أخرجوا الطفل الذي بداخلكم حتى لا تسقط أسنانكم..
هناك.. لا تزال مساحات بداخلي يصعد منها النور صافيا وهاجا شفافا يدفعني لأن أشاكس.. أشاغب.. أطرح أسئلة لا ألقي لها ـ في كثير من الأحيان ـ بالا يعتبرها البعض غباوة.. وآخرون تخريفا.. وآخرون " بسالة " ..لكن حقيقة هذا التصرف عفوية وبراءة وطفولة.. لأن الطفل الذي بداخلي لا زال يشاكس ويشاغب..
أسأله فيهرب مبتسما.. في عينيه براءة ماكرة.. أجالسه أمام شاشة التلفزيون نتتبع في تلذذ صخب الرسوم المتحركة ونحن نمص رحيق حلوى نُصدر صوتا غريبا مُضحكا..
الطفل الذي بداخلي.. بداخلكم.. كائن عجيب.. كنت له مدرسا.. راويا.. حكّاء في جلسات الحكي الدافئة لمدة تفوق ال 20 سنة ولا أزال..
كنت، ولا أزال، ألاحظ لعبه حين يختلط بالأقران يتحاكمون إلى قوانين من صُنعهم.. أو يفرضها هذا ولا يلتزم بها ذاك.. أتتبع حواراتهم والمفردات التي يتداولونها فيما بينهم وهم يبنون فضاءات متخيلة أو وهم يُعبِّرون عن الحب والكره والغضب.. أو يعبُرون بأحلامهم البسيطة لى ضفاف الأسرار وعوالم العجائب..
أدون خربشاتهم المنحوتة على طاولات المدارس وجدران الأماكن التي تشهد حضورهم الصاخب.. أصنع منهم.. مني.. أنا الطفل الذي أسكن بداخلي .. شخوصا لمسرحياتي أو جمهورا يتماهى مع شخوص يحبهم أو يكرههم.. أصنع لهم ومنهم حواجز واقيات ضد سياسات التغريب وطمس الهوية التي يُصدرها "الآخر" ملفوفة باللون والإيقاع..
الطفل.. هذا الكائن العجيب الذي يسكنني.. يعتمد في احتوائه العالم والموجودات على الخيال والمغامرة.. فحين يمتطي العصا يتخيلها جوادا جامحا يجوب به السهل والوادي.. يخوض به أعنف الحروب التي يفوز فيها دائما.. أو حين يجعل من نفس العصا، سيفا يحارب به جنب سيف ذو يزن أو أحد الفاتحين الأولين.. وحين يبعث في وسادته الحياة فيلبسها روحا يتجاذب معها أطراف الحديث.. يبُثها اسراره وهمومه وأمنياته الصغيرة.. أفراحه وأحزانه.. أو حين يجعل من قطعة الخشب الصماء مسدسا يدافع به عن نفسه أو يجعل منه شرطيا يلاحق اللصوص والعصابات.. أو حين يصنع من علبة قصدير قيتارة أو عودا أو كمنجة تصدح بألحان تُطرب الأقران خلال ليالي السهر من عاشوراء أو أمسيات رمضان الطويلة.. أو حين يبني بعلب الكرطون منازل وعمارات يسكنها مع زوجة يتخيلها كما يشتهي.. أو حين يصنع من الأسلاك الكهربائية دراجة نارية يجعل من فمه وصوته محركا لا يتوقف عن الدوران..
بهذه البساطة والعفوية والبراءة.. كان الطفل الذي بداخلي ولا يزال يوظف خياله الجامح ويصنع من أشيائه البسيطة و"التافهة" عوالم تخترق الكتابة لتنطلق نصوصا مسرحية يكون فيها البطل والجمهور..
الطفل الذي بداخلي.. هذا المشاكس المشاغب.. الباحث عن المغامرة وخبايا الأسرار، ما دفعني إلى خوض غمار الكتابة.. الكتابة له وعنه.. أمور عدة، أهمها :
الشح الذي اصاب خيال الجدات بعد أن كُنّ حكّاءات بارعات يعرفن كيف تُنسج الحكايا والأحاديث وحلو الكلام..
لم تعد الجدات والأمهات اليوم تجلسن للحكي.. لغزل الكلام وصنع عوالم الأسرار لأطفالهن.. ضاعت الحكايات في زحمة الحياة التي تتسارع وثيرتها ومتطلباتها.. لقد جف خيالهن وأصابه العجز والعطل والجمود وحل مكانه الصمت والفراغ والجري وراء لقمة العيش المُرّة.. الشيء الذي فتح الباب واسعا أمام "الآخر" الباحث عن الربح يغزو بحكاياته عالم الطفل يقدم له شلالات من صور تُمجّد الحرب والعنف والقوة..
ثانيهما محاولة رد الاعتبار للحكي وإعادة الدفء إلى حكاياتنا التي بدأت تندثر من حياتنا خلف حاجز النسيان والتموقع داخل الخانة الضيقة من ذواتنا لتسكن عالم الجمود والخمول والموت.. وذلك عبر الكتابة وبعث الحياة في حلقات الحكي وفي الشخوص التي تؤثث العوالم السحرية والخرافية للحكايات في قالب فني جمالي يتغيا السمو بذوق الطفل ممثلا أو جمهورا..
الكتابة للطفل الذي بداخلي والآخر.. دعوة لإعادته إلى عالمه الطفولي المليء بالأحلام والأسرار والمغامرة.. هذا العالم الذي غزته عوالم أخرى غريبة مخيفة تداخله تسكنه وتشوهه، وتحول طفولته إلى كوابيس مخيفة ينمو على جوانبها العنف والدم والخوف.. وتُبطل العقل وتدفع بالطفل إلى التماهي مع "أبطال" يُحسنون القتل ويتفننون في زرع الخوف والدمار.. فيحصل ما نخاف عواقبه.. وما نعيشه اليوم في بيوتنا وأزقتنا وساحات مدارسنا.. وتُنتج أطفالا لم تكتمل طفولتهم ضيعوا أروع لحظات العمر..
حين أكتب للطفل الذي بداخلي والآخر.. فإني أدق ناقوس الخطر.. خطر اندثار الخيال.. خطر انحسار الحكايات والألعاب الطفولية التي بها يستعيد الطفل أسرار عالمه الجميل ويستلم مفاتيح مغاليق هذا العالم، وأدعو الجدات والأمهات والآباء ليستعيدوا حكاياتهم عن السندباد والشطار وعلى بابا وشهرزاد وحديدان والأخرى التي لفها واحتواها الظلام وعلاها الصدأ.. ومسخ جمالها التلفزيون، ليُعيدوا الاعتبار للحكي الذي يجعل من خيال الطفل مبتدء ومنتهى.. ويبسطوا له عالما يكون فيه حاكما ومحكوما.. سيدا وعبدا.. غنيا وفقيرا.. منتصرا بالحق يفتح آفاقا جديدة للحلم والمغامرة.. مكتشفا ذاته والمحيط..
حين أكتب للطفل الذي بداخلي.. أستمد منه الطاقة وأنا أبحث عبره عن أسرار وجمال الحكي أختزنها بين طيات الكلمات والفضاءات والحوارات والشخوص والإيقاعات.. التي أنسجها معه سواء عبر القراءة أو التمثيل أوجلسات الحكي لقاءات حميمية يتماها مع الشخوص.. يحارب بواسطتها عدوه "المتخيل" الرابض خلف الصور التي يُرسلها الآخر، ويُبدع في تبطينها وتخبئتها وراء الألوان والإيقاعات..
حين أكتب للطفل الذي بداخلي.. أمنحه تذكرة سفر إلى عوالم الأسرار وامتدادات الخيال جوازها الوحيد الحكي والكلمة ورسم أحداث تجعل منه البطل، وتفتح له المدى مشرعا على الآتي والحاضر والذي مضى من أيامه.. وترسم له بالحركة واللون والإيقاعات عوالم الأسرار، يأخذ منها ما يسمح له ببناء حياة سليمة تتفتح ببطء يسير عبر مدارجها من لحظة البدء إلى لحظات السمو بالنفس والذات..
طفل بداخلي يشاكس، يدفعني لأُخرجه حتى لا أكبر سريعا.. وحتى لا تسقط أسناني باكرا..