لما ذهب لم يشأ أن يودعه،وتركه في مأمن من ذكرى زمن قد ولى ، تأكد له جليا أن الذي حاول أن يجعل بين الحياة وبهجتها شرخا، كان قد كذب فيما مضى، واستجاب اليوم لنداءات ترمي به في فضاء بلا نور ولا هواء .
عندما التقيت به تأملت وجهه قليلا ،ثم باغته بلا شفقة قائلا:
أنت كاذب تعبث بالحقيقة ،وتسائِل اللاشيء ،لهذا فإنك تركن إلى زاوية في كوخ مهترئ. رد في هدوء :هذا ما يجعل الحقيقة في عينيك بلا معالم ولا حدود ،فأنت لست أنا لأنك تنقص منها وتزيد متى تشاء، وهي بذلك في مد وجزر دائمين .
بدأ يداعب لحيته ويكرر كلاما غير مفهوم ، فزع قليلا . قررت ألا أفارق المكان حتى أعرف سر كلماته التي طال الزمان بها، وهي ترزح تحت عالم الخرافات واللاممكنات :الأشباح!!العفاريت!!،التماسيح !!،إبليس !!،اللصوص !!،...المقنعون !!،.....والله !! ...
لكل كلمة دلالة ،ودلالة اللفظ روح معناه ولبّ الحقيقة ، استعنت هذه المرة بما أعرفه عن هذه الكلمات ،وما يستقيم ودلالتها الحقيقية ، وما حوته القواميس والمعاجم و...... ،لكن كل أهدافي لم تبلغ مداها ،وما وجدت شيئا مما تشير إليه خطواته ، نحو شيء يستعصي الوصول إليه بهكذا وسائل ،حيث تغرق هذه الحياة في برزخ تحمله العفاريت ،ليهب هذه الحياة صفة اللاممكن ،التي تسبح على هذه البقعة من الأرض في هدوء .
قررت أن أروم تأويلات السحرة لأنهم يكذبون ،حتى أفسر الكذب بالكذب ،وحتى أوضح للكذاب خطورة ما يقول على هذا العالم. ثم اخترت أن أنْحَى منْحَى الآخرين من السياسيين وعلماء الاجتماع، حتى يستقيم الحال ،وأوثق للحقيقة التي باتت تنأى عن عالمنا يوما بعد يوم ، لكنني وجدت عند هؤلاء ركاما من تساؤلات عالقة ، تؤثث لألوان الفشل المتكررة العابثة، فهم بهذا علماء تعترض علمهم الخرافة، وتأسر نبوغهم بعيدا عن علمهم. فلا الحكايات الشعبية، ولا نكث الشباب -الضاربة في العبث والفحشاء - ولا الأقوال المأثورة باتت تشفي الغليل، وتؤنس وحشة المحزون الذي بلغت منه الفاقة مبلغها ،وجعلت منه كائنا طيعا ممتثلا لما يُمْلَى عليه .
وأنا أكتب تذكرت نداءات من رقصة الفلامينكو الصارخة،الدالة على آلام وأحزان المهزومين والمستضعفين ، رقصة ثكلى بثقافات مختلفة ،اختلطت مرغمة ، فقلت في نفسي آلامنا وأحزاننا وثقافاتنا، لم تنتج اليوم رقصة كتلك ،بل أنتجت معزوفة كتب لها أن تتساوى بنعيق الغربان ،فلا من يسمعها ،ولا من يضبط نغماتها لتستقر على حال .
لما عرفت أن هذا العالم لا يصلحه شيء ، وأننا جميعا كنا هنا لنحاكي خبايا رقصة الفلامينكو ،التي تجعل منا خليطا متجانسا، لنستمع إلى حديث عن اللاممكنات ،والأشباح التي لا تستقر أشكالها على حال - استجابة لما يريد منها الذاكر لسيرتها كل مرة - تراجعت إلى الوراء ،وقررت أن أقاطع الجرائد ،وأتجرد من هاتفي، وكل ما يصلني بالعالمَيْن الحقيقي والخائلي، لكي أتخلص من كل ما ارتبط بالكذب والسحر والوهم و اللاممكنات من الأمور، ....في انتظار أن يعي أنه بأحاديثه تلك ،إنما يركن إلى الفراغ في ظلام دامس ، مستعدا لسماع معزوفة منفرة ، كُتب لها أن تتساوى بنعيق الغربان.