أنفاسضحك حتى انكشفت اسنانه البارزة وكاد ان يسقط سلاحه الميرى المعلق على كتفه الأيمن
 حينما سمع اخر الاخبار فى المذياع الملفوف بألف رباط ضامد والقابض عليه كأنه وصية ابيه الأخيرة :
" مصر توقع اتفاقية الكويز مع امريكا واللى ما يتسموش "
ويبدو ان الكلمة ذكرته بكوز الماء الفاتر فى ليالى الشتاء الباردة
اما الصيف فقد كانت له طقوس خاصة فى الترعة التى تمر امام بيته ..
**
اغلق المذياع ووضعه جانبا حتى يتمكن من ان يدخن سيجارة
اشعلها كأنما يحرق عدوه .. ضم عليها كأنما يحتضن ولده
وحشتينى .. رددها وهو يلقى نظرة على صورة "فاطمة"
كانت اخته .. بنته .. امه .. كانت زوجته
مرت ثلاث شهور وهو بعيد جدا عنها ..

أنفاسزخات المطر تغرقها برفيفها المنحاز لإنعاشها ،  وملابسها الخفيفة التي أصبحت بلا لون تلتصق بجسدها  ، لسعة البرد اللذيذة هذه والرشقات المتتالية لمطر المساء ، تبعثرها مصابيح الشارع  ،وتلك المصابيح التي  ينفرد بها المطر  ، حُرَّاً متلاعباً بين انعطافات الأشجار والأبنية الصامتة ..
 بكل ما فيها من حياة فرحت بهذه الحرية المبتسرة ، أرادت أن تُبقي ذكراها  لكل سنوات عمرها القادمة ، إستخفها  الفرح  فتقدمت قليلاً عن مرافقيها  ، نهرَها الرجل المفتول العضلات الذي يحاذيها ، فقصرت من وقع خطواتها على إسفلت ذلك الشارع الذي تمنت ألا ينتهي ..
 منذ زمن بعيد ، نسيت أن للحياة دروباً طويلة عليها أن تسلكها ،لكن  ذلك الرجل الغاضب أبداً وقبل أن يُدخلها إلى هذا المكان ، أمرها أن  تنزع فستانها ، امتنعت بشدة ، فمزَّقه  وكومه  بين قدميها  ،  تاركاً جسدها الفتي عارياً تماماً ،  انحنت على جسدها تحميه ، وتحاول التقاط ما تبقى من ملابسها باشمئزاز هائل حزين ، ثم دفعها عبر باب حديد أغلقه دونها بقوة ،    
 ألغيت  فرحتها  المباغتة ، كان الظلام  مطبقاً  ، وكل شيء يبرعم فيها خوفاً  ، تعلمت الإنتصار عليه كثيراً ، لكنها أيقنت هذه المرة أنها  على أعتاب  نزال من نوع آخر  ، وربما لن تقاومه كثيرا ، لكنها رغم ذلك لن تبيح لهم  انتهاك صمتها كثيرا .

أنفاسالمرة الوحيدة التي دخل فيها السايب سعدان إلى المدينة مضى على انقضائها خمسون عاما، كان يومها الناس  أنواعا وأجناسا .تسمع منهم  لغات ولهجات حسب الملامح  والهيئات ، ورغم اختلافهم كانت تجمعهم محبة  وود وتواصل ؛  يختلفون عن أهل هذا الزمان اختلافا تاما ، حتى بدا له أن لا جامع بينهم إلا هو فقط ،هو لأنه مازال يعيش ، لم يشأ القدر أن يموت رغم انه لم يعد يشبه أهل هذا الزمان ، ولو مات لانقطعت الحلقة الأخيرة التي تجمع بين عصرين : عصر مضى وعصر يأبى أن يأتي.
عاد جسد  السايب سعدان المنهك  أدراجه نحو حضن الجبل  بعد أن اقترب من المدينة  للمرة الثانية فتحقق لديه أنها وحش نهم أعمى يلتهم كل شيء ،  ويدمر كل جميل ، ويلوث كل طاهر ،يحمل في جسده جميع الأمراض والأوبئة.
   وحش غريب ، رأسه قوانينها وأعرافها ،  و بطنه- كما وصفه  العائدون الذين كتبت لهم السلامة-   تتداخل أمعاؤه  وتتلوى ، تضيق وتتسع ، تغسل ألاف المرات ولكن بقايا ضحاياه  يعيد إليها عفنها ،  وأذرعه ومخالبه وأنيابه أهلها ، زنابير متأهبة  ، لصوص ومشردون  وسماسرة ،  لا يستحون ولا يرحمون ،  يفعلون ما يشاؤون ، يغطون حقيقتهم البشعة بالمساحيق والأزياء الزاهية ، ويرشون أجسادهم بعطر الريف والبادية  ، وتبقى حقيقتهم بادية ، فمنذ اقترابه من الضاحية لم يعد أحد يلقي عليه السلام أو يبادله التحية، أو يتبسم في وجهه ، بل الكل  يجري ، يهرول ، يدفع أو يدفع ،  يطأ أو يوطأ ، يصرخ أو يستصرخ  ولم يفكر أحد  منهم  أن يطيب خاطره برد تحيته  ، نظراتهم إليه فيها استغراب يلابسه استهجان جعله يستشعر الخطر .

أنفاسبماذا تحس يا بني ؟
لم يجد الشاب العليل جوابا شافيا ، يوقف به سيل استفسارات الطبيب المنهمر.
-  ما يحدث في حالتي دكتور ، أنني لا أحس بأي ألم ، مشكلتي أنني أريد أن أعيش في الواقع مثل جميع البشر ، كلما هممت بفعل شيء ما إلا وكان لأحلامي فيه نصيب، وبقدر تعدد نشاطاتي تكثر أحلامي وتتنوع.
-  فهمت الآن ، أنت تريد أن تقنعني بأنك لا تعاني من مرض عضوي ، مشكلتك التي تقض مضجعك وتؤرق بالك ،  هي أحلامك التي لا تنتهي.
-  بالضبط ، دكتور.
-  طيب ..أيمكن أن تقص علي بعضا من أحلامك.. فربما أساعدك..؟
-  لا أعرف من أين أبدأ .
-  ليس مهما.... ابدأ من أي مرحلة تريد .

أنفاستوجه نحو المقهى ، جلس على كرسي بلاستيكي ، طلب زجاجة كوكا كولا ، كان يتصبب عرقا ، لا شيء سيخفض هذه الحرارة غير مشروب بارد ، بعد لحظات بدأ يخط بيمينه خطوطا وبشكل عشوائي ... وسيلة لجر مخيلته بعيدا ، خطوط مستقيمة ، وأخرى دائرية ، وأخرى ... فجأة أدرك أن عليه أن يسلك مسلكا حلزونيا ، رسم نقطة في وسط الورقة ، بدأ يدير يده ومعها القلم ... دائرة غير مكتملة ، ها هي تتسع وتزداد اتساعا ، ودون أن يشعر وجد القلم يخط على الطاولة ، لقد تجاوزت الدائرة الحلزونية حجم الورقة ، إذ كان حجمها صغيرا . انتقل بخياله بعيدا ، همس في نفسه : ماذا لو لم أتوقف عن الرسم ، أين يمكن لهذه الدائرة أن تتوقف ؟ وضع القلم على الطاولة ، قرر أن يكمل الدائرة في خياله ، أغلق عينيه ... وبعد جهد جهيد تبين له أن الأمر يتجاوز قدرته على التخيل ، فثمة حدود لكل شيء ، قرر أن يغير شكل هذه الدائرة الحلزونية ، هذه المرة سيجعلها دائرة ذات خطوط متوازية ... رسم دائرة على الورقة وقبل أن يكملها انحرف بها قليلا خارج المسار ليبدأ دائرة أخرى ... وهكذا حتى إذا أوشكت على الانغلاق انحرف بها مرة أخرى باتجاه الخارج راسما شكلا ، ما هو بالدائرة الكاملة وما هو بالشكل الحلزوني ... أثاره شكل الرسم ... تساءل : ماذا بوسعي أن أصنع بهذا الشكل ؟ تمتم هامسا ... وبعد تفكير طويل وأخذ ورد تبين له في الأخير أن هذا الرسم مجرد تخطيط على الورقة ، مضيعة للمداد ... والورق ... ومضيعة للوقت ، تذكر مرة أخرى أن الأمر لم يخل من فائدة ، فهو على الأقل وهو يرسم على الورقة والقلم يسافر على صفحة الوجه الأبيض رفقة أنامله ... كان عقله شاردا تائها مسافرا بعيدا عن جسده . 

أنفاسأكاد أجزم أن جميع أبناء الحي أو جلهم إن خفت المبالغة في القول ، لا يعرفون مهنة  ً محمد العارف ً ، ولا أخالهم يعرفون من هو أصلا ، فتراهم يحسبونه من التجار الذين بارت تجارتهم وخلفتهم قعودا تحت الأسوار يتحسرون على ما فات ، ومنهم من يظنه مؤذنا لدوام ملازمته لفقيه الحارة ، ومنهم من يقسم بأنه مخبر لتردده المشبوه على أقسام الشرطة . المهم... لا أحد استطاع أن يقف على خبر ذلك الرجل مهما بلغت درجة تقصيه وتحريه.
كان العارف يتوجه كل صباح صوب سور مدرسة قديمة ، فيأخذ مجلسه في مكانه المعتاد ، ثم يخرج من تحت جلبابه قطعة  كبيرة من ورق الكرتون ، ويضعها فوق حجرة مسطحة ،كان يحرص على إبعادها عن الأنظار بعد قيامه ، حتى لا يعبث بها العابثون ، ويذهب بها الفضوليون من محبي الجلوس على الطرقات ، ثم يخرج غليونه القديم ، ينظفه ببطء مقصود ، ثم يملأه بوريقات من التبغ يمزجها ببعض الأعشاب التي يسهر على جنيها بعناية ، ثم تجفيفها و طحنها لتصبح شبه غبار يزيد من انتشائه ، وضبط مزاجه الحاد.
ولا يلبث أن يوافيه أصدقاء الأمس ورفاق الدرب ، فواحد يطلب منه اقتسام نشوة تدخين الغليون ، وثان يلح على سماع حكايات  مغامراته إبان الحرب الهند الصينية التي يتقن سرد أحداثها بشكل أسطوري، يضاهي به رواة سير المغازي وأبطال أيام زمان. وثالث يحاول استدراجه للتعليق على الغلاء الفاحش المستشري بالبلاد ، والفساد الذي عم البر والبحر ، ورابع يحاول لفت انتباهه لأحد المارين ، بعد عرض سيرته وسيرة آبائه وأجداده الأولين والآخرين.

أنفاستذوي الأوراق فلا يعبق الزهر و تنطفئ شموع الآمال... 
كذا كانت الصور تنداح في مِخيالها الفائرلحظةَ ساحت في براري النجاة المأمولة..
كانت الدنيا تهتز و تنحط  كخفقات طائر يُرنّق فلا يطير الا بمقدار ما يجعله في متناول صائديه...
لم تصدق أنها وصلت دار خالتها ...
كانت تلهث وكاد ينقطع نفَسها حين دخلت حتى أن سامر الذي لم يكن يستلطفها أحس بالشفقة عليها     و أسرع فقدم لها كأس عصير وجلس يواسيها  و يستفسر عما جرى لها حتى تُقبل في هذا الوقت وهذه الحال.
وحين جالسها وبكت رأى لأول مرة مقدار الجمال الذي عليه البنت وتساءل:" ألم يكن أعمى خلال كل هذه السنوات"
 لهذا تمنى عدم عودة أمه.
ونظرت من وراء الدموع فوجدت ابن خالتها  يتنمر ليأخذها بين أحضانه...
وقالت ألهذا هربت... و قامت و ادعت له أنها تقصد الحمام.

أنفاسلم يبق في ذاكرته المكــتظة بالألم .. والمكسوة بالحــسرة .. إلا ذلك الوجــه الجميل .. والصدر الرحب  لتلك المرأة ، الذى تمنى أن لا تــودعه إلي رحاب اللّــه إلا بعد أن يستقر بـه المقـام في الوطن بـعد رحلة الإغـتراب التي استمرت سنــوات طويلة ..ولكن الــقدر .. كان اقوى مــن تمنياته .. فبـقي ذاك الوجـه العنصر الجميل في ذاكرة زاخرة بشتى الآلام ..يرتبها كعادته ..ويجعل منها مجسماً أركــانه مترعة بقسوة ونذالة  أقرب الأقربين اليه . في لحظات ضعــفه  الشديد تجتاح نــفسه  تلــك الكآبة القاسية المتمثلة فـي تصرفات نزقــة لأخـوة مسحت ملامحهم أيـادي زوجات وقــحة ، وأخــت طمس معالمها الجمـيلة الخــيرة زوجٌ .. مــترعٌ بالغم  يبحث  عن الشيطان في أركان  ذاته .
تتـجمع المظاهر الثلاثة  في كُـنه نفــسه .. مكونـة اضلاعاً مثلثة فــي حركة نزقة لا أصالة فيها ..يتربع علي اطــلالها  يًحــدقُ فيهم يحاول أن يبــحر في بــؤس ذاكرتهم .. ليعرف ماهية أنفسهم .. ولكن ..!!
يهفو بروحه ونفسه إلـى ذلك  الوجــه المتميز الذى يتمثل فــي وجـه أمه ..فيطل عليه باكياً مترعاً بألم خلّفه عبث الآخـرين .. ومتقلــصا من ألم الداء .. الـذى يأكل داخلها الجميل .. ينتفض وهو يرى الوجه المخضَب بالألم .. قد ملأته بســمة يانعة .. والكلمات تنساب من خلال شفتين تحمل مشقة كل هذا الكون .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة