أحسستُ بالانقصاف وموتُ بسّام حجّار يَهْجُمُ عليّ كعصفِ ريح زَهَقَتْ من باب انخلع فجأة. ظَلَلْتُ مبهوتا والنعيُ على شاشة الحاسوب يتموّج كالسراب في عينيّ الآخذتين في الغيام. لم أمنع الدمعة.. تركتُها تحفُرُ مجراها نحو الخارج، انحدرت بامتهال حتى لسعتني برودتها عند العنق. فَعَلَها بنا شاعرُ العُزلة والموت والصّمت الجهير، وغافلنا بكل هذا الغياب المر،، الحارقِ في النفس كخيانة، كصدّ حبيب لا نتوقع منه أن يُدير لنا في يوم الظهر، ويسحب خطاه بعيدا إلى حيث لاشيء من بعد.
أحسستُ بدمعي يغلبني، وكابرتُ وأنا أُغالِبه،،، ليس أكثر من ثوان، ثم انْهارَت فيّ كلُّ مدافعة أو ردّ. خشيتُ في لحظة أن يَلْحظ الزملاء في الجريدة بكائي الصامت، لكن، وأنا أرفع عينيّ إلى الضوء، طالعني الوجه الأسيان قُدّامي على الشاشة، وديعا ينظر إلى تحت كأنه يداري دمعه. قلتُ : إنه بسّام حجّار، الشاعرُ الذي أحببت، لم يزل في أوائل خمسينه.. وبكيت في صمت...
غصّةٌ في القلب لا تنحل. وجرحُ موت قديم يصحو عميقا في الوجدان. مخلبُ الوحش يهصر مرة أخرى فراشة شَعْشَعَتْ فيّ بالضوء. لم أفتّش في الخبر عن تفاصيل. خاطرٌ يَصْدُقُني التوقّع. إنها فعلة المرض الخبيث. تيقّنتُ من بعد، السرطان، الذي لم يَفُتْ على اكتشافه سوى أشهر قلائل، هجم على الكبد دفعة واحدة وفتّته...
عدتُ لأهمس لنفسي، إنه بسّام حجّار.. شاعرٌ مثله ما له إلا عزلته وموتاه (والده وأخته و...) يشاطرهم حزنه وهشاشته وصمته الكبير.. لابد أنه اختار الموت منذ البدء، منذ أن قادته رؤاه إلى ما لا - بحكم العادة - يُرى، إلى أبدية أخرى تضجّ بها الأشياء مسكونة بأرواح أحبّة رحلوا...
وتذكرت محمود درويش. هو من هداني إليه وأعداني به. لست أَفْتَكِرُ أين قرأت للشاعر الكبير يستشهد به. ورنّ في أذني اسمه كالجرس الملحاح، وبحثت عنه...
"تفسير الرخام" وقصائد متناثرات هنا وهناك كلُّ ما وجدتُ له. وهي تكفي. الشاعر تَعْرِفُهُ من نص واحد. تمنّيتُ لو أكتب قصيدة واحدة مما قرأتُ له، وأصمت كأني أُؤَاخِي الأبد. شدّتني عناوين دواوينه الأخرى : "مشاغل رجل هادىء جدا"، "لأروي كمن يخاف أن يرى"، "فقط لو يدُك"، "صحبة الظلال"، "مهن القسوة"، "معجم الأشواق"، "مجرد تعب"، "حكاية الرجل الذي أحب الكناري"، "مديح الخيانة"، "كتاب الرمل"، "بضعة أشياء"، "سوف تحيا من بعدي"، "ألبوم العائلة" يليه "العابر في منظار ليلي لإدوار هوبر"، ثم أخيرا "تفسير الرخام".
.. وقادتني الصدفة لأقرأ رواية "شمس آل سكورتا"، وعرفته من أسلوب ترجمته.. شاعر لم أر مثله شبها بنفسه شعرا ونثرا وترجمة.
******
أعود عشية إلى البيت حزينا أجرّ خطاي، أُولِمُ ما تبقى لي من ضوء ومن نَبَه، وأعيد قراءة "تفسير الرخام" :
««لا أبالي بي
إذا متُّ أمس
أو اليوم
أو اليوم الذي يلي،
ولا أبالي بي
إن بقيتُ حيا
لأيام، لأعوام أخرى
فلم يبق ما أصنعه
برجائي
والشهوات التي تبقّت
لم يبق ما أصنعه بضياء يومي
بالحبور الأحمق
لعابرين
في أوقات
شاغرة.»»
وأجهشُ.. وقد غام فيّ كلُّ شيء.
عبد العالي دمياني
* كُتب هذا النص عشية تلقي خبر وفاة بسام حجار