لا مجال للحياة على الحياد ؛ أنت شاهد وقضيّة وطرف في صراع يتلوّن في كلّ حين بلونٍ صارخ . لم تعد هنالك مساحة للوقوف في مركز الدائرة ، وكلُّ واحدٍ منا يسير في حركة مضطربة وقلقة في فراغ الدائرة الّتي تتسع وتضيق في كلّ لحظة فنزداد قهراً وخوفاً ونزداد معرفة ووعياً بعبثيّة البقاء على الحياد .
السؤال الأوّل الذي تداهمك به الرواية يجيء مرفقاً بغلافها " لماذا ثلج ؟! "
إنّ العنوان ينفتح على دلالات كثيرة يصعب حصرها ، فهي تتوالد لتنفتح بدورها على دلالات أخرى تجعل عالم الرواية عالماً حيّاً يضجُّ بالحركة والحياة والشخصيّات الّتي تبدو لأوّل وهلة بسيطة تحركها واقعية الأحداث إلاّ أنّها سرعان ما تكشف عن نفسها لتبدو أشدّ تعقيداً من صورتها تلك ؛ فالشاعر اليساري والشيوعي "كريم ألاقوش أوغلو " الملقّب بكا لم يستطيع على الرغم من قصر المدّة الّتي قضاها في مدينة " قارص" المنسيّة أن يبقى محايداً أو شاهداً بل أصبح طرفاً فيها قبل أن يصبح قضيّة قائمة بحدّ ذاتها .
تدور أحداث الرواية حول زيارة " كا " إلى مدينة قارص الضائعة تحت النسيان والثلج الذي استمرّ هطوله أياماً عديدة جعلت المدينة مغلقة وقطعت كل الصلات مع العالم الخارجي لتبدو مسرحاً تدور فيه الأحداث والشخصيات ، ويقيم كا في زيارته تلك في فندق " ثلج بالاس " الذي كان في أساسه بناءً أرمنيّاً حيث يلتقي بإيبك الّتي تعيش مع والدها وأختها قذيفة بعد أن انفصلت عن زوجها ، ويقع الشاعر بحب " إيبك" صديقته القديمة وزميلة الدراسة ويعيش تلك الأيام مغموراً بسعادة هذا الحب الذي بنا عالمه في خياله فكان ملهماً له في معظم قصائده ، ويلتقي في الوقت ذاته بمجموعة من الشخصيّات الّتي تجره إلى مسرح الأحداث ليتشعّب عالم الرواية بتشعّب تلك الاتجاهات السياسيّة ، حيث يلتقي برجال دين وإسلاميين متطرفّين وعلمانيين ورجال الدولة والشرطة وأكراد وغيرهم الكثير . إلاّ أن الكاتب يسلّط الضوء على كثير من القضايا والمواضيع الّتي تعاني منها تركيا حتّى هذه اللحظة من مثل قضيّة الأكراد والإسلامييّن . وأهم تلك القضايا هي قضيّة الحجاب الشرعي الّذي منع في المعاهد والجامعات مما يسبّب موجة انتحار تسري في صفوف الفتيات المحجّبات مما يثير استغراباً و مخاوف من تفشّي هذه الظاهرة واتّساعها لتشمل تركيا بأكملها .
هذه القضيّة تتناولها الرواية من وجهات نظر مختلفة إلاّ أنَّ هذه الوجهات على اختلافها تنتظم بمجملها بين قطبين : العلمانيون " الدولة " والإسلاميون ، ولعلّ أهم لقاءات هذا الشاعر وأكثر إدهاشاً تكون مع كحلي وأزرق من بعده والذين يمثّلون الإسلاميين الذين كانت لهم مطالب عديدة تجعلهم أعداء ومارقين في نظر الدولة العلمانية . ويتسنّى لكا أن يطّلع على وجهات النظر المتعددة قبل أن تسحبه الأحداث وعزلة المدينة ليصبح وسيطاً ثمّ طرفاً في نظر الآخر قبل أن يترك المدينة مهزوماً في ساحة الحب وخائناً في نظر الناس ، ليتركها وحيداً إلاّ من دفتره الأخضر الذي ضمّ مجموع القصائد الّتي كتبها في تلك الفترة ويعود إلى فرانكفورت مرّة ثانية حيث يبقى هنالك فترة من الزمن قبل أن يقتل في شارع من شوارعها وتقيّد القضيّة ضدّ مجهول ،ويضيع الدفتر الأخضر الذي ضمّنه ما كتب من قصائد .
لماذا ثلج ؟
هو السؤال الذي يقيم فينا منذ الصفحة الأولى ويزداد إلحاحاً علينا صفحة إثر أخرى ، فأوّل ما يعرفنا به أورهان باموك الذي يتولّى مهمة كتابة تاريخ تلك الرحلة أنّ " كا " يزور مدينة قارص ويقطع المسافة ليلاً بين أرضروم إلى قارص تحت الثلج الذي يمسح خلف عبور الحافلة كلَّ إمكانية للرجوع في ذلك الوقت ، ولا تنفع الأسئلة العبثيّة الّتي كان يطرحها على نفسه عن جدوى ذهابه إلى هذه المدينة الجبليّة المغمورة أبداً بالثلج والنسيان والمحاطة بالألغاز عن انتحار الفتيات المحجبات بعد صدور قرار يمنعهن من ارتداء الحجاب واغتيال رئيس البلديّة ليصل في وقتٍ متأخّر إلى المدينة الّتي تبدو شبه خاوية تحت الثلج ، فيخيّل له أنها مدينة مهجورة وخالية إلاّ من الثلج الذي يبدو في أوّل الرواية محايداً هو الآخر ومصدراً لسعادة وصفاء انتظره هذا الشاعر العائد من فرانكفورت إلى تركيا بعد غياب دام اثنتي عشرة سنة ليعود لحضور جنازة أمّه قبل أن يكمل طريقه إلى مدينة قارص ليخلو بنفسه أوّلاً ، وليؤدّي المهمّة الموكلة إليه من صحيفة في استانبول عن انتحار الفتيات المستمر في تلك المدينة وعن الانتخابات البلديّة .
إنّ غياب كا عن تركيا لاثنتي عشرة سنة بوصفه منفياً ولاجئاً سياسياً هو الذي يجعل رؤيته لكلّ ما يحدث في هذه المدينة الصغيرة أكثر حساسيّة وعمقاً لصدورها عن شاعر لا تجذبه السياسة بقدر ما يجذبه الشعر الذي لابدّ له أن يلامس تلك الأجواء السياسيّة المشحونة بالتناقض والمركزة بشكلٍ رئيس على الفوضى الّتي تستند إليها الحياة بطبيعتها ؛ لذلك نجده ينشد الحبَّ ويحلم بالعيش مع " إيبك " الّتي لم تكن أكثر من زميلة له في أيّام الدراسة قبل أن يرحل وتتزوج هي من زميل آخر وتتطلّق منه بعد فترة ، فهي ليست حبّ حياته ولكنّها المرأة الّتي تبرز بوصفها بديلاً عن وطن منشغل عنه بتعقيد خلافاته السياسيّة . فأيبك تبرز حضنا يحتوي " كا " في عودته بعد أن فقد أمّه وفقد الأمل في العيش في وطنه؛ لذلك نجده يلحُّ منذ البداية على أيبك ليأخذها ويهربان إلى ألمانيا ليعيشا هناك في غرفته الّتي من الممكن بوجود إيبك أن تصبح وطناً بديلاً ، فعودته إلى قارص بعد كلّ هذا الغياب كانت هي الأخرى سبباً في إلهامه وتجديد روحه الشعرية بما وهبته تلك الرحلة من رؤية جديدة للأشياء وللحياة وللوطن وللحب . إلاّ أن الثلج يعود ليغمر أطراف تلك العلاقة الّتي تفشل تحت إلحاح الدسائس والخلافات السياسيّة الّتي لم يستطع التملّص منها على الرغم من النفي والغياب والمحاولة المضنية للبقاء على الحياد .
يمكن عدُّ مدينة قارص الجبليّة والريفيّة بتكوينها حاضناً مناسباً لكلِّ تلك الآراء والتوجهّات والفلسفات المختلفة حدّ التناقض في جوانب عديدة ، فتبرز في البداية خالية وخاوية ومغمورة بالثلج لدرجة بدت فيها المدينة بلا حياة ، (( أبسبب الثلج ليس ثمّة أحد في الشوارع ؟أم أنّه لا يوجد أحدٌ في أيّ وقت على هذه الأرصفة المتجمّدة ؟)) ، وهذا السؤال هو البداية الّتي تهيئ القارئ لتجاوز المكان والولوج إلى نفس الشاعر الّتي رأت في هذه الرحلة متنفّساً لها للتخلّص من فوضها والعيش بوحدة لأيّام قليلة تكون كافيّة لترتيب ذاته المبعثرة التي لم يستطع لملمتها في فرانكفورت حيث تبدو الأشياء أكثر ضخامة بفعل الغربة ولا في اسطنبول الّتي تظهر فيها الأشياء واضحة بشكلٍ صارخٍ لا يقبل التأويلات ولا يتيح فرصة العبث بالصور الجاهزة الّتي تحتاج إليها النفس في سعيها إلى الطمأنينة ،ولا يمكن أن يتحقّق هذا إلاَّ بفضل المكان المناسب بالدرجة الأولى الذي يستطيع أن يحرّر الذات من تلك الفوضى بوقت أسرع من أيَّ مكان آخر ؛ لأنّها المكان الوحيد الذي لم يتغيّر " ربّما " ؛ لذلك نجد " كا" يرى في قارص فرصة للتسلل من الحاضر إلى أيّام الطفولة والصبا ، (( حين عاد من فرانكفورت التي عاش فيها اثنتي عشرة سنة ، كانت رؤيته لشوارع اسطنبول التي سار فيها مع أصدقاء طفولته كلها ، دكاكينها ، وسينماتها قد تغيرت من قمتها إلى قاعدتها ، وزالت وفقدت روحها ، وهذا ما استفزَّ في داخله إرادة البحث عن الطفولة والصفاء في مكان آخر )).
يبقى الثلج الذي يغمر ببياضه كل شيء هو الأكثر أهميّة في الوقوف عليه لأنّه يحيل المكان إلى مساحة بيضاء للكتابة عليها ولتدنيسها بتلك التصورات المتناقضة ، فهو لا يتوقّف أبداً وكأنّه أزلي ، وهذا ما يكسب الزمن أهميّة بسيره ببطء لدرجة يخيّل فيها أنّه ثابت كإطارٍ تتحرّك فيه الأحداث بحدّية ونزق شديد ويجعل اللحظة متخمة بتلك التفاصيل الّتي لا يمكن تجاوزها دون أن تترك أثراً واضحاً في سيرورة الأحداث الروائيّة . فالثلج الذي يرسم أحداث تلك الرحلة يكون في البداية فرصة للخلود إلى النفس والطمأنينة ثم يصبح مصدر إلهام شعري لقصائد كثيرة كتبها " كا" في تلك الرحلة ، كما يصبح نافذة للتفكّر بالإيمان والله والسعادة المطلقة ، و يصبح مسرحاً للانقلاب الفاشل ولحركة العصيان والتمرّد الّتي ترى فيه فرصة للهيمنة وفرض شروطها على الدولة ، ويكتسب الثلج في كلّ حين دلالة خاصّة في ذات " كا" وفي الأحداث ذاتها إلاّ أن استمرار تساقطه يجعلنا نعتقد أنّه يقوم بدور الممحاة الّتي تلغي شيئاً وتدثّره بالنسيان قبل أن يكتسب قدرته على الثبات .
إنَّ ثلج قارص المنسيّة يستحيل مساحة للكتابة الآنية الّتي سرعان ما تتلاشى حروفها تحت سطوة السقوط المستمر للثلج الذي يبدو المهيمن الوحيد والثابت في المكان المهيّأ لتقبّل كلِّ شيء قبل أن يعود ليندثر من جديد .
إذاً ، لا ثبات في الثلج ، ولا مجال للبقاء أيضاً على الحياد ، والحركة الّتي تسلّط الضوء عليها الرواية هي حركة نفسيّة داخلية تدور في النفس لتختصرها بموقف مضطرب سرعان ما ينطلق إلى فضاء المكان المغمور بالثلج ليندثر تحته . لاشيء ثابت سوى النسيان والفراغ وفكرة البحث عن الحقيقة والسعي إليها . وكلّ ما سوى ذلك فهو آني ما إن يضيء حتى يتلاشى في هذا العدم المطبق .
هذا ما تقودنا إليه الرواية حيث يكتسب الثلج دلالة فلسفيَّة تجعل من كرة الثلج البلوريّة تعبيراً عن الإنسان بحالته الخاصّة جدّاً وهذا ما نجده في فصل يفرده الكاتب تحت عنوان " لكلّ شخص بلورته الثلجيَّة " ، يقول : (( فهم كا من الكتب الّتي قرأها فيما بعد ، بأنّ هنالك وسيطاً من ثماني إلى عشر دقائق بين تبلور بلورة الثلج بشكل نجمي في ستة أذرع في السماء حتى نزولها إلى الأرض وفقدانها شكلها ، وأنها تتشكّل تحت تأثير ظروف عديدة مليئة بالأسرار مثل الريح والبرد وارتفاع الغيوم ، وشعر بأن علاقة ما تربط بين بلورات الثلج والناس )) . وهذا ما يجعل برأيه بلورة الثلج تعبيراً عن حياة خاصّة لكلّ إنسان تكتسب معناها بفضل البيئة والظروف على اختلاف مناحيها ، وهي الّتي تؤثّر بشكلٍ مباشر في طريقة حياته وأنماط تفكيره.
جاءت الرواية في أربعة وأربعين فصلاًَ معنونة بعناوين متفرٌّقة تشبه إلى حدِّ بعيد العناوين الصحفيّة وعناوين الفصول المسرحيّة الّتي نجد حضورها طاغياً في الرواية ليس فقط في رصد تفاصيل المسرح وما حدث على الخشبة في الانقلاب ، بل أيضاً في الحوار الذي حاء مرنا مشابهاً للحوار المسرحي في مقاطع عديدة .لقد استطاع أورهان باموك الذي اتّخذ دور الراوي العالم بكلِّ شيء عندما تجاوز موقعه بوصفه روائياً ليصبح مشاركاً في الأحداث وراوياً لها ، هذا الراوي الذي يتدخّل في كلِّ شيء ويفرض هيمنته على الرواية فيرصد انفعالات الشخصيّات ويستمع إلى نجواها وحوارها ويتدخّل في طريقة تفكيرها ، وهذا الشكل التقليدي الذي التزم به أورهان في كتابة الرواية كان أكثر مناسبة وملاءمة لأنّ الرواية أخذت على عاتقها كتابة تاريخ تلك الرحلة وكشف كوامنها . والقدرة على التقاط الجزئيات والتفاصيل الصغيرة . كما في وصفه للحظات التي كان يقضيها " كا " مع " أيبك " وفي ذهابه إلى أحد مشايخ الطرق الصوفيّة في قارص وزيارته لكحلي وفي حادثة اغتيال " كا" في شارع من شوارع فرانكفورت الفقيرة أمام أحد دكاكين البغاء وغيرها . كما عني الروائي بالزمن وبتقسيماته محاولاً جعل الزمن وسيلة للإيهام بواقعية الرواية عبر استخدام أوقات معلومة ؛ ( بعد عشر دقائق ) ، ( كانت الساعة تشير إلى السابعة والثلث ) ( نام كا بعمق مدة عشر ساعات وعشرين دقيقة بالضبط ) ، إضافة إلى استخدامه للمفارقات الزمنيّة بكثرة ولاسيمّا الاسترجاع و توظيف التقنيات السرديّة المتنوّعة كالخلاصة والحذف بشكل كبير.
الحديث عن رواية أورهان باموك " ثلج " طويل ولا يمكن اختصاره أبداً ، ولعلّ أهمَّ ما يلفت النظر في الرواية هو تسليط الضوء على الصراع السياسي والاجتماعي ، وحياة الشاعر المغترب الذي يكون أكثر حساسيّة في تعامله مع فكرة الوطن ، كما تسلط الرواية على صورة الغرب والآخر ، ورمزيّة المرأة ، والشعر والثلج الذي يصلح خاصّاً جدّاً في نهاية الرواية ،حيث يعرض في فصل منها إلى الدلالات المختلفة للبلورة الثلجيّة وغيرها من القضايا الّتي تحتاج للوقوف عليها بطريقة أكثر تركيزاً وتحديداً ولاسيّما تلك الّتي تتعلّق بالجانب الفنّي كالشخصيّة الروائية والزمن والفضاء الروائي وغيرها من العناصر الّتي تلعب دوراً وظيفيّاً بناء سرد هذه الرواية .
الرواية مترجمة إلى العربية غير مرّة
استعنت بترجمة عبد القادر اللي - صادرة عن منشورات الجمل ، ط1 ، كولونيا - ألمانيا 2005