا يتحول موقف الشاعر من مدينته إلى الطرف المقابل، فبعد أن كان ناقما عليها كل النقمة، يرتد بهذه النقمة إلى الطغاة والأعداء الحقيقيين لما تعانيه من أوضاع متردية. لقد أصبح الشاعر ينظر في اتجاه واحد؛ هو تعـرية المسؤولـين الحـقيقيين عـن وضع المدينة/الوطن، وبدأت هذه النظرة تكسب موقفه من المدينة والوطن حيوية وعمقا في النظرة:
" يا سماء المدينة ضاق الحصار
يا لصوص المدينة أين مضيتم بضوء النهار
لم أزل راكضا كي افتش عني وعنها
سأعرفها بجدار وحيد سيسندني في الصدام
وسأعرفها حين تأتي إلي
فيعصي الكلام رغائبها
وتخون التعابير أحزانها
ترتمي في ذراعي
وتسلم أقوالها للدموع
فافهم عزلتها الدامية."(39)
لقد أصبح الشاعر يفهم الأسباب الحقيقية وراء حزن المدينة وعزلتها، وأصبح يتعرف على الأعداء الحقيقيين والخونة الذين طوقوا المدينة/ الوطن بالقتل والخوف؛ يقول علي الجندي:
"... وكيف أقول أحبك والسجن ما بيننا وسيوف الكلام العدو؟
وقنبلة الغدر ليس لها من أمان،
وأعرف سترتك اليوم صارت" مسجلة"،
وشميم ذراعيك سحية فخديك ديوان شعر رجيم:
تعالى غرامك ان ادعيه:
فها نحن في زمن تتواصل فيه الخيانة يعبق في جو الخوف والقتل:
كيف أقول أحبك؟
يا.. ديمة تتساقط منها الحروف على تربتي؟ !
... يا .. امرأة رسموا فوق هيكلها الساحلي علامة خوف وأوقد عسكرهم
في بقية أعضائها نارهم !..".(40)
وحينما يضع الشاعر يده على المسؤولين الحقيقيين عن وضع مدينته، يكتشف وجها آخر، إنه وجه الوطن الساكن في أعماقه، إنه الوطن/ الحلم، الذي هز الشاعر هزا طوال أربعة عقود من الزمن بفعل الأحداث التي أرقته وجعلت منه بؤرة لكل أنواع العسف والخيبة والهوان؛ ومن ثم يتساءل الشاعر:
" ما الذي تبتغيه إذن؟
لا وضوح الخيانات أرضاك
ولا رعدة الجبناء
ولا شهقات الدماء
ولا تراكم قتلى المرور
ولا الأغنيات
هل يستوي الشهداء
بما يربح الوسطاء
أتى الأهل رتلا من الطامحين
فصاروا طواغيث
أرضك ترجعهم لقراهم ثوابيت".(41)
إن واقع الوطن يضع على الشاعر أكثر من سؤال:
" ماذا تريد إذن؟
انت ما زلت تحلم أن تستعيد لدمعتك الكبرياء
تبغي أن تطال السماء
إنه زمن غير ما علموك
وغير الذي جاء في كتب الله
أو كتب الماركسيين
غير الذي أنذر الأنبياء به
والذي عنده استشهد الشهداء
قصب السبق موت
وحبك صوت
بلادك مصيدة
    والسياسة فيها غزل
الشراتون يفتح أبوابه
ويفتح غزل البلاد المنيعة"(42)
لقد تغيرت أحوال الوطن، وتبدلت ملامحه، وتغيرت صورته بين الأمس واليوم، ولذلك ستتغير كل الدلالات؛ فالزغردات تصبح نعيقا، والأفراح أحزانا، والأحياء موتى:
" هذي الزغاريد للمنتصرين
وأخرى لرتل الجنائز
من جعلوا للهزيمة هذا الثمن
زغردات تزين الطريق
المؤدي لمقبرة
لم تجد ما تضم
سوى حلمنا في الوطن
وتبقى بلادي "غيتو"
سخيا بأمواته
وطليقا إذا ما أردت السفر
مطمئنا أسير
وقد أدركني كلاب الأثر
مطمئنا أسير
إلى أين؟
أين المفر؟(43)
إن الشاعر يرى أن انتماءه لهذا الوطن هو انتماء يسلبه الحرية والأمان، ويحاصره بالخوف واليأس، ولذلك تنتابه مشاعر حادة لدرجة التفكير في تغيير ملامحه ودمه وخلع نسبه حتى يتطهر كليا من هذه الصلة التي تربطه بوطنه المتخلف المهزوم:
" إني تبرأت مني
أغير حتى الملامح والدم
اخلعهم من ضميري ونسبي
أتطهر من هذه الصلة المنكرة
استمحتك يا وطني
ورجوت دموعك مغفرة."(44)
إنه يرى الواقع السياسي لوطنه مدانا، ويرى أنه معطوب كفرد، وهذا ما يقوده إلى تقرير حالته:
"هنا وطن ضائع في مسامي
أنا ضائع في مفاصله
أمس جردني من سلاحي وحزني
وقدم لي علبا بعواطف جاهزة
... فسبحان من خلق الطاعة البشرية
... سبحان من جعل العنق صالحه للمشانق
والأمن منسجما مع عتم السجون
وأنشأ للكفر ناطحة للسحاب
وأنشأ اقبيه في بلادي
وسبحانه
كيف أخفى معاجزة عن عيوني".(45)
هكذا يقف الشاعر من وطنه موقف الشاهد على حاله، والمكتوي بناره، يقرر حالته متمردا عليه ومتنكرا له، وهو موقف يعبر عن الظمأ الطاغي لوطن بديل يسوده العدل والحرية والكرامة:
" أين فرت زهور البساتين؟
أين العصافير في أغنياتك؟
أين الصبايا وقوس قزح؟
...
أيها الوطن الناعم النائم
أيها الوجع الدائم
كان صوتي نديا
وعذبه الشوق للماء
حتى انجرح
ثم لا وقت للماء
لا وقت للغيث والغوث
أو للندى
.... ها هو وطني امتد رمضاء
ما بين ماء وماء
وها وطني الآن أشجع مني:
.... من يوجه أمرا إلى العاصفة؟"(46)
لقد كان للأحداث الكبيرة التي شهدتها سورية، والوطن العربي منذ حرب فلسطين، ومرورا بالهزائم التي تلتها؛ الأثر البارز لظهور صيحة اليأس والهزيمة هذه، وفقدان الأمل في المستقبل كليا، وهذا ما حدا بالدكتور أحمد بسام ساعي إلى القول:
" ولا شك أن هزيمة حزيران جرح عميق الغور، كان من الممكن أن يؤدي- لو استمرت آثاره إلى ما بعد حرب تشرين 1973- إلى انتكاسة نفسية خطيرة في نفوس شعرائنا قد تمتد لتأخذ اتجاها عميقا وخطيرا في الشعر العربي، يشبه في مأساويته وسلبيته ذلك الخط الرومانسي المتشائم في الأدب الفرنسي."(47)
وبتتبعنا لديوان الشعر الستيني في سورية، يتضح لنا أن مواقف الشعراء من وطنهم لا يزال قلقا نظرا لوشائجهم الحميمة تجاهه، إلا أن هناك تطورا متصاعدا يبلغ بهم مستويات جديدة من النقد الاجتماعي، ومن التحليل الشعري؛ لقد اختنق الوطم الحلم، وحل محله زمن الانصياع:
" هكذا اختنق الوطن الخلبي
من الشط بالنفط والدعوات
واقفرت الأرض
رحت أهاجر من جسدي حالما
... جاءنا زمن الانصياع
... زمن تصبح القصص العربية فيه
من القتل والجوع والذل
مهروءة مضجرة
سوف ننسى غدا
...
والبلاد تضيق
تضيق بنا اللغة المنكرة
... إنها اللغة البكر
والآن سوف نعيد القراءة
سقطت بيننا كالنيازك
صرة حلم
مكبلة بالكلام البليغ
بدانا نفك الحروف العريقة
فانكشفت جثة الوطن الدمع."(48)
لقد انكشف الوهم إذن، وانقشعت الأحلام، وبدأ الشاعر في استقراء أبعاد الأزمة التي خلخلت توازنه، ولذلك يتهيأ لفعل جديد، إنه يرسم ملامح جديدة لوطنه الساكن في أعماقه، إنه التمرد على منطق الهزيمة ومحاولة استنبات الأمل من جديد:
" كنا في الصحراء
ظمأى نبحث عن قطرة ماء
حين اتت طائرة الأعداء
قصفتنا
قصفتنا
قصفتنا
ألقت كل قنابلها
فتفجر نبع الماء."(49)
لقد فجر الشاعر مياه الأرض القاحلة بقنابل الأعداء وجراح الهزيمة، وبذلك يتفجر اليأس القاتل عنده أملا طافحا بالبعث والتجدد، وهنا نكتشف مع ممدوح عدوان الوجه الآخر للحظة تاريخية حاملة للبشارة والتخطي، إنه الوجه الذي يبشر بأعراس الغد الآتي، وبالثورة المحتدمة في النهاية. ومن ثم تنزع اللغة وشاح حدادها لتغمرها الدلالات المضيئة:
" أيهذا الوطن اسمعني
فقد ناديت عمري فيك لم أسمع سوى رجع النداء
سوف اختار على أرضك موتا
لم يكن يخطر يوما في ضمير الأنبياء".(50)
هكذا ينقلب الموقف من يأس إلى أمل، ومن موت إلى بعث:
"إن الأرض تسبقني إلى وجهي
وتسبقني إلى وجعي
وكان ترابها جرحا
فصار له ضماد."(51)
وبذلك يكون الشاعر قد انتهى إلى التبشير بالوطن/ الحلم، الوطن/ البديل، ليكسب موقفه منه حيوية وعمقا في النظرة.

الهوامش:
علي كنعان: من ديوانه: "انهار من زبد" منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1970، ص 42.
علي كنعان: نفسه ص 47
فايز خضور: من ديوانه: "كتاب الانتظار" منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1974، ص 51.
علي كنعان، من ديوانه "أنهار من زبد" الصفحات 42-46-47
فايز خضور: "كتاب الانتظار" من قصيدة: "اعترافات الحسين بن علي" ص 38-39-40.
فايز خضور: نفس المصدر السابق ص 42.
فايز خضور: نفس المصدر السابق ص 25.
فايز خضور: نفس المصدر ص 41.
فايز خضور: "عندما يهاجر السنونو- اتحاد الكتاب العرب، دمشق- 1972 من قصيدة: "رباعيات منسية على قبر الخيام" ص 14-15.
فايز خضور: "عندما يهاجر السنونو" من قصيدة: "اغنيات من القاووش الثاني" ص 20.
ممدوح عدوان: "كلمات عاجلة إلى القنيطرة، الصفحات: 13-14-15-16 من مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة" دار العودة، بيروت الطبعة الثانية 1982.
من قصيدة: "تلويحة الأيدي المتعبة" من ص 37 إلى ص 40.
من قصيدة: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص 42-43.
علي الجندي: "النزف تحت الجلد" منشورات اتحاد الكتاب العرب، مطبعة دار الأنوار للطباعة، دمشق 78 من قصيدة: "أقول أولا أقول أحبك" ص 22-23.
علي الجندي: نفس المصدر، من قصيدة: "الأم العاقر" ص 53-54.
علي الجندي: النزف تحت الجلد" من قصيدة: "الأم العاقر" ص 56-57.
محمد الماغوط: أعمال محمد الماغوط" دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 1998، من قصيدة "حزن في ضوء القمر ص 12.
محمد الماغوط: نفس المصدر ص 11-12.
محمد الماغوط: "أعمال محمد الماغوط" من قصيدة: "جفاف النهر" ص 35.
محمد الماغوط: أعمال محمد الماغوط" من قصيدة: "القتل" ص 71.
ممدوح عدوان: "الدماء تدق النوافذ" دار العودة بيروت، ط2، 1982 من قصيدة: "هاجرت من عروبتها" ص 29-30-31.
"مهرجان دموي للفقراء" من مجموعته" الدماء تدق النوافذ" ص: 73-74-75.
ممدوح عدوان: نفس المصدر السابق ص 76.
من مجموعته الشعرية: "الدماء تدق النوافذ" ص 31.
من مجموعته الشعرية: "لابد مـن التفاصيل" دار العـودة، بيروت ط 2، 1982 ص 104-105.
من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الـزمان" دار الـعودة بيروت ط 2، 1982 ص 6-7.
من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" دار العودة بيروت، ط 2، 1982، ص 107-108.
فايز خضور: من ديوانه: امطار في حريق المدينة" منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1972، ص 108-109.
فايز خضور: نفس المصدر السابق ص 109-110.
شوقي بغدادي: من ديوانه: "بين الوسادة والعنق" منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 74 ص 30-31.
من مجموعته الشعرية: "يا لفونك فانفر" دار العودة بيروت 82 ص 18-19.
من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" دار العودة. بيروت 82 ص 52-53.
ممدوح عدون: من قصيدة "الجدران" من المجموعة الشعرية" الظل الأخضر" دار العودة، بيروت ط 2، 1982، ص 112.
نفس المصدر السابق ص 113-114.
نفس المصدر السابق، ص 114-116.
فايز خضور: عندما يهاجر السنونو" منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1972،  ص 20-21.
من مجموعته الشعرية: للخوف كل الزمان" ص 75.
من مجموعته: "للخوف كل الزمان" ص 99-100-101.
ممدوح عدوان: "الدماء تدق النوافذ" من قصيدة" هاجرت من عروبتها" ص 41-42.
علي الجندي: "النزف تحت الجلد" من قصيدة" أقول أولا أقول أحبك" ص 19-20.
ممدوح عدوان: "لابد من التفاصيل " من قصيدة" اوتوستراد" ص 27-28.
ممدوح عدوان: "أوتو ستراد" من مجموعته: "لابد من التفاصيل" ص 27.
ممدوح عدوان: "استميحك ذاكرتي "من المجموعة الشعرية:" لابد من التفاصيل" ص 42.
ممدوح عدوان: "استميحك ذاكرتي" من المجموعة الشعرية: "لابد من التفاصـيل" ص 42.
نفس القصيدة، من فنس المجموعة ص 76-77.
ممدوح عدوان: قصيدة "صلوات داجنة" من مجموعته الشعرية: "لابد من التفاصيل" من ص 83-87.
أحمد بسام ساعي: "حركة الشعر الحديث في سورية من خلال اعلامه" دار المامون للتراث ط 1: المامون للتراث ط: 1 1978 ص 475.
ممدوح عدوان: "استميحك ذاكرتي" من المجموعة: "لابد من التفاصيل" من 48-56.
ممدوح عدوان: من قصيدة "الصحراء" من مجموعته: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص 132-133.
ممدوح عدوان: "الحصار" من مجموعته: الدماء تدق النوافذ ص: 76.
ممدوح عدوان: "وكيف يعشق القتيل" من مجموعته: "للخوف كل الزمان" ص: 101

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟