أنفاس لم يكن يتوقع وهو يحتضن نسخًا من كتابه الأول، مثلما تتلقف أمّ بحنو فرحتها البكر وأول عطر الأمومة.. أن ينتهي به المطاف بائعًا متجولا ، تخيّـل لو أنّ بضاعته (سي دي) لاختلف الوضع، ووجد من يتحلقون حوله حد الاختناق...!
واصل طريقه كاتــــــــمًا حنقه، لاعنًا اللّحظة التي اكتوى فيها بنار الحرف.
 أجابه صاحب المكتبة العجوز- وهو يقترح عليه الاطلاع على نسخة من كتابه، ودون فتح حقيبته اليدوية التي يضعها على كتفه- محرّكًا رأسه بالنفي..
العجوز استكثر عليه حتى الرد بكلمتين.. فكّر في أن يقترح عليه أن يغيّر مهنته، ويبيع أيّ شيء غير الكتب، حث الخطو في اتجاه مكتبة أخرى مقاوما رغبته في التقيؤ على الزمن الرديء!
انتظر صامتًا حتى سألْته عن رغبته وهي منشغلة مع زميلتها بالزبائن وحاجياتهم من الكتب المدرسية.. كرّر نفس الجملة الرتيبة، التي بدأ يحس بكراهية بغيضة اتجاهها، جاءه ردّها - باردًا- بأن صاحب المكتبة غير موجود، أيقن أنها تكذب، فمنذ ما يفوق عشر سنوات وهو يلمح طلعتها البهية في هذا الدكان الأغبر.. أحس ببقية كلامها كالصفعة :"مرة أخرى...!!".

أنفاس… لم يبرح الحزن فؤاد "السيد سين" بعد، حزينا، منكسرا، كسيف البال ما يزال، بيد أنه يتحامل على نفسه، فيتصنع الانشراح، يتباسم طورا و "يتمسحق" بأمارات السعادة الظاهرية ليخفي شقاءه وتعاساته.  
بات شديد النقرة من الناس، كثيرا الازورار عنهم. قلى الأمكنة التي ارتادها هنا وهناك في أحياء مدينته المكمورة في جوف الأطلس لتحرسها الجبال من كل الجهات. في العدوة الشرقية للمدينة تسيدت مقهاه الأثيرة "لافونتين" الأنيقة والفخمة، هناك يقهي، ويلتهم ما يقع في يديه من كتب الأدب العزيزة على قلبه، ويتصفح الجرائد التي يجود صاحب المقهى بها على زبنائه من "العيار" الخفيف، أمثال السيد سين، هناك يحس بالاغتراب وعدم التجانس مع فضاء أعد لغيره : لأعيان المدينة. خلا هذا المكان، وتنبه السيد "سين" ألا يوقفه أحد قط، وأن يكتفي بإرسال التحية إليه من بعيد، لكن لما يحدث أن يستوقفه أحد يبدل جهدا كبيرا كي يبدو متماسكا، محاولا السيطرة على أعصابه، والحفاظ على هدوئه وإذا كانت نار ملتهبة تثوي بداخله، آه لكم ودّ أن يصرخ في وجه الناس : كلكم منافقون، لئام، ثعالب، أنانيون، وصوليون، انتهازيون، همازون، لمازون، مشاؤون بنميم، ولكنه يتذكر الناس الطيبين فيتراجع في آخر لحظة.

أنفاسلعل أمنيته تحققت ..وهل ما بعد أمنية "المدير" أمنية أخرى أجل وأعظم !! الكثيرون يتمنون وظائف أقل بكثير من وظيفة "المدير" .. أما هو فقد أحس أن مفاتيح الدنيا كلها ، قد منحت له ليرتع وينعم كيفما شاء وأنى شاء.. أموال طائلة ستدر عليه من خزينة الدولة ، لم يكن يحسب لها حسابا .. أناس كثيرون سينحنون له إجلالا وإكبارا ، في ذهابه وإيابه ، في غدوه ورواحه... أهلا بالسيد المدير .. مرحبا بالسيد المدير .. !! سيغير من حاله رأسا على عقب .. سيرتدي أفخر الثياب وأغلاها ثمنا.. سيدخن أغلى السجائر ، حتى يزداد مهابة ووقارا بين الناس .. أما السيارة فيترك الاختيار لأصدقائه العارفين بنوع السيارات الفارهة .. سيتدرب منذ الآن أن يحسن من مشيته حتى تتلاءم ومشية المدير .. أما رأسه المطأطأ دوما ــ من كثرة ما عانى أيام العسر ــ فسيرفعه عاليا حتى يعطي لسمعة "المدير" وهيبته ما تستحق .
أما حليلته ، فستزداد فتنة بين النساء من كثرة ما سيغدق عليها من الذهب والألبسة الحريرية .. ستغادر حليلته أحلامها البالية ، إلى أحلام وردية تتحقق على أرض الواقع بفعل الجاه والثروة .. كم ستتحسر صديقاتها ويعضضن على أناملهن من الغيظ والحسد والكمد !! حين سيلمحن ما تغير من حياتها جذريا .. آه لو كان كل أزوجهن مدراء !! يا ألله ما أسعد زوجة المدير !!

أنفاسكانا مرهقين متعبين، خرجا إلى طرف المدينة التي كانت تضغط لتلفظهما إلى خارجها كجسمين غريبين، وحسنا فعلت ،  لأنها سمحت لهما بقسط من الراحة ،  وفسحت أمامهما المجال لمد البصر عبر الروابي والتلال التي كانت الريح تغازل حقولها العامرة ،  البديعة التلوين ، فتنثني خضرتها وألوانها متموجة  وتتكسر في دلال وغنج آ سر ،  تنفث أنفاسها الساحرة فتنتشي الريح أكثر وتزيد في صفيرها ، تعاند الأزهار في بث عبيرها ، وتسري هبة الله في جسديهما النحيلين فينتعشان، ويفتحان رئتيهما يريدان طرد  ما بداخلهما من أدران هذا الزمن الموبوء.
تنهد صابر وقال : صبا الشام جاء يقرؤني السلام ، فبلغ يا صبا المغرب سلامي لأهل الشام. وقل لهم وعدا مني لبلدي باني سأعود بعد سنة، بعد مائة ،سأعود ولو بعد ستين ألف عام.
وستجتمع- بعد شتاتها في المنافي- الأرحام بالأرحام.
نظر نحوه غريب : وقال ما أسعدك يا صابر ، وما أروع حلمك الذي حققته فقد عشت-فعلا- ستين ألف عام.
- عجيب أمرك  ، يا غريب ، أبث لواعج قلبي وحرقة منفاي إلى الريح  فتحسدني، متجاهلا ، مأساتي ، أنا يا غريب لا أدري بأي أرض أموت ،وأي تربة ستمتص جزيئاتي...

أنفاسالى روح البير قصيري الكاتب النبيل.
خرج باكرا ومشى ..مشى بعيدا بعيدا ، في يده  مصباح  وفي جيبه  حفنة  تراب.
وكانو قد دخلوا ليلة البارحة بيته ، داسوا ورود حديقته ، مزقوا اوراقه  ،كسروا اقلامه ، ولما حضر كسروا اصبعه .
لم يبال ، ابتسم وقال : وستستمر الحياة ..ونام
صباحا افاق على جرس المنبه ، فتح عينيه ،ليس امامه الا الظلام ..
-لم يطلع النهار بعد ، قال في نفسه واغمض عينيه .اصاخ السمع  ، الشارع يعج بالحركة وبالاصوات ، اهتز من فراشه وجرى الى الشرفة ، المحلات
 فاتحة ابوابها كالعادة كل صباح : المكتبة والمخبزة والحانة وصالون الحلاقة ...  وبائع الحليب يدفع عربته ، وبعض الاطفال بمحافظهم يتوجهون الى المدرسة..
كل هذا في الظلام ..

أنفاسمنذ أن سكن حب الإدارة كيانه ، تغير وحيد كثيرا ، وكم تغيرت الدنيا وأحوال الناس ، وكم تبدلت الحياة وأنماطها بين الأمس واليوم .
منذ عشرين عاما عهد الناس وحيدا طيبا، وديعا، ضحوكا ، لا يمل الجليس من جلسته ولا الأنيس من رفقته ، ولم تكن أفكاره كما هي الآن ، فقد أصبح ينعزل عن زملائه ولا يجالسهم إلا لماما ..كان هؤلاء يتفكهون ويتندرون ويتبادلون النكات الساخرة ليلطفوا بها أجواءهم المشحونة ، أما هو فكان ينظر إليهم من فوق ..يبصرهم دون أن يميز أصواتهم . كان يجلس واضعا ساقا على ساق، متأملا ..دون أن ينبس ببنت شفة ، لقد احتلت الإدارة خياله وسيطرت على لبه ، لم يكن يستودع أحدا سرا من أسراره ، في المقابل كان يتردد كثيرا على مكتب المدير ، ربما للانتفاع بآرائه ، والاستئناس بحسن أو سوء تدبيره ...
لم يصبر وحيد إلى نهاية السنة الدراسية للتأكد من قبول طلب تكليفه بالإدارة ، بل راح يتخيل نفسه وهو يخلع  وزرته البيضاء ، ليلبس محلها بذلة بنية أنيقة ، وربطة عنق سوداء ، ونظارة من النوع الممتاز ، مستبدلا قسمه المغبر الضيق بمكتب واسع مكيف الهواء ، به كراس وثيرة من الطراز الرفيع  ينعش بها مؤخرته التي أضناها الخشب ، وبالمكتب المجاور تقبع كاتبة في كامل التأهب لتنفيذ طلباته ورغباته ، حتى قبل أن يرتد إليه طرفه.

أنفاساستيقظ عمر ذات صباح على نغمات الهم وإيقاعات النكد ، لقد ألف المسكين سماع وابل من الاهانات ، وسيل من الطلبات ، درجت زوجته منذ حين من الدهر على إمطار سمعه الثقيل بها. وبما أن دوام الحال من المحال ، فقد انتفض عمر هذه المرة ، فما عاد يطيق سماع الأسطوانة المشروخة نفسها ، فصرخ في وجهها قائلا :
لقد تعبت..لقد ضقت ذرعا بطلباتك التي لا تنتهي..غاز..خبز..زيت ..دقيق..لحم..خضر..بالله عليك هل نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش ؟
أحس المغلوب على أمره بحاجة ماسة إلى الحديث مع شخص ما ...أي شخص كان..ولهذا الغرض غادر البيت غير آسف على ما فعل، وتوجه صوب مقهى الحي عند ًداموحً والحقيقة أن المقهى طالما جذبته بسحرها الخاص،خصوصا عندما يجلس متأملا عشرات الرائحين والغادين ، ومئات الرائحات والغاديات دون كلل أو ملل.
ومن سوء حظ عمر أنه لم يجد من كان يرجو محادثته والفضفضة إليه، وما كل ما يتمنى المرء يدركه ، لهذا اكتفى بالدردشة مع رفيقه الحسين ثقيل السمع ، وقد كان اختيارا غير موفق ، فقد اضطر المسكين إلى رفع صوته أكثر من المعتاد ، مما لفت إليه أنظار وأسماع الفضوليين من رواد المقهى.

أنفاس"ان الذي يقلقني هو انني لا املك حياة  اخرى اقدمها لبلادي."
" سان يات صان"

وقد رجعت الشمس الى مغيبها فعم الهدوء واقبل الليل ، جلست امام كوخها الصغير الى جانبها قطتها الزرقاء ترقب الطريق وتنظر بعيدا بعيدا الى الافق..وطالت وقفتها فدمعت عيناها وانسكب الدمع على صفحة وجهها الهزيل الاصفر ..انها لاتحقد على هذا الطريق ولاتكرهه وان كان هو نفسه الذي اخذ ابنها وقبله اباه.في مثل هذا اليوم ذهب ، انها لاتكره كذلك هذا اليوم بل تحبه وتعتقد ان في مثله سيعود..
هي لاتتمنى على الله الا شيئا واحدا ان يرجع الطريق يوما ابنها ليتزوج ويلد للطريق.
كان يحب ان يتعلم ان يكتب ويقرا ، كان ابوه ياخذه معه وهو صغير الى المدينة فيرى اقرانه يحملون محفظاتهم ، يقطعون الشوارع فرحين مسرورين فيتحرق لذلك ويتالم ، لماذا لا اذهب الى المدرسة كالاخرين ؟
كان يجلس الى النار في فصل الشتاء فيتناول فحمة ويحاول ان يعيد ما كتب على علب الكرتون التي يستدفئون بها .ولما يستعصي عليه الامر يرفع راسه الى امه ويسالها لماذا لااذهب الى المدرسة كلاخرين يا اماه؟وكانت تجيبه في بساطة ان المدرسة بعيدة وان الطريق مخيف .ولا يقنعه الرد ، فيحني راسه ، ينظر الى النار ولهيبها يعلو فيحس بها تنتقل الى داخله وترسم علامة استفهام كبيرة، فيقترب من امه ويضع راسه في حجرها وينام .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة