anfasse10063الصمت وأنا في دهاليز بيت مهجور، أصمت ويصمت ظلي تحت عيني مصباح ذو شعاع باهت ،  يتحدث إلي دون أن ينبس بكلمة، يقول لي : أنت شقي أخرسه الزمان، أنت ذلك الزاهد الذي لا تتعب شفتاه من ملامسة فناجين القهوة  الساخنـــة ، ذلك الذي يضع سيجارته بين أصابعه فيتركها لتحترق في صمته،
أنت الذي تشتاق شفتيه لملامسة صمتك ،لتقبّله،طبعا لن يخرجك أحد  من عالمك هذا كرها،أو دون إذن منك .

anfasse10062ولأعترف لكم، فقبلها لم أكن أعرف ماهي (الباكتيريا)، ومثل أي بوهيمي يتبنى نظريات غير مكلفة ماديا، كنت أعتبر ان بعض الميكروبات جيدة للجسم وتقوي مناعته، وأن الامراض الخطيرة مثل الرصاصات بالنسبة للسجين الهارب  قد تصيب وقد لا تصيب. الى أن التقيتها. منذ اللقاء الاول وما أن مددت لها يدي مسلما حتى سألتني : في أي وسيلة نقل جئت؟ قلت لها: الاوتوبيس. كما لو أنه قد مسها تيار كهربائي، فتحت حقيبتها وبدت وكأنها تبحث عن شيئ ما محدد. أخرجت قنينة طبية بيضاء صغيرة ضغطت على بطنها حتى خرج منها سائل أبيض شفاف ثم بدأت تمسح على يديها الاثنتين، نظرت نحوها متسائلا: هل تعانين مرضا ما؟ قالت لي بهدوء زائد كما لو انها تريد ان تخفي شيئا ، انه "مضاد الباكتيريا" ثم نظرت هي نحو يدي، فعقبت أنا: وما هي الباكتيريا، وأخذت تشرح لي وهكذا بدأت قصة حبنا مع الباكتيريا ومضاداتها، والباكتيريا أيها السادة لاترى بالعين المجردة هكذا قالت لي، وهي توجد في كل مكان تقريبا وأضرارها خطيرة جدا، فهي تصيب بمرض التهاب السحايا وتفسد الاطعمة المكشوفة وتؤدي الى تسوس الاسنان.

anfasse10061من وسادةِ الغرفة المعتمة ذاتها، شرعَ ينطلق .. في عبابٍ يتفتحُ، يتداعى، ولا ينتهي .. يسرعُ كومضٍ، أو يبطئُ للتأمل، يدققُ بغرابةِ ساكنِ دنيا، يستدعي غسقا، وينيرُ شمسا صاخبة، يطوي الزمن، فيأتي بمن ذهب في لمحة بصر، وبضربة طَرفٍ يغيّر الأمكنة، يحادث راحلين ملأوا رأسَه بهم، من أبي النُواس بعمامتِه، يحدِّقُ، ويهامسُه، إلى الحجاج يأمرُ، فيقومُ سيفٌ، ومنجنيقٌ يلطم .. ويرى رابعةَ تمزجُ اللبن بالعسل، وتأتيه بقدح، وعمرا يغمزُ بعينيه، ثمَّ يقهقه، وهو يمضي في دربِ أرضٍ قاحلة ...

anfasse27058يقولُ أهلُ البلادِ والأمصارِ القصيّة، أنهم رأوا في الليلةِ السابعةِ من شهرِ الجَمرِ بالتقويمِ الهرموسيّ، حمامةً نحاسيّةَ اللونِ تحوّمُ قربِ شرفةِ منزلِ "رُكَيامْ" الأبيض. كانتْ ليلةً شاحبٌ قَمَرُها باهتٌ ضوؤها. وقد رَوى قوّالٌ غابَ النومُ عن جفنيّه ردحاً طويلاً من الزّمن قصّةً إليكمْ نُسْغهاَ:
بعدَ أنْ حوّمت الحمامةُ حول المُنيّة، انتبذتْ مكاناً مفتوحاً على جرفٍ هارٍ، ثم طفقتْ تَشْدُو بصوتٍ رخيمٍ كأنّه صوتُ راهبةٍ في ديرٍ رومانيٍّ قديمٍ، كانتْ الحمامةُ تستديرُ نصف دورةٍ يميناً ونصف دورةِ شمالاً، لتتثاءب بهدوءٍ مُلغزٍ. وأنا مأخوذ بهذه الحال العجيبة، رأيت فيما يرى الحالم، "رُكْيَامْ" تملأ أَزْمَانَهَا وأنْفَاسَها بِهديل الحَمامة ، ثمَّ تُفْنِي ذَاتَها فِي هذه الموجات النورانيّة، فَيفنَي الكلُّ ويبقى هديل الحَمَامة مُسْتَحْكِمًا. طارت الحمامة واستقرتْ على سياجِ الشّرفة المعشّق بماءِ الذهب والمزخرفِ بأزاهير حدائقِ الزهراء الساحرة.

anfasse27054بتثاقُلٍ شديد فتَحتْ نعيمة جفنيها.. ماذا حدث؟ تساءلت الطفلة النحيلة. رفعت يدها منهكة، وتحسّست بكفِّها، أجزاء مِن رأسها، وإذا بها كأرض البادية التي جاءت منها؛ حُفر وتلال يابسة. من أين إذن تأتي هذه البقع التي تلوّث أجزاء من ثوبها الكالح؟  تمالكت الصبية نفسها، ونهضت تحبو، حتى بلغت الحمام.بعد مشقة نهضت، وهي ترتكز بكلتي يديها على المِغسل، ثم رفعت رأسها ببطء إلى المِرآة. ما هذا؟ وجه ذاوٍ وعيون متقرّحة، وشفاه مكدومة وجبهة يتدلى منها خيط من الدم ! فكرت نعيمة أن هناك احتمالاً من اثنين: إما أنها نائمة تحلم،أو أنها ميتة !
الدوار وآلام في الرأس شتتت تركيزها. تحسّست بيدها عظام صدرها الناتئ، لم تستطع أن تتبيّن ضربات قلبها.. ومشت تتعكّز الحيطان وكلَّ ما صادفته في طريقها،إلى غرفة مشغلتّها.أصغت السمع فلم تلق غير الصمت.. وذلك هو ماتلقاه عادة حين تكون ربة البيت نائمة. وما أكثر ساعات نومها ! إنها لا تكاد تعيش دون عقاقير مسكّنة تجعلها تنام طوال الوقت. أما حين تستيقظ في الصباح متأخرة، وتجد أن ابنها قد ذهب إلى المدرسة دون أن يفطر.. وأن زوجها قد غادر دون أن تراه، وأنه سيعود بعد قليل إلى البيت، ويفتعل مشكلةحين لا يجد شيئا للغذاء..حين تفكر في هذا كله فإنها تفقد أعصابها، ولا تجد في نفسها إقبالاً على تناول الفطور الذي أعدّته لها نعيمة، إلا بعد أن تصفِق خدود الخادمة وتشدّ شعرها، وتُقرّص لَحم كتفيها وفخذيها ثم تَغرس فيهما أسنانها.. كأن الاعتداء على الخادمة الصغيرة طقس يومي، لا بد أن تمارسه سيدة البيت،وإلا فإن نهارها لا يستقيم..

anfasse27051صمت يجلله صمت، ورهبة تجلل برهبة، ووحشة تجلل بوحشة، ومجهول يغوص بالمجهول، وغموض يهوي إلى قعر أعماق الغموض.
الشمس هنا تختلف عن شمس الأرض ، هنا تغلي الأشياء على مرجل الهيبة المنبثقة من رعب المخفي تحت الثرى ، تلتهب الأشياء وتصفر الحشائش ، ترى الحزن الساكن بكل غصن من أغصان الشجر ، وترى الموت الموزع على الأشياء المحاطة بسور المقبرة ، تتدلى الشمس من مكانها ، تهبط نحو الرأس ، يغلي الدماغ ، تتسلل إلى توزيعاته وتشعباته رهبة القادم والماضي والحاضر ، تتناثر الأفكار وتصطرع ، تضغط الحرارة على مركز الوعي والسيطرة ، تنهار المسلمات واللذات ، تتلوى الأفكار كصل منزوع من حرارة الصحارى ، تهبط نحو القبر ، أو تحس بانزلاق القدمين نحو حفرة مفتوحة لغيب ما زال مطويا في حجب اللحظات والأيام القادمة.

ما هي المقابر ؟
ولماذا تسكننا الرهبة حين نداهمها أو تداهمنا ؟
ولماذا لا ينبت  "البصلون "إلا فيها ؟

anfasse15053البعض يدفعون بك قسرا كي لا تكون... حتى قطط الشوارع تفعل هذا ،تخدش وجوه بعضها  من أجل قمامة تافهة ، فيحتدم  بينها القتال ،  خرج جرذ صغير يتسلل حذرا من بالوعة مياه، يرتجف من الخوف و البلل ،قلت له ،لا تخف ، ، عليك الأمان  ، اذهب إلى حيث تريد ، أنا هنا ، لست  لأصادر حقك في الوجود ،أنت كائن وأنا كائن ؛ أولئك الذين يظنون أنهم يملكون الشارع ، وحدهم تافهون، تعجبني الشمس لأنها بعيدة ، أما القمر أكره فيه كثرة الغياب ؛ أوراق خفيفة ، ، يهزأ منها الريح الخافت مع همسات الليل يدفع بها على مهل من وسط الشارع  إلى الهامش ، قلت يا عجبا ..حتى الريح متآمرة ، أين تدفع بهذه الأوراق ، بين شجرة الزنبوع و الحائط ثَم  وكري، نسجته في الظل ،البعض يسميني المجذوب والبعض يسميني الأحمق ، ملائكة الليل عندي أحسن من شياطين النهار، هي الأقرب إلى قلبي ، ربما لأنها تقاسمني المَلَل والعِلل، وقفت إلى جانبي عاهرة قديمة أعرفها جيدا وأعرف تاريخها المهني المجيد ، تاريخ العاهرات كله هروب ، تسأل هي الأخرى ، عن عود ثقاب أو ولاعة ، وتنظر غير راضية إلى هندامها الأنيق بمقت.. ،قلت لها ، أنا لا أدخن ...التدخين يقتل ، قهقهت عاليا وبصقت بجانبي وانصرفت تاركة وراءها نسمة عطر رديئة ممزوجة برائحة نبيذ ، لا أتخيل شارعا جميلا بدون جرذان وقطط وعاهرات وريح و أوراق .

anfasse08055للمرة الثالثة الآن يرن جرس المنبه. يكاد يفقده صوابه كل مرة، لكنه لم يسكته هذه المرة، بل اكتفى فقط بالتحديق في سقف الغرفة ممددا على السرير. أراد أن ينفض عنه الغطاء لكن لا تسعفه أطرافه. اكتفى فقط بالتحديق. سكت المنبه لوحده. لم يستسغ صراخ المدير في وجهه ذلك الصباح، بقي صامتا وكأن المدير لا يعنيه بالكلام، بل حدق في عينيه مليا ثم انتقلت عيناه إلى شفتيه اللتان بدتا وكأنهما تغلقان وتفتحان دون إصدار صوت، يا للسان الأفعى هذه! ويا لعيني العقاب! فكر في نفسه. لم يتذكر قط كلمة مما قال. ها هو المنبه اللعين يرن مجددا ويوقظه من غفلته، وهذه المرة انقض عليه بعنف وكأنه يسكت فم المدير بقبضته، ثم انتفض من فراشه واقفا. كاد أن يسقط على الطاولة بجانب السرير من عنف حركة الوقوف تلك، فارتد إلى جانب السرير جالسا ورأسه بين يديه وعيناه مغلقتان. ظن لوهلة أن الغرفة وأن كل شيء من حوله يدور وكأنهم في فلك يسبحون، السرير والطاولة والكرسي والتلفاز والخزانة والنافذة والحائط والباب...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة