khelladi.jpgتمــهـــيــــد :
إذا كانت الدراسات المتعلقة برصد العلاقات بين النصوص قد نشطت بشكل كبير منذ سنوات الستين من القرن الماضي انطلاقا من التصورات التي أعلنت عنها الباحثة البلغارية "جوليا كرستيفا " تحت عنوان " التناص" والتي بنتها على ما قدمه الشكلانيون الروس حول مفهوم الحوارية الذي انبثق بقوة عند باختين في دراسته لدوستوفسكي....فإن النقد العربي لم يغفل هذا الموضوع بل كان سباقا إلى طرح العديد من مفاهيمه وحدوده وقضاياه بصيغ متعددة ، وتنبه منذ القديم إلى هذا التعالق بين النصوص والذي جعل رولان بارث – مثلا – في العصر الحديث يؤكد بأن (كل نص تناص). فقد أورد أبو علي الحاتمي هذا القول " كلام العرب ملتمس بعضه ببعض وآخذ أواخره من أوائله والمبتدع منه والمخترع قليل إذا تصفحته ، والمحترس المتحفظ بلاغة وشعرا من المتقدمين والمتأخرين لا يسلم أن يكون كلامه آخذا من كلام غيره ، وإن اجتهد في الاحتراس ، وتخلل في الكلام ، وباعد في المعنى ، وأقرب في اللفظ وأفلت من شباك التداخل (...) ومن ظن أن كلامه لا يلتبس بكلام غيره ، فقد كذب ظنه ، وفضحه امتحانه " (1)
 من هنا نطرح تساؤلات حول طبيعة معالجة النقد القديم لموضوع التناص، وحول مفاهيم السرقة والمعارضة ، وحول ما يتيحه التناص من قدرات هائلة لتنظيم هذه التداخلات جميعا.
استشعار التناص :
             كانت ذبذبات الإحساس بتداخل النصوص الشعرية بعضها مع بعض ، ومع غيرها تلتقط عبر رادارات ملكة الشاعر وذوقه وحفظه، منذ القديم ، فكل نصوصه نتاج تلاقح وتفاعل وتحاور مع نصوص أخرى بكيفيات متعددة ، ولم يفت الشاعر الجاهلي التعبير عن هذا الأمر برأيين مختلفين :
 يقر الأول بأخذ اللاحق من السابق ، حيث كان اعتماد المقدمة الطللية منهجا متبعا في استهلال القصيدة الجاهلية ، وهو ما عبر عنه امرؤ القيس بقوله :
عوجا على الطلل المحيل لأننا             نبكي الديار كما بكى ابن خذام (2)
 بل إن الشعور بإعادة إنتاج ما سبق إنتاجه استشعره الشاعر آنئذ :
مـــا أرانا نـــقـول إلا مــعارا              أو معــادا من قولنا مـكــرورا (3)

anfasseربما كان مصطلح "الإنشاء" أصوب اصطلاح يمكن استعماله للحديث عن "الكتابة"، لأن الكتابة إنما تفيد في معناها المباشر التسجيل والخط الذي من شأنه تدوين القول وحسب. ويذهب "الإنشاء" إلى معنى التكوين والخلق. فقد جاء الإنشاء مصدرا لأنشأ، وأنشأ مزيد نشأ بالتعدية، وفيه معنى التكوين والارتفاع والسمو. وكأن المنشئ يعمد إلى مواد يتخيرها ليصنع منها جديدا يبدعه على غير هيئة سابقة، وإنما يصنع ذلك استنادا إلى تصور خاص يختمر في ذاته فيكون له منه الصنيع الذي يجسد رغبته، والشكل الذي يناسب مقولته.
    وإذا كنا اليوم نغلّب اصطلاح الكتابة، فلأن الكتابة غدت تشمل الإنشاء بمعانيه السالفة و تضيف إليها جملة الإشارات والملاحظات التي يلقي بها الكتاب على مر العصور، فتشكل في نهاية المطاف ما يشبه القواعد التي يتأسس عليها "علم الكتابة" . كما تقف الكتابة من ناحية أخرى في مقابل "القراءة"، قيام تشاكل وتقابل في آن. أما التشاكل فلأن الكتابة في حقيقة أمرها نتاج قراءة قبلية شاءت لنفسها أن تتجسد في الحرف، وأن تجعل حصادها في الخط. والكتابة من هذه الوجهة تقييد لقراءة جمعت حصيلتها في المكتوب. إذا تأملنا هذه العلاقة بدت الكتابة وهي تتوسط قراءتين: قراءة قبلية تحدث على مستوى الخواطر والفكر، تتفحص الحياة وأحوال الناس ومعارفهم. وقراءة بعدية موكول إليها فك الحرف واستخراج مكنونه، اعتمادا على ما يرسب في النفس من إيحاءات المكتوب من جهة، وعلى ما يعمر النفس من معارف وأحوال من جهة ثانية. وشتان ما بين القراءتين من فروق. إذ الأولى تدبُّر وتفكُّر، واستخراج للمعاني من معادنها الأولى، وبحث لما يوافقها من ألفاظ تنمّ عنها. أما الثانية فتابعة تالية تنتظر من الخط البوح بسره أولا، ثم تضفي عليه من مكنوناتها الزيادة التي يقتضيها النص، والتي يحملها أصالة دون الإفصاح عنها.

utopie.jpgتوطئة:
تفنن الخيال البشري في تمثّل شكل الفردوس الموعود وتقريبه إلى المخيلة الإنسانية التي تميل إلى الحسي والمباشر، ولم يكن الفردوس الموعود حكرا على الأنبياء ، والقصاص، والكهنة بل صار موضوعا دسما في نقاشات الفلاسفة وكتاباتهم وأضفوا عليها بصمة خاصة حين خلعوا عنه متعلقاته اللاهوتية، وجعلوه مشروعا إنسانيا قابلا للتحقق على أرض الواقع، أطلقوا عليه مصطلح المدينة الفاضلة تارة واليوتوبيا تارة أخرى، وهذا ما خلق إشكالا نقديا وقسم النقاد إلى فئتين؛ فئة توحّد بين اليوتوبيا وعدن، وفئة تجعلها تصورين مختلفين، وقبل أن أعرض حجج الطرفين سأعرّف من البداية بمصطلح اليوتوبيا، وألقي نظرة على نتائج هذا المفهوم.
          كلمة يوتوبيا "Utopie" هي كلمة لاتينية "تحيل على مجتمع سياسي ذي نظام مثالي، أو على أرض أو وطن خيالي، ويكون هذا التصور مثاليا ونهائيا، وأقدم النصوص اليوتوبية هي جمهورية أفلاطون، وكلمة يوتوبيا هي عنوان عمل لاتيني كتبه توماس مورT.More في القرن السادس عشر، حيث يصل رحالة إلى أرض مثالية، وفي هذا السياق أيضا يمكن أن نذكر أطلنطس الجديدة لفرانسيس بيكون، و"الآن من اللامكان""Now from Nowhere" لويليام موريس William Morris، والأفق المفقود Lost Horizon لجيمس هيلتونJ.Hilton"(1)تعبّر اليوتوبيا عن حماس الإنسان كي يصنع جنته بيده دون أية وصاية ماورائية أو إعانة من السماء.
 

najat.jpg يا إلهَ الوجودِ! هذي جراحٌ    في فؤادي، تشْكو إليْك الدّواهي
هذه زفرة ٌ يُصعِّدها الهمُّ    إلى مَسْمَعِ الفَضَاء السَّاهي     
أبو القاسم الشابي

قطرة من سحاب البداية:
شاعر يتناثر حزنا وترقبا قرب نافذة الكون العملاقة، يتقنع بالجراح التي تسكن أعضاء توتره، وينزل درج الأماني، قدماه بقايا تحن للمضي نحو الأفق..
هل تراها رعشة حطاب يكسو ذاكرته من ينابيع غابة تقرأ ذبذبات خطاه؟، أم هي لوعة شاعر يطارد لهاثه الخفي بين طبقات الهواء التي تحضن غربته؟.
وهل لنحول صوته الذي يتنقل درويشا أعمى بين أدغال الكلام، يعب من بئر التأمل قِرْبَتَهُ، ويلتطم بالغسق الراقص في حانات العالم، دور في افتراشه رداء الانجذابات نحو الطمأنينة التي لا يلمسها سوى في أجنحة تتوضأ بماء الغيب؟.

مطر منتصف الطريق:
ما هذه العصافير التي تقف فوق غصن الروح، تنقر سفينة الشاعر التي تبحر في حبر الاختلاف؟
وما لهذه البداية ترفع قبعتها تحية لصيحة الأحلام الكسيرة،وكأنها نهر تتدفق ضفتاه بعشبة سرية تنوء لغتها تحت ثقل السخرية، ويتفجر نداؤها لغوا حيث يقف الشاعر حائرا في رمداء العبث ؟

محود درويششكّل رحيل الشاعر محمود درويش دافعا إضافيا لقراءة تجربته الشعرية التي اكتملت وإن ظلّت وتظلُ مفتوحة على «اكتشافات» جديدة تطلع من غنى الشاعرية. ومن انطوائها على تعددية باذخة فيها الجمالي مثلما فيها الفني. دون أن نغفل بالطبع كل تلك الفضاءات الوجودية والفلسفية والتراثية وحتى الحسّية. والتي امتزجت جميعا لتضع القصيدة الدرويشية في حالة اشتباك دائم ومتجدد مع وعي القارئ وذائقته الجمالية.

في الحديث عن تجربة شعرية كبرى كتجربة محمود درويش نجد من الضرورة الإشارة إلى مراحلها المتعدّدة. والتي حملت كل واحدة منها سمات فنية و»قضايا» شعرية ميّزتها. وكان الطابع الأهم في كل تلك المراحل التطور العاصف الذي أخذته التجربة صعودا. وبالذات منذ خروجه من فلسطين. ووقوفه على أرض الشتات بكل ما عناه ذلك الوقوف من ارتطام بواقع الحياة العربية. وبالأخص إشكالية الوجود الفلسطيني في غابة متشابكة من القوانين و»العادات» العربية. وهو ارتطام قفز بقصيدة الشاعر من فردية عزفها على ناي القضية الواحدة وشبه الوحيدة. أي مواجهة الإحتلال المباشر. إلى جدلية التناقضات الحادّة والبالغة العصف لحياة عربية كانت ولا تزال فلسطين تشكل لها عنوانا يتجاوز الإحتلال إلى عناوين أخرى كثيرة هي في المآل النهائي قضايا الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والتنمية. والتي تجعل من فلسطين أكبر من مساحتها الجغرافية. بل تجعلها وسيلة إيضاح للمأزق العربي برمته.

edwardkhratn.jpgيختط المبدع المصري إدوار الخراط لكتابته الشعرية، مناحي احتمالية تستتيح لها آفاق حرية الاستخفاف بالتوسيم الجنسي القار، والانشراع على شتى الأجناس الأدبية والتآلف معها في منظومة تجانس متراكب، له من الطواعية ما يبديها جنس أجناس تتحاور ضمنها حول احتمال من احتمالاتها المتعددة.
هاته الكتابة التي ما فتئت بدفقها الحركي الطليق تستثير أسئلة النقاد، سنكاشفها بالوصف والتأويل من خلال ديوان: "صيحة وحيد القرن"(1) الذي أبرقه المبدع في غضون سنة 1998 بعد دواوين تواترت مباغثة القارئ، في سياق استرسال كتاباته الروائية .

تبعث حرية الكتابة سؤال الشعري على وضع الفيصل بين كتابتين متوازيتين:
أولاهما، مقيدة تهجس بهاجس " أسبقية الماهية على الوجود"، لذا ترتهن بالبعد المكاني في وجودها المنجز فعليا تبعا لتصور " ماهي " سابق عن وجودها النصي.
هاته الكتابة التي لا تلبث أن تتعلب في علبة الهوية الجنسية، تعتبر الأدب " شيئا في ذاته" أي شيئا معطى جاهزا ونهائيا، لذا فما يحدها هو "الهو الغائب" هذا "الهو" الذي يعقل حريتها في خطاب كينوني مغلق، تتطابق فيه مع ذاتها النصية تطابقا يعدم الاختلاف.
ثانيتهما، مطلقة تهجس بهاجس " أسبقية الوجود على الماهية "، لذا ترتهن بالبعد الزماني في وجودها المنجز افتراضيا، تبعا لتصور " وجودي" سابق عن ماهيتها المؤجلة دوما، في سيرورة تلقيات لا تشترط خلالها وجودها بذاتها، وإنما تشترطه ب"الأنت" المخاطب، الذي يخرجها من نطاق الكمون إلى نطاق التحقق الفعلي المتنزل على محور الزمن، حيث تتلامح بجلاء عبارة عن خطاب تعدد كينوني دائم الانبجاس، ودائم الانجذاب إلى جاذبية الاختلاف في الصوغ الشعري، وفي القراءات التي تحتملها، إذ تنزع طليقة إلى النائيات الاستعارية واحتمالات انتظامها.

bach.jpgثراء عصر الباروك الموسيقي مازال أمرا مثيرا للدهشة ، في هذا العصر الذي يحدد المورخون بدايته  ببداية القرن السابع عشر (١٦٠٠)  و ينهونه تقريبيا بوفاة  "باخ " عام ١٧٥٠ بلغت الموسيقي أوج  بهائها و إزدهارها، ٌآزدهارا  لم تعرفه في عصور سابقه بل و ربما في كل  تبعه من عصور أو  يجدر بنا القول  أن ما عايشته الموسيقى في هذا العصر من تطور كبير في القواعد و الأساليب كان أضعاف ما عرفته  من تطور في تاريخها السابق كله و ما أرساه من تقاليد فنية  كان أساسا للتتطورات اللاحقه في القرنين الثامن و التاسع عشر.امتاز تيار موسيقى عصر الباروك باتساع و تنوع رقعته، فلم يقتصر الإنتاج الموسيقي علي قطر واحد بل اتسع ليشمل عددا من  المدارس المختلفة في العديد من البلدان الأوربية فبدأ بدايته الحقيقية في إيطاليا بظهور العبقري مونتيفردي Montiverdi(١٥٦٧-١٦٤٣) الذي أخرج أول أوبرا حقيقية و خلافاءه من أمثال "كوريللي Corelli ( ١٦٥٣-١٧١٣) و فيفالدي Vivaldi(١٦٧٠-١٧٤٣)  و "سكارلاتي "Scarlatti(١٦٨٥-١٧٥٧) و قد كان لمدرسة الباروك الإيطالية فضلا عظيما علي موسيقي ذلك العصر فقد أرسي أعلامها القواعد الخاصة بقوالب السوناتا و الفوجه  Fugeو الكونشرتو ، كما نشأ علي أيديهم فن الأوبرا و إلي جانب المدرسة الإيطاليه كان هناك الباروك الإنجليزي  الذي حمل لواءه "هنري بورسل " Purcell الذي ألف عددا كبيرا من الأوبرات تأثر فيها إلي حد كبير بالأوبرا الإيطالية و أيضا بإسلوب معاصره الفرنسي " لولي " (١٦٣٢-١٦٨٧)الذي قاد بموهبته الثورية هو و معاصره"كوبران " Couperin(١٦٦٨-١٧٣٣) ثم "راموه " Ramu( ١٦٨٣-١٧٦٤) مدرسه الباروك الفرنسيه التي صنعت للموسيقي الفرنسية إسلوبا خاصا و سمعة ممتازه  تجاري الإيطاليون فيما حققوه من نهضة موسيقية ، أما ألمانيا فقد كانت الموسيقي فيها أقل شأنا من نظيرها في إيطاليا و فرنسا إلي أن جاء العبقري العظيم " يوهان سبستيان باخ" (١٦٨٥-١٧٥٠) الذي اقترنت موسيقي الباروك باسمه و قدم أروع و أخلد منجازاتها و ارتفع بالموسيقي إلي سموات علا لم يطأها عقل قبله و لا بعده

cours-de-theatre-id68.jpgتعتبر مسرحية أشباح ثورة اجتماعية وأكثر قوة من مسرحياته السابقة في ذلك الوقت، حيث تمكن إبسن  أحد رواد المسرحية الحديثة  أن يعري الكذب والنفاق الاجتماعي  وانعدام أو تقلص الاحساس بالمسؤولية الذي يؤدي للعجز وتراجع مساحة الفرح الإنساني . الغرض من هذه المسرحية هو تسليط الضوء على العناصر الأكثر ضررا وتدميرا في الحياة. و قبل أن تصدر المسرحية ، أرسل ابسن رسالة إلى ناشره " فريدريك هيجل" حيث يحذره قائلا :"أشباح ستكون إلى أبعد حدّ في بعض الدوائر مثيرة للانزعاج ولكن يجب أن تكون هكذا. إن لم تثر ضجة لم يكن من الضرورة كتابتها ". لكن أشباح كانت قنبلة موقوتة أكثر مما كان يتوقع ابسن. شخصيات المسرحية قليلة: السيدة هيلين ألفينج، ابنها أوزفالد، القسيس ماندرز، النجار انجستراند، والخادمة ريجينا انجستراند، وكذلك الحاجب وهو المتوفي ألفينج، زوج هيلينا ووالد أوزفالد. رغم أنه توفي، إلا أنه يؤثر على كل ما يحدث في المسرحية، وتجري الأحداث في منزل فخم بروزنفولد وفي أقل من أربعة وعشرين ساعة.
تبدأ المسرحية لنعرف أن أوزفالد الذي يعمل فنانا في باريس رجع إلى أهله. في نهاية المسرحية نعرف أن رجينا وأوزفالد أخوة من الأب، كما نعرف أن أوزفالد ورث مرض الزهري المميت من والده. الخادمة رجينا التي وعدت بأن تذهب إلى باريس مع أوزفالد ستغادر أوزفالد عندما تعرف أنها أخته من الأب. احترق الميتم الذي ستفتحه السيدة ألفينج. ستسوء حالة أوزفالد في فترة مرضه الأخيرة و يوشك أن يكون مجنونا. طلب من أمه أن تمنحه المورفين لكي ينهي حياته، كما جاءت به إلى  الحياة يريدها أن تأخذه بعيدا عنها .

قامت السيدة ألفينج بما سمته عائلتها القران الجدير بالاعجاب، تكتشف بعد فترة وجيزة من زواجها أن زوجها سكير وفاجر. تصاب بيأس وتلجأ إلى صديقها الشاب، القس ما ندرز الذي كان يهيء لانقاذ النفوس على الرغم من أنها مغلفة في جثث متعفنة. يحث القس ماندرز ميسز ألفينج للعودة الى زوجها وواجباتها تجاه بيتها. ميسز هيلين ألفيج شابة وغير ناضجة ، وكذلك تحب القس الشاب ماندرز. أوامره كانت مطاعة لذك عادت إلى بيتها، وعانت خمسة وعشرين عاما من البؤس والتعذيب المستمر بلا نهاية. تحملت ذلك الشقاء من أجل ابنها الذي ولد من تلك العلاقة العجيبة. ابنها اوزفالد كان كل شيء في حياتها ويجب الحفاظ عليه بأي ثمن. و للقيام بذلك ستضحي رغم توقها الكبير  بإرساله بعيدا عن الأجواء المسمومة في منزلها.
من مشاهد المسرحية: أم مثقلة بالذنوب

مسييز ألفينج:  كان أوزفالد على حق في كلمة.
القس ماندرز: على حق!
ميسز الفينج: هنا في وحدتي وصل بي تفكيري إلى نفس النهاية، ولكني لم أجرؤ على الافصاح عن آرائي، إلى أن جاء إبني يتحدث عني.
القس ماندرز: أنت تثيرين شفقتي، ولكن دعيني أتحدث إليك، ولن أتحدث بوصفي مدير أعمالك ومستشارك ولكن بوصفي الصديق القديم لزوجك. بوصفي القسيس. القسيس الذي لجأت إليه يوما عندما أخطأت في الحياة.
ميسز ألفينج: وماذا يمكن القسيس أن يقوله لي؟
القس ماندرز: سأثير ذكرياتك بعض الشيء والوقت مناسب لذلك .  غدا الذكرى العاشرة لوفاة زوجك. غدا سيزاح الستار عن نصب لتخليد ذكراه. غدا سأتحدث إلى أناس كثيرين، أما اليوم فسأتحدث إليك وحدك.
ميسزو ألفينج: تفضل.
القس ماندرز: أتذكرين ولم ينقضي عام على زواجك، أنك وقفت على حافة الهاوية. إنك هجرت بيتك، أنك فررت من زوجك ، نعم  فررت ورفضت العودة إليه رغم توسلاته وصلاته.
ميسز ألفينج: وهل نسيت مدى تعاستي آنذاك .
القس ماندرز: إنها روح التمرد التي تدفعنا إلى طلب السعادة في هذا العالم. ولكن بأي حق لنا نحن ألآدميون أن طلب السعادة؟ علينا أن نؤدي واجبنا. كان واجبك البقاء إلى جانب ذلك الرجل الذي ارتبطت به برضاك المقدس.
ميسز الفينج: لعلك لم تنس كيف كان الفينج يحيا وكم كانت ذنوبه وآثامه .
القس ماندرز: نقلت إلي الشائعات الكثير عنه، وإذا لم تخطئ تلك الأقاويل، فإنك أول من ينكر حياة ألفينج في شيليه، ولكن للزوجة أن تقيم نفسها حكما على زوجها. كان من واجبك أن تحملي الصليب  الذي حملتك إياه الإرادة العليا. ولكنك تمردت ورميت الصليب، وهجرت الدار وخاطرت باسمك و سمعتك، وكدت أن تدمري سمعة قوم آخرين.
ميسز ماندرز: تعني سمعة شخص آخر.
القس ماندرز: كان من الحمق أن تلجأي إلي.
ميسز الفينج: إلى قسيسنا.. إلى صديقنا الحميم.
القس ماندرز: لنفس الاعتبار. إنك مدينة بالشكر لله، أن وهبني تلك اللحظة صدق العزيمة فنجحت في طرد الشيطان عنك وإرجاعك ثانية إلى دارك وزوجك.
ميسز ألفينج: كان هذا واجبك؟
القس ماندرز: لم أكن إلا أداة بسيطة في يد إرادة عليا. ألم تشعرين بالراحة النفسية بعد أن أرشدتك إلى طريق الطاعة وتحمل أعباء الحياة؟ ألم تسير الأمور على النحو الذي توقعت ، فتبرأ الفينج من أخطائه كما يجب على رجل أن يفعل، وعاش إلى جانبك زوجا طيبا، كريما، عطوفا حتى مات؟ ألم يصبخ إنسانا خيرا امتد خيره فشمل الجوار؟ ألم يرفعك إليه حتى صرت شريكة له في أعماله؟ لا أنكر مسيز ألفينج أنك جديرة بالثناء. ولكن لنتحدث الآن عن خطيئتك الثانية الكبرى في الحياة.
ميسز ألفينج: ماذا تعني؟
القس ماندرز: كما تنكرت لدور الزوجة يوما، تنكرت لدور الأمومة. كنت نزاعة إلى التحرر والتمرد ولم تعرفي يوما كيف تتحملين التزاما أو قيدا. فقدت دون عناية أو شعور مسؤولية كل ما ألقاه الواجب على عاتقك. ذات يوم لم يرق لك أن تكوني زوجة فغادرت زوجك.  ورأيت أن الأمومة حمل ثقيل فأرسلت ابنك إلى الخارج يعيش بين الغرباء.
ميسزو ألفينج: هذا حق.... لقد فعت ذلك.
القس ماندرز: وهكذا أصبحت غريبة في نظري.
ميسز ألفينج: كلا، كلا، لست كذلك.
القس ماندرز: نعم، أنت غريبة في نظري. تلك حقيقة لامهرب منها. تدبري الأمر يا ميسز ألفينج؟ لقد أثمت في حق زوجك، وإقامة تلك المؤسسة لذكراه اعتراف منك بالإثم. وعليك أن تعترفي الآن بإثمك في حق ابنك. تبتعدي عن طريق الخطأ وانقذي البقية الباقية التي تستطيعين لأنك أم مثقلة بالذنب. ذلك واجبي نحوك.

كيف كان الحال؟

هل كانت مؤسسة الزواج المقدسة كما يسميها البعض تبنى على أنقاض علاقات اجتماعية غير واضحة المفاهيم ، وبالتالي آلاف من الاطفال الأبرياء يدفعوا ثمهنا حياتهم في حين أمهاتهم تواصل حتى النهاية من دون أن يتعلمن كيف هي الحياة إجرامية بشكل مخيف. تتحمل مسز الفينج عبث زوجها وتقاسي الأمرين حتي تحافظ علي سمعته وإن كان الثمن باهظا. تعيش مع الحقيقة المرة إلى الأبد ،حقيقة ما رأته من الحياة الماجنة من والد طفلهاالذي عاش في محيط ضيق، لم يجد فيه هدف  لحياته . تضحي من أجل طفلها أوزفالد الذي كان النور الوحيد لها.   كل ما يجري في دماء الانسان هو ما ورثه عن والديه، بل أغلب الأفكار والعادات والممارسات يكتسبها من محيطه الاجتماعي . في مسرحية أشباح تتحمل مسز الفينج عبث زوجها وتقاسي الأمرين حتي تحافظ علي سمعته، وكان من نتيجة هذا تدمير حياتها وحياة ابنها الوحيد الذي ورث عن ابيه مرضا سريا لاشفاء منه، والابن هنا ضحية أشباح تكمن وراء التقاليد البالية التي تقف عائقا دون تكامل الشخصية.

كل امرأة "ضحية" إلا ووراءها رجل

كتب ابسن هذه المسرحية كي يشخص المجتمع الذي يحكم على الظاهر أكثر من الباطن، مجتمع يعيش تحت أغطية كثيرة مستورة ، كان المجتمع الأوربي يعاني منها على شكل أمراض اجتماعية وجنسية. توغل عميقا في ثنايا علاقات المجتمع الأسرية والعلاقات غير الشرعية، ووضعية المرأة التي تصبر وتضحي لاجل انقاذ اطفالها على حساب حياتها وتعاستها، وتصبر على فساد الزوج حفاظا على سمعة العائلة والمركز الاجتماعي.

الشخصية التي فقدت كل شيء هي السيدة ألفيج . ستدرك أنها هي السبب في جعل زوجها ينجب طفلا خارج نطاق الزواج لأنها حرمته من سعادة الحياة وتضع اللوم على نفسها. فقط الآن اكتشفت أنه كان من الممكن أن تعيش معه حياة سعيدة وتتحمل أيضا ذنب انجاب أوزفالد. ذنبها سبب ارتباطها برجل لا تحبه. لذلك لم تكن قادرة على مقابلته. كانت تخشى من شراسته ووحشيته. كانت فقط مهتمة بالحفاظ على المظهر الكاذب للزواج وتأدية الواجبات التي تعلمتها من أمها، و خالاتها وصديقها القس ماندرز. هل كانت ستعطي المورفين لأوزفالد حتى يموت... هذا ما لا نعرفه . كما جرت العادة يترك ابسن المشاهدين لطرح أسئلة مهمة وكبيرة. سئل إبسن من طرف الأديب  وليام آرتشر (الذي ترجم إبسن إلى الانجليزية) عن ميسز ألفينج إن ساعدت أوزفالد على الموت أم لا. ضحك ابسن وقال: "لا أعرف. يجب معرفة ذلك بنفسك. لا أريد أبدا أن أحلم في اتخاد قرار أسئلة صعبة." يبدو الأمر تقريبا  عندما تسرد كل المآسي على النحو التالي، تصبح كثيرا من الأشياء الجيدة، ما يعرض على خشبة المسرح فهو بعيدا عن الكوميديا. يشعرالمشاهد بالألم حينما يرى الشخصيات واحدا تلو الآخر في طريقها تدريجي!
 ا إلى التفكك. والسبب الذي يجعل المسرحية مؤلمة وليس مضحكة، لأن ابسن بطبيعة الحال يعرف متى سيأتي بالإفصاح عن بعض الأسرار. يعرف كيف سيستخدم التقنيات الأدبية وكيف سيستعملها على خشبة المسرح. وتلك هي عبقريةإابسن ككاتب مسرحي. في واحدة من المسرحيات يعالج ابسن مواضيع مثل الزنا، الأمراض التناسلية ، وسفاح القربى والقتل الرحيم. لكن مسرحية أشباح يضا تتحدّث عن الفرق بين البيئة الاجتماعية في النرويج وبلدان جنوب أوروبا، و الحياةالقمعية هنا في وطنه "النرويج" عكس الحياة السعيدة التي تعيشها الشعوب هناك ، لذلك تتعرض آلية مؤسسة الزواج في بلاده للنقد القاسي .
إنها ستكون فضيحة إذ أرجعت المكتبات مئات النسخ إلى دار النشر. الكثيرون لم يريدوا حتى الاعتراف باقتناء الكتاب. الناقد في الجريدة الصباحية يقول بأن هذا الكتاب لا يجب أن يوضع على مائدة في بيت مسيحي. لم تجرؤ المسارح في مدن كريستيانيا، ستوكهولم ،  وكوبنهاغن على عرض مسرحية الأشباح. استغرق الأمرعامين قبل أن تعرض للجمهور النرويجي،و كانت الممثلة السويدية أوجست ليندبرج  قد جاءت الى كريستيانيا مع الفرقة المسرحية، ورغم ذلك  لم تعرض المسرحية في مدينة  كريستيانيا . العرض الأول كان في عام 1900 ، سنة بعد افتتاح المسرح الوطني، عرضت المسرحية على مسرح ثابت في العاصمة. و في ألمانيا ، كانت المسرحية ممنوعة للعرض لعدة سنوات.
قدّمت مجموعة من الهواة الدنماركيين والنرويجييين المسرحية في شيكاغو بالولايات المتحدة للمهاجرين من الدول الإسكندنافية. كان ذلك أول مرة تعرض فيه مسرحية ابسن على جانب المحيط الأطلسي. جمع وليام آرتشر مجموعة من الاقتباسات من الجرائد الانجليزية عندما عرضت مسرحية الأشباح في لندن لأول مرة. " المجارير المفتوحة، ووجود جروح مقرفة مع ضمادة ممزقة، عمل قذر يعرض علنا، حقل مستشفى بنوافد وأبواب مفتوحة على مصراعيها .... هذه المسرحية كلها ابتدال وأنانية، خشونة وسخافة ... عرض منفّر ومثير للإشمئزاز  ... عرض مريض وتخريبي، خطر على الصحة وتاريخ سيء ..."
حتى في النرويج تعرضت المسرحية إلى انتقادت سيئة وبغيضة. لكن هناك من كانوا يساندونه. بيورن ستيارنا بيورنسن كان واحد منهم. وأملي سكرام كانت أيضا واحدة من الذين كانوا يؤيدونه. كان دعم بيورنسن على وجه الخصوص حارّا لابسن. كانت بينهما عداوة منذ أن نشر ابسن مسرحية اتحاد الشبيبة. على الرغم من ذلك كان من بين القلائل الذين تحدّثوا علنا بطريقة لطيفة عن مسرحية الأشباح.   كتب ابسن في رسالة:" الشخص الوحيد الذي كتب بحرية وجرأة بطريقة جيدة عني، هو بيورنسون. جرأته تشبهه. في الحقيقة له عقل ملوكي كبير ولن أنساه أبدا. بعد وقت قصير كانت مسرحية أشباح تكاد أن تكون واحدة من أكثر مسرحياته عرضا. ومن جديد سيكون إبسن متقدما بفارق كبير عن جمهوره .

الحلقة القادمة:

ما الذي جعل مسرحية أشباح مؤثرة في جمهور اليوم ؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة