أنفاسعند نقطة ما، في مسار العمر، بين الأربعين والخمسين، يطرأ على الزوجين اللصيقين تبدُّلٌ في العواطف نحو مسـتوى مختلف؛ فيحرصان على الاحتفاظ بمسافة تفصلهما، لا تقل عن ثلاثة أقدام؛ وكان اعتيادياً، وهما في الثلاثينيات، أن يسيرا وقد تماســكت يـداهمــا؛ ولا يني الرجل يقابل إمعان زوجه في مداعبته بكلمات شكر يهمهم بهـا؛ ويحدث ذلك بالرغم من احتفاظهما بالحميمية البـكر.
     وها هما " بالو " و " أنجانا " تدركهما تلك الحالة، بعد زواج دام اثنين وعشرين سنة ... فذات مسـاء، بعد أن غادرهما إبناهما إلى كُـلِّـيَّتيـهمـــا، وقد انتهـت العطلة الصيفيـة، فأحسَّــا بالمنـزل وقـد خـلا إلاَّ منهمـا؛ فاقتـرحــت " أنجـانـا "، تزجيـةً للوقت، أن يعودا لقراءة الرسائل التي تبادلاهـا خـلال فترة خطبتهما الطويلة التي سبقت ارتباطهما بالزواج. وكانت الخطابات، التي تكاتباهـا في ثـلاث ســنوات،  تـمــلأ ســتة صناديق من الورق المقـوَّى، خُبِّـئــت في عليَّــة المنزل. وبذل " بالو " جهداً كبيراً ، واقفاً على كرسي بلا ظهر ولا ذراعين، ليأتي بأحد هذه الصناديق، وكانت " أنجانا " تثبِّـتُ الكرسي بيديهـا. واستعان " بالو " بقطعة قماش لتنظيـف الصندوق من التراب، ولإزاحة عدد قليل من حشـــرات ( السُــميكة )، قارضة الورق، العالقة به، والتي كانت قد تمكَّـنـت من غزو العُليَّـة، بالرغم من أنها قد تمَّ رشُّــها بالمبيدات. وعرضت " أنجانا " أن يقوما بقراءة الخطابات وهما جالسين على ســلَّم البيت، وبادرت بالجلوس على ثاني درجة من الســلَّم، فجلس " بالو " على الدرجة الثالثة، على بعد يقرب من ثلاث أقدام منهـا. سحب هو أوَّلَ رسـالة.

أنفاسالكورنيش : مقهى شهيرة بمدينة الجديدة المغربية
هدمت صيف 2004
كان يرتادها الشاعر والقاص والنقابي والطالب الجامعي
وعاشق البحر والصحافي والزجال وبائعة الهوى ...

لأول مرة يتبدّى لي وجهي أليفا . لازلت لحد الآن أعتقد أن جلوسي بمحاذاة المرآة لم يكن بالصدفة . لا شك أن قوة عاتية دفعتني إلى هذا الكرسي لأرى وجهي على المرآة مشرّحا وواضحا كموال جميل .
رغم الدخان والزحام واللغط ، كان صوت وديع الصافي " الله يرضى عليك يا ابني " يخترق الوجوه والكؤوس والحيطان ليعرّش على قلبي كسرب حمام ..
مقهى الكورنيش بالجديدة جسد أنثوي مخضّبٌ بريش النوارس ودم السفن الهاربة . والبحر من خلال النوافذ يتثاءب ، يتمدّد ، يصبغ الساحل بالرغوات الكثيرة .
كم سيجارة سوف أدخن ؟ أي بحر عروضي سأشتغل عليه ؟ أية وجوه أليفة سأستحضرها الآن ليكون لمذاق الكأس طعم السيوف وطعم النزيف ؟

أنفاسفي مطعم ... تقدم منه قط بئيس ... كان يموء بصوت يكاد لا يسمع ، كان ينظر إلى الرجل البدين نظرة استعطاف ... ولسان حاله يقول : أطعمني أطعمك الله . نظر الرجل الضخم في عيني القط ، حدق بإمعان ... حتى يتأكد من أن رسالته ستصل إلى عقل القط الباطني : وبصرخة هزت القط هزة زلزال قلب قرية رأسا على عقب : " تصاب ألحمار "... وعوض أن يفر القط في اتجاه ممر النجاة فإنه اصطدم بالكرسي ... وفي لحظة وجيزة أصبحت أرجله أعلى وظهره أسفل ... بدأ يتلوى بشكل دائري ، أصبح همسه صرخة ... أعاد المحاولة تحت تأثير الألم ليصطدم مرة أخرى بباب المطعم ... سمعت صرخات القط ومعها صرخات نسوة تألمن لحاله ... يا الله ما ذنب قط يطلب طعاما ؟! قط يتسول طعاما في بلد الخيرات ... إنه أمر مخز ... وصمة عار في جبين ذوي البطون المنتفخة ... اللئام الذين يملئون ويهضمون ثم يفرغون ... لا يسمحون لشيء أن يتسرب يمينا أو شمالا ... فتحات أفواههم تسد مشارق الأرض ومغاربها ... آه هذا القط التعيس ! قد يكون أبا أو جدا ... قد يكون يتيما ... لا أدري ... كل ما أدركته أنه بقي مدة قد تطول وقد تقصر ... بقي في غيبوبة ... وحين استفاق من غيبوبته وجد أمام عينيه قطعة لحم ... لكن كرامته وعزة نفسه حالتا دون أن يمد إليها فمه ... انسحب في كبرياء ممتلئ ومعدة فارغة .

أنفاسقديما قالوا : ً الولد سر أبيه ً ، وإذا صح هذا القول ، فإن ً المعلم إبراهيم ً صاحب هذا السر بامتياز ، فقد كان والده ً الحاج علي ً شيخ المقاولين في مدينته التي اتسعت أطرافها على يديه ، فكم عمارة أعلى ، وكم برج بنى وشيد ، وحمل عنه ابنه إبراهيم أمانة البناء ، وأضاف إليها دهاء ونباهة وذكاء أكبر ، ولم لا وهو المتخرج من مدرسة الحياة التي أكسبته حكمة وصبرا وجلدا أقوى وأمتن. تلقى أصول الحرفة من أبيه ، وعمق خبراته من اتصاله بأصدقائه البنائين ، وزملائه المقاولين من داخل المدينة وخارجها ، فتهيأ له الاطلاع على خبايا  هندسة العمران ، ودهاليز فن البناء.
كانت الغاية التي بلغها ً الحاج علي ً أنه وضع ابنه على المسلك الصحيح ، ومكنه من اقتحام المشاريع برباطة جأش ، تقيه من الخسارة التي تلازم عادة جل المقاولين الشباب أينما حلوا وارتحلوا. أما المعلم إبراهيم،  فقد تجاوز حدود أبيه ، فقد آل على نفسه الابتكار والإبداع ، وكانت آراؤه وأفكاره الجديدة حلقة من حلقات تطور فن البناء بمنطقته ، ناهيك عن كونه صاحب مبدأ في الحياة ، هذا المبدأ الخالد سمعه كثيرا من والده  : ً من غشنا فليس منا ً

أنفاسابتلعت العتمة كل البيت الصغير الذي يشبه شكله أكثر ما يشبه علبة اللحمة البرازيلية، من الخارج.. أما من الداخل فهو إلى حد بعيد مثل مكعبات شوربة ماجي. هو بيت في احد مخيمات وسط قطاع غزة.. يزيد عدد سكانه في الليل عن عشرين نسمة، الأب وألام والأبناء وأبناء الأبناء، يحشرون به حشرا حين يجتمعون إذا حل المساء.. وبالكاد يصل العدد إلى خمسة أنفس في النهار. تأبى الشمس أن تزور البيت، كأنها حلفت بالله على ذلك، والهواء قليل وفاسد لا يتجدد إلا ليفسد مرة أخرى.. وليس بمقدور أنوفهم انتقاء ما يشتهون من هواء نقي وطازج ليتنفسوه، فيبذلوا أقصى جهدهم لنيل حصة أجسادهم منه، بعد كفاح مع صدروهم المليئة بالحنق على الحياة.. والزمن الذي على الدوام يلعنونه ويسبونه..
- يلعن أبا الدنيا.. حياة مثل الكندرة القديمة.. ساق الله على أيام زمان.
جلسوا مثلما اعتادوا أن يجلسوا في مساء كل يوم بعد أذان المغرب بقليل، وكان يقينهم في نيل وجبة عشاء مشبعة أو غير مشبعة بدأ يزوغ، الوجبة التي تأخر مجيئها.. وكان الجوع قد بدأ يتسلل إلى أجسادهم النحيلة التي أنهكها التعب، فهمدت قواها، واسندوا ظهورهم إلى جدار مشقق مائل، جدار بحاجة إلى جدار آخر كي يسنده. كانت الوجوه العابسة تقابل العيون المكسورة في وجوم وقلق.. بعضهم مدوا أرجلهم ليريحوها، والبعض تربع على حصير تثنت أطرافه مع مرور الأيام، ونسلت زواياه ومزقت حوافه أيد الصغار، الصغار الذين لا يكفّون عن تحويل أي شيء إلى أداة لهو.

أنفاسوجاءت الحرب، واللعنة على الحرب وعلى الذين يصنعوها، لم تجلب لنا غير القهر والتعاسة. 
وكنت أحلم  حالما أعود من الحرب أن ألبس ذلك الحذاء الجديد  و أن أخاصر زوجتي اللحيمة ونسير في شوارع المدينة وأن أكون سعيداً وأنا أسمع طقطقات الحذاء على  إسفلت الشوارع .
طاق ..طاق ..طاق .  ذلك الحذاء الجديد. !! هي الحرب ولعنة على الحرب التي لم تجلب لنا غير غلاء المعيشة وندرة الحليب للرضع وانقطاع الماء والكهرباء  وأكواما  من الجثث . هذه الحرب حرمتني من أن أنتعل حذاءي الجديد.
حين جاءت، كدت أن أضع الحذاء في حقيبتي الوحيدة٬ لكنهم  قالوا : " هذا الحذاء لن تحتاجه في الحرب ".  تركته في علبته البيضاء ملفوفاُ في ورق حليبي شفاف،  بعد أن مرَرت أطراف أصابعي على جلده اللامع الأسيل وألقيت نظرة أخيرة عليه. لكنني عقدت العزم على إنتعاله حالما أعود من الحرب . لكن !! حين عدت،  تعذر علي إنتعاله،  ليس فقط لأن الحذاء لم يعد يلازم علبته التي قد تكون إنتهت إلى سطل القمامة،  ربما منذ زمن بعيد ، بل كذلك لأنني عدت بلا قدمين بل حتى بلا رجلين ، وبعطب في رجولتي.
 حين قدمت من الحرب ، زارني عمُو ، ذلك الرجل الغريب .  لم يسبق لي أن شاهدته في الحي فكرت " لقد تغيَر كلُ شيء بعد كل هذه السنين التي قضيتها هناك !" ربما يكون الرجل قد قدم إلى الحي في غيابي .

أنفاسقال الموظف للشاب الذي تقدم من مكتبه : ألم أقل لك أمس وقبل أمس بأن ملفك ناقص ... تنقصه وثائق ، تساءل الشاب : أنت لم تحدد لي الوثائق اللازمة ... وبنبرة صارخة قال الموظف : هل أنت أمي ؟ ألا تقرأ ؟ أسأل نفسك ، هذه ليست مهمتي ، أنا أتسلم الملفات كاملة ، بعد ذلك أنجز عملي لا أقل ولا أكثر ، مفهوم ؟ رجع الطالب الشاب القهقرى وهو يتساءل وبصوت مسموع : ما الذي ينقص هذا الملف ؟ لقد تأكدت أكثر من مرة من الوثائق ... تقدم منه رجل في متوسط العمر ، أمسك بيده ... جره بعيدا ... قال له : لاشك أنك لم تتمكن من دفع الملف ، أليس كذلك ؟ أجاب الشاب بحماس : نعم ... نعم كان يطمح في أن يقدم له الرجل إرشادا ... لكن صاحبنا قال : لا شك أنك لا تحسن الإدغام ... هنا رد الشاب بغضب : كيف لا أعر ف الإدغام وأنا طالب جامعي في شعبة الأدب العربي في السنة كذا ... في كلية ...
ـ انتظر يا ولدي ... أن تعرف الإدغام شيء وأن تحسنه شيء آخر ...
قال الطالب الجامعي والحيرة تملأ محياه : ما هذه الهرطقة ؟ الإدغام هو :<< إدخال الشيء بالشيء >> هكذا يقول صاحب كتاب التعريفات ... العلامة ...

أنفاسنظر اليها وابتسم ، فابتسمت ، واسرع الخطى نحوها
تصافحا  ، وسارا الى اقرب مقهى ..
-لنتعارف..
-اهلا وسهلا
-انا سيمو
-وانا سهام
-انت رائعة ،انت ملكة جمال
-وانت ايضا رائع
-شكرا
لا شكر على واجب

مفضلات الشهر من القصص القصيرة