والتقينا مرة أخرى...
كانت كما القمر الذي اكتمل نضوجه، فارعة، سامقة. وجنتاها صبغت بحناء تناسق مع تلك الخصلات الكستنائية اللذيذة. تغني مواويل وتضرب العود (أووف يا وطني أووف)، ونحن نردد خلفها بصوت مرتفع (أووف).
لم تكن تنظر إلى أحد سواي خلال تلك الجوقة الملتفة حولها كطوق كبير، ربما ظنت في قرارة نفسها بأنني الوطن الذي سيحتضنها، وعندما ستراني فإنها سترى قلاع المخيم كلها، لكنها –ولسذاجتها المحببة إلى قلبي - ترفض أن تفهم أنني لن أعود إلى رحاب الأهل والبندقية. أخبرتها بذلك قبل وقت قريب، حين حصلت على إقامة في هذا الفراغ المريب المسمى فرنسا، سألتني يومها متكدرة:
- أسنعود للوطن؟!
لم أعرف كيف الجواب، حارت قافلة الكلمات في الخروج من قمقمها، راودتني صور شتى، أي وطن تريدين ونحن نمكث في صومعة من حزن، كررت سؤالها كغبي لن يفهم، هل أقارنها بي؟ وطنها بوطني، حدقت بوجهي وقد بدت علامات الارتياب تتملكها، لحظتها كأنني تأوهت من برد حاصرني، أو من شيء لا أعرفه الآن. قالت:
- أأنت مريض؟
- لا، مجرد أعراض برد طارئة.
- إذن فلنعد أيها (البردان) لسؤالنا... ثم تضحك بصخب.
- تفضلي.
- هل سنعود؟!
- لم أفهم بالضبط ما تقصدين.
- أقصدي (يا سيدي) بأنك قد تعود إلى فلسطين و...
- لا أعتقد ذلك
- إذن
- إذن (يا سيدتي) فلتعودي أنت إلى العراق
- وقصة الحب التي أتحفتني بها.
- فلنجعلها قصة.
- فقط
- نعم
- أيها الجبان
- ............
- كنت أعلم بأنك ستتركني، فقد بدأت أشعر بأن عينيك قد بدأتا تغوصان في ملابس النساء.
أضحك بجنون وأنا أقول:
- أعتقد بأنني يجب أن آخذك إلى طبيب نفسي.
- بل أنا التي يجب أن أفعل.
- ........................
- قل ما شئت لكنني حقاً أفكر بالعودة، فقد سئمت الغربة.
- الوطن يا سيدتي جنون في هذه اللحظة.
- أنت المجنون لا أحد سواك.
- الوطن تلبد بالموت، وغيوم الهزيمة عصفت.
- نعم يا سيدي الفيلسوف.
أضحك...
- تفضل، وضح كلماتك الجوفاء هناك يا عم الفيلسوف.
- أذكر تلك القصيدة التي كانت تقول: كان لنا وطن، وكانت لنا دار.
- أهاا....
- المشكلة التي وقعنا بها هي أننا لم نستطع أن نصمد في وجه الاستعمار، وفررنا منذ الطلقة الأولى.
- أتقصدني؟
- ربما...ألم تغادري العراق عارياً.
- أتمنى أن أعود.
- بالتأكيد ستفعلين؛ لأنك تستطيعين ذلك.
- وأنت؟
- ربما قد يحالفني الحظ باجتياز هذا الركام، لكن أتعتقدين بأنني سأصل سالماً دون اعتقال.
- .....................
- .....................
صمت يقتلنا لوقت طويل، كأن الساعات امتدت حتى التصقت بأجسادنا:
- أرجو لنا التوفيق
أبتسم، ثم أطبع قبلة على خدها، أسأل:
- متى سنتزوج، فإنك ستقتلينني بغيرتك؟
- قريباً جداً.
- متى (يعني) قريباً جداً..
- قريباً جداً وكفى.
نختفي خلف مطر غريب، يحتل ملابسنا ويحاصرنا، وعند أول تقاطع للطرق، تشير بيديها لي مودعة كأنها لن تراني، وصوت أغنية من شارع خلفي يصدح:
صحِّي قلوب الناس
صحِّي بنا النخوة
أصرخ بكل إحساس
إن العرب إخوة
****
أيام تمضي وتمر، ووجه فتاتي غائب عن المكان، كأنها لم تكن موجودة من قبل. قررت حينها السؤال عنها، وبحثت، تهت في دروب لا أعرفها، ذهبت إلى الجامعة التي تعمل بها، إلى صديقاتها، ولم أهنأ بجواب، كان الجميع يبحث عنها مثلي، تحلقنا في كل ركن وزاوية، وعند التاسعة مساءً، وفي مقهى يطل على نهر قديم، كانت الأخبار تخنقنا حتى لا ندرك أين نحن.
(مقتل عراقية حاولت تفجير نفسها في رتل من الدبابات (أمريكية) الصنع، لكن أحد الجنود باغتها بصلية من الرصاص لتسقط مضرَّجة بدمائها.)
كأنها هي الصورة، وكأن التلفاز يهذي باسمها، هي وحدها......
لم أحزن، لكنني بكيت، بكيت كما لم أبك من قبل، ثم خرجت من المقهى، يتبعني كل رفاقنا، وفي مخيلتي تتوحد الصورة (هي ومخيمي).
- إذن فلنعد أيها (البردان) لسؤالنا... ثم تضحك بصخب.
- تفضلي.
- هل سنعود؟!
- لم أفهم بالضبط ما تقصدين.
- أقصدي (يا سيدي) بأنك قد تعود إلى فلسطين و...
- لا أعتقد ذلك
- إذن
- إذن (يا سيدتي) فلتعودي أنت إلى العراق
- وقصة الحب التي أتحفتني بها.
- فلنجعلها قصة.
- فقط
- نعم
- أيها الجبان
- ............
- كنت أعلم بأنك ستتركني، فقد بدأت أشعر بأن عينيك قد بدأتا تغوصان في ملابس النساء.
أضحك بجنون وأنا أقول:
- أعتقد بأنني يجب أن آخذك إلى طبيب نفسي.
- بل أنا التي يجب أن أفعل.
- ........................
- قل ما شئت لكنني حقاً أفكر بالعودة، فقد سئمت الغربة.
- الوطن يا سيدتي جنون في هذه اللحظة.
- أنت المجنون لا أحد سواك.
- الوطن تلبد بالموت، وغيوم الهزيمة عصفت.
- نعم يا سيدي الفيلسوف.
أضحك...
- تفضل، وضح كلماتك الجوفاء هناك يا عم الفيلسوف.
- أذكر تلك القصيدة التي كانت تقول: كان لنا وطن، وكانت لنا دار.
- أهاا....
- المشكلة التي وقعنا بها هي أننا لم نستطع أن نصمد في وجه الاستعمار، وفررنا منذ الطلقة الأولى.
- أتقصدني؟
- ربما...ألم تغادري العراق عارياً.
- أتمنى أن أعود.
- بالتأكيد ستفعلين؛ لأنك تستطيعين ذلك.
- وأنت؟
- ربما قد يحالفني الحظ باجتياز هذا الركام، لكن أتعتقدين بأنني سأصل سالماً دون اعتقال.
- .....................
- .....................
صمت يقتلنا لوقت طويل، كأن الساعات امتدت حتى التصقت بأجسادنا:
- أرجو لنا التوفيق
أبتسم، ثم أطبع قبلة على خدها، أسأل:
- متى سنتزوج، فإنك ستقتلينني بغيرتك؟
- قريباً جداً.
- متى (يعني) قريباً جداً..
- قريباً جداً وكفى.
نختفي خلف مطر غريب، يحتل ملابسنا ويحاصرنا، وعند أول تقاطع للطرق، تشير بيديها لي مودعة كأنها لن تراني، وصوت أغنية من شارع خلفي يصدح:
صحِّي قلوب الناس
صحِّي بنا النخوة
أصرخ بكل إحساس
إن العرب إخوة
****
أيام تمضي وتمر، ووجه فتاتي غائب عن المكان، كأنها لم تكن موجودة من قبل. قررت حينها السؤال عنها، وبحثت، تهت في دروب لا أعرفها، ذهبت إلى الجامعة التي تعمل بها، إلى صديقاتها، ولم أهنأ بجواب، كان الجميع يبحث عنها مثلي، تحلقنا في كل ركن وزاوية، وعند التاسعة مساءً، وفي مقهى يطل على نهر قديم، كانت الأخبار تخنقنا حتى لا ندرك أين نحن.
(مقتل عراقية حاولت تفجير نفسها في رتل من الدبابات (أمريكية) الصنع، لكن أحد الجنود باغتها بصلية من الرصاص لتسقط مضرَّجة بدمائها.)
كأنها هي الصورة، وكأن التلفاز يهذي باسمها، هي وحدها......
لم أحزن، لكنني بكيت، بكيت كما لم أبك من قبل، ثم خرجت من المقهى، يتبعني كل رفاقنا، وفي مخيلتي تتوحد الصورة (هي ومخيمي).