لم أكن أوَدُّ الدخول إلى ذلك المنزل ،ولكنني وجدت نفسي مضْطرا لدخوله ،فذلك الصّياح المتَعالي ذات عشية ،حتَّم علي معرفة ما يجري لتلك المسكينة ،التي لم أعتد منها إلا على صمتها ،الذي لطالما أرغمني على إعطاء الإعتبار لعِدة أسئلة تراودني كلما رأيتها .
كانت على ذا الحال تتلفظ بكلمات، إن خرجت على لسان امرأة ،ما كنت لأعدها ضمن نساء هذا الكون - كامرأة يجملها ضعفها ويعلو أفق عالمها المودة والرحمة والحنو ،فهي كتلك الطبيعة التي تضُم إلى حناياها كل الكائنات التي تحيا عليها ،مشتاقة لتنَوع فصولها ،واختلاف أيامها – اللواتي أَبَنَّ عن نضجهن ونبوغِهِن عبر الزمن .
ذكريات الطفولة ومدرسة الحي والقراءة والكتابة ـ سعيد بوخليط
لاشك أن أعمق زلزال تحدثه الكتابة،تقويضها السهل وبجرة وحي، لكل أطروحات متون أقسام الحالة المدنية،وكذا بداهات الكائن المجتمعي المؤسساتي،القابل خيميائيا للانصهار والذوبان،وأخذه شتى صور التنميط والتحديد.ترسم الكتابة تاريخا للمرء،بين ماقبلها ومابعدها.فهل بوسعنا المجازفة، بالاستفسار التالي :أي مصير محتمل لبيولوجية العرق والجنس،قياسا لمجتمع يشتغل جل أفراده بالكتابة وعلى الكتابة،ويرفضون عن هذا التقسيم للعمل، بديلا؟يتحرر الفرد بالكتابة،وهي تطويه نحو خلود الآبدين،بحيث يهزم الآخر والقدر والسلطة والمكان،ثم يسكن ذاته وقد تمثل أقصى ممكناتها.
كنت طفلا مدرسيا،بالمعنى المؤسساتي للكلمة،أواظب على مواعيدي،دون أن أحشر نفسي، كي أحشو جمجمتي بأشياء واهية،أهم قضية تشذ مخيلتي،الهرولة صوب حضن أمي عند نهاية كل موسم دراسي،ملوحا إلى عنان السماء،بورقة تزخرفها خربشات المدرسين،تطمئن أمي،على أنني مهيأ بما يكفي، لآفاق البحث والسعي وراء الكلأ، على امتداد هذه الصحراء المحيطة بمصيري.هكذا،ظلت المدرسة بالنسبة إلي، سكينة وملاذا، وحلما طفوليا جميلا،ثم أيضا،ما معنى أن تلامس عتبات فصول التنوير،في بلدان العالم السفلي.
العطر الضــائع ـ قصة : أحمد الحجام
" Le parfum est la forme la plus intense du souvenir "
Jean-Paul Guerlain
عندما عنّتْ سُحْنتثهُ الكَالِحَةِ من وراء البوّابة الحديدية المُوارِبة للمدرسة ، كانتْ كوْكبةُ الصّبية قد انْتَثَرَتْ في كلّ الاتجاهات .. لمْ يُعِرِ اهتمامًا لذلك المرَح الطفوليّ و النّزق الصّاجّ الذي ملأ الشارعَ ، و الأزقة المُجاورة بالصّياح و الكركرات الجذلانة ..
بَدَا مُنْدحرًا ، و كأنه سجين هرم أُطلق سراحُه قبل لحظات .
انتصبَ ، يجُولُ بنظراته المُنْكسِرة في الدّوائر و الزوايا، و يتفرّسُ السُّحنات و الوجوه و الهامات لكائنات المساء الكئيبة.. كانت عيناهُ الذابلتان تشِيَانِ بِحُزنٍ دفين ، ينْداحُ غائرًا في المَحْجَريْن لِحُدود التّيه .. وجْهٌ مستطيل ، ذقن أمرد ، إلّا من بعض الشُّعَيْرَات الفوْضوية ، أخاديد تَحفرُ عميقا في الجبهة و الخدّين ، و قامة نحيلة لم تُضفْ إلى شكله الكيخوطي سوى ميْسم الكارثة.
انحدر مُتهالِكًا عبر الدّرج الاسمنتي الحادّ ، إلى أن لفظته العتبة المُهشّمة نحْو الرّصيف .. كاد أن يسقط ، كَكُلّ مرّةٍ ، عندما يسلكُ نفس الطريق ، و يفوته التحوُّط من مكْرِ العتبة اللعينة ..تناهتْ إلى مسامعهِ ضحكات شامتة لبعض المارة ، فعضّ على نواجده ناقِمًا ،مُغمغِمًا باللّعَناتِ الكظيمة..
بوح "2" ـ تلاشي الهباء : نص : مأمون احمد مصطفى
ماذا تريد؟
أتبحث عن بقايا النفس أم بقايا الناس؟
الأرض لها ألوان كما السماء، والأشجار الغائرة في الانهيار والنمو والبسوق والانخفاض، تبدو كملامح الأموات النابزة من شقوق المقابر.
النهر الجميل المتدفق من النبع إلى المصب، تتخلل شفافيته طحالب متعفنة تزخر بالنتانة والتقزز، تنتابك هواجس متعفنة تلتصق بالطحالب لتنتقل إلى مساحات النفس والروح، هي الأشياء، هي الذات، هي الإنسان.
عن ماذا تبحث؟ في هذا الأفق المشدود إلى نوازع وغرائز، تبدو وتتشكل كلها في صدور البشر، في صدور الناس، المغلفة بغرائبية الغابة والوحوش، البسمة لها ثمن، والخدمة لها ثمن، أتدري، كيف تتشكل النفس بالداخل وتتقلب وكأنها على مرجل، لتتقلب صفات الغدر والخيانة والغرور والأنانية والجشع والبخل، لتطفو على السطح المغطى ببسمة تكاد تمزق حجب الحياة.
على طريق الإدمان 2 ـ قصة : محسن العافي
الرجل الذي أطفأ الشمعة يتحدث إليَّ ، السعال يأكل نصف كلامه ، يتوالى السعال ،وتتوالى الكلمات المتقطعة الوازنة ، التي لم أعهدها في كلامه أثناء حديثنا المتكرر معا ، في ذات المكان الذي اعتدنا أن نملأه صخبا وضحكا متعاليا ، بتنا نملأه عبثا ، نملأه سموا بمحاذاة سكونه ونحن نتجاذب أطراف حديث أسهب في الشجن ، وسادت كُنْهَه أسرار من حقيقة لا يمكن حجبها .
جلس بين دخانين ،الدخان الذي يتدفق من سْبْسِيِّهِ وفمِه ،والدخان المتصاعد من الموقد ،كان دخانا يملأ سماء الجهة التي يقبع فيها . هكذا صار صاحبي . فهو آمِنٌ من دخانٍ يعتقده متنفَّسا وهو أذى ، وحَذِرٌ من دخانٍ كان من الأذى أبعد وأنأى.ألصق الأذى بما لا يجد منه لذَّة ونشوة ، وشفَع لدُخّانه الذي يلازمه فقال :
أحلام مزعجة ـ قصة : أحمد العكيدي
احتسيت كأسا من الشاي وأكلت قطعة خبز، تم وضعت وجبة خفيفة في حقيبتي لعلها تُصمت أنين معدتي عند الحاجة، فانطلقت أسابق الزمن. على غير العادة، اختفت من أمام بيتي كل الأزبال المتراكمة مند أيام، حتى الزقاق عُبد والرصيف كُنس. موقف الحافلة بدوره لم يسلم من التغيير، زُود بشاشة إلكترونية كتبت عليها أرقام الحافلات والمدد الباقية لكل منها، وبُني بجانبها مكان للانتظار مغطى بسقف يَقي الجالسين من لسعات الشمس الحارقة وزخات المطر، وُضعت على اليمين ألة أتوماتكية لبيع المشروبات والحلويات.
باق من الزمن دقيقة لم تكد تنقضي حتى توقفت حافلة جديدة، كراسيها مريحة وزجاج نوافذها غاية في الصفاء، نظرت عبرها فبدا لي وجهي واضحا إلى جانب صور بعض الراكبين، الستائر غير ممزقة رُصت ألوانها وأشكالها بتناسق، السقف جُهز بكاميرات مراقبة متطورة ترصد الحركات المريبة. تجولت ببصري في الأرجاء أبحت عن الازدحام الذي ألفته والفني حتى أصبح جزء من كياني فلم أجد له أثرا، حاولت التقصي عن رائحة القاذورات وانبعاثات المحرك، التي تزكم الأنوف وتخدر العقول على مدار اليوم، فلم أستنشق سوى عطر النساء يداعبه النسيم جيئة وذهابا. أمامي مباشرة رجل منهمك في فك طلاسم الكلمات المتقطعة، وعلى جانبي شاب يحاور هاتفه الذكي بلطف ولا يخشى أن يُنشل منه خلسة أو علنا. في المحطة الموالية، نزلت شابة جميلة من غير أن يزعجها أحد بنظرة مريبة أو بلسان سليط يخدش الحياء، الكل منهمك في شأنه.
بَوْح ـ نص : مأمون احمد مصطفى
حين دعوت الليل ليستريح على صدري، ويلقي بظلمته الموغلة بالمجهول والغموض بأعماق ليل عمري وعتمة دربي، ضحك، بسخرية واستهزاء، واخرج من أمعائه المغطاة ببياض ناصع يذهل العين ويخطف البصر لسانا متقدا بفوهات بركانية تسيل من أحشائه إلى أحشائه، واندفع يشكل ملامح الساعات ببريق جهنمي الطلعة، وسالت منه روائح نار زكية، روائح حشائش دستها في طفولة عمر تقضى بين أحضان البيارات والجبال والسهول والربى.
قال لي:
صدرك صغير، غير مكتمل النمو، لا يتسع لفراش السهل، بل لا يتسع لبيت نمل في جبل، ولا يتسع لجذر نرجسة تسكن ربوة من ربى الأرض التي تعرفك ولا تعرفها، وأنا، طويل، ممتد، من حد الكون، إلى حد الكون، كبير، من حد الأرض، إلى حد السماوات، ثقيل، لا تسعني الأرض، ولا تسعني الشمس، والقمر أعلن عجزه منذ الأزل، وصدرك صغير صغير، تنحره حبة عتمة، وتذبحه حبة ظلمة.
هل أقابلهما ؟ ـ قصة : عبد الرحيم شراك
هل أقابلهما يا ترى ؟ و كيف ستكون نظرتهما إلي؟ تساؤلات كثيرة دارت في رأسي فقد مضت مدة طويلة على رؤيتهما. إنهما نزار و باسل اللذان كانا يدرسان معي في المرحلة الابتدائية و الثانوية ، و قد لمحتهما للتو من النافذة . أصبح نزار مهندسا متميزا و باسل طبيبا معروفا ! كلاهما ناجحان في عملهما و قد بنيا أسرتين جميلتين كما يقول الآخرون. أما أنا فرغم مرور كل هذه السنوات فما زلت هنا أكتب فقط.
لقد مللت بصراحة ،فأنا أكتب منذ مدة طويلة يا غرفتي العزيزة. بعثت قصصي لعدة مجلات و لم تًنشر، كما شاركت في مسابقات كثيرة و لم أفز. المصير النهائي لأعمالي دائما هو التراكم فوق مكتبي. كثيرا ما أسأل نفسي :هل أنا فاشل ؟ هل أنا مقصّر في أمر ما ؟ خصوصا عندما يسألني الآخرون عن العمل . إنهم لا يعرفون أنني أكتب بجد و أنني لا أبخل بأي شيء في سبيل كتابة قصصي. لا يدركون مدى التعب و الجهد الذي أبذله في هذا الشأن، فهم يعتقدون أن ما أفعله سهل جدا و لا يدركون صعوبة الأمر البتة.