سكن الليل وهدأت الأصوات وتاهت الأرواح في غياهب الأحلام. الساعة تدق ما بعد المنتصف والصمت يضرب أطنابه على الربوع، خلا نباح بعض الكلاب وثغاء نعاج جيراننا الذي يأتي من قريب بين الفينة والأخرى. الغرفة يخيم عليها عنكبوت العتمة، ساكنة إلا من شخير أخي الأصغر الممدد فوق فراشه بجواري غارقا في أحلامه، نام كل الناس ونام الشجر والحجر. أما أنا فما رق إلي نوم تلك الليلة، بتّ أتقلب فوق فراشي كنائم على جمر الغضى. تدلت علي عناقيد الذكرى وأفكار تعيسة استباحت حرمتي، وكآبة ثقيلة أرخت سدولها على صدري، وضعت يدي خلف رأسي ورفعت بصري إلى السماء لا أبصر غير ظلام دامس ناشب أظفاره.
تأمّلات في الزمن: رُبَّمَا... ـ نص : د. عبد اللطيف الركيك
علمها عند الله...نعم...الناس في أيامنا هاته، وفي القرون الخوالي عاشوا إلى أن ماتوا وهم دائما يتوقعون حدوث أكبر حدث مزلزل منذ أن كان الخلق الأول. ظل هذا الانشغال يسكن أفكار الناس باعتباره غيبا من الغيوب التي استعصت على الأذهان. يتعلق الأمر بحدث قيام الساعة كتيمة مركزية شغلت التفكير الإنساني منذ الأزل، فقد اعتقد الناس منذ الأزمنة السحيقة أن هناك نهاية للوجود والكون مثلما هنالك بداية.
تعاقبت الشعوب على عمارة الأرض، أبيدت بعضها واستمرت أخرى على مر ملايين السنين، وكل منها تضع علامات وأمارات لهذا الحدث الذي لا مثيل له، وهي لا تزال في طور التوقع الأزلي إلى يومنا هذا لحدث لا بد منه ولا إبان له. وربما نعيش نحن ونموت، ويأتي بعدنا أناس آخرون بعد آلاف السنين وربما ملايين السنين مما نعد. لربما يأتي يوم، بعد انصرام كل هذا الزمن الممتد ويكون الانتظار هو المسيطر على الآفاق، ونكون نحن الذي عشنا في الألفية الثالثة بعد الميلاد تماما مثل إنسان العصور الحجرية، فيأتي من ينقب عن آثارنا بالمعاول، وينبش قبورنا، ويُخضعنا للدراسة والبحث مثلما نفعل نحن اليوم بالنسبة لبقايا إنسان العصور القديمة، فيختلف الباحثون حول أحوالنا وحضارتنا وثقافتنا وقدر مساهمتنا في البناء الحضاري الإنساني. وذلك يوم نستحيل إلى مجرد عظام متناثرة مدفونة تحت الأرض توضع في مختبرات الدرس.
على باب المطار - قصة: أحمد العكيدي
على باب المطار يصطدمان، يتراجعان إلى الوراء و يتبادلان نظرات تائهة وأسئلة حارقة تبحث لها عن جواب بدون جدوى. يسترجعان أولى البدايات، كيف كان عقله معلقا بأروبا، يحكي لها عن تحضر أبنائها وعن أمجادها، يحدثها بحماس عن تاريخها، يصف لها بدقة أحداث الثورة الفرنسية وعِبرها المستقاة، يسرد على مسامعها بافتخار أقوال روسو وفولتير وماركس وكانط وغيرهم.
كان غربي الهوى والروح، عربي الشكل والملامح، كانت هي تنظر إليه كالغريب، لم تفهم يوما إصراره الشديد على الرحيل مع أنه يمتلك وسائل النجاح في بلده، إنه في سنته الدراسية الأخيرة ويُشهد له بالتفوق ويمكن له إن أراد أن يشتغل أو يتابع دراسته.. سألته يوما عن سر هذا الشغف العارم بهذا العالم البعيد، كان جوابه مقتضبا:" أريد أن أصير إنسانا".
لوائح بعد صحو : (ما تعلّمته من منطق الخطاف) ـ نص : د.الحبيب النهدي
ـ الصحو : رجوع إلى الاحساس بعد الغيبة بوارد قويّ
ـ اللوائح : هي ما يلوح من الأسرار الظاهرة من السمو من حال إلى حال
ـ '' توّفر الثقافة نقاط استناد خياليّة للحياة العمليّة، ونقاط استناد عمليّة للحياة الخياليّة'[1]''أنا لا أعرّف الجمالي أنّه الصفة الخاصة بالأعمال الفنيّة بل أنّه نموذج علاقة إنسانية أكثر سعة''[2]
ـ جئتكم بخبر خطاف تخطفني خطابه فأردت أن أفهم قوّة منطقه ورغبت في رؤية المشهد بشاعريّة لأقرأ عليكم لائحة موّجهة للصحو[3] حتّى لا أبقى كنودا[4] أوجّه كلاما حراما أن لا يكون سلاما.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قد يبدو لكم الأمر ايتاء بجديد ولكن دروسا سبق وأن تعلمتها من أمي واستحضرها الآن فهي التي تعاشر الطير وتتخاطب معه وكم مرة حوصر في زاوية من البيت فتحرره حيث أردت سجنه قائلة هو بشارة خير.وقد وجدت فيما تقوم به استمرار فكر ايحائي متماه مع البيئة.
لقد أتيت بعد غياب دام أسبوعين وهي مدة العطلة المدرسية فلما وجدت بيتي[5] امتلأ بحركة الخطاف. وزقزقاته التي تشابه رنين الأجراس وها هي تحطّ وتطير ثمّ تعود تختبر ردود فعلي نحوها حتّى تثّبت عشها فهي تتلمس السكينة وترغب في الأمن ولما وجدت في المكان حرارة الاستئناس رامت حضوري لتتسلل داخل غرفتي وكانت ترفرف ابتهاجا بقدومي.
سمفونية خارج زمن السلالم الموسيقية ـ قصة : محسن العافي
الوقت الذي استغرقه في رحلته عبر الأمكنة الحزينة - التي لم يدعه فيها ذلك الصمت المهيب - الذي جعل منه منارة للأحزان ، واقتطع من وقته زمنا ، ليركن إلى فيء أشجار الصنوبر والسنديان، ليبدع سمفونية خارج زمن السلالم الموسيقية .
قرر أن يمثّل للصمت حالته التي تفرض العجز ، وتوحي بالأنين الذي يسدل ظلماته على قلة من الناس،ثم ارتأى أن يرصد ما يلازم تلك السحابة ،التي ينسكب منها الماء على غير الشاكلة التي اعتادها في نزول المطر .
فكر في التعبير عن تلك السحابة ، ليعلن للعالم الود الذي يجمع البشر بباقي مكونات الحياة ،من شمس وقمر وكواكب ونجوم ، وعشب وماء ،وحيوان ... ويوضح لهم سرَّ الإنسجام الذي يملأ هذا الكون ، ... أمسك عقرب ساعته ، حاول منعه من الحركة في الاتجاه الذي تبغيه عقارب الساعة في عادتها المألوفة .
صمت ولعنات ـ قصة : سليم بوعزاتي
لم يكن ذلك المنزل الذي استأجرته من العجوز الإسبانية يصل لسقف تطلعاتي، حيث إن ثمنه البخس فقط هو الذي حثني على استئجاره، فقد كان منزلا غريب الأطوار، يرتعش له جسمي لمجرد النظر إليه، فقد كانت جدرانه سميكة شنيعة، ونوافذه الأمامية كانت تبدو أنها لم تفتح منذ عقود، فقد كانت درفاتها متسخة مُغَبَّرة تتقاطع عليها قضبان حديدية زيادة في الحرص، وكانت أرضية المنزل خشبية داكنة تقرقع على وقع خطى واطئيها مصدرة صوتا رهيبا، وأثاث المنزل كان إسبانيا باليا يوحي بالشؤم، وكان يكتنف المنزل ضوء خافت شاذ نسماته خانقة، فقد ترك المنزل الغريب في نفسي انطباعا كئيبا من أول نظرة ألقيتها عليه، غير أن لم يكن لي من خيار آخر، فقد كنت أمر بضائقة مالية جعلتني أسكن ذلك المنزل رغما عني..
الضمير المستتر ـ قصة : العياشي ثابت
دخل حجرة الدرس بعد صف التلاميذ الأخير، وبعد أن ألقى بهمومه جاهدا في سلة نسيان مؤقت مع آخر زفرة دخان، ثم افتعل ابتسامته المعهودة، ينفد وصية أساتذته في مركز التكوين، حيث كانوا يعتبرونها خير وسيلة لإشاعة الطمأنينة في نفوس الصغار، وفتح شهيتهم للتحصيل بكل هدوء وإصرار. ارتدى وزرته البيضاء قبل أن يعلن بداية حصة الإعراب، وتُعربَ تقاسيمُ الوجوه عن النفور، فيلجأ إلى تلطيف الأجواء بسؤال بسيط عن أنواع الضمائر، ثم يُتبعه بتصريف فعل الحضور، إذ أثبت الجميع حضورهم عدا سعاد المريضة و أحمد المسافر لحضور حفل زفاف قريب...
بعد هذا التقديم اللطيف، بسط الأستاذ جملا توزعت مضامينها بين الاشتمال على ضمائر منفصلة وأخرى متصلة، بين ظاهرة ومستترة، فراح المتعلمون يتسابقون للإتيان بجمل مفيدة توافق المطلوب، فيما تحين الفرصة لاستنتاج عنوان درس اليوم، فكتب في صدر السبورة بلون مغاير: الضمير المستتر. واستمر يطالبهم بتحويلها بين حالتي الظهور والتستر، حتى بدا له أن الدرس بات مفهوما أو يكاد...
عــيون وهـــيبة ـ قصة : ميمون حــرش
جلس قبالتها مدحوراً، تملى وجهها المستدير، شيء ما صاعق ومستفز في ملامح هذا الوجه، تقاسيمه مألوفة لديه أكثر من بقية كل الوجوه التي صادفها، يعرفها وتعرفه، بل إذا قُدر لها وله أن ينسيا كل الأسماء، فاسم وهيبة ومختار، تحديداً، يحرنان كحمارين تركب الذاكرة ظهريْهما.. ولأنها تعرف أنه يشتهي فمها كما هو مسطور في كتاب حبهما "ألف قبلة وقبلة وواحدة أخرى"، كانت تزم شفتيها بشهوة، تحركهما، كاشفة عن شنب، تبسم بمقاس، وبدون صوت كانت تتملاه هي الأخرى، عيناها تثرثران، لكن لا يُسمع صوتهما، عيناه هو صامتتان.. في وادٍ سحيق كان يتداعى كصخرة امرئ القيس، تحطه الذكريات ليبكي بين يدي وهيبة التي أحبته وأخلصت له، ثم شاء-لا القدر- أن ينفصلا..