أنفاسشاءت عوادي الزمن الموبوء إلا أن تقتلع هامة من هامات شعرائنا الشرفاء، إنه محمد عمران الشاعر السوري الكبير الذي "حرنت خيله وسقط الشرق في ثيابه دنانيرا، وصلى لحضرة المطر ومضي بين الليل والفجر صخرا لا تحركه المدام ولا الأغاريد".
إن السمة التي لازمت محمد عمران، هي سمة الحزن، الحزن الشفيف لا الحزن السوداوي، يقول في معرض حديثه عن هذا الحزن في إحدى الندوات التي خصصت لدراسة تجربته الشعرية.
"إذا كنتم تنطلقون من الحزن مفتاحا لتجربتي الشعرية فأنا معكم... ذلك أن الحزن الذي عنه نتكلم، هو حزن من يحمل هم تغيير الأشياء، وهو إعادة ترتيب العالم وهذا الحزن في ما أذكر هو الذي رافق كل الحالمين بالتغيير منذ البداية... بهذا المعنى إن مفتاح تجربتي الشعرية ينطلق من هذا الهم بدءا من الهم القومي الذي هو في الأصل مشروعي الشعري وصولا إلى الهم البشري، هم الإنسان في مسيرته على هذا الكوكب وفي معاناته، في نضاله من أجل حياة أكثر دفئا وأمنا وسلاما. "من مداخلة الشاعر بمناسبة تكريمه في مهرجان السنديان الشعري الأول في الملاجة (مسقط رأس الشاعر).
لقد خاض الشاعر المبدع محمد عمران على امتداد أربعة عقود من الزمن ونيف تجربة إبداعية مرموقة، كان حريصا فيها على الهمين: القومي والوطني، وامتزجت هذه التجربة في نضجها بالأرض والطبيعة، وعانقت في عمقها أسئلة الوجود مرفوعة إلى أفق غنائي يفيض إنسانية وعذوبة، كما أنه حمل القصيدة هم التجريب ونزعة تجاوز الناجز حتى لو كان من إنجازه هو نفسه.
نشأ محمد عمران في بيئة ريفية (قرية الملاجة)، وهي قرية متخلفة ونزح إلى دمشق؛ المدينة الصاخبة باحثا عن توازنه المفقود في القرية ولكن دون جدوى؛ لقد صدمته المدينة وأدهشته وأشعرته بالنقص لأنها لم تعترف به ولم تستجب لرغباته، ففي قصيدة: "ثلاث وجوه للريح" يقول:
"باحثا في مدائن الجسد الزرقاء
عن رايتي وأخباري
عن خيول أغزو بها شهرزادي
لم أجد أرضها القصية
أرضها البكر

أنفاس 1
يحكى انه قال العتابي فيما مضى:
 (البلاغة إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق)
وذكر لنا الجاحظ عن أعرابي انه قال: (من التوقي ترك الإفراط في التوقي!)
2
ما من أديب منا- إلا وقد غطته التراكيب المتواشجة بالأساطير، والخزعبلات وأقصته بعيدا عن المعالم الحضرية المتناثرة على وجوه الحقيقة المريعة..  
كلما تصورنا ان نواجه الكلمات الأكثر سلطة من الصمت، الأكثر حيوية من النص، إلا وغرقنا في تفاصيل موقودة بالمحرم، بالممنوع..
 لكم تصورنا ان عالم الكلمة اليوم وغدا سيكون من قاعدة ثابتة.. ضمن ما يكون التحديث العصري المواكب لانزياح المعلومة الغيبيّة بمعلومة ذات أصل، وكيان!
لكننا لم نـر سوى انكسار آخر ضمن المعنى. انكسار لم يعني الانحراف عن القصد، فحسب. قد يؤلف معنى جديدا/ يكتسب ثباتا آخر.
كيف تثبت تلك الحيثيات بين المعاني وتخرج صارخة بوجه المتلقي العارف/ العليم.. صماء اكثر عفوية وأوغل معنى…؟
ان ذلك الصدق المعنون، المسمى لا يكون إلا احترافا قدريا يكتبه المرء دون ان يستند على دوغماجية بالية أكلتها العثة.. دون ان يتحرر من الفراغات العفوية بين العهد القديم/ الجديد، والهفوات الجوفية غير المقنعة.. اقتدارا تكون الكلمات المستندة على معرفية عريضة، فمن أين يأتي بكل تلك الإرادة صانعها، وناحتها بأبشع الأزاميل الطاهرة…
    نكون في لحظة عفوية قد امسكنا المعنى المفترض بين التلافيف، نكون قد صادرنا الاعتباطي الغيبي المجوف، واللا توجه فنقف حائرين ضائعين بين حدود النص في الذهن، وبين إدراك مغزاه على امتداد المقصود..
 ما نكتبه الآن يصبح بعد حين، بعد جفاف الحبر شيئا باليا، رغبتنا بالتمزيق اكبر من رغبتنا بان يبقى، وان يقرا.. وما ان يقرأ بعد حين يكون ثاويا في مجد الذهن يطاردنا ككابوس متسلط متنفذ على آلية ما نكون به، ومازوشيا على حيوية ما نعرف…
ان الكتابة قد تطوف حروفا متناثرة بين جزئيات الكتاب، مؤثرين ان نجمع الدم، والموقف فلا نحيد عن عزمنا اللبيب إلا بالكتابة المتفجرة كالدم الخارج نزفا من جرح عميق..

أنفاساتسم الأدب المغربي عموما والأنماط السردية المتجسدة في الرواية والقصة كنموذج بشكل خاص باحتوائها لمجموعة من القضايا ذات العمق والمتجذرة في قلب الواقع المغربي، عذا مع تسجيل بعض الاستثناءات البسيطة والتي لا تعدو أن تكون إنفلاتات لا غير، لكن هناك بعض القضايا ولقوة حضورها كانت غالبا ما تصفو على سماء الإنتاجات الأدبية السردية من رواية وقصة، ومن أبرز هذه القضايا وأكثرها حضورا القضية الوطنية، أي مجموع الشعور التي يكتنزه الفرد في ذاته واتجاه وطنه ويعبر عنه إما بالثورة أو المقاومة السرية ضد سالبيه حريته، ونقصد به المستعمر، وكان حضور هذه القضية مختلفا ما بين حقبة وأخرى، حيث كان حضور القضية الوطنية في الانتاجات ما قبل الاستقلال يحمل بعدا توعويا وتحميسيا يراد منه إثارة هيجان المواطن المغربي بغية تحفيزه ودفعه للإقدام نحو كل من عبد المجيد بن جلون وع بد الكريم غلاب، حيث نلمس هذا التحفيز وهذه الإثارة جليا في أعمالهما خصوصا السيرة الذاتية لعبد المجيد بن جلون " في الطفولة" و" دفنا الماضي" لعبد الكريم غلاب، إذ هناك بعض المقاطع في السيرتين المذكورتين تحاول إثارة شعور الثورة والهيجان في غياب المواطن المغربي لتدفعه للثأر والصراخ في وجه المستعمر وتحقيق أهداف الأمة النبيلة وفي مقدمتها الاستقلال.
وجاءت فترة ما بعد الاستقلال وإلى حدود سنة 1984 والتي كان الإنتاج الأدبي فيها ضعيفا حيث لم ينشر فيها سوى 3113 كتابا، مما جعلها بحق مرحلة حسب النقاد والدارسين مرحلة السنوات العجاف، وإمتازت جل الانتاجات الروائية والقصصية فيها بطابع الافتخار والنشوة بعد النصر، إذ نرى مثلا الكاتب المغربي مبارك ربيع يتحدث في بعض أعماله عن المقاومة المغربية ومعركة التحرير والاستقلال باعتزاز كبير يشخصه أبطال رواياته وقصصه، ومنها على سبيل المثال حينما يستعرض أمجاد المقاومة المغربية أيام الاستعمار في مجموعته القصصية " سيدنا قدر" وبالضبط في قصته المعنونة ب " الأصم" فيقول " نحن في سنة 1954 والمقاومة على أشدها إذ ظهرت في الميدان منظمات جديدة بجانب منظمتنا التي كانت وحدها أول الأمر، كانت عملياتنا تنجز بإحكام ورصيد منظمتنا منها كان عظيما" ( " سيدنا قدر"/ الأصم: ص 1 7) ويقول في أحد المقاطع الأخرى من نفس القصة " ذلك أن عملي قبل ذلك كان ينحصر في إعداد المنشورات والسهر على وثائق المنظمة، أما رفقي فكان من رجال العمليات الممتازين يحظى بمكانة عظمى في المنظمة"، ونلمس أيضا هذه النزعة الإعجابية في إنتاجات كتاب آخرين كمحمد برادة ومحمد الصباغ وآخرين، وفي مقابل هذا نجد فئة من الروائيين والتي تنتمي إلى نفس الفترة ( 1957 – 1984) تحاول قراءة ذاك الماضي أي ماضي المقاومة وفترة الاستقلال بنوع من النقد الموجه، موجه بالتحديد إلى القوى السياسية المجسدة في الحزب الذي كان يعتقد بأنه يمثل الشعب ويتبنى مطالبه في حين أنه لا يعدو أن يكون براغماتيا يجلب النفع لذاته وذويه.

أنفاسيوضح علي كنعان علاقته بالشعر قائلا:
"بدأت العلاقة بيني وبين الشعر في التاسعة من عمري – على ما أذكر – بعد أن ختمت القرآن وأمرت بحفظ المقطوعات الشعرية لإلقائها في السهرات أمام الضيوف" (1).
ويحدد ما يشغله كشاعر: "تشغلني قضيتان أساسيتان:
العدالة الاجتماعية والحرية، ان شتى مظاهر الظلم الاجتماعي تثيرني بجزئياتها الصغيرة وتملأني حقدا. فلا أجد عزاءا أولا في غير الكتابة أو المطالعة. ومع إيماني بأن السير بحزم في ضوء الفكر التقدمي يستطيع أن يقضي على هذا الظلم، إلا أن الخطر يكمن في أن تتولى حمل المشاعل وتحريك الخيوط في هذه المسيرة طبقة من الموظفين والمستوظفين الذين يعرفون جيدا من أين تؤكل الكتف، والذين تقضي مصالحهم ان يحافظوا على أمراض الواقع ويزيدونها تعقيدا وخطرا لتبقى الحاجة إليهم قائمة باعتبارهم أداة خبيرة بحل المستعصيات، وهكذا يعيشون ويتكاثرون كالعلق على أكتاف جماهير المنتجين، وبخاصة الفلاحين. إن نقمتي على هذه الطبقة، وأنا واحد منهم، تجعل كتابتي أحيانا أشبه ما تكون بتقشير جرح تقيح ليبقى مفتوحا – رغم بشاعته – أمام شمس الناس المطهرة"(2).
يحدد الشاعر في هذا الاستشهاد طبيعة انشغاله كشاعر، وتتخذ هذه الطبيعة أساسا ايديولوجيا واضحا.
وعلاقة علي كنعان بالشعر توطدت في سن مبكرة – كما جاء في شهادته السالفة – إذ نشر أولى قصائده في مجلة الآداب سنة 1959، كما أنه خبر القصيدة الكلاسيكية ونال عليها الجائزة الرابعة في مهرجان الشريف الرضي عام 1964 باللاذقية، وكان من المدافعين الأوائل عن القصيدة الحديثة في سورية. درس الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق وتخرج منها، واشتغل بالصحافة الأدبية بصورة متصلة ومتقطعة منذ عام 1964 .
وقد أثر كل ذلك في شعره (الريف والأدب الإنجليزي والصحافة، التراث الأدبي والأسطورة) وكان الأساس الجمالي لمجمل نتاج الشاعر.

أنفاسيقدم الجندي نفسه بقوله:
"كانت عائلتي إسماعيلية أغاخانية، ثم تمرد والدي ظانا أنه يقوم بثورة، ونال في سبيل ذلك اضطهادا اجتماعيا وفرنسيا وفقرا"(1).
لقد نشأ علي الجندي في "سلمية" وهي مسقط رأسه تقع على أطراف البادية في سورية، عاش بها ظروفا قاسية من الاضطهاد والفقر، وهو ما جعله يتمرد تمردا فرديا خاصا ضد هذا الواقع منذ مطلع شبابه ـ شأنه في ذلك شأن أبيه ـ ومن ثم راح يمارس تمرده الرواقي العبثي بصورة علنية في الجامعة السورية في مطلع الخمسينيات.
يقول عنه سعيد حوارنية: "وكان علي الجندي المفتون ببايرون الجميل جدا والمتحدث دوما، الضاحك أبدا والملتهب شبقا إلى الحياة الفريدة... لم يكتشف أن الشعر قضيته إلا في وقت متأخر، وبعد أن استهلك نفسه وجسده كرواقي خرافي، وبعد أن امتدت إليه يد الحياة التي ذللته بخنجر رمادي يلمع ويحاذي لحمه"(2).
هذا هو علي الجندي إذن سيصحو فجأة على السقطة المروعة التي تلقاها جيله في حرب حزيران 1967، فانهارت أحلامه السياسية، وأحس بالخراب يحاصره من الجهات كلها وبالوحدة القاتلة المدمرة، فلم يكن له من حل سوى أن يجعل من الشعر عالما موازيا للواقع المزري، ومعوضا له. ومن ثم انتشر إحساسه بالقلق المدمر والبؤس النفسي والحزن المرضي، فراح يدين كل شيء، ويجزم بصورة قطعية أن كل ما كان وسوف يكون، عقيم لا جدوى منه.
وفي هذا المعنى يقول:
"إنني أعرف أني صرت وحدي.
إنني أفردت إفراد البعير
صرت كالمجذوم في أهلي
فمن دنياي غوري"(3).
ويقول في مقطع آخر عن المعنى نفسه:
" كل ما كان وما سوف يكون
صار صحنا من رماد بارد صار وجها طحلبيا
فوق ماء جامد"(4).

أنفاسسرير الأسرار الرواية المغربية الصادرة حديثا عن دار الآداب اللبنانية التي ودّعنا منذ أيّام صاحبها الألمعي الذي لا تعوّض خسارته،  الأديب الكبير سهيل إدريس، تحدث وقعا سحريا عجيبا في المشهد القرائي للنّصّ الروائي العربي المعاصر. والحقّ أني سمعت عن الرواية عبر الخبر المتسرّب  قبل أن تصلني أخيرا  وأخبر فحواها . فقد شاع الحديث في النوادي عن ميلاد روائي تطواني جديد ينضمّ إلى لائحة  المبدعين الذين شقّوا الطريق  لإغناء أنطلوجيا الكتابة السّردية  التي  يزدان بها المشهد  الثقافي لهذه المدينة المغربية الموسومة  بفيض  الحضارة وعبق التاريخ . هذا الّرّوائي، وصاحب هذا  العمل، هو كاتب  قادم  من الهامش بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معان ودلالات . هامش  الانتماء للحارة  و النشأة في أحضانها ، وهامش  الانتساب الوظيفي إلى  حقل مغاير للمسار الثقافي الأساسي الذي رسمه التكوين العلمي والثقافي للمبدع باعتباره خرّيج معاهد الدراسات  الأدبية  والقانونيّة . علما بأنّ   المجال الذي عوّدنا  على جديد الإبداع القصصي والرّوائي  في هذه المدينة ،هو مجال الممارسة في حقل التربية والتعليم الذي أنجب  أسماء لامعة من قبيل محمد أنقار وأحمد المخلوفي وخالد أقلعي ومحمد برحو، وغيرهم ممن لا زالوا يسعون إلى إثراء مجال الحكي وينهلون من كنوز المدينة  الحضارية وألوانها الثقافية،  ويستلهمون نماذجها  البشرية سليلة العوالم السحرية.
أمّا الأستاذ البشير الدامون مبدع  " سرير الأسرار" فهو موظّف  بقطاع البريد والاتصالات  ،وهو المجال  الذي يحتكم إلى تقنية التسيير والتدبير أكثر مما يرتهن إلى كفايات اللغة وتشغيل قدرات الكلام. بيد أنّ هذا الرّوائي الواعد أبى إلاّ أن يمنحنا المتعة التي طالما افتقدناها كقرّاء للأدب  ، متعة القراءة لمحكيات جذورها متأصلة في تربة الواقع العياني المحلّي المحدود،  ولكن فروعها تمتدّ  عبر أعماق الوجدان  الكوني الصّادق الذي  يستمدّ ألقه وصفاءه من بساطة  الكائن المهمّش  الذي يكتوي بنار القهر ومعاناة الغبن من جرّاء سوء تدبير القيم.
إنّها حقّّا متعة المفاجأة  باستقبال مولود إبداعي  جديد تشكّل عبر مواثيق ضّمنية بين كاتب متحرّر من ضغط الرّقيب الذي  يحصي الأنفاس ، ومتلقّ ملّ من قراءة الاجترار والتّسطيح والتعتيم،  ويطمح إلى الجديد المشرق الطّالع من بقايا الرّماد.
سرير الأسرار عمل روائي شيّد معماره  من خلال ركوب مغامرة الكتابة الواقعية التي تقتضي البوح والكشف عن  العلامات المختزلة  للسّنن الاجتماعي ، واختبار اللغة القياسية ثمّ إعادة  إنتاجها وفق أنساق اللغة التعبيرية التي  تلامس الجوهر الإنساني وتطبعه بصدق الشعور.

أنفاستقديم‏ :
تحاول هذه الدراسة أن تحدد من جهة أهم العلاقات الاختلافية والاتفاقية بين الكتابة التاريخية والكتابة الروائية عامة، وكتابة الرواية التاريخية خاصة؛ ومن جهة ثانية، أن تقترح نمذجة عامة تهدف إلى تأطير جميع الروايات التاريخية انطلاقاً من أشكال تمثل كتابها للسؤال الراهن المحفز للذهاب إلى مرحلة تاريخية بعينها، أو إلى شخصية تاريخية دون غيرها. ويؤشر هذا الاختيار على تمثل مخصوص للواقع الراهن من قبل الكاتب. وقد حاولنا وضع تلك النمذجة انطلاقاً من سيميائيات بورس التداولية(1)، التي تقسم الأدلة بحسب انتمائها إلى إحدى المقولات الظاهراتية الثلاث، وهي أولاً مقولة الممكن، وتضم الأدلة التي تكون موضعاتها الدينامية أيقونات، أي أن موضوعاتها تتجسد في أدلة أخرى تربطها بها علاقات نوعية قائمة على المشابهة كما هو الحال في الاستعارة وما شاكلها، وتتسم هذه الموضوعات الدينامية بأنها محتملة وممكنة وحسب. وثانياً مقولة الوجود، وتضم الأدلة التي تكون موضوعاتها الدينامية مؤشرات وجودية ترتبط بالدليل عن طريق المجاورة. ويميز داخل هذه المقولة بين الأدلة الإشارية التي لا تقوم إلا بالتأشير على رمزها المجرد، وبين المؤشرات التي تجسد المعنى الحقيقي للمجاورة التي تضم الأشكال البلاغية الكلاسية المعروفة مثل المجاز بأنواعه والكناية وما شاكلهما. وثالثاً مقولة الضرورة، وهي مقولة مجردة مسؤولة عن الوساطة بين الأدلة ومؤولاتها المجردة التي لا تحين وجودياً إلا في شكل نسخ، فتغدو تبعاً لطبيعة التمثيل، أيقونات أو إشارات أو مؤشرات. وبناء على هذه الخلفية النظرية أمكننا إدراج جميع نصوص الروايات التاريخية في الخانات الثلاث المنطقية، تبعاً لشكل تمثل الكاتب للواقع وشكل تمثله للتاريخ الذي يقتطع منه ما يناسب التعبير عن سؤاله، وتبعاً للفرضية القائلة إن العودة إلى التاريخ هي منطقياً عودة لتقديم إجابة عن سؤال راهن.‏
تتلاءم هذه الخانات المنطقية أولاً مع الطاقة الإنتاجية الأيقونية، التي تتحقق إما عن طريق كون الأحداث التاريخية المشكلة لمادة الرواية مشابهة ـ من حيث النوعيات ـ للراهن المحفز لسؤال الكتابة،وإما نتيجة كون الإجابة التي تتضمنها تلك المرحلة مشابهة للإجابة التي يوجهها الكاتب للسؤال الراهن المحايث لفعل الكتابة. ومثالها روايات نجيب محفوظ التاريخية والعائش في الحقيقة والزيني بركات لجمال الغيطاني وما شاكلها.. وتتلاءم ثانياً مع الطاقة الإنتاجية التأشيرية التي تتحقق حين تكون العلاقة بين المضمون الحدثي للرواية التاريخية ومرجعه التاريخي الفعلي متطابقة تقريباً، ويكون السؤال الراهن في علاقته مع المادة التاريخية انفعالياً وحسب، يتصل بالتمجيد أو التنقيص أو الاستحضار... ومثاله روايات جورجي زيدان وما شاكلها.. وتتلاءم ثالثاً مع الطاقة الإنتاجية المؤشرية، وهي التي تهم استحضار شخصية تاريخية من أجل الدلالة على قضية معقولة، لا تهم بالتحديد وضعاً محدداً، بل وضعاً إنسانياً عاماً ومثالها روايات أمين معلوف وما شاكلها..‏

أنفاس1
قال العتابي :
(البلاغة إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق)
وذكر لنا الجاحظ عن أعرابي انه قال: (من التوقي ترك الإفراط في التوقي!)
 
2
ما من أديب منا- إلا وقد غطته التراكيب المتواشجة بالأساطير، والخزعبلات وأقصته بعيدا عن المعالم الحضرية المتناثرة على وجوه الحقيقة المريعة..                                                            
كلما تصورنا ان نواجه الكلمات الأكثر سلطة من الصمت، الأكثر حيوية من النص، إلا وغرقنا في تفاصيل موقودة بالمحرم، بالممنوع..
 لكم تصورنا ان عالم الكلمة اليوم وغدا سيكون من قاعدة ثابتة.. ضمن ما يكون التحديث العصري المواكب لانزياح المعلومة الغيبيّة بمعلومة ذات أصل، وكيان!
لكننا لم نـر سوى انكسار آخر ضمن المعنى. انكسار لم يعني الانحراف عن القصد، فحسب. قد يؤلف معنى جديدا/ يكتسب ثباتا آخر.
كيف تثبت تلك الحيثيات بين المعاني وتخرج صارخة بوجه المتلقي العارف/ العليم.. صماء اكثر عفوية وأوغل معنى…؟
ان ذلك الصدق المعنون، المسمى لا يكون إلا احترافا قدريا يكتبه المرء دون ان يستند على دوغماجية بالية أكلتها العثة.. دون ان يتحرر من الفراغات العفوية بين العهد القديم/ الجديد، والهفوات الجوفية غير المقنعة.. اقتدارا تكون الكلمات المستندة على معرفية عريضة، فمن أين يأتي بكل تلك الإرادة صانعها، وناحتها بأبشع الأزاميل الطاهرة…
    نكون في لحظة عفوية قد امسكنا المعنى المفترض بين التلافيف، نكون قد صادرنا الاعتباطي الغيبي المجوف، واللا توجه فنقف حائرين ضائعين بين حدود النص في الذهن، وبين إدراك مغزاه على امتداد المقصود..
 ما نكتبه الآن يصبح بعد حين، بعد جفاف الحبر شيئا باليا، رغبتنا بالتمزيق اكبر من رغبتنا بان يبقى، وان يقرا.. وما ان يقرأ بعد حين يكون ثاويا في مجد الذهن يطاردنا ككابوس متسلط متنفذ على آلية ما نكون به، ومازوشيا على حيوية ما نعرف…
ان الكتابة قد تطوف حروفا متناثرة بين جزئيات الكتاب، مؤثرين ان نجمع الدم، والموقف فلا نحيد عن عزمنا اللبيب إلا بالكتابة المتفجرة كالدم الخارج نزفا من جرح عميق..