انها الغرفة 519 في فندق "لاله" الدولي، ذات النافذة المطلة على اشجار حديقة "لاله" العالية، تدخل منها رائحة أديم الأرض، عبر ريح ربيعية محملة بقطرات مطر، تتكثف مع رائحة القهوة اللبنانية التركية التي أعددتها خصيصًا لجلسة مع سماء طهران الماطرة. سماء تلك المدينة التي أهدتني مطرًا قبل رحيلي عنها.
جلست على الكنبة ويد النسمات الباردة تخصل شعري، ارتشف قهوتي العذراء، عذراء الصباح الصامت الا من صوت الغربان القادم من الحديقة. الحديقة التي أدمنتها شهرًا كاملًا وصارت لي فيها ذكريات. قررت أن أكتب إحداها في ذلك الصباح، وأشارك أوراقي قهوة، فقهوة أوراقي الحبر، وقهوة روحي الكتابة في صباح يوم ماطر.
كانت آخر أيام شتاء طهران العام 2014. خرجت الى حديقة "لاله" ظهرًا، في محاولة لتهدئة نهمٍ للجلوس في الطبيعة، وككل الصحافيين لم أكن لأخرج من دون كاميرا لتوثيق كل اللحظات، اذ يحدث للصحافي أن يوثّق ذكرياته أيضًا.
عند مدخل الحديقة طالعتني مجموعة من القطط، كانت عشرة أو أكثر، متحلقة حول امرأة بدت متسولة. كانت ترمي لهم قطع المرتديلا؛ الى جنبها البعيد بقايا وجبة، أولمت عليها الغربان.
الغريب ـ قصة : العياشي ثابت
جاب أزقة الحي العشوائي ذات ربيع، خاطها ذهابا وجيئة، تتفرسه الوجوه الواجمة لا يلقي لها بالا: كان غريب الأطوار في كل شيء، على الأقل بالنسبة للأهالي المعتادين على إلقاء الكلام على عواهنه لكل جار أو مارّ... بات حديث النزالات الهامشية للاعبي الورق وغيره، حتى إنه أصبح مثار شك وريبة، سيما وقد عمد رفقة مجهولين إلى بناء حوش في الظلام، اتخذه ملاذا وسكنا، بل مخبأ يقيه شر النظرات والألسنة.
وسرعان ما أغلق باب بيته المطلي بالجير الأحمر، واختفى عن الأنظار أياما معدودات، فتناسلت خلفه عشرات الأسئلة، تستنطق تخميناتهم حول كيفية حصوله على بقعة مهجورة لصاحبها المهاجر، واستغلاله فرصة الربيع العربي للبناء دون ترخيص، وابتعاده المفاجئ عن الحي ... لكنهم في نهاية كل حديث، كانوا يثنون على شخصه الهادئ الكتوم ... يذكرونه كلما مروا أمام بيته، فيتداولون سيرته باسم الغريب. وبعد شهور من الغياب زعم أحدهم أنه رآه ذات مساء في أحد الأحياء البعيدة يوزع منشورات تدعو الناس للتصويت على الدستور الجديد...
درس الحياة..!! ـ نص : ملكة الشريف
استوقفني المحاضر وأنا أدلف قاعة المحاضرات
كم ساعة يدك؟؟
الثامنة وخمس دقائق؟؟
سألني بصرامة مقيتة: ما موعد المحاضرة؟؟
الثامنة؟؟
إذا ..لا تدخلي المحاضرة
وضم قبضته بقوة، وكأنه يجمع نفسه، وأردف وهو يزداد صرامة ، وابتسامة ثقيلة تداعب محياه
ـ لقد جئتُ مبكرا لأحضر جهازالعرض لتقدمي مناقشتك ، وأنتِ لا تحترمين وقتي .. لذا عليكِ مغادرة القاعة.
نظرتُ الى زميلاتي الجالسات في قاعة المحاضرة، وقد خيم الوجوم على وجوههن حزنا علي..
حبست دموعي ، وزمجرة أعماقي تكاد تخنقني، والتزمت الصمت..
حملت حقيبتي وأوراقي التي سهرت على إعدادها ، وظللت أراجعها حتى حفظتها عن ظهر قلب،
وخرجت دون أن أنبس بكلمة ..
حكاية (رضوان) الذي لم يصبح وزيرا في السودان! ـ قصة : سليم مطر
كان "رضوان" جالسا في الطائرة غارقا في التفكير بمصيره بعد صدمة الخيبة العظيمة التي يعيشها منذ ليلة امس. بين حين وآخر يتمعن بالتابوت الموضوع جنبه في ممشى الركاب، حيث يرقد فيه زعيمه الراحل "الشريف الميروني". بالامس فقد الامل بتحقيق حلم حياته وانتهت الى الابد آماله ان يصبح وزير خارجية السودان. لقد مات حلمه بموت زعيمه الذي كان يعد لانقلاب عسكري يصبح بفضله رئيسا للوزراء .
منذ طفولته و"رضوان" يحلم ان يكون زعيما كبيرا. ولد في القدس، من ام سورية واب فلسطيني من بقايا جنود(ابراهيم باشا) السودانيين الذين استطونوا فلسطين قبل اكثر من قرن. وبعد نكسة 1948 هاجرت العائلة الى السودان حيث نشأ الطفل (رضوان) وكبر في الخرطوم. لكنه امضى طفولته وصباه متنقلا بين اقاربه في دمشق والقدس والخرطوم والقاهرة. ومنذ أول شبابه توسع حيز تنقله الى اوربا التي دخل مجتمعاتها طالبا ومناضلا وعاشقا ودبلوماسيا. وهاهو منذ سنوات يقيم في باريس، مطلقا من إمراة فرنسية خلف منها بنتا. لا احد يعرف كيف يعيش وهو عاطل يمضى وقته في مقاهي "الشانزيليزيه" بحكي مغامراته الخائبة ونهاية حلمه بأن يصبح وزير خارجية، ثم رئيس وزراء السودان.
لو أن العمر حافظة أوراق.. ـ قصة : آسيا رحاحليه
دخل التلاميذ مسرعين.أخذ كلٌ مكانه. .رهبة الامتحان لم تمنعهم من بعض الوشوشة والضحك...وزّعت أوراق الأسئلة و معها ، كالعادة ، ابتساماتي...فكّرت فيك " ابتسمي دائما ،حبيبتي، فكل ما حولك يصير أجملَ حين تبتسمين".
جلست أراقبهم. ساد الصمت. لم يعد يسمع سوى وقع الأقلام و خشخشة الأوراق كأنما هي عزف نشاز لفرقة مبتدئة...
شردت فيك. ترى ماذا تفعل الأن ...وهل أنا هناك معك كما أنت هنا معي ؟ "
. البعيد عن العين ,بعيدٌ عن القلب. "... هراء !
لو كان هذا صحيحا لكان كل' قريب من العين قريبا من القلب ! '
على رصيف ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
الحاج معزوز، جارنا منذ عهد بعيد، نعرفه معرفتنا لتفاصيل الطفولة والشباب، قصير القامة، ذو وجه متغضن، تشرئب قسوة الزمن من طياته، وينفجر الأسى من عينيه كمصب لا ينضب، محني القامة، يتنقل الذهول بين طيات وجهه، لا يتكلم إلا في المناسبات، وتحت ضغط الأسئلة الملحة.
يعيش في غرفة صغيرة حقيرة، تتكالب عليها الأوساخ والبقع، تكالب الرائحة على فضائها المحصور بين جدران من لبن متآكل، رغم أن أولاده العشرة، الموزعين على المدينة، يتمتعون بوضع مستقر مريح، ويلبسون ثيابا نظيفة، ويخرجون متأبطين زوجاتهم المترجلات.
من عادته الجلوس على رصيف الشارع، يبحث بعينين ذابلتين في صدور الناس، أو هكذا كان يهيأ لنا، ويحاول أن يرتب الأشياء والأحداث في عقله، بطريقة تقنعه بضرورة الحياة والوجود، لم يكن سهلا، ولم يكن من الذين يعبرون الذاكرة كوميض يختفي لحظة ظهوره، بل ينشر مخالبه بأعماق النفس، ليستقر فيها كحدث لا يمكن نسيانه أو تناسيه.
لبيك..! ـ قصة : حميد بن خيبش
يرتجف اللحظة كديك مبلل..
لم تسعفه ركبتاه على الوقوف فألقى بجسده على مقعد مهترئ بجوار مكتب القائد. عسو الذي يهابه من في الحي, ولا يجرؤ أحدهم على التنديد بعربدته أو التذمر من متتالية الكلام الساقط التي تعقب جلسات الشرب الصاخبة كل ليلة.
عسو الذي قلما غاب اسمه عن حادثة نصب أو احتيال ,ثم أفلت من قبضة الاتهام بدهاء ثعلب.
عسو الخبيث وقاهر الأرامل سيحج بيت الله الحرام !
أية قرعة عمياء تلك التي أوردت اسمه ضمن محظوظي البعثة الرسمية لأعوان الوزارة ؟! لا شك أنها مزحة ثقيلة من "سعادة" القائد المتجهم طيلة أيام الأسبوع. لكن الورقة بين أصابعه ترتجف اللحظة, وفيها إخبار بانتسابه هذه السنة لبعثة الحج. لا,هذا غير معقول ! كيف بلع الجميع ألسنتهم ولم يعترض أحد ؟ أهي الصدفة أم مشيئة في السماء ترتب لمنعطف آخر في حياة عسو ؟
فراغ ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
التاسعة صباحاً، في مخيم منسي في فلسطين، أو قرية منسية في صعيد مصر، يكون قد بيع ملايين من صحون الفول، وملايين من أقراص الفلافل، في خضم سيل بشري متلاحق متلاطم، سيل ينبثق من الصباح، كتفجر البركان العارم.
التاسعة صباحاً، جدران وأسطح، شوارع وأرصفة، يدخل في روعك، ومرة واحدة أنك تدور في صحراء من غير اتجاهات، تضرب عيناك المرهقتان الأفق المغلق بالبنايات المتفرقة هنا وهناك كتفرق الدمامل في الوجه الملطخ بالجدري، قفر يسانده قفر، وصمت يغلفه صمت، وأرصفة تشكو معبدها لشوارع تشكو إرهاق الوحدة والانطواء، تداهمك كآبة مفاجئة، تذكرك بمقابر التراث، تستوقفك إشارة ضوئية تشخص نحو اللاشيء، تقف، يأتي اللون الأخضر، تقطع الشارع وأنت تبحث عن صرصار أو ذبابة، تدور برأسك، تخترق ذاكرتك الوحدة، وتستقر بأعماقك الوحشة.