مات الرجال منذ أمد، وبقيت الأرامل واليتامى واللئام ، والأرض ساحة ، والدهر مدى له في مصائر البشر رأي ويد.
وعاش أحمد وإخوته وأبناء عمه وخالته اليتم والفاقة ملتصقين بالأرض التي مات من أجلها أبوه وعمه وخالته، في قرية بيوتها من طين وقش ؛ مندسة بين أشجار الصنوبر والزيتون وبعض شجيرات اللوز المتشبثة بالجبل تمسك تربته وعباده من الانزلاق نحو المنحدرات السحيقة ؛ قرية معزولة معلقة بين السماء والأرض ملتصقة في وجه جيل منحدر يكاد ينتصب عموديا ، بلغ من انحداره حدا أجبر جميع من مر به ومشى بأديمه على السير على ثلاثة ،لا بصلح إلا للفارين من المغضوب عليهم والمطاردين ؛ والضباع والذئاب والكواسر؛ أراضيه وعرة جعدة مشحاحة ولكنها منحت للصابرين بها زيتونا مباركا ولوزا يعزيهم ويسر الناظرين من بعيد.
عاش الجميع على أمل أن يلقوا يوما جزاء التضحية والقرابين التي قدموها لكن الدهر أبى وطال التصاقهم بمنحدارات بني جعد يتدربون على احتمال الشدة والنصب وألم المعاناة ، ومن الطفولة الرخوة الطرية تشكل رجال أقوياء ، في سلوكهم صلابة وتحد تشبه كثيرا صفات أبائهم ، لكن هذا الدهر غير ذاك الدهر وللدهر في الخلق أحكام.
لم يتمكن اليتامى من نيل حظهم في التعليم ، فما كان بمقدور الأيامى مفارقة اليتامى ، وما كان اليتامى يدركون معنى العلم .
ومرض أحمد مرضا أقعده الفراش وأشقى أمه التي كانت ترى فيه صورة أبيه ، مخزن شوق تغترف منه كحل السعادة عندما يسطو الشقاء على مساحات عينيها اللتين اختزنتا شوقا تضيق رحاب الأرض عن احتضانه لزوج كان يعزها ويحبها إلى حد الوله ولكنه كان يحب بلاده أكثر منها.
جرت أمه في كل اتجاه : المستشفيات، الرقاة ، المشعوذين والمشعوذات ، كلهم عندها سواء وخيارهم من جاءها بالشفاء لأحمد وأعاد إليه الصحة والحياة ، ولم تجد من يعينها في شقائها إلا حمارا طيبا صبورا وفيا جعل ظهره مطية ومحملا لأثقالها، ألف النضال والتضحية والحياة القاسية والمسالك الوعرة منذ عقود فصار لا يبالي بالحقوق المغمورة و المسكوت عنها راض بشح القوت وضيق المبيت .
وشفي أحمد وكبر وكبرت أحلامه، وراح يضرب هنا وهناك،يبغي متلهفا فتح نوافذ للأمل ، أبوابا للسعادة ،مسالك للنور، تخرجه و أمه و إخوته ، أبناء عمه وخالته إلى فسحة فيها للحياة معنى ينسيهم بعض ما قاسوه ، وتسمح لهم أن يسيروا على الأرض التي تشربت دماء أبائهم وأمهاتهم منتصبين مطمئنين كالبشر،و يدفع عنهم ظلمة القهر، والحرمان ، والجوع والعري ،جوع الروح وعريها وغربتها ووحدتها.
خرج من عزلته على ظهر حماره ، ضرب هنا فارتدت إليه معاوله،وضرب هناك فذهبت ضرباته أدراج الرياح، واكتشف أن الحياة ليست كما يصفها مذياعه الصغير ، ولا كما يصورها تلفاز المقهى الطيني في قريته المعزولة المنسية على أطراف يسر، الحياة لا تهتم كثيرا بأكاذيب البشر وألاعيب الساسة المنتفعين وترهات الدعاة السذج و المأجورين، وهي لا تعوض ولا تجازي الأبناء على إخلاص الإباء .
فهم أحمد أن عليه أن يخوض الحرب من البداية ضد الجميع، ضد الطبيعة و الناس والوقت والحظ، وأن النجاح ليس مؤكدا ، ومؤشرات الخيبة تطل عليه من كل الزوايا ، وتعترضه في المنعطفات،كان يشقى بمعية حماره ورفيقه في تشذيب أشجار الزيتون وتنقيتها وهو يرصد الموت يترصده منتظرا منه سهوا، أو خطأ في تقدير المسافة بين حافة أخدود وأخرى أو بين غصن وغصن أو أن يضع رجله في المكان الخطأ ليتلقفه في مهوى لا قرار له ، يسرطه أو يلفظه مهشما معوقا،كان يقضي اليوم مرعوبا ، ويبيت ليله مفزوعا ينهض عدة مرات من أحلامه المرعبة صارخا يطلب النجاة من السقوط في المهاوي السحيقة ، والعرق البارد يكسو جسده وأنفاسه متقطعة.
وتنقضي الأيام والليالي متشابهة ليس فيها ما يفرح أو يدعو إلى التفاؤل ، وبمرور الوقت أحس أحمد أن كلام مذياعه السخيف أصبح يثير في نفسه الغثيان بل الحزن الثقيل وخطر بذهنه أن يضرب به جذع شجرة ليسكته إلى الأبد ، ولكن السلوى التي كان يجدها في بعض التقاسيم الموسيقية الحزينة التي كانت تنبث منه بين الحين و الآخر كانت تشفع له ؛ و تحول دون تكسيره ، فكان يكتفي باللعن والسب والشتم عندما تنغرز أكاذيب مذياعه المكررة في أذنيه وهو معلق يرتعد فوق أغصان ذاهبة في الفضاء ، وعينا أمه اللتان كاد الدمع المسكوب منهما في الأيام والليالي الخاليات الكالحات أن يأتي على نورهما منغرزتان في الأرض تطاردان بمشقة حبات الزيتون وقلبها معلق به يكاد ينفطر لأقل هبة ريح يحتمل أن تتلاعب بالغصن الذي تتعلق به فلذة كبدها طالبة إليه أن يحذر و أن ينتبه إلى مواقع رجليه وأن يكف عن سب أولي الأمر الذين نصبهم رب العالمين وأوكل إليهم أمر تدبير شؤون هذا الوطن المفدى لأن ذلك يغضب الله ، وكان الحمار يبتسم لكلام الأم الطيبة ، وتنتقل عدوى الابتسام إلى احمد فيبتسم بدوره ويزداد إعجابه بحماره.
وبعد لآي جمع قدرا من المال، كان يدخره عند أمه، التي كانت تضيف إليه كل ما استطاعت أن تستبقيه، ,أحيانا بالاقتطاع من قوت الحمار أو كسوته،و كان الحمار -عندما يكتشف ذلك- يكتفي بابتسامة عريضة ، ونهقة حزينة ظريفة محسوبة ، معتبرا أن تلك ضريبة يوجبها النضال في سبيل إسعاد يتامى حرموا من رائحة الآباء والأمهات الذين كانوا رفاقا أوفياء كرماء لأسلافه ، وعلى كل ؛ فمادام هناك صعيد يتمدد عليه ليريح ظهره من الألم فإن الحياة بخير.
وفي يوم من الأيام، استدعت الأم ابنها إلى فراشها فجاء مسرعا مضطرب القلب خوفا مما يكون قد ألم بها، ولكنه اطمأن بعد أن وجدها مستوية في جلستها سليمة معافاة،والبشر يعلو محياها فسلم عليها وجلس إلى جانبها وقال: خيرا يا أماه
قالت : كل الخير يا ولدي ، كيف لا وقد صرت رجلا...؟.
أدار وجهه حياء، وسرت في عروقه رعشة بعثها استحسانه لكلام أمه.
واصلت الأم وهي ترصد بدقة ملامحه: آن لك أن تتم الفرض يا ولدي فقد بلغت ستة عشر سنة.
وأنا كما ترى قد تعبت، وأصبحت في حاجة إلى عروسة تسعدنا جميعا وتساعدني.
طأطأ رأسه ،وبدت علامات الرضا على ملامح وجهه وشجع ذلك أمه على إعلان نواياها كلها.
- لقد فكرت في الأمر واستقر اختياري على لالة البنات ، ابنة خالك سعاد، ولم يبق إلا رأيك.
قال :لا رأي لي يا أمي، فكل ما يرضيك يسعدني، ومرق من الباب خارجا،يكاد يطير فرحا.
وبعد أسابيع كان أحمد قد استكمل نصف دينه، وزاد إلى بيت اليتامى يتيمة أخرى فاضلة، كريمة النسب، عزيزة على قلوب الجميع ، زادت حماسه ، وقوت إصراره وعناده على تحسين وضعه ووضع عائلته.
وبعد سنوات فوجئ أحمد بسيل المواليد ، الذين تتابعوا على غير انتظار منه ،ورصعوا أركان البيت الترابي الصغير ،وزادت حاجاتهم وتكاليفهم فضاق به البر على اتساعه ، وخرج على وجهه في يوم ماطر يحوك أشجاره ريح زمهرير يضرب في الأرض يريد سعة الحال تقي أبناءه ألم الجوع والبرد وهوان الناس.
وعاد بعد مدة وقد جمع مبلغا، أضاف إليه مبلغا أخر بالاستدانة، وباع ما استطاع جمعه من جني الزيتون واللوز، واشترك مع ابن خاله في سيارة هرمة ، اشتغل بها في نقل الناس بين المناطق المعزولة و المدن المجاورة ، ورغم أعطالها المتكررة التي كانت تفرض عليه أحيانا كثيرة المبيت في الخلاء إلا أنها سمحت له أن يبتعد قليلا عن معاناة عائلته ويوسع علاقاته الاجتماعية، وينفس عن نفسه بالمزاح والحديث المتواصل مع رواد المدينة وزبائنه من المسافرين.
وأخيرا،و بعد توسل،و وساطات و إذلال ، ابتسم له الدهر إلى حين وحصل على سكن جديد من ثلاثة غرف وحمام ومطبخ في القرية الجديدة ،و أحس بتأنيب ضميره له وهو يتلاعب بالمفاتيح بين أصابعه لان دماء والده و أسرته لم تنس كما قر في ذهنه ، وخفف من وطأة هذا الإحساس أنه دفع قبل أن يمنح.
باع الحمار ونقل أسرته إلى السكن الجديد فسعد أبناؤه بنور الكهرباء أيما سعادة وأدهشهم أن رأوا الماء يتفجر من الحنفية في الحائط ، أما هو فقد نقص عليه فرحته وأفسدها تركه أبناء وبنات عمه وخالته في المسكن القديم يواجهون مصيرهم.
تحسنت أحوال أحمد قليلا،وأخذ يتذوق نسمات السعادة التي كانت تهب من هنا وهناك ، لهذا السبب أو لذاك ، وخاصة بعد أن فتحت المدرسة بالقرية الجديدة ، وسجل بها من هو في سن الدراسة من أبنائه،وصار بإمكانه أن يرقبهم والغبطة تتفجر من جوانحه، يسعون إليها أو عائدين منها سعداء في صحة وعافية.
وما كادت تمر سنوات قليلة حتى حل وباء مهلك كانت أولياته تنمو و تتجذر منذ كان حماره يضحك من مهازل مذياعه الذي لا يعقل، ومواعظ أمه الطيبة الساذجة ،كان حماره محضوضا إذ قضى قبل أن تفقص بيوض هذا الوباء الذي أصاب الناس بالهذيان، وخلط الحابل بالنابل ،وساوى بين العالم والنادل، فسرت العداوات بين الناس بدون سبب ظاهر، واشتعل صراع مجنون تحامى فيه الأرض الطيبة خونة ، وشر فهجر الأخ أخاه ،وفارق الابن أمه و أباه ،وانقسم الناس تحت وطأة الوباء فريقين :أعلن فريق انه وكيل الرب في خلقه ، وحامي الملة والدين ورافع راية الجهاد، ومحدد مصائر الخلق يوم المعاد،وأنه أقرب إلى الله والمخول للحديث باسمه والحكم بأمره،وأعلن فريق آخر أنه مالك التاريخ والعباد والبلاد ، يمنح الحق للعيش فيها لمن أراد، ويحرم من أراد ، ونكئت الجراح واستثيرت المواجع فاستباح كل فريق دماء الكل، وأعراض الكل وأموالهم . وبدأت سنوات النار والدم، ووقع أحمد بين فريقين ليس فيهما من يرحم تسلمه نار الليل لنار النهار تنزع منه سيارته في أية لحظة من الجميع لأداء فريضة الجهاد مرة ولمطاردة شرالخلق وأراذل العباد أخرى، ويجازي بسلوك يجزم به أصحابه أنهم كائنات لا صلة لها بالبشر.
نزل احمد المدينة بعد أن استضافه في إحدى الليالي فريق من الفريقين ، وأطعمه ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت، ولا خطر ببال بشر، فباع السيارة والسكن بما تيسر له على عجل ، واكترى شاحنة عبأ فيها أبناءه وأثاث بيته، وطلق الجهة ثلاثا، وسار بهم حتى وقف البحر في صدره ، فطلب إلى صاحب الشاحنة أن ينزله في بقعة محصورة بين البحر و ضفة واد قذر تصرف فيه مياه كل المدن التي مر بها،فصعب على كل ذي أنف له بقية من شم الاقتراب منه ،غرست فيه لافتات كتب عليها غير مسموح بالسباحة ، الشاطئ ملوث ، مميت .
قضى ليله هناك في العراء ، وفي اليوم الموالي راح يجمع القصب يركزها في الرمل، وشيئا فشيئا ابتنى له بيتا من قصب وصفيح وارتاح فيه لقلة الزوار،تحميه عفونة المكان من عفونة البشر وإن كانت منهم ، وبمرور الوقت التحق به من لقي منهم مثل ما لقي هو أو أسوء.
كبرت إحدى بناته،وتقدم أحد الجيران لخطبتها؛ففرح للمرة الثانية في حياته ،وتمنى لو يتمكن من دعوة كل الأهل والأقارب والأصدقاء ،فقد اشتاق إليهم إذ محيت ملامح الكثيرين منهم من ذاكرته،وتأججت حرقة افتقادهم في وجدانه،وراح يعيد ربط ما انقطع ، يبحث عن عناوينهم ويراسلهم يدعوهم إلى حضور زفاف ابنته بعد أسبوع،غير متحرج من عفونة الموقع لأنه ألفها وتعود على رائحتها من جهة ، ولأنه كان منهمكا في التحضير للعرس بكل حواسه،باذلا وسعيه في توظيب كل صغيرة وكبيرة ، متفقدا لكل ما له علاقة بالعرس، وألقى بنظره فرأى صفيحة في السقف قد زحزحت عن مكانها الذي ينبغي ان تكون فيه،جذب إليه سلما وصعد مسرعا يريد وضع الصفيحة في مكانها ، انكسرت أختها التي داس عليها فهوى نحو الأرض ،وتبعته آجورة كانت موضوعة فوقها فوقعت على قفاه ، انفجرت جمجمته تنزف، حمل على عجل إلى المستشفى وفي الطريق لفظ أنفاسه.
جاء الأهل للدفن والعزاء ، وسجي جثمان أحمد الطاهر وقليل يعرف مأساته؛ وألقيت عليه نظرات الوداع الحزينة، ثم حمل إلى مثواه الأخير، كان هواء المقبرة نقيا عطرا ولأول مرة لاحت مشاعر الغيرة على ملامح الناس المشيعين إذ فاز بأروع مستقر في أروع مقبرة، كان قبره جنة فوق الأرض ،باطنه مرمر مصقول هبة من الله ، انحنت عليه أشجار الزيتون بأغصانها المتهدلة انحناء أم تحضن وحيدها المدلل الذي أذابها الشوق إليه بعد طول غياب،تحيط بها شجيرات مزهرة فواحة العرف اختارته في غفلة من الجميع دون أن تستشير أيا من الفريقين ودون وساطة أو وصية من أحد.
لالة : المقصود بها في اللهجة الجزائرية لؤلؤة النساء وخيارهن.
جرت أمه في كل اتجاه : المستشفيات، الرقاة ، المشعوذين والمشعوذات ، كلهم عندها سواء وخيارهم من جاءها بالشفاء لأحمد وأعاد إليه الصحة والحياة ، ولم تجد من يعينها في شقائها إلا حمارا طيبا صبورا وفيا جعل ظهره مطية ومحملا لأثقالها، ألف النضال والتضحية والحياة القاسية والمسالك الوعرة منذ عقود فصار لا يبالي بالحقوق المغمورة و المسكوت عنها راض بشح القوت وضيق المبيت .
وشفي أحمد وكبر وكبرت أحلامه، وراح يضرب هنا وهناك،يبغي متلهفا فتح نوافذ للأمل ، أبوابا للسعادة ،مسالك للنور، تخرجه و أمه و إخوته ، أبناء عمه وخالته إلى فسحة فيها للحياة معنى ينسيهم بعض ما قاسوه ، وتسمح لهم أن يسيروا على الأرض التي تشربت دماء أبائهم وأمهاتهم منتصبين مطمئنين كالبشر،و يدفع عنهم ظلمة القهر، والحرمان ، والجوع والعري ،جوع الروح وعريها وغربتها ووحدتها.
خرج من عزلته على ظهر حماره ، ضرب هنا فارتدت إليه معاوله،وضرب هناك فذهبت ضرباته أدراج الرياح، واكتشف أن الحياة ليست كما يصفها مذياعه الصغير ، ولا كما يصورها تلفاز المقهى الطيني في قريته المعزولة المنسية على أطراف يسر، الحياة لا تهتم كثيرا بأكاذيب البشر وألاعيب الساسة المنتفعين وترهات الدعاة السذج و المأجورين، وهي لا تعوض ولا تجازي الأبناء على إخلاص الإباء .
فهم أحمد أن عليه أن يخوض الحرب من البداية ضد الجميع، ضد الطبيعة و الناس والوقت والحظ، وأن النجاح ليس مؤكدا ، ومؤشرات الخيبة تطل عليه من كل الزوايا ، وتعترضه في المنعطفات،كان يشقى بمعية حماره ورفيقه في تشذيب أشجار الزيتون وتنقيتها وهو يرصد الموت يترصده منتظرا منه سهوا، أو خطأ في تقدير المسافة بين حافة أخدود وأخرى أو بين غصن وغصن أو أن يضع رجله في المكان الخطأ ليتلقفه في مهوى لا قرار له ، يسرطه أو يلفظه مهشما معوقا،كان يقضي اليوم مرعوبا ، ويبيت ليله مفزوعا ينهض عدة مرات من أحلامه المرعبة صارخا يطلب النجاة من السقوط في المهاوي السحيقة ، والعرق البارد يكسو جسده وأنفاسه متقطعة.
وتنقضي الأيام والليالي متشابهة ليس فيها ما يفرح أو يدعو إلى التفاؤل ، وبمرور الوقت أحس أحمد أن كلام مذياعه السخيف أصبح يثير في نفسه الغثيان بل الحزن الثقيل وخطر بذهنه أن يضرب به جذع شجرة ليسكته إلى الأبد ، ولكن السلوى التي كان يجدها في بعض التقاسيم الموسيقية الحزينة التي كانت تنبث منه بين الحين و الآخر كانت تشفع له ؛ و تحول دون تكسيره ، فكان يكتفي باللعن والسب والشتم عندما تنغرز أكاذيب مذياعه المكررة في أذنيه وهو معلق يرتعد فوق أغصان ذاهبة في الفضاء ، وعينا أمه اللتان كاد الدمع المسكوب منهما في الأيام والليالي الخاليات الكالحات أن يأتي على نورهما منغرزتان في الأرض تطاردان بمشقة حبات الزيتون وقلبها معلق به يكاد ينفطر لأقل هبة ريح يحتمل أن تتلاعب بالغصن الذي تتعلق به فلذة كبدها طالبة إليه أن يحذر و أن ينتبه إلى مواقع رجليه وأن يكف عن سب أولي الأمر الذين نصبهم رب العالمين وأوكل إليهم أمر تدبير شؤون هذا الوطن المفدى لأن ذلك يغضب الله ، وكان الحمار يبتسم لكلام الأم الطيبة ، وتنتقل عدوى الابتسام إلى احمد فيبتسم بدوره ويزداد إعجابه بحماره.
وبعد لآي جمع قدرا من المال، كان يدخره عند أمه، التي كانت تضيف إليه كل ما استطاعت أن تستبقيه، ,أحيانا بالاقتطاع من قوت الحمار أو كسوته،و كان الحمار -عندما يكتشف ذلك- يكتفي بابتسامة عريضة ، ونهقة حزينة ظريفة محسوبة ، معتبرا أن تلك ضريبة يوجبها النضال في سبيل إسعاد يتامى حرموا من رائحة الآباء والأمهات الذين كانوا رفاقا أوفياء كرماء لأسلافه ، وعلى كل ؛ فمادام هناك صعيد يتمدد عليه ليريح ظهره من الألم فإن الحياة بخير.
وفي يوم من الأيام، استدعت الأم ابنها إلى فراشها فجاء مسرعا مضطرب القلب خوفا مما يكون قد ألم بها، ولكنه اطمأن بعد أن وجدها مستوية في جلستها سليمة معافاة،والبشر يعلو محياها فسلم عليها وجلس إلى جانبها وقال: خيرا يا أماه
قالت : كل الخير يا ولدي ، كيف لا وقد صرت رجلا...؟.
أدار وجهه حياء، وسرت في عروقه رعشة بعثها استحسانه لكلام أمه.
واصلت الأم وهي ترصد بدقة ملامحه: آن لك أن تتم الفرض يا ولدي فقد بلغت ستة عشر سنة.
وأنا كما ترى قد تعبت، وأصبحت في حاجة إلى عروسة تسعدنا جميعا وتساعدني.
طأطأ رأسه ،وبدت علامات الرضا على ملامح وجهه وشجع ذلك أمه على إعلان نواياها كلها.
- لقد فكرت في الأمر واستقر اختياري على لالة البنات ، ابنة خالك سعاد، ولم يبق إلا رأيك.
قال :لا رأي لي يا أمي، فكل ما يرضيك يسعدني، ومرق من الباب خارجا،يكاد يطير فرحا.
وبعد أسابيع كان أحمد قد استكمل نصف دينه، وزاد إلى بيت اليتامى يتيمة أخرى فاضلة، كريمة النسب، عزيزة على قلوب الجميع ، زادت حماسه ، وقوت إصراره وعناده على تحسين وضعه ووضع عائلته.
وبعد سنوات فوجئ أحمد بسيل المواليد ، الذين تتابعوا على غير انتظار منه ،ورصعوا أركان البيت الترابي الصغير ،وزادت حاجاتهم وتكاليفهم فضاق به البر على اتساعه ، وخرج على وجهه في يوم ماطر يحوك أشجاره ريح زمهرير يضرب في الأرض يريد سعة الحال تقي أبناءه ألم الجوع والبرد وهوان الناس.
وعاد بعد مدة وقد جمع مبلغا، أضاف إليه مبلغا أخر بالاستدانة، وباع ما استطاع جمعه من جني الزيتون واللوز، واشترك مع ابن خاله في سيارة هرمة ، اشتغل بها في نقل الناس بين المناطق المعزولة و المدن المجاورة ، ورغم أعطالها المتكررة التي كانت تفرض عليه أحيانا كثيرة المبيت في الخلاء إلا أنها سمحت له أن يبتعد قليلا عن معاناة عائلته ويوسع علاقاته الاجتماعية، وينفس عن نفسه بالمزاح والحديث المتواصل مع رواد المدينة وزبائنه من المسافرين.
وأخيرا،و بعد توسل،و وساطات و إذلال ، ابتسم له الدهر إلى حين وحصل على سكن جديد من ثلاثة غرف وحمام ومطبخ في القرية الجديدة ،و أحس بتأنيب ضميره له وهو يتلاعب بالمفاتيح بين أصابعه لان دماء والده و أسرته لم تنس كما قر في ذهنه ، وخفف من وطأة هذا الإحساس أنه دفع قبل أن يمنح.
باع الحمار ونقل أسرته إلى السكن الجديد فسعد أبناؤه بنور الكهرباء أيما سعادة وأدهشهم أن رأوا الماء يتفجر من الحنفية في الحائط ، أما هو فقد نقص عليه فرحته وأفسدها تركه أبناء وبنات عمه وخالته في المسكن القديم يواجهون مصيرهم.
تحسنت أحوال أحمد قليلا،وأخذ يتذوق نسمات السعادة التي كانت تهب من هنا وهناك ، لهذا السبب أو لذاك ، وخاصة بعد أن فتحت المدرسة بالقرية الجديدة ، وسجل بها من هو في سن الدراسة من أبنائه،وصار بإمكانه أن يرقبهم والغبطة تتفجر من جوانحه، يسعون إليها أو عائدين منها سعداء في صحة وعافية.
وما كادت تمر سنوات قليلة حتى حل وباء مهلك كانت أولياته تنمو و تتجذر منذ كان حماره يضحك من مهازل مذياعه الذي لا يعقل، ومواعظ أمه الطيبة الساذجة ،كان حماره محضوضا إذ قضى قبل أن تفقص بيوض هذا الوباء الذي أصاب الناس بالهذيان، وخلط الحابل بالنابل ،وساوى بين العالم والنادل، فسرت العداوات بين الناس بدون سبب ظاهر، واشتعل صراع مجنون تحامى فيه الأرض الطيبة خونة ، وشر فهجر الأخ أخاه ،وفارق الابن أمه و أباه ،وانقسم الناس تحت وطأة الوباء فريقين :أعلن فريق انه وكيل الرب في خلقه ، وحامي الملة والدين ورافع راية الجهاد، ومحدد مصائر الخلق يوم المعاد،وأنه أقرب إلى الله والمخول للحديث باسمه والحكم بأمره،وأعلن فريق آخر أنه مالك التاريخ والعباد والبلاد ، يمنح الحق للعيش فيها لمن أراد، ويحرم من أراد ، ونكئت الجراح واستثيرت المواجع فاستباح كل فريق دماء الكل، وأعراض الكل وأموالهم . وبدأت سنوات النار والدم، ووقع أحمد بين فريقين ليس فيهما من يرحم تسلمه نار الليل لنار النهار تنزع منه سيارته في أية لحظة من الجميع لأداء فريضة الجهاد مرة ولمطاردة شرالخلق وأراذل العباد أخرى، ويجازي بسلوك يجزم به أصحابه أنهم كائنات لا صلة لها بالبشر.
نزل احمد المدينة بعد أن استضافه في إحدى الليالي فريق من الفريقين ، وأطعمه ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت، ولا خطر ببال بشر، فباع السيارة والسكن بما تيسر له على عجل ، واكترى شاحنة عبأ فيها أبناءه وأثاث بيته، وطلق الجهة ثلاثا، وسار بهم حتى وقف البحر في صدره ، فطلب إلى صاحب الشاحنة أن ينزله في بقعة محصورة بين البحر و ضفة واد قذر تصرف فيه مياه كل المدن التي مر بها،فصعب على كل ذي أنف له بقية من شم الاقتراب منه ،غرست فيه لافتات كتب عليها غير مسموح بالسباحة ، الشاطئ ملوث ، مميت .
قضى ليله هناك في العراء ، وفي اليوم الموالي راح يجمع القصب يركزها في الرمل، وشيئا فشيئا ابتنى له بيتا من قصب وصفيح وارتاح فيه لقلة الزوار،تحميه عفونة المكان من عفونة البشر وإن كانت منهم ، وبمرور الوقت التحق به من لقي منهم مثل ما لقي هو أو أسوء.
كبرت إحدى بناته،وتقدم أحد الجيران لخطبتها؛ففرح للمرة الثانية في حياته ،وتمنى لو يتمكن من دعوة كل الأهل والأقارب والأصدقاء ،فقد اشتاق إليهم إذ محيت ملامح الكثيرين منهم من ذاكرته،وتأججت حرقة افتقادهم في وجدانه،وراح يعيد ربط ما انقطع ، يبحث عن عناوينهم ويراسلهم يدعوهم إلى حضور زفاف ابنته بعد أسبوع،غير متحرج من عفونة الموقع لأنه ألفها وتعود على رائحتها من جهة ، ولأنه كان منهمكا في التحضير للعرس بكل حواسه،باذلا وسعيه في توظيب كل صغيرة وكبيرة ، متفقدا لكل ما له علاقة بالعرس، وألقى بنظره فرأى صفيحة في السقف قد زحزحت عن مكانها الذي ينبغي ان تكون فيه،جذب إليه سلما وصعد مسرعا يريد وضع الصفيحة في مكانها ، انكسرت أختها التي داس عليها فهوى نحو الأرض ،وتبعته آجورة كانت موضوعة فوقها فوقعت على قفاه ، انفجرت جمجمته تنزف، حمل على عجل إلى المستشفى وفي الطريق لفظ أنفاسه.
جاء الأهل للدفن والعزاء ، وسجي جثمان أحمد الطاهر وقليل يعرف مأساته؛ وألقيت عليه نظرات الوداع الحزينة، ثم حمل إلى مثواه الأخير، كان هواء المقبرة نقيا عطرا ولأول مرة لاحت مشاعر الغيرة على ملامح الناس المشيعين إذ فاز بأروع مستقر في أروع مقبرة، كان قبره جنة فوق الأرض ،باطنه مرمر مصقول هبة من الله ، انحنت عليه أشجار الزيتون بأغصانها المتهدلة انحناء أم تحضن وحيدها المدلل الذي أذابها الشوق إليه بعد طول غياب،تحيط بها شجيرات مزهرة فواحة العرف اختارته في غفلة من الجميع دون أن تستشير أيا من الفريقين ودون وساطة أو وصية من أحد.
لالة : المقصود بها في اللهجة الجزائرية لؤلؤة النساء وخيارهن.