أخي مصطفى:
تحية مصبوغة بشفق صهيل الحياة الوثابة النابضة.
تحية مشفوعة بغسق النزول نحو الاحترار والالتهاب والتوقد، نزول الضياء في هاوية قيعان البحار والمحيطات، التي تحتجز بقايا الرُّوح، وتخبئها في ظلمات تتكدس فوقها ظلمات.
تحية رائقة في حزنها المخضل بالبريق والوهج، صافية كما عيون الأيائل، نقية كما أرواح المؤمنين الراقصة بما ترى ولا نرى، تحية حذرة كما عيني الجؤذر المصفوع بوثبة لبؤة ترز عيناها شعاعًا من جوع متمكن بأحشاء أشبالها.
تحية أرجو أن تذكرها جيدًا، في الأيام القادمة.
انتظار و وهج... ـ قصة : نورة الصديق
يلتحم الوهج بإشراقة الصباح الشبقي. .. تتسارع خفقات جنونها ،وأنفاس عبقها وهي واقفة أمام العتبة، تنتعش بألق اللقاء الذي تنتظره لسنوات...تشابك نظرات الأهل مع خيوط أشعة الشمس يحومها الاحتواء..أمام دهشة العيون الجاحظة في انتظار قدوم الزوج الغائب لعقد من الزمن ...
يشدها التوق لرؤيته،و سنى تعلقها يداعبه الهواء على الربوة كما خصلات شعرها الحريري الطويل...وعشق البلوغ يتدفق كما المنبع في الشتاء،وقوة بصرها يثقب ركن الطريق غير المعبدة نحو اتجاهها...
ينتابها ارتياب وشيك أن تعود وتبقى في وحدتها المبيدة،صيفا وشتاء،وأشغالها المضنية التي تثقل كاهلها،تمسح دمعة تترقرق في مقلتيها الذابلتين،تنتظر لتنطلق من مدارها وعقالها نحو الفجاج الموشومة في وجنتيها التي سبرهما الانكماش والذبول...
هذيان ـ قصة : الحسين لحفاوي
ما زالت كلماتك و نحن نقف أمام مدرج الطائرة تتردد في مسامعي " الواقع هو ما عشناه، و الحلم ما لم نبلغه بعد".
و ها أنا أذكر تلك الكلمات التي ظلت موشومة في الذاكرة رغم كل هذه السنوات التي مرت على ذلك الواداع البغيض الذي لم يخلف في النفس سوى لوعة مكتومة و عبرة ظلت معلقة في المآقي لا تروم نزولا.
الآن، و بعد أن ذبلت أوراق العمر و لم يبق من هذا العمر أكثر مما مضى منه ، يعيدني رنين صوتك إلى تلك السنوات التي حلقنا فيها على أجنحة الأحلام.
الآن، و بعد أن طوحنا معا، و انتقلنا سويا من فرح إلى فرح، تقف كلماتك بين الوهم و الحقيقة، تغوص بي عبر بحار عميقة، و تحلق بي عبر فضاءات رحبة، تعانق أشعة الشمس و تراقص دارة القمر.
ها نحن أخيرا نقف وجها لوجه، أمنحك شوق السنين التي خلت، و تهبينني ذكرى ساكنة في القلب و بين ثنايا الروح، حلمان أبحر كل منهما في اتجاه و التقيا أخيرا و مصادفة على شواطئ العمر الزاحف نحو القبر.
المستكشف .. ـ قصة : عمر حمَّش
عندما شرع الطرقُ؛، تقطع الصمتُ ..
كان ثمة خطرٌ داهمٌ يقترب .. بدأ كخطواتٍ تقترب، ثم تتوقفُ ..
وكانت أرضية الزقاق تتسق .. تقرّب الطرق، وتبعده.
كان قرب زوجته .. نظراتهما تلتقيان .. وتتباعدان ..
وكان هو على وشك الوقوف لفتح الباب الذي لا يقرع ..
في نهاية الليل كانا على حافة الجنون .. صاحت، فصاح .. قام على ساقين مترنحتين .. خطا.. ثمَّ خطا .. تمسك بالجدران، كان الطرقُ يخفت متباعدا .. جاور باب الصفيح ..ألقى كفّه، وأدار مزلاجه، صار في مواجهةٍ مع الخارج .. تلمس بقدمين حافيتين الأرض، وكان الزقاق ضيقا بحجم جسده الدقيق..
للخريف ما يقول ـ نص : د.الحبيب النهدي
'' لن تتحقّق السعادة إلاّ إذا حقّق الإنسان حريّته الباطنيّة''
اريك فروم : الدين والتحليل النفسي ص : 10
الخريف فصل كآبتي. وفي نفس الوقت فصل شفائي من أحزاني لأنّي أقاومها بتأمّلات تنزع عني ضيق الأفق وتفسح لي سشاعة الفكرة فأخطّها بيد لم ترتعش قط من الألم حروفا فيها كيمياء متعة الانشراح كأنّما غزوت بحبر السوداويّة بروج السماء فلوّنت سحبها بأشكال أراها بالنسبة إليّ نصّا لن تقدروا على قراءته إلاّ على ضوء البرق وقصف الرّعود. فأصدع قائلا: لا كآبة مع إرادة العبارة تأتي كالمطر تطهّر أحزاني وتتصدى لقوى التدمير اللامرئي في ذاتي وخارجها.
***
رحلة الدجاج ـ قصة : العياشي ثابت
كان للطيور على اختلافها سحر خاص في نفسه التواقة للجمال، بل كان يرى في اختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها ذلك البهاء المتجدد، يصغي في خشوع المتعبد إلى تراتيل الكروان، ويؤمّن في سكون على تسبيحات العنادل، ويتابع دفيف أسراب الحمام العائد إلى أوكار المنازل، وينتشي بعثرات طيور النغاف الفاشلة وهي تقتفي آثار ديدان الأرض خلف المحراث، قبل أن يسرح تفكيره بالاتجاه الخلفي سنوات إلى الوراء، حيث كانت طيور الدجاج يوما مصدر عنائه وشقائه، وسبب تعاسته شهورا خلف أسوار زنزانة "القايد موسى"...
لطالما شنف أسماع الحاضرين في مناسبات عديدة بحكاية أقربَ إلى الخيال منها إلى واقع بصم عليه الخيال الواسع لقائد تفنن في ابتداع أشكال العقاب، لكل من حاد عن جادة الأوامر، أو سولت له نفسه التطاول على المخزن بتجاهل الاستئذان، في زمن طالت فيه أيادي خدام الاستعمار، فعاثوا في الرعية أصناف العذاب...
أمنيزيا (1) ـ نص : حدريوي مصطفى
صحا وتمطى، ثم هب من مرقده، وتيمم الحمام، يجر رجليه من وهن مجهول المصدر هدّ جسده هذه الأيام.
فرش أسنانه ، وتوضأ، وأسبغ، ثم صلى، والفجر يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ ولما اتم تربع حيث صلى مطأطئ الرأس، مغمض العينين، يتلو بعض الأوراد في صمت عميق .
بعد لحظات ثقيلة قام ومشى على رؤوس أصابع رجليه الحافيتين ، حتى... لا يفطن لحراكه أحد... ودخل المطبخ.
على كرسي استوى قدّام مائدة طعام توسطت الأجواء بشكل مستفز؛ قد كان عليها عاصرة قهوة كهربائية، وفرن ميكرو أوند؛ من الأولى صب له كأسا، ومن الثاني أخرج هلالية محشوة ساخنة.
عالج الكاس بمكعب من السكر واحد .. لا غير ، وغطى الهلالية بغلالة مربى توت، ثم أخذ يحتسي، ويقضم ...
على مقربة منه كان "لابتوب" بالشاحن موصل ، فتحه ، ولما جهزت صفحة النيت أخذ يتصفح الصفحات الإليكترونية للجرائد والأسبوعيات... باحثا عن ما جد من الأخبار، وما تولد من جديد عن الأحداث السارية...
كتب مُفسدة- قصة : أحمد العكيدي
لم تكن كعادتها تتصفح الكتب وتبحث عن ملخص لها أو ملاحظات حول أفكارها في أوراقي المبعثرة هنا وهناك. أحيانا كثيرة كانت تسألني بإلحاح عن كل أمر يثير فضولها أو تناقض بدا لها بين ثنايا الحروف أو فكرة قرأتها ولم تقتنع بها. تارة تجادلني في أمور الثقافة والفكر، وتارة أخرى تناقشني في الدين والسياسة وأشياء عديدة.
راعني منظرها وهي منزوية فوق كنبة أمام التلفاز، تتفحص دفاترها بازدراء واحتقار وتقذف بكتاب رمادي اللون في كل اتجاه ثم تلتقطه من جديد كأم تعاتب ولدها عن شيء مشين قام به، ثم تتأمل بعنين متعبتين الغرفة كمن يراها أول مرة. لم آلف رؤيتها حزينة وكئيبة كما هي الأن، أشرت لها أن تقترب مني فأوحت لي بحركة سريعة من رأسها أن لا رغبة لها في ذلك.