كان يمشي حيناً على الرصيف وحيناً على الإسفلت بخطواته المعتادة المتأنّية، كان المساء خريفيا، بعد يوم عمل عامر لم يخل من همّ وكرب. أخرج من جيب معطفه الخارجي علبة السجائر، أشعل سيجارته المسائية وهو يمشي في الشارع، أعاد العلبة إلى مكانها. كان فكره شارداً، لا يدري طبيعة إحساس وقلق انتابه. فجأة تذكّر شيئاً، تحسّس جيوب معطفه الداخلية، وجد حافظته كعادتها في الجيب الأيسر وفي الجيب الأيمن لمست أنامله ورقة صغيرة. أخرجها نظر إليها برهة، فكّ ثناياها، فوقعت عيناه على جملة صغيرة كانت تركتها كاتبة الشركة هذا الصباح على مكتبه. وقتها وضع الورقة في جيبه الأيمن ولم يقرأها. فغالباً ما ينزعج من هذه الوريقات اليتيمات التي توضع على مكتبه. فالوقت لم يسعفه هذا الصباح، فقد كان اليوم متعباً ومليئاً بالشغل واللقاءات.
ربّما لشيء ما كان لا يريد قراءتها. وقع نظره على الجملة " اتّصل بك هذا الصباح السيد منصور س. على الساعة الثانية عشرة". غار نظره فترة في الورقة. أثار انتباهه هذا الاسم. ثار فكره. أعاد الورقة إلى الجيب بدون انتباه. فهو لا يعرف إلاّ شخصاً واحداً يحمل هذا الاسم وذلك منذ زمن طويل. لكن لم تستعص عليه الذاكرة. تداعت الذكرىات كزخّات المطر. حرّك الاسم في نفسه أحاسيس كثيرة كان قد دفنها في زاوية من زوايا ذاكرته العامرة. انتابته حرقة السؤال فانهالت عليه الأسئلة من كلّ حدب وصوب. ماذا هو فاعله مع السيد منصور س.؟ فهو لم يره منذ أمد بعيد. وماذا هو فاعله بهذه الورقة اللعينة التي أزعجت يومه هذا؟ سيل عارم من الأسئلة المتناقضة. فتداعت أفكاره، وأدار بسرعة البرق في ذهنه عشر سنوات مرّت على الحدث. لماذا يذكرني هذا اليوم؟ كيف عرف مكان عملي؟ ومن أعطاه عنواني؟ وكيف أواجهه؟ لم تفارقه الأسئلة وهو يمشي على الرصيف حيناً وعلى الإسفلت حيناً آخر.
فجأة سمع طلقات رنّات كلاكسون سيارة كبيرة كادت أن تدوسه، قفز قفزة مباغتة وهو لا يدري إلى الرصيف ناظراً إلى صاحب السيارة الذي كان يرسل في اتّجاهه وابلاً من ألوان مختلفة من الشتم واللّوم والسبّ. أرجعته هذه السيارة إلى وعيه ويقظته وأخرجته من سبات الماضي وقبو الذاكرة. نظر وراءه إلى المارّة، اطمأنّ فلا أحد كان يعبأ به. ألقى عقب سيجارته على الرصيف وأدار رأسه يمنة ويساراً باحثاً عن مقهى آخر غير مقهاه المعتاد الذي يجلس فيه مع أصدقائه. تذكّر قهوته السوداء المسائية ملاذه بعد يوم عامر بالعمل وقبل اقتحام فضاء المنزل ومشاكله وطلبات الزوجة والأولاد غير المنتهية. فقد تعدّدت حوائجهم وتضاعفت نفقاتهم يوماً بعد يوم. وها هو اليوم بالذات بحاجة إلى هذه القهوة بنكهتها الخاصة، رّبما تخرجه من هذه الأحاسيس المفعمة والأسئلة المتواترة التي ما فتئت ترجعه إلى ماض سحيق كان يظنّ أنّه لن تتكرّر ذكراه ورؤياه. يذكر أنّ بداية هذا اليوم كانت هادئة وعادية، ككلّ أيام العمل في شركة المحاسبة التي يعمل فيها منذ خمس وعشرين سنة في هذه المدينة الجهنميّة "كازابلانكا"، تذكّر صراعه مع الأرقام وحسابات وأموال الآخرين التي يعاينها ويدقّق فيها، تذكّر أيضاً أجره المتواضع الذي كان مع ذلك يحمد الله عليه ويكتفي به رغم إغراءات الرشوة في عالم المال والأعمال. فهذا الأجر القليل حفظ له كرامته وطلبات الزوجة والأولاد. وحتى زملاء عمله كانوا يعرفون أنّه كان الوحيد الذي لا يُرتشى، رغم محاولاتهم معه وحياتهم الباذخة وأسفارهم اللامتناهية والمطاعم والسهرات الفاخرة التي اعتادوا عليها. نسي برهة السيد منصور س. لكن الورقة الملعونة كدّرت مزاجه ثانية وأعادته إلى الماضي. ويا ليته لم يفكّها، ويا ليته لم يقرأها ولم تخرجها أنامله هذا المساء من هذا الجيب الأيمن. جلس في أول مقهى صادفته عيناه منزوياً في طاولة بعيدة. غير بعيد منه كان ثلاثة شباب وشابة ذات جمال موفور، يتجاذبون أطراف الحديث. ومن مخبزة قريبة من المقهى كانت تفوح رائحة الخبز و"الكرواسان" التي لم تغره رغم إحساسه بالجوع .
بادره النادل:
- آش تشرب أسيدي؟
-واحد القهوة كحْلة الله يخلّيك في الطاس. اوجيب لي معاك الجورنال.
- واخّة سيدي. أجابه النادل ثم انصرف.
بعد ثوان معدودات ارتشف قهوته الوحيدة بسرعة وبجرعة واحدة وبدون سكر على غير عادته. وضع الفنجان على الطاولة. اتّجهت يده بدون وعي إلى الجريدة يتصفّحها آملاً أن ينسى السيد منصور س. وماضيه التعيس معه. قرأ عنوان الخبر السياسي في الصفحة الأولى، لكن نفسه لم تسعفه فالسياسة تقرفه، أدار الصفحات السياسية بسرعة باحثاً عن الصفحة الرياضية التي يرتاح إلى قراءتها، بعدها كان يسلّي نفسه بشبكة الكلمات المتقاطعة التي أضحت رياضة وطنية في مقاهي المغرب يتسلّى بها الجميع و"يقتلون بها الوقت"، كما يقولون. وما إن أدار الصفحة الرابعة حتى وقعت عيناه على عنوان في الركن الأيمن من الصفحة. أصابه الازعاج والوجم وتضاعف خوفه. " أفرج الأمس عن صاحب المال والأعمال السيد منصور س. بعد قضاء عشر سنوات في السجن..."، عادت الأحاسيس الموجعة، أحسّ بانقباض كبير في صدره وغصّة في الحلق. قرأ تفاصيل الخبر، وتداعت عليه صور كثيرة. استعرض كلّ لحظة من ذلك اليوم في المحكمة وما أدلى به من شهادات. تلقّى النبأ كالضربة القاضيّة. تلاشت قواه في غمضة عين. لم يفارقه الانقباض، وتوالت الأسئلة من جديد ومعها سيل جارم من ألوان الأحاسيس. نظر يمنة ويسرة، مسح وجهه، أدار أصابعه حول شفتيه. وضع الجريدة على الطاولة بعد أن رتّب صفحاتها، أخرج من جيب سرواله بعض الدراهم، وضعها على الطاولة قرب الفنجان ثم انصرف. وهو يمشي أخرج ثانية الورقة الصغيرة من جيبه الأيسر، نظر
إليها نظرة أخيرة. طواها ثانية. وضعها في بطن يده اليمنى، صرّها بقبضة. أخرجها من القبضة، مزّقها ثم رماها في قمامة الشارع ولاذ بصمت رهيب ومضى يمشي ويمشي، وكانت السماء محجوبة وراء سقيفة من السحاب.