احتسيت كأسا من الشاي وأكلت قطعة خبز، تم وضعت وجبة خفيفة في حقيبتي لعلها تُصمت أنين معدتي عند الحاجة، فانطلقت أسابق الزمن. على غير العادة، اختفت من أمام بيتي كل الأزبال المتراكمة مند أيام، حتى الزقاق عُبد والرصيف كُنس. موقف الحافلة بدوره لم يسلم من التغيير، زُود بشاشة إلكترونية كتبت عليها أرقام الحافلات والمدد الباقية لكل منها، وبُني بجانبها مكان للانتظار مغطى بسقف يَقي الجالسين من لسعات الشمس الحارقة وزخات المطر، وُضعت على اليمين ألة أتوماتكية لبيع المشروبات والحلويات.
باق من الزمن دقيقة لم تكد تنقضي حتى توقفت حافلة جديدة، كراسيها مريحة وزجاج نوافذها غاية في الصفاء، نظرت عبرها فبدا لي وجهي واضحا إلى جانب صور بعض الراكبين، الستائر غير ممزقة رُصت ألوانها وأشكالها بتناسق، السقف جُهز بكاميرات مراقبة متطورة ترصد الحركات المريبة. تجولت ببصري في الأرجاء أبحت عن الازدحام الذي ألفته والفني حتى أصبح جزء من كياني فلم أجد له أثرا، حاولت التقصي عن رائحة القاذورات وانبعاثات المحرك، التي تزكم الأنوف وتخدر العقول على مدار اليوم، فلم أستنشق سوى عطر النساء يداعبه النسيم جيئة وذهابا. أمامي مباشرة رجل منهمك في فك طلاسم الكلمات المتقطعة، وعلى جانبي شاب يحاور هاتفه الذكي بلطف ولا يخشى أن يُنشل منه خلسة أو علنا. في المحطة الموالية، نزلت شابة جميلة من غير أن يزعجها أحد بنظرة مريبة أو بلسان سليط يخدش الحياء، الكل منهمك في شأنه.
بَوْح ـ نص : مأمون احمد مصطفى
حين دعوت الليل ليستريح على صدري، ويلقي بظلمته الموغلة بالمجهول والغموض بأعماق ليل عمري وعتمة دربي، ضحك، بسخرية واستهزاء، واخرج من أمعائه المغطاة ببياض ناصع يذهل العين ويخطف البصر لسانا متقدا بفوهات بركانية تسيل من أحشائه إلى أحشائه، واندفع يشكل ملامح الساعات ببريق جهنمي الطلعة، وسالت منه روائح نار زكية، روائح حشائش دستها في طفولة عمر تقضى بين أحضان البيارات والجبال والسهول والربى.
قال لي:
صدرك صغير، غير مكتمل النمو، لا يتسع لفراش السهل، بل لا يتسع لبيت نمل في جبل، ولا يتسع لجذر نرجسة تسكن ربوة من ربى الأرض التي تعرفك ولا تعرفها، وأنا، طويل، ممتد، من حد الكون، إلى حد الكون، كبير، من حد الأرض، إلى حد السماوات، ثقيل، لا تسعني الأرض، ولا تسعني الشمس، والقمر أعلن عجزه منذ الأزل، وصدرك صغير صغير، تنحره حبة عتمة، وتذبحه حبة ظلمة.
هل أقابلهما ؟ ـ قصة : عبد الرحيم شراك
هل أقابلهما يا ترى ؟ و كيف ستكون نظرتهما إلي؟ تساؤلات كثيرة دارت في رأسي فقد مضت مدة طويلة على رؤيتهما. إنهما نزار و باسل اللذان كانا يدرسان معي في المرحلة الابتدائية و الثانوية ، و قد لمحتهما للتو من النافذة . أصبح نزار مهندسا متميزا و باسل طبيبا معروفا ! كلاهما ناجحان في عملهما و قد بنيا أسرتين جميلتين كما يقول الآخرون. أما أنا فرغم مرور كل هذه السنوات فما زلت هنا أكتب فقط.
لقد مللت بصراحة ،فأنا أكتب منذ مدة طويلة يا غرفتي العزيزة. بعثت قصصي لعدة مجلات و لم تًنشر، كما شاركت في مسابقات كثيرة و لم أفز. المصير النهائي لأعمالي دائما هو التراكم فوق مكتبي. كثيرا ما أسأل نفسي :هل أنا فاشل ؟ هل أنا مقصّر في أمر ما ؟ خصوصا عندما يسألني الآخرون عن العمل . إنهم لا يعرفون أنني أكتب بجد و أنني لا أبخل بأي شيء في سبيل كتابة قصصي. لا يدركون مدى التعب و الجهد الذي أبذله في هذا الشأن، فهم يعتقدون أن ما أفعله سهل جدا و لا يدركون صعوبة الأمر البتة.
بالأبيض والأسود ـ نص : عبد المطلب عبد الهادي
قال الثلج ضجِرا..
ـ سئمت لوني الأبيض..
رد الليل ناصحا..
ـ لن تجد لونا آخر يليق بك..
للبياض سيرة.. وللسواد سيرة.. وبينهما كل الحياة.. سر الحياة..
للضوء والعتمة سيرة وأسرار..
وللأخرى وجوه تتقلب..
ضحكات صفراء..عيون من الغضب حمراء.. ووجوه تتخذ لكل يوم لونا.. نفاق..
كما الجوكندة.. نلبس الغموض والهدوء المصطنع ألوانا.. ونرسم على وجوهنا وملامحنا وحركاتنا ألوانا شتى.. لا معنى لها.. ألوان تصدر عن ذوات تصطبغ بكل لون.. لكل يوم.. لكل حالة..
علَى الطريق إلى الإدْمَانِ (1) ـ نص : محسن العافي
النيران المشتعلة تحدَّثت إلَيَّ ، النيران تسألني وتستفزني ،تستعجلني الإجابة عن شيء ما كان خاصًّا بي .
ارتفعت حرارة المكان الذي أتواجد به ، ألسنة اللهب تزحف نحوي تارة ،و تارة أخرى تلزم مكانها ،تسترق هواء المكان،تستنزفه ، آه!! ذلك الشبح القابع وسط الحريق كشر عن أنيابه ، ينفخ على النار فتزداد اشتعالا ،اللهب كأنه كائن مُترنِّحٌ يمِيل جهة اليمين وجهة اليسار ،"ههه "،إنه يرقص رقصة إفريقية ،الرِّياح تشتَد ،المكان خَالٍ على عُروشه إلا منِّي ،والأنوار تلوح باهتة من تلك الأبنية البعيدة ،الشبح يخرج ملتهبا من موقد النار متجها نحوها ،أو ربما يتجه نحوي .شيء ما بداخلي يدفعني للهرَب ، يدعُوني للفزع ، يدعوني للبكاء.
خمدت نار الموقد ، بينما الشبح يسير بخطوات سريعة وأعضاؤه ملتهبة ، ظنِّي يُرَاودُني عن نفسي لأقول : ربما هو نيزك يسير محاذيا للأرض حينا، ويلامسها حينا آخر، ولا يستقر في مكان، لا يَا أَنَا ! إنه ليس نَيْزَكا بل شيئا آخر .
لم يتحدث العِلم عن نيزك كهذا،ولا عن حركته الغريبة،ولا عن رقصته الإفريقية .
زفرة تأبى الخروج- قصة : أحمد العكيدي
مرضت زوجته فجأة وذهب بها إلى المستشفى حيت خيروه بين الانتظار لشهرين أو الرحيل بها إلى مصحة خاصة، حدثهم عن فاقته وعن شح دراهم يومه التي بالكاد تسد لقمة عيشه رفقة أسرته، احتقروه وتفننوا في إذلاله، طالبوه بشهادة الفقر متناسين أنه هو الشهادة بعينها، تم تركوه يطرق أبواب مكاتب عديدة ليخرج منها مهانا ذليلا.
بعد معاناة وبإصرار شديد أتى بالوثيقة المشؤومة، تم أدخلت زوجته إلى غرفة الفحص ودعاء الأمل لا يفارق لسانه، انتظر خلف الباب حتى خرج الطبيب فعلم أنها بحاجة إلى عملية جراحية عاجلة يعجز المستشفى عن القيام بها. قبل يده واستعطفه لعله يرأف بحاله، بلطف لم يعهده من قبل في مثل هذه الأمكنة، أجابه الطبيب ربما مشفقا عنه لبؤسه أو لجهله: العملية تحتاج إلى أجهزة متطورة لا تتوفر لدينا، تم نصحه بإحدى المصحات الخاصة.
إشعار بالكلام.. أو حين نجعل الكلام ذهبا والصمت فضة ـ نص : عبد المطلب عبد الهادي
حين تنطفئُ جذوة الكلام تشتعل مسافات الصمت..
قالوا قديما.. إذا كان الكلام من فضة.. فالسكوت من ذهب..
فهل فعلا ـ في زمن الرداءة والخيبات ـ السكوت من ذهب ؟
أين ذهب الكلام حين أغلقنا دونه الأبواب والنوافذ واسترقنا الهمس والدَّندنة والصراخ الأجوف ؟هل تمرَّدت علينا الحروف وغيَّر الكلام مواقعه وسكن الآذان وحكم على الألسن بالصمت والخرص والبوار ؟
رغم الكلام.. لا صوت يُسمع في المحافل هنا وهناك.. نتكلم ونتكلم ولا نقول شيئا.. تصفيق يتلوه كلام وكلام.. ولا شيء.. كأن الكلام صمت..
أحلام لن تتحقق ـ نص : حسن العاصي
أحلم بكوخ ساهر تنام الصخور حوله، وأن يتحول الزمن إلى صدى تهدهده النغمات . أحلم أن أمضي بلا كتفين وبلا قدمين، وبملائكة الله تقطع هذا الخيط من حول عنقي، وأن أستعيد لوسادتي وقميصي رائحة وطني . أحلم أن أنتمي لحدود نفسي فقد مضيت بلا حدود، وبأن تعود أصابعي التي هجرت يدي، وبأن تتوقف أحلامي .
أحلم أن أخلع رأسي وقلبي وجلدي وإسمي، وأصعد نحو المساء الأخير طفلاً صغيراً ضاحكاً، وأغفو على حلم كأني لم أغادر . أحلم بعودة زهرة عبرت برقتها الحدود وبعينين خرجتا مع الفجر ولم تعودا . أحلم أن تتوقف اختلاجات الاسئلة في صدري، تدور كالعصافير تمرح في ذاكرة الوقت، وبأن لا يتآلف جرحي مع سوط السلطان .