أنفاسعشقه للحروف لا يضاهيه عشق ..
صحيح أنه أحب وتعذب وذاق مرارة الهجر حتى كاد يكفر بكل شيء .. غير أن عشقه للحروف ظل راسخا لا يتبدل.
وهاهو "النيت-NET" يفتح أمامه بابا من أبواب السماء .. عالما زاخرا بالحروف الزاهية الأشكال والألوان .. أنشأ مدونته وأغرقها بكل ما جاشت به حياته خلال السنين الثلاثين التي عاشها على الأرض حينا وفي عالم الحروف أغلب الأحيان.
ظل يتجول بين المواقع والمدونات صائدا مقيدا إلى أن وقع بصره صدفة ذات يوم على مدونتها.
فتاة في العشرين .. جامعية .. مليحة الوجه .. دافئة ابتسامتها  وفي نظراتها ثقة و دعة ..أما كتابتها .. حروفها .. يا الله ..إنه لا يعرف كيف يصفها .. هذه الفتاة لا تكتب أفكارا .. لا تتفلسف ..لا تحاول أن تقنع أحدا .. كتاباتها نوع من الخواطر الصافية المشرقة .. روح شفافة بريئة تنساب مثل جدول رقراق على الصفحات فتصيب عدوى الابتهاج والسكينة كل من يلامسها.. حتى الحزن لديها يبدو شفافا كأنه الفرح.

أنفاسوالتقينا مرة أخرى...
كانت كما القمر الذي اكتمل نضوجه، فارعة، سامقة. وجنتاها صبغت بحناء تناسق مع تلك الخصلات الكستنائية اللذيذة. تغني مواويل وتضرب العود (أووف يا وطني أووف)، ونحن نردد خلفها بصوت مرتفع (أووف).
لم تكن تنظر إلى أحد سواي خلال تلك الجوقة الملتفة حولها كطوق كبير، ربما ظنت في قرارة نفسها بأنني الوطن الذي سيحتضنها، وعندما ستراني فإنها سترى قلاع المخيم كلها، لكنها –ولسذاجتها المحببة إلى قلبي - ترفض أن تفهم أنني لن أعود إلى رحاب الأهل والبندقية. أخبرتها بذلك قبل وقت قريب، حين حصلت على إقامة في هذا الفراغ المريب المسمى فرنسا، سألتني يومها متكدرة:
- أسنعود للوطن؟!
لم أعرف كيف الجواب، حارت قافلة الكلمات في الخروج من قمقمها، راودتني صور شتى، أي وطن تريدين ونحن نمكث في صومعة من حزن، كررت سؤالها كغبي لن يفهم، هل أقارنها بي؟ وطنها بوطني، حدقت بوجهي وقد بدت علامات الارتياب تتملكها، لحظتها كأنني تأوهت من برد حاصرني، أو من شيء لا أعرفه الآن. قالت:
- أأنت مريض؟

أنفاسالطقس شتاء والمدينة مغطاة برداء أبيض ناصع، يبرق بريقا جميلا مع أشعة الشمس. وقف (غريب) بأعلى منطقة ب(هولمن كولن). رفع عينيه إلى السماء يبحث عن غيمة أو سحابة أو ربما أمنية تتحدر عبر سماء من الحلم. سرح ببصره المحيّر إلى فضاء المدينة. يرى وجوها متعددة الألوان. بعضها تشع حيوية، أخرى ترتعش بجنون، وجوه هشمتها تجاعيد لزمن طويل من الغربة والأسى، للبعد عن الوطن ووجوه ممسوحة من الملامح ممسوخة لاتعرف هويتها. من تلك التلة كان (غريب) يفترش قلقه المضطرب، على بساط الثلج، يجوب حذرا على أعقاب الزمن الذي أجهض أحلاما، ولوث رغبات.و آمال مزقتها انفجارات الوعود المبتلة بالسراب وأخرى التهمتها أمواج سحبتها تيارات لتنتهي في بطون حيتان "الخلاص". نزلت قطرات شاحبة على وجنتي غريب التي أصابها الجفاف. قطرات تحترق حسرة وترتعش بالجنون لذاكرة الماضي والحاضر الذي يجمعهما حضوره المدثر بالوجع القديم والخوف من الآتي. كان يلملم هدوء سكونه المفتعل في صمت، جاثيا وكأنه يصلي لحلم مخنوق، يبحث فيه عن سكينة تمسح عن روحه دموع المنفى وشرود العزلة القاتلة. تطلع إليها والحزن يرشفه، تصنع ابتسامة تفضح استياءه المتراخي على جسده المثقل بلا شيء . أحس أنها تعيش فيه كل يوم ويعيش فيها. تسجنه بقيودها ، بسحرها الغامض. هي كريستيانيا التي أوقعت الكثيرين بسحر جمالها فتضاربت آراء عشاقها بالمد والجزر، هناك من ذاب في كأس ثمالة عشقها فرمى حقيبة الماضي بكل ما فيها من متاع وآخر أحبها بصدق فأعاد بها أختلاق نفسه.

أنفاسفي ركن قصي من أركان مقهى النهضة ، بعيدا عن أنظار الفضوليين والمتطفلين ، جلس فرحان وحيدا يرتشف قهوة الصباح ، وبين الفينة والأخرى يحركها ببطء شديد . حرص فرحان على الإتيان باكرا على غير عادته ، لقد كان يعلم أن اليوم سيكون استثنائيا ،  على الأقل بالنسبة لرواد المقهى ، فهم سيشهدون افتتاح الألعاب الأولمبية ببكين.
بدأ المكان يضيق بالرواد والمتفرجين ، وطفقت الجلبة تزداد شيئا فشيئا ، حينها انتاب فرحان إحساس بالتبرم والانزعاج ، خصوصا بعد أن شرع النادل في تنحية الطاولات ليتسع المكان للمزيد من الجمهور.
اشرأبت الأعناق وتعالت الهامات لمشاهدة صندوق العجب الذي وضعه رب المقهى بعيدا عن متناول  العابثين ،  ابتدأ  حفل الافتتاح ....آلاف من الصينيين يبهرجون عش الطائر العملاق ، ليمتعوا الحاضرين والغائبين بلوحات فنية ، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها خرافية ، بهروا بها العالمين.

أنفاسبعد ليلة مؤرقة لم اـذق فيها طعم النوم ولا رائحته ان كانت له أصلا.أفقت منهكا بعد أن غفوت في وقت متأخر من الليل.الصبح بافلاقه كسر عتمة الليل الحالكة.بدأت الشمس ترسل أشعتها إعلانا بميلاد يوم جديد.حركة صخب في الحي الذي اسكنه بدأت مع الساعات الأولى من الصباح ساهم بدوره في تبديد النوم.تساؤلات ملحة في الداخل لا تريد ان تبرح ليلتي إلا بعد أن تكدرت متعة الغط في نوم مريح.ومما زاد من سهادي صراخ سكير اقام الدنيا ولم يقعدها بصخبه الراعد.أزاح سرواله كاملا وبدا عضوه يتهدل.جبلة أيقظت الناس رجالا ونساء.فهبوا إلى شرفات دورهم يتابعونه ويرمقونه بنظراتهم الواجمة.وشوشات وأحاديث صغرى تجول فيما بينهم تشي بفضول زائد لمعرفة ما يحصل...  
أهازيج عرس في قاعة حفلات بقربي ملأت بإيقاعها أجواء الحي والرجل السكران المنتشي بعربدته يواجهها بصخبه العالي.اعتقدت ان حبيبته تركته وتزوجت اخر واتى هو في منتصف الليل يزمجر.بدا ينزع ملابسه قطعة قطعة ليواجه بعريه نغمات الاحتفال الدي توقف مرارا ليسترسل في بث روح اخرى في ليلة تنقضي.تمنيت لحظتها لو كنت مثله في عري وحشي امام حبيبتي لاصرخ لها بدوري على انني لا امتلك سوى هاته الدماء التي تفور في عروقي بحبها.تمنيت ان تسلط علي قوة باردة ما ورائية توصلني الى مشارف الموت وتلقي بي الى هاوية الحنق والحتف الابله...

أنفاسالوحدة..وهذا الليل يداعب شمعة تذوي في صمت..عيد ميلاد سعيد..بكل اللغات تملأ بريده الإلكتروني..وهو ما يكف يختلس النظر إلى نافذة الجارة في العمارة المقابلة..مرت سنة تقريبا وهو كل مساء ها هنا بجانب النافذة ..عين على الحاسوب وعين على نافذتها..اختزن كيانه بدفء كل حركة من حركاتها..وهي تمشط شعرها ..تداعب جوالها..تنزع ثيابها أمامه في إغراء قاتل..ليتها تظهر هذا المساء فيصرخ بأعلى صوته أنه قد بلغ الأربعين ولم يعد يطيق الوحدة..ستحتضن عيناه  عينيها..سيخطبها..سيتزوجها..سـ..سـ..سمع طرقا على الباب..إنها الشرطة.
ــالرجاء أن تأتي معنا.
ــ لكن لماذا ؟
ــ سوف ترى بعينيك..
حين دخل الشقة في العمارة المقابلة و التقت عيناهما لأول مرة كانت ممدة على الأرض وبجانبها علبة حبوب طبية فارغة و صوره الرقمية تملأ الأرض حولها..استفاق على صوت أمها تمسك به وتهزه بعنف:

أنفاسوصل الدكتور النفسي إلى عيادته الخاصة التي على الدوام تعج بالمجانين وأنصاف المجانين، والمرضى الذين هم نفسيا مضطربون.. كانوا يجلسون ويبدون كالعقلاء بملامح وجوههم التي ملأها التوجس، وعيونهم التي غشيها وجل وقلق تلبد بالتأكيد كان عميقا.. ثم بسرعة مشى الدكتور نحو الباب، وقبل أن يدلف إلى غرفته توقفت قدماه إلى جواره.. وكان فمه قد بدأ يرسم على وجهه ابتسامة باردة، وأدار  رأسه نصف دورة وهو لا يزال يكبّر ابتسامته ويوسعها، ونظر نحو سكرتيرة الاستقبال ذات الوجه الطويل الجميل الذي لونه مثل النحاس النظيف بعد دعكه بقطعة ليمون، ولسع وجهها بنظرة ساهمة قفزت من فوق إطار النظارة التي انزلقت بسبب العرق حتى استقرت عند أسفل انفه الرفيع الطويل.. ثم طلب من السكرتيرة إذا جاء الجنرال العجوز بعد نصف ساعة من الآن فادخليه على الفور، وإياك أن ينتظر ولو ثانية واحدة مع هؤلاء المنتظرين، المختلين والمجانين.. وأكد لها وقد راحت سبابته تلكز النظارة المنزلقة لتعيدها إلى مكانها، على ضرورة وأهمية ألا تأخذ من الجنرال أجرة العلاج كما هو معمول به مع العامة والفقراء.. والمجانين الذين هم سبب ثروة الدكتور، حتى بات الدكتور يتمنى من أعماق قلبه ويدعو الله أن يصيب الجنون والاضطراب النفسي كل الناس.. وعادة ما يعبس وجهه وربما يشعر بالقهر إذا جاء إلى عيادته شخص عاقل.. فلا نقود تعود عليه ولا فائدة ترجي من أي عاقل مهما أوتي من الحكمة ومهما بلغ حظه من العلم.

أنفاستفتيش
 أخلع الأساور، الخواتم، العقد الفضيّ، أخرج من حقيبتي الهاتف الجوّال، سلسلة    المفاتيح، قارورة العطر، زجاجة الماء..
أضعهم في السلّة أمامي، وأمر عبر الجهاز الإلكتروني..
يستوقفني رجال الأمن: لا يمكنكِ العبور!!
- جواز سفر ساري المفعول، الفيزا مفتوحة، التذكرة...!!
- تحملين ممنوعات..!!
- مااااااااااااااااذا؟؟
- في قلبك صورة وطن، في نبضك حبّ أرض أصحابها على لائحة الإرهاب!!

مقامــــــــات
يطلّ المذيع على الشاشة الفضية، يُـقلب الأوراق:

مفضلات الشهر من القصص القصيرة